تفسيرالبيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل

أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي

الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي

الشافعي

(ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م)

_________________________________

سورة الفاتحة

بسم اللّه الرحمن الرحيم وتسمى أم القرأن لأنها مفتتحه ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه ولذلك تسمى أساسا.

أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على اللّه سبحانه وتعالى والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء وسورة الكنز والوافية والكافية لذلك وسورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة لاشتمالها عليها والصلاة لوجوب قرأءتها أو استحبابها فيها والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسلام هي شفاء من كل داء والسبع المثاني لأنها سبع آيات بالاتفاق إلا أن منهم من عد التسمية دون {أنعمت عليهم} [الفاتحة:٧] ومنهم من عكس وتثنى في الصلاة أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة حين حولت القبلة وقد صح أنها مكية لقوله تعالى {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} [الحجر:٨٧] وهو مكي بالنص.

١

{بسم اللّه الرحمن الرحيم} من الفاتحة ومن كل سورة وعليه قرأء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه اللّه تعالى والشافعي وخالفهم قرأء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي ولم ينص أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده وسئل محمد بن الحسن عنها فقال ما بين الدفتين كلام اللّه تعالى ولنا أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة رضي اللّه تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم اللّه الرحمن الرحيم وقول أم سلمة رضي اللّه عنها قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفاتحة وعد بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين آية ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام اللّه سبحانه وتعالى والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرأن حتى لم تكتب آمين والباء متعلقة بمحذوف تقديره بسم اللّه أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله

{بسم اللّه مجراها} وقوله {إياك نعبد} لأنه أهم وأدل على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القرأءة كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر.

وقيل الباء للمصاحبة والمعنى متبركا باسم اللّه تعالى اقرأ وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ويحمد على نعمه ويسأل من فضله وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال وبينت أوائلها على السكون وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمى كهدى لغة فيه قال:

واللّه أسماك سمى مباركا آثرك اللّه به إيثاركا

والقلب بعيد غير مطرد واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له ومن السمة عند الكوفيين وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة علىما حذف صدره في كلامهم ومن لغاته سم وسم قال:

بسم الذي في كل سورة سمه

والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة ويختلف باختلاف الأمم والأعصار ويتعدد تارة ويتحد أخرى والمسمى لا يكون كذلك وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى:

{تبارك اسم ربك} [الرحمن:٧٨] و {سبح اسم ربك} [الأعلى:١]

المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وإن أريد به الصفة كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى وإلى ما هو غيره وإلى ما ليس هو ولا غيره وإنما قال بسم اللّه ولم يقل باللّه لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه أو للفرق بين اليمين والتيمن ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضا عنها واللّه أصله إله فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل يا اللّه بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق والإله في الأصل لكل معبود ثم غلب على المعبود بالحق واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد ومنه تأله واستأله وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد أو من وله إذا تحير وتخبط عقله وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه فقيل إله كإعاء وإشاح ويرده الجمع على آلهة دون أولهة

وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر:

كحلفة من أبي رباح يشهدها لاهه الكبار

وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول لا إله إلا اللّه توحيدا مثل لا إله إلا الرحمن فإنه لا يمنع الشركة والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل الثريا والصعق أجرى مجراه في أجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وهو اللّه في السموات}[الأنعام: ٣ ]

معنى صحيحا ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة

وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة وإدخال اللام عليه وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة

وقيل مطلقا وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد

به صريح اليمين وقد جاء لضرورة الشعر:

ألا لا بارك اللّه في سهيل إذا ما اللّه بارك في الرجال

و {الرحمن الرحيم} اسمان بنيا للمبالغة من رحم كالغضبان من غضب والعليم من علم والرحمة في اللغة رقة القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها وأسماء اللّه تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات و الرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطع وقطع وكبار وكبار وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية وأخرى باعتبار الكيفية فعلى الأول قيل يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى لتقدم رحمة الدنيا ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها والقدرة على إيصالها والداعية الباعثة عليه والتمكن من الانتفاع بها والقوى التي بها يحصل الانتفاع إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها فيكون كالتتمة والرديف له أو للمحافظة على رؤوس الآي.

والأظهر أنه غير مصروف وإن حظر اختصاصه باللّه تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقا له بما هو الغالب في بابه وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس ويتمسك بحبل التوفيق ويشغل سره بذكره والاستعداد به عن غيره.

٢

{الحمد للّه}

الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها

والمدح هو الثناء على الجميل مطلقا تقول حمدت زيدا على علمه وكرمه ولا تقول حمدته على حسنه بل مدحته وقيل هما أخوان والشكر مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا قال:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

فهو أعم منهما من وجه وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد وما في آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد رأس الشكر وما شكر اللّه من لم يحمده

والذم نقيض الحمد والكفران نقيض الشكر

ورفعه بالابتداء وخبره للّه وأصله النصب وقد قرىء به وإنما عدل عنه إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها والتعريف فيه للجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو أو للاستغراق إذ الحمد في الحقيقة كله له إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى {وما بكم من نعمة فمن اللّه}[النحل: ٥٣] وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه

وقرىء الحمد للّه بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلا لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة.

{رب العالمين} الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا ثم وصف به للمبالغة كالصوم والعدل

وقيل هو نعت من ربه يربه فهو رب كقولك نم ينم فهو نم ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا كقوله {ارجع إلى ربك} [يوسف: ٥٠]

والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب غلب فيما يعلم به الصانع تعالى وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم وقيل اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع وقيل عني به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير ولذلك سوى بين النظر فيهما وقال تعالى {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}[الذاريات:٢١]

وقرىء {رب العالمين} بالنصب على المدح أو النداء أو بالفعل الذي دل عليه الحمد وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها

٣

{الرحمن الرحيم} كرره للتعليل على ما سنذكره .[انظر تفسير الآية ١]

٤

{مالك يوم الدين} قرأءة عاصم والكسائي ويعقوب ويعضده قوله تعالى {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ للّه} [الإنفطار: ١٩] وقرأ الباقون ملك وهو المختار لأنه قرأءة أهل الحرمين ولقوله تعالى {لمن الملك اليوم} [الأنعام:٧٣:] ولما فيه من التعظيم والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من الملك والملك هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من الملك وقرىء ملك بالتخفيف وملك بلفظ العمل ومالكا بالنصب على المدح أو الحال ومالك بالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف وملك مضافا بالرفع والنصب و

{يوم الدين} يوم الجزاء ومنه كما تدين تدان وبيت الحماسة:

ولم يبق سوى العدوا ن دناهم كما دانوا

أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع كقولهم يا سارق الليلة أهل الدار ومعناه ملك الأمور يوم الدين على طريقة {ونادى أصحاب الجنة} [الأعراف: ٤٤] أوله الملك في هذا اليوم على وجه الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية معدة لوقوعه صفة للمعرفة

وقيل الدين الشريعة وقيل الطاعة والمعنى يوم جزاء الدين وتخصيص اليوم بالإضافة إما لتعظيمه أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه وإجراء هذه الأوصاف على اللّه تعالى من كونه موجدا للعالمين ربا لهم منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل لأن يحمد فضلا عن أن يعبد فيكون دليلا على ما بعده

فالوصف الأول لبيان ما هو الموجب للحمد وهو الإيجاد والتربية

والثاني والثالث للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضية لسوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد

والرابع لتحقيق الاختصاص فإنه مما لا يقبل الشركة فيه بوجه ما وتضمين الوعد للحامدين والوعيد للمعرضين

٥

{إياك نعبد وإياك نستعين} ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك أي يا من هذا شأنه نخصك بالعبادة والاستعانة ليكون أدل على الاختصاص وللترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود فكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيبة حضورا بنى أول الكلام على ما هو مبادي حال العارف من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه والنظر في آلائه والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ثم قفى بما هو منتهى أمره وهو أن يخوض لجة الوصول ويصير من أهل المشاهدة فيراه عيانا ويناجيه شفاها.

اللّهم اجعلنا من الواصلين للعين دون السامعين للأثر ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع فيعدل من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس كقوله تعالى {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: ٢٢] وقوله {واللّه الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه} [فاطر: ٩] وقول امرىء القيس

تطاول ليلك بالإثمد ونام الخلي ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبأ جاءني وخبرته عن أبي الأسود

وإيا ضمير منصوب منفصل وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب كالتاء في أنت والكاف في أرأيتك

وقال الخليل إيا مضاف إليها واحتج بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين

فإياه وإيا الشواب وهو شاذ لا يعتمد عليه وقيل هي الضمائر وإيا عمدة فإنها لما فصلت عن العوامل تعذر النطق بها مفردةفضم إليها إيا لتستقل به وقيل الضمير هو المجموع وقرىء إياك بفتح الهمزة وهياك بقلبها هاء. والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد أي مذلل وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ولذلك لا تستعمل إلا في الخضوع للّه تعالى والاستعانة طلب المعونة وهي إما ضرورية أو غير ضرورية والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي

أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف والمراد طلب المعونة في المهمات كلها

أو في أداء العبادات والضمير المستكن في الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة

أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتها ويجاب إليها ولهذا شرعت الجماعة وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ولذلك

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتقديم ما هو مقدم في الوجود والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث أنها نسبة شريفة إليه ووصلة سنية بينه وبين الحق فإن العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث أنها ملاحظة له ومنتسبة إليه

ولذلك فضل ما حكى اللّه عن حبيبه حين قال {لا تحزن إن اللّه معنا} [التوبة: ٤٠] على ما حكاه عن كليمه حين قال {إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: ٦٢] وكرر الضمير للتنصيص على أنه المستعان به لا غير وقدمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي ويعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.

وأقول لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله

{وإياك نستعين} ليدل على أن العبادة أيضا مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونة منه وتوفيق وقيل الواو للحال والمعنى نعبدك مستعينين بك وقرىء بكسر النون فيهما وهي لغة بني تميم فإنهم يكسرون حروف المضارعة سوى الياء إذا لم ينضم ما بعدها.

٦

{إهدنا الصراط المستقيم} بيان للمعونة المطلوبة فكأنه قال كيف أعينكم فقالوا اهدنا أو إفراد لما هو المقصود الأعظم والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير وقوله تعالى {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات :٢٣] وارد على التهكم ومنه الهداية وهوادي الوحش لمقدماتها والفعل منه هدى وأصله أن يعدى باللام أو إلى فعومل معاملة اختار في قوله تعالى {واختار موسى قومه} [الأعراف :١٥٥] وهداية اللّه تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عد كما قال تعالى {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} [النحل:١٨] ولكنها تنحصر في أجناس مترتبة

الأول إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة.

الثاني نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار حيث قال {وهديناه النجدين} [البلد: ١٠] وقال {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: ١٧]

الثالث الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب وإياها عنى بقوله {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} [الأنبياء: ٧٣] وقوله {إن هذا القرأن يهدي للتي هي أقوم}. [الإسراء: ٩]

الرابع أن يكشف على قلوبه مالسرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء وإياه عنى بقوله {أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده} [الأنعام: ٩٠] وقوله {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: ٦٩] فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى أو الثبات عليه أو حصول المراتب المرتبة عليه فإذا قاله العارف باللّه الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا وتميط غواشي أبداننا لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك والأمر والدعاء يتشاركان لفظا ومعنى ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل وقيل بالرتبة والسراط من سرط الطعام إذا ابتلعه فكأنه يسرط السابلة ولذلك سمي لقما لأنه يلتقمهم

و الصراط من قلب السين صادا ليطابق الطاء في الإطباق وقد يشم الصاد صوت الزاي ليكون أقرب إلى المبدل منه وقرأ ابن كثير برواية قنبل عنه ورويس عن يعقوب بالأصل وحمزة بالإشمام والباقون بالصاد وهو لغة قريش والثابت في الإمام وجمعه سرط ككتب وهو كالطريق في التذكير والتأنيث.

و المستقيم المستوي والمراد به طريق الحق وقيل هو ملة الإسلام.

٧

{صراط الذين أنعمت عليهم} بدل من الأول بدل الكل وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين

وقيل {الذين أنعمت عليهم} الأنبياء

وقيل النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه

وقيل أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ

وقرىء {صراط الذين أنعمت عليهم} والإنعام إيصال النعمة وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين ونعم اللّه وإن كانت لا تحصى كما قال {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} [النحل: ١٨] تنحصر في جنسين دنيوي وأخروي.

والأول قسمان وهبي وكسبي

والوهبي قسمان

روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق

وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء

والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال.

والثاني أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر.

{غير المغضوب عليهم ولا الضالين} بدل من الذين على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين إجراء الموصول مجرى النكرة إذ لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله

ولقد أمر على اللئيم يسبني

وقولهم إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ما له ضد واحد وهو المنعم عليهم فيتعين تعين الحركة من غير السكون وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت أو بإضمار أعني أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين

والغضب ثوران النفس إرادة الانتقام فإذا أسند إلى اللّه تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي فكأنه قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين ولذلك جاز أنا زيدا غير ضارب كما جاز أنا زيدا لا ضارب وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب

وقرىء وغير الضالين والضلال العدول عن الطريق السوي عمدا أو خطأ وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير.

قيل {المغضوب عليهم} اليهود لقوله تعالى فيهم {من لعنه اللّه وغضب عليه} [المائدة: ٦٠] و الضالين النصارى لقوله تعالى {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا} [المائدة: ٧٧]

وقد روي مرفوعا ويتجه أن يقال المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون باللّه لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمدا {وغضب اللّه عليه} [النساء: ٩٣] والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: ٣٢] وقرىء ولا الضألين بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين.

آمين اسم الفعل الذي هو استجب وعن ابن عباس قال سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن معناه فقال افعل

بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وجاء مد ألفه وقصرها قال ويرحم اللّه عبدا قال: آمينا وقال: أمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا وليس من القرأن وفاقا لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام: علمني جبريل آمين عند فراغي من قرأءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب

وفي معناه قول علي رضي اللّه عنه آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال: آمين ورفع بها صوته.

وعن أبي حنيفة رضي اللّه عنه أنه لا يقوله والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبداللّه بن مغفل وأنس والمأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة والسلام: إذا قال الإمام {ولا الضالين} فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه

وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي: ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرأن مثلها قال قلت بلى يا رسول اللّه قال: فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرأن العظيم الذي أوتيته

وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس إذ أتاه ملك فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أعطيته.

وعن حذيفة بن اليمان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: إن القوم ليبعث اللّه عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب {الحمد للّه رب العالمين} فيسمعه اللّه تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة .

﴿ ٠