١

{بسم اللّه الرحمن الرحيم} من الفاتحة ومن كل سورة وعليه قرأء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه اللّه تعالى والشافعي وخالفهم قرأء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي ولم ينص أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده وسئل محمد بن الحسن عنها فقال ما بين الدفتين كلام اللّه تعالى ولنا أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة رضي اللّه تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم اللّه الرحمن الرحيم وقول أم سلمة رضي اللّه عنها قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفاتحة وعد بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين آية ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام اللّه سبحانه وتعالى والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرأن حتى لم تكتب آمين والباء متعلقة بمحذوف تقديره بسم اللّه أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله

{بسم اللّه مجراها} وقوله {إياك نعبد} لأنه أهم وأدل على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القرأءة كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر.

وقيل الباء للمصاحبة والمعنى متبركا باسم اللّه تعالى اقرأ وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ويحمد على نعمه ويسأل من فضله وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال وبينت أوائلها على السكون وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمى كهدى لغة فيه قال:

واللّه أسماك سمى مباركا آثرك اللّه به إيثاركا

والقلب بعيد غير مطرد واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له ومن السمة عند الكوفيين وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة علىما حذف صدره في كلامهم ومن لغاته سم وسم قال:

بسم الذي في كل سورة سمه

والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة ويختلف باختلاف الأمم والأعصار ويتعدد تارة ويتحد أخرى والمسمى لا يكون كذلك وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى:

{تبارك اسم ربك} [الرحمن:٧٨] و {سبح اسم ربك} [الأعلى:١]

المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وإن أريد به الصفة كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى وإلى ما هو غيره وإلى ما ليس هو ولا غيره وإنما قال بسم اللّه ولم يقل باللّه لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه أو للفرق بين اليمين والتيمن ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضا عنها واللّه أصله إله فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل يا اللّه بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق والإله في الأصل لكل معبود ثم غلب على المعبود بالحق واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد ومنه تأله واستأله وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد أو من وله إذا تحير وتخبط عقله وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه فقيل إله كإعاء وإشاح ويرده الجمع على آلهة دون أولهة

وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر:

كحلفة من أبي رباح يشهدها لاهه الكبار

وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول لا إله إلا اللّه توحيدا مثل لا إله إلا الرحمن فإنه لا يمنع الشركة والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل الثريا والصعق أجرى مجراه في أجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وهو اللّه في السموات}[الأنعام: ٣ ]

معنى صحيحا ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة

وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة وإدخال اللام عليه وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة

وقيل مطلقا وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد

به صريح اليمين وقد جاء لضرورة الشعر:

ألا لا بارك اللّه في سهيل إذا ما اللّه بارك في الرجال

و {الرحمن الرحيم} اسمان بنيا للمبالغة من رحم كالغضبان من غضب والعليم من علم والرحمة في اللغة رقة القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها وأسماء اللّه تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات و الرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطع وقطع وكبار وكبار وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية وأخرى باعتبار الكيفية فعلى الأول قيل يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى لتقدم رحمة الدنيا ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها والقدرة على إيصالها والداعية الباعثة عليه والتمكن من الانتفاع بها والقوى التي بها يحصل الانتفاع إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها فيكون كالتتمة والرديف له أو للمحافظة على رؤوس الآي.

والأظهر أنه غير مصروف وإن حظر اختصاصه باللّه تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقا له بما هو الغالب في بابه وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس ويتمسك بحبل التوفيق ويشغل سره بذكره والاستعداد به عن غيره.

﴿ ١