تفسير أبي السعود: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم

محمد بن محمد العمادي أبو السعود

الحنفي

(ت ٩٨٢ هـ ١٥٧٤ م)

_________________________________

سُورَةُ الْفاَتِحَةِ الْكِتاَبِ

مَكِّيَّةٌ وَهِيَ سَبْعُ آياَتٍ

مقدمة

سبحان من أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وبين له من الشعائر الشرائع كل ما جل ودق أنزل عليه أظهر بينات وأبهر حجج قرآنا عربيا غير ذي عوج مصدقا لما بين يديه من الكتاب ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ناطقا بكل أمر رشيد هاديا إلى الصراط العزيز الحميد آمرا بعبادة الصمد المعبود كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود تكاد الرواسي لهيبته تمور ويذوب منه الحديد ويميع صم الصخور حقيقا بأن يسير به الجبال وييسر به كل صعب محال معجزا أفحم كل مصقع من مهرة قحطان وبكت كل مفلق من سحرة البيان بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على معارضته ومباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آيه من آياته نزل عليه على فترة من الرسل ليرشد الأمة إلى أقوم السبل فهداهم إلى الحق وهم في ضلال مبين فاضمحل دجى الباطل وسطع نور اليقين فمن أتبع هداه فقد فاز بمناه

وأما من عانده وعصاه وإتخذ إلهه هواه فقد هام في موامي الردى وتردى في مهاوي الزور ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور صلى اللّه عليه وعلى آله الأخيار وصحبه الأبرار ما تناوبت الأنواء وتعاقبت الظلم والأضواء وعلى من تبعهم بإحسان مدى الدهور والأزمان

وبعد فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الهادي أبو السعود محمد بن محمد العمادي إن الغاية القصوى من تحرير نسخة العالم وما كان حرف منها مسطورا والحكمة الكبرى في تخمير طينة آدم ولم يكن شيئا مذكورا ليست إلا معرفة الصانع المجيد وعبادة البارئ المبدئ المعيد ولا سبيل إلى ذاك المطلب الجليل سوى الوقوف على مواقف التنزيل فإنه عز سلطانه وبهر برهانه وإن سطر آيات قدرته في صحائف الأكوان ونصب رايات وحدته في صفائح الأعراض والأعيان وجعل كل ذرة من ذرات العالم وكل قطرة من قطرات العلم وكل نقطة جرى عليها قلم الإبداع وكل حرف رقم في لوح الإختراع مرآة لمشاهدة جماله ومطالعة صفات كماله حجة نيرة واضحة المكنون وآية بينة لقوم يعقلون برهانا جليا لاريب فيه ومنهاجا سويا لا يضل من ينتحيه بل ناطقا يتلو آيات ربه فهل من سامع واع ومجيب صادق فهل له من داع يكلم الناس على قدر عقولهم ويرد جوابهم بحسب مقولهم يحاور تارة بأوضح عبارة ويلوح أخرى بألطف إشارة لكن الإستدلال بتلك الآيات والدلائل والإستشهاد بتلك الأمارات والمخايل والتنبيه لتلك الإشارات السرية والتفطن لمعاني تلك العبارات العبقرية وما في تضاعيفها من رموز أسرار القضاء والقدر وكنوز آثار التعاجيب والعبر مما لا يطيق به عقول البشر إلا بتوفيق خلاق القوى والقدر فإذن مدار المراد ليس إلا كلام رب العباد إذ هو المظهر لتفاصيل الشعائر الدينية والمفسر لمشكلات الآيات التكوينية والكاشف عن خفايا حظائر القدس والمطلع على خبايا سرائر الأنس وبه تكتسب الملكات الفاخرة وبه يتوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة كما وأنه أيضا من علو الشأن وسمو المكان ونهاية الغموض والإعضال وصعوبة المأخذ وعزة المنال في غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية أعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق لا يتسنى العروج إلى معارجه الرفيعة ولا يتأتى الرقى إلى مدارجه المنيعة كيف لا وأنه مع كونه متضمنا لدقائق العلوم النظرية والعملية ومنطوبا على دقائق الفنون الخفية والجلية حاويا لتفاصيل الأحكام الشرعية ومحيطا بمناط الدلائل الأصلية والفرعية منبئا عن أسرار الحقائق والنعوت مخبرا بأطوار الملك والملكوت عليه يدور فلك الأوامر والنواهي وإليه يستند معرفة الأشياء كما هي قد نسج على أغرب منوال وأبدع طراز واحتجبت طلعته بسبحات الإعجاز طويت حقائقه الأبية عن العقول وزويت دقائقه الخفية عن أذهان الفحول يرد عيون العقول سبحانه ويخطف أبصار البصائر بريقه ولمعانه ولقد تصدى لتفسير غوامض مشكلاته أساطين أئمة التفسير في كل عصر من الأعصار وتولى لتيسير عويصات معضلاته سلاطين أسرة التقرير والتحرير في كل قطر من الأقطار فغاصوا في لججه وخاضوا في ثبجه فنظموا فرائده في سلك التحرير وأبرزوا فوائده في معرض التقرير وصنفوا كتبا جليلة الأقدار وألفوا زبرا جميلة الآثار

أما المتقدمون المحققون فاقتصروا على تمهيد المعاني وتشييد المباني وتبيين المرام وترتيب الأحكام حسبما بلغهم من سيد الأنام عليه شرائف التحية والسلام

وأما المتأخرون المدققون فراموا مع ذلك إظهار مزاياه الرائقة وإبداء خباياه الفائقة ليعاين الناس دلائل إعجازه ويشاهدوا شواهد فضله وامتيازه عن سائر الكتب الكريمة الربانية والزبر العظيمة السبحانية فدونوا أسفارا بارعة جامعة لفنون المحاسن الرائعة يتضمن كل منها فوائد شريفة تقر بها عيون الأعيان وعوائد لطيفة يتشنف بها آذان الأذهان لا سيما الكشاف وأنوار التنزيل المتفردان بالشأن الجليل والنعت الجميل فإن كلا منهما قد أحرز قصب السبق أي إحراز كأنه مرآة لا جتلاء وجه الإعجاز صحائفهما مرايا المزايا الحسان وسطورهما عقود الجمان وقلائد العقبان ولقد كان في سوابق الأيام وسوالف الدهور والأعوام أوأن اشتغالي بمطالعتهما وممارستهما وزمان انتصابي لمفاوضتهما ومدارستهما يدور في خلدي على استمرار آناء الليل وأطراف النهاران أنظم درر فوائدهما في سمط دقيق وأرتب غرر فرائدهما على ترتيب أنيق وأضيف إليها ما ألفيته في تضاعيف الكتب الفاخرة من جواهر الحقائق وصادفته في أصداف العيالم الزاخرة من زواهر الدقائق وأسلك خلالها بطريق الترصيع على نسق أنيق وأسلوب بديع حسبما يقتضية جلالة شأن التنزيل ويستدعيه جزالة نظمه الجليل ما سنح الفكر العليل بالعناية الربانية وسمح به النظر الكليل بالهداية السبحانية من عوارف معارف يمتد إليها أعناق الهمم من كل ماهر لبيب وغرائب رغائب ترنوا إليها أحداق الأمم من كل نحرير أريب وتحقيقات رصينة تقيل عثرات الأفهام في مداحض الإقدام وتدقيقات متينة تزيل خطرات الأوهام من خواطر الأنام في معارك أفكار يشتبه فيها الشؤن ومدارك أنظار يختلط فيها الظنون وأبرز من وراء أستار الكمون من دقائق السر المخزون في خزائن الكتاب المكنون ما تطمئن إليه النفوس وتقر به العيون من خفايا الرموز وخبايا الكنوز وأهديها إلى الخزانة العامرة الغامرة للبحار الزاخرة لجناب من خصه اللّه تعالى بخلافة الأرض واصطفاه سلطنتها في الطول والعرض ألا وهو السلطان الأسعد الأعظم والخاقان الأمجد الأفخم مالك الإمامة العظمى والسلطان الباهر وارث الخلافة الكبرى كابرا عن كابر رافع رايات الدين الأزهر موضح آيات الشرع الأنور مرغم أنوف الفراعنة والجبابرة معفر جباه القياصره والأكاسرة فاتح بلاد المشارق والمغارب بنصر اللّه العزيز وجنده الغالب الهمام الذي شرق عزمه المنير فانتهى إلى المشرق الأسنى وغرب حتى بلغ مغرب الشمس أو دنا بخميس عرمرم متزاحم الأفواج وعسكر كخضم متلاطم الأمواج فأصبح ما بين أفقى الطلوع والغروب وما بين نقطتى الشمال والجنوب منتظما في سلك ولاياته الواسعة ومندرجا تحت ظلال راياته الرائعة فأصبحت منابر الربع المسكون مشرفة بذكر اسمه الميمون فياله من ملك استوعب ملكه البر البسيط واستعرق فلكه وجه البحر المحيط فكأنه فضاء ضربت فيه خيامه أو نصبت عليه ألويته وأعلامه مالك ممالك العالم ظل اللّه الظليل على كافة الأمم قاصم القياصرة وقاهر القروم سلطان العرب والعجم والروم وسلطان المشرقين وخاقان الخافقين الإمام المقتدر بالقدرة الربانية والخليفة المعتز بالعزة السبحانيه المفتخر بخدمة الحرمين الجليلين المعظمين وحماية المقامين الجميلين المفخمين ناشر القوانين السلطانية عاشر الخواقين العثمانية السلطان ابن السلطان السلطان سليمان خان بن السلطان المظفر المنصور والخاقان الموقر المشهور صاحب المغازي المشهورة في أقطار الأمصار والفتوحات المذكورة في صحائف الأسفار السلطان سليم خان بن السلطان السعيد والخاقان المجيد السلطان بايزيد خان لا زالت سلسلة سلطنته متسلسلة إلى إنتهاء سلسلة الزمان وأرواح أسلافه العظام متنزهة في روضة الرضوان وكنت أتردد في ذلك بين إقدام وإحجام لقصور شأني و عزة المرام أين الحضيض من الذرى شتان بين الثريا والثرى وهيهات اصطياد العنقاء بالشباك واقتياد الجوزاء من بروج الأفلاكفمضت عليه الدهور والسنون وتغيرت الأطوار وتدلت الشئون فابتليت بتدبير مصالح العباد برهة في قضاء البلاد وأخرى في قضاء العساكر والأجناد فحال بيني وبين ما كنت أخال تراكم المهمات وتزاحم الأشغال وجموم العوارض والعلائق وهجوم الصوارف والعوائق والتردد إلى المغازي والأسفار والتنقل من دار إلى دار وكنت في تضاعيف هاتيك الأمور أقدر في نفسي أن أنتهز نهزة من الدهور ويتسنى لي القرار وتطمئن بي الدار وأظفر حينئذ بوقت خال أتبتل فيه إلى جناب ذي العظمة والجلال وأوجه إليه وجهتي وأسلم له سرى وعلانيتي وأنظر إلى كل شيء بعين الشهود وأتعرف سر الحق في كل موجود تلافيا لما قد فات واستعدادا لما هو آت وأتصدى لتحصيل ما عزمت عليه وأتولى لتكميل ما توجهت إليه برفاهة وأطمئنان وحضور قلب وفراغ جنان فبينما أنا في هذا الخيال إذ بدا لي ما لم يخطر بالبال تحولت الأحوال والدهر حول فوقعت في أمر أشق من الأول أمرت بحل مشكلات الأنام فيما شجر بينهم من النزاع والخصام فلقيت معضلة طويلة الذيول وصرت كالهارب من المطر إلى السيول فبلغ السيل الزبى وغمرني أي غمر غوارب ما جرى بين زيد وعمرو فأضحيت في ضيق المجال وسعة الأشغال أشهر ممن يضرب بها الأمثال فجعلت اتمثل بقول من قال:

لقد كنت أشكوك الحوادث برهة ...

وأستمرض الأيام وهي صحائح ...

إلى أن تغشتني وقيت حوادث ...

تحقق أن السالفات منائح ...

فلما أنصرمت عرى الآمال عن الفوز بفراغ البال ورأيت أن الفرصة على جناح الفوات وشمل الأسباب في شرف الشتات وقد مسنى الكبر وتضاءلت القوى والقدر ودنا الأجل من الحلول وأشرفت شمس الحياة على الأفول عزمت على إنشاء ما كنت أنويه وتوجهت إلى إملاء ما ظلت أبتغيه ناويا أن أسميه عند تمامه بتوفيق اللّه تعالى وإنعامه إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم فشرعت فيه مع تفاقم المكاره على وتزاحم المشادة بين يدى متضرعا إلى رب العظمة والجبروت خلاق عالم الملك والملكوت في أن يعصمني عن الزيغ والزلل ويقيني مصارع السوء في القول والعمل ويوفقني لتحصيل ما أرومه وأرجوه ويهديني إلى تكميله على أحسن الوجوه ويجعله خير عدة وعتاد أتمتع به يوم المعاد فيامن توجهت وجوه الذل والإبتهال نحو بابه المنيع ورفعت أيدى الضراعة والسؤال إلى جنابه الرفيع أفض علينا شوارق أنوار التوفيق وأطلعنا على دقائق أسرار التحقيق وثبت أقدامنا على مناهج هداك وأنطقنا بما فيه أمرك ورضاك ولا تكلنا إلى أنفسنا في لحظة ولا آن وخذ بناصيتنا إلى الخير حيث كان جئناك على جباه الإستكانة ضارعين ولأبواب فيضك قارعين أنت الملاذ في كل أمر هم وانت المعاذ في كل خطب ملم لا رب وغيرك ولا خير إلا خيرك بيدك مقاليد الأمور لك الخلق والأمر وإليك النشور

 

تفسير أبي السعود: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم

محمد بن محمد العمادي أبو السعود الحنفي (ت ٩٨٢ هـ ١٥٧٤ م)

_________________________________

سورة الفاتحة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سورة فاتحة الكتاب وهي سبع آيات

الفاتحة في الأصل أول ما من شأنه أن يفتح كالكتاب والثوب أطلقت عليه لكونه واسطة في فتح الكل ثم أطلقت على أول كل شيء فيه تدريج بوجه من الوجوه كالكلام التدريجي حصولا والسطور والأوراق التدريجية قراءة وعدا والتاء للنقل من الوصفية إلى الأسمية أو هي مصدر بمعنى الفتح أطلقت عليه تسمية للمفعول باسم المصدر إشعارا بأصالته كأنه نفس الفتح فإن تعلقه به بالذات وبالباقي بواسطته لكن لا على معنى أنه واسطة في تعلقه بالباقي ثانيا حتى يرد أنه لا يتسنى في الخاتمة لما أن ختم الشيء عبارة عن بلوغ آخره وذلك إنما يتحقق بعد انقطاع الملابسة عن أجزائه الأول بل على معنى أن الفتح المتعلق بالأول فتح له اولا وبالذات وهو بعينه فتح للجموع بواسطته لكونه جزأ منه وكذا الكلام في الخاتمة فإن بلوغ آخر الشئ يعرض للآخر أولا وبالذات وللكل بواسطته على الوجه الذي تحققته والمراد بالأول ما يعم الإضافي فلا حاجة الى الإعتذار بأن إطلاق الفاتحة على السورة الكريمة بتمامها باعتبار جزئها الأول والمراد بالكتاب هو المجموع الشخصي لا القدر المشترك بينه وبين اجزائه على ما عليه اصطلاح اهل الاصول ولا ضير في اشتهار السورة الكريمة بهذا الاسم في أوائل عهد النبوة قبل تحصل المجموع بنزول الكل لما أن التسمية من جهة اللّه عز اسمه أو من جهة الرسول بالإذن فيكفي فيها تحصله باعتبار تحققه في علمه عز و جل أو في اللوح أو باعتبار أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا وأملاه جبريل على السفرة ثم كان ينزله على النبي نجو ما في ثلاث وعشرين سنة كما هو المشهور والإضافة بمعنى اللام كما في جزء الشئ لا بمعنى من كما في خاتم فضة لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه لا جزئي له ومدار التسمية كونه مبدأ للكتاب على الترتيب المعهود لا في القراءة في الصلاة ولا في التعليم ولا في النزول كما قيل

أما الأول فبين إذ ليس المراد بالكتاب القدر المشترك الصادق على ما يقرأ في الصلاة حتى تعتبر في التسمية مبدئيتها له

وأما الأخيران فلأن أعتبار المبدئية من حيث التعليم أو من حيث النزول يستدعي مراعاة الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والترتيب النزولي ليسا على نسق الترتيب المعهود وتسمى أم القرآن لكونها أصلا ومنشأ له إما لمبدئيتها له

 وأما لا شتمالها على ما فيه من الثناء على اللّه عز و جل والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده أو على جملة معاينه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء والمراد بالقرآن هو المراد بالكتاب وتسمى ام الكتاب أيضا كما يسمى بها اللوح المحفوظ لكونه أصلا لكل الكائنات والآيات الواضحة الدالة على معانيها لكونها بينة تحمل عليها المتشابهات ومناط التسمية ما ذكر في أم القرآن لا ما أورده الإمام البخاري في صحيحة من أنه يبدأ بقراءتها في الصلاة فإنه مما لا تعلق له بالتسمية كما أشير إليه وتسمى سورة الكنز لقوله أنها أنزلت من كنز تحت العرش أو لما ذكر في أم القرآن كما أنه الوجه في تسميتها الأساس والكافية والوافية وتسمى سورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسئلة لاشتمالها عليها وسورة الصلاة لوجوب قراءتها فيها وسورة الشفاء والشافية لقوله هي شفاء من كل داء والسبع المثاني لأنها سبع آيات تثنى في الصلاة أو لتكرر نزولها على ما روى أنها نزلت مرة بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة أخرى حين حولت القبلة وقد صح أنها مكية لقوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني وهو مكى بالنص

_________________________________

١

بسم اللّه الرحمن الرحيم اختلف الأئمة في شأن التسمية في أوائل السور الكريمة فقيل إنها ليست من القرآن أصلا وهو قول ابن مسعود رضي اللّه عنه ومذهب مالك والمشهور من مذهب قدماء الحنفية وعليه قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها

وقيل إنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وهو الصحيح من مذهب الحنفية

وقيل هي آية تامة من كل سورة صدرت بها وهو قول ابن عباس وقد نسب إلى ابن عمر أيضا رضي اللّه عنهم وعليه يحمل إطلاق عبارة ابن الجوزي في زاد المسير حيث قال روى عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنها أنزلت مع كل سورة وهو أيضا مذهب سعيد بن جبير والزهري وعطاء وعبد اللّه بن المبارك وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما وهو القول الجديد للشافعي رحمة اللّه ولذلك يجهر بها عنده فلا عبرة بما نقل عن الجصاص من أن هذا القول من الشافعي لم يسبقة إليه أحد

وقيل إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآنا في سائر السور أيضا من غير تعرض لكونها جزأ منها أو لا ولا لكونها آية تامة أولا وهو أحد قولى الشافعي على ما ذكره القرطبي و نقل عن الخطابي انه قول إبن عباس وابي هريرة رضي اللّه عنهم

وقيل أنها آيه تامة في الفاتحه و بعض في البواقي

وقيل بعض آية في الفاتحة وآية تامة في البواقي

وقيل أنها بعض آيه في الكل

وقيل أنها آيات من القرآن متعددة بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزء منها وهذا القول غير معزى في الكتب إلى أحد وهناك قول آخر ذكره بعض المتأخرين ولم ينسبه إلى أحد وهو أنها آية تامة في الفاتحة وليست بقرآن في سائر السور ولولا اعتبار كونها آية تامة لكان ذلك احد محملى تردد الشافعي فإنه قد نقل عنه انها بعض آية في الفاتحة

وأما في غيرها فقوله فيها متردد فقيل بين ان يكون قرآنا أولا

وقيل بين ان يكون آيه تامة اولا قال الإمام الغزالي والصحيح من الشافعي هو التردد الثاني وعن احمد بن حنبل في كونها آيه كامله وفي كونها من الفاتحه روايتان ذكرهما ابن الجوزي ونقل أنه مع مالك وغيره مما يقول أنها ليست من القرآن هذا والمشهور من هذه الأقاويل هي الثلاث الأول والإتفاق على اثباتها في المصاحف مع الإجماع على ان ما بين الدفتين كلام اللّه عز و جل يقضي وبنفي القول الأول وثبوت القدر المشترك بين الآخيرين من غير دلاله على خصوصية احدهما فإن كونها جزا من القرآن لا يستدعي كونها حزا من كل سوره منه كما لا يستدعي كونها آيه منفرده منه

وأما ما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما من ان من تركها فقد ترك مائة واربع عشرة آيه من كتاب اللّه تعالى

وما روى عن ابي هريره من أنه قال فاتحة الكتاب سبع آيات اولا هن بسم اللّه الرحمن الرحيم

وما روى عن ام سلمة من انه قرأ سورة الفاتحه وعد بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين آيه وان دل كل واحد منها على نفي القول الثاني فليس شيء منها نصا في اثبات القول الثالث

أما الأول فلأنه لا يدل ألا على كونها آيات من كتاب اللّه تعالى متعدده بعدد السور المصدره بها لا على ما هو المطلوب من كونها آيه تامة من كل واحده منها الا ان يلتجأ إلى ان يقال ان كونها آيه متعدده بعدد السور المصدره بها من غير ان تكون جزأ منها قول لم يقل به احد

وأما الثاني فساكت عن التعرض لحالها في بقية السور

وأما الثالث فناطق بخلافه مع مشاركته للثاني في السكوت المذكور والباء فيها متعلقه بمضمر ينبئ عنه الفعل المصدر بها كما انها كذلك في تسمية المسافر عند الحلول والارتحال و تسمية كل فاعل عند مباشرة الأفعال ومعناها الإستعانه أو الملابسه تبركا أي بأسم اللّه اقرأ أو اتلو و تقديم المعمول للإعتناء به والقصد الى التخصيص كما في إياك نعبد وتقدير ابدأ لاقتضائه اقتصار التبرك على البداية مخل بما هو المقصود اعنى شمول البركة للكل وادعاء أن فيه امتثالا بالحديث الشريف من جهة اللفظ والمعنى معا وفي تقدير اقرأ من جهة المعنى فقط ليس بشيء فإن مدار الامتثال هو البدء بالتسمية لا تقدير فعله إذ لم يقل في الحديث الكريم كل أمر ذي بال لم يقل فيه أو لم يضمر فيه أبدأ وهذا الى آخر السورة الكريمة مقول على السنة العباد تلقينا لهم وإرشادا الى كيفية التبرك باسمه تعالى وهداية الى منهاج الحمد وسؤال الفضل ولذلك سميت السورة الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح لاختصاصها بلزوم الحرفية والجركما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الإبتداء والاسم عند البصريين من الأسماء المحذوفة الأعجاز المبنية الأوائل على السكون قد ادخلت عليها عند الإبتداء همزة لان من دأبهم البدء بالمتحرك والوقف على الساكن ويشهد له تصريفهم على اسماء وسمى وسميت وسمى كهدى لغة فيه قال واللّه اسماك سمى مباركا آثرك اللّه به إيثاركا والقلب بعيد غير مطرد واشتقاقه من السمو لأنه رفع للمسمى وتنويه له وعند الكوفيين من السمة واصله وسم حذفت الواو وعوضت منها همزة الوصل ليقل اعلالها ورد عليه لأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم ومن لغاتهم سم وسم قال باسم الذي في كل سورة سمة وإنما لم يقل باللّه للفرق بين اليمين والتيمن أو لتحقيق ما هو المقصود بالإستعانة ههنا فإنها تكون تارة بذاته تعالى وحقيقتها طلب المعونة على ايقاع الفعل وإحداثه أي إفاضة القدرة المفسرة عند الأصوليين من اصحابنا بما يتمكن به العبد من اداء مالزمه المنقسمة الى ممكنة وميسرة وهي المطلوبة بإياك نستعين وتارة اخرى باسمه عز وعلا وحقيقتها طلب المعونة في كون الفعل معتدا به شرعا فإنه ما لم يصدر باسمه تعالى يكون بمنزلة المعدوم ولما كانت كل واحدة من الإستعانتين واقعة وجب تعيين المراد بذكر الاسم وإلا فالمتبادر من قولنا باللّه عند الاطلاق لا سيما عند الوصف بالرحمن الرحيم هي الإستعانة الأولى ان قيل فليحمل الباء على التبرك وليستغن عن ذكر الاسم لما ان التبرك لا يكون الا به قلنا ذاك فرع كون المراد باللّه هو الاسم وهل التشاجر الا فيه فلا بد من ذكر الاسم لينقطع احتمال ارادة المسمى ويتعين حمل الباء على الاستعانة الثانية أو التبرك وانما لم يكتب الالف لكثرة الإستعمال قالوا وطولت الباء عوضا عنها و اللّه اصله الاله فحذفت همزته على غير قياس كما ينبىء عنه وجوب الإدغام وتعويض الالف واللام عنها حيث لزماه وجردا عن معنى التعريف ولذلك قيل ياللّه بالقطع فإن المحذوف القياسي في حكم الثابت فلا يحتاج الى التدارك بما ذكر من الإدغام والتعويض

وقيل على قياس تخفيف الهمزة فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسماه عما سواه بمالا يوجد فيه من نعوت الكمال والاله في الاصل اسم جنس يقع على كل معبود بحق أو باطل أي مع قطع النظر عن وصف الحقية والبطلان لا مع اعتبار احدهما لا بعينه ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصعق

وأما اللّه بحذف الهمزة فعلم مختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره اصلا واشتقاقه من الالاهة والألوهة والالوهية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري على انه اسم منها بمعنى المألوه كالكتاب لا على انه صفة منها بدليل انه يوصف ولا يوصف به حيث يقال اله واحد ولا يقال شيء اله كما يقال كتاب مرقوم ولا يقال شيء كتاب والفرق بينهما ان الموضوع له في الصفة هو الذات المبهمة باعتبار اتصافها بمعنى معين وقيامه بها فمدلولها مركب من ذات مبهمة لم يلاحظ معها خصوصية اصلا ومن معنى معين قائم بها على ان ملاك الامر تلك الخصوصية فبأي ذات يقوم ذلك المعنى يصح اطلاق الصفة عليها كما في الافعال ولذلك تعمل عملها كاسمى الفاعل والمفعول والموضوع له في الاسم المذكور هو الذات المعينة والمعنى الخاص فمدلوله مركب من ذينك المعنيين من غير رجحان للمنى على الذات كما في الصفة ولذلك لم يعمل عملها

وقيل اشتقاقه من اله بمعنى تحير لأنه سبحانه يحار في شأنه العقول والافهام

وأما اله كعبد وزنا ومعنى فمشتق من الاله المشتق من اله بالكسر وكذا تأله واستأله اشتقاق استنوق واستحجر من الناقة والحجر

وقيل من اله الى فلان أي سكن اليه لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الارواح الى معرفته

وقيل من اله اذا فزع من امر نزل به وآلهه غيره اذا اجاره اذ العائذ به تعالى يفزع اليه وهو يجيره حقيقة أو في زعمه

وقيل اصله لاه على انه مصدر من لاه يليه بمعنى احتجب وارتفع اطلق على الفاعل مبالغة

وقيل هو اسم علم للذات الجليل ابتداء وعليه مدار امر التوحيد في قولنا لا اله الا اللّه ولا يخفي ان اختصاص الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن اطلاقه على غيره اصلا كاف في ذلك ولا يقدح فيه كون ذلك الاختصاص بطريق الغلبة بعد ان كان اسم جنس في الاصل

وقيل هو وصف الاصل لكنه لما غلب عليه بحيث لا يطلق على غيره اصلا صار كالعلم ويرده امتناع الوصف به واعلم ان المراد بالمنكر في كلمة التوحيد هو المعبود بالحق فمعناها لافراد من افراد المعبود بالحق الا ذلك المعبود بالحق

وقيل اصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الالف الثانية وادخال الالف واللام عليه وتفخيم لامه اذا لم ينكسر ما قبله سنة

وقيل مطلقا وحذف الفه لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمين وقد جاء لضرورة الشعر في قوله الا لا بارك اللّه في سهيل اذا ما اللّه بارك في الرجال

والرحمن الرحيم صفتان مبنيتان من رحم بعد جعله لازما بمنزلة الغرائز بنقله الى رحم بالضم كما هو المشهور

وقد قيل ان الرحيم ليس بصفة مشبهة بل هي صيغة مبالغة نص عليه سيبويه في قولهم هو رحيم فلانا والرحمة في اللغة رقة القلب والانعطاف ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها والمراد ههنا التفضل والاحسان وارادتهما بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسببه البعيد أو القريب فإن اسماء اللّه تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي افعال دون المبادىء التي هي انفعالات والأول من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى وانما امتنع صرفه الحاقا له بالاغلب في بابه من غير نظر الى الاختصاص العارض فإنه كما حظر وجود فعلى حظر وجود فعلانة فاعتباره يوجب اجتماع الصرف وعدمه فلزم الرجوع الى اصل هذه الكلمة قبل الاختصاص بان تقاس الى نظائرها من باب فعل يفعل فإذا كان كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فعلى فيها علم أن هذه الكلمة أيضا في أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى فتمنع من الصرف وفيه من المبالغة ما ليس في الرحيم ولذلك قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياس تأخيره رعاية لأسلوب الترقي الى الاعلى كما في قولهم فلان عالم نحرير وشجاع باسل وجواد فياض لانه باختصاصه به عز و جل صار حقيقا بأن يكون قرينا للاسم الجليل الخاص به تعالى ولان ما يدل على جلائل النعم وعظائمها واصولها احق بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها وافراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة

٢

الحمد للّه الحمد هو النعت بالجميل على الجميل اختياريا كان أو مبدأ له على وجه يشعر ذلك بتوجيهه الى المنعوت وبهذه الحيثية يمتاز عن المدح فإنه خال عنها يرشدك الى ذلك ما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول في قولك حمدته ومدحته فإن تعلق الثاني بمفعوله على منهاج تعلق عامة الافعال بمفعولاتها

وأما الأول فتعلقه بمفعوله منبىء عن معنى الإنهاء كما في قولك كلمته فإنه معرب عما يقيده لام التبليغ في قولك قلت له ونظيره وشكرته وعبدته وخدمته فإن تعلق كل منها منبىء عن المعنى المذكور وتحقيقه ان مفعول كل فعل في الحقيقة هو الحدث الصادر عن فاعله ولا يتصور في كيفية تعلق الفعل به أي فعل كان اختلاف اصلا

وأما المفعول به الذي هو محله وموقعه فلما كان تعلقه به ووقوعه عليه على انحاء مختلفة حسبما يقتضيه خصوصيات الافعال بحسب معانيها المختلفة فإن بعضها يقتضي ان يلابسه ملابسة تامة مؤثرة فيه كعامة الافعال وبعضها يستدعي ان يلابسه ادنى ملابسة اما بالانتهاء اليه كالاعانة مثلا أو بالإبتداء منه كالإستعانة مثلا اعتبر في كل نحو من انحاء تعلقه به كيفية لائقة بذلك النحو مغايرة لما اعتبر في النحوين الأخيرين فنظم القسم الأول من التعلق في سلك التعلق بالمفعول الحقيقي مراعاة لقوة الملابسة وجعل كل واحد من القسمين الاخيرين من قبيل التعلق بواسطة الجار المناسب له فإن قولك اعنته مشعر بانتهاء الإعانة اليه وقولك استعنته بابتدائها منه وقد يكون لفعل واحد مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى وبالاخر على الثانية أو الثالثة كما في قولك حدثني الحديث وسألني المال فإن التحديث مع كونه فعلا واحدا قد تعلق بك على الكيفية الثانية وبالحديث على الأولى وكذا السؤال فإنه فعل واحد وقد تعلق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى ولا ريب في ان اختلاف هذه الكيفيات الثلاث وتباينها واختصاص كل من المفاعيل المذكورة بما نسب إليه منها مما لا يتصور فيه تردد ولا نكير وإن كان لا يتضح حق الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير وإن مدار ذلك الاختلاف ليس إلا اختلاف الفعل أو اختلاف المفعول وإذ لاختلاف في مفعول الحمد والمدح تعين أن اختلافهما في كيفية التعلق لاختلافهما في المعنى قطعا هذا

وقد قيل المدح مطلق عن قيد الإختيار يقال مدحت زيدا على حسنه ورشاقة قدة وأياما كان فليس بينهما ترادف بل أخوة من جهة الاشتقاق الكبير وتناسب تام في المعنى كالنصر والتأييد فإنهما متناسبان معنى من غير ترادف لما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول وإنما مرادف النصر الإعانة ومرادف التأييد التقوية فتدبر ثم إن ما ذكر من التفسير هو المشهور من معنى الحمد واللائق بالإدارة في مقام التعظيم

وأما ما ذكر في كتب اللغة من معنى الرضى مطلقا كما في قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وفي قولهم لهذا الأمر عاقبة حميدة وفي قول الأطباء بحران محمود مما لا يختص بالفاعل فضلا عن الإختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة ههنا استقلالا أو استتباعا بحمل الحمد على ما يعم المعنيين إذ ليس في إثباته له عز و جل فائدة يعتد بها

وأما الشكر فهو مقابلة النعمة بالثناء وآداب الجوارح وعقد القلب على وصف المنعم بنعت الكمال كما قال من قال أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا فإذن هو أعم منهما من جهة وأخص من أخرى ونقيضة الكفران ولما كان الحمد من بين شعب الشكر أدخل في إشاعة النعمة والاعتداد بشأنها وأدل على مكانها لما في عمل القلب من الخفاء وفي أعمال الجوارح من الاحتمال جعل الحمد رأس الشكر وملاكا لأمره في قوله الحمد رأس الشكر ما شكر اللّه عبده لم يحمده وارتفاعة بالابتداء وخبره الظرف وأصله النصب كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المضمرة التي لا تكاد تستعمل معها نحو شكرا وعجبا كأنه قيل نحمد اللّه حمدا بنون الحكاية ليوافق ما في قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين لاتحاد الفاعل في الكل

وأما ما قيل من أنه بيان لحمدهم له تعالى كأنه قيل كيف تحمدون فقيل إياك نعبد فمع أنه لا حاجة إليه مما لا صحة له في نفسه فإن السؤال المقدر لا بد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام وينساق إليه الأذهان والأفهام ولاريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يتوهم كونه بيانا لكيفية حمدهم والاعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالموهوم المقدر وبعد اللينا والتي أن فرض السؤال من جهته عز و جل فأتت نكتت الإلتفات التي أجمع عليها السلف والخلف وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لابتناء الجواب على خطابة تعالى وبهذا يتضح فساد ما قيل أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه إجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها فكأنه قيل ما شأنكم معه وكيف توجهكم إليه فأجيب بحصر العبادة والاستعانة فيه فإن تناسى جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابة عز وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذكر من النعوت الجليلة الموجبة للإقبال الكلي عليه من غير أن يتوسط هناك شيء آخر كما ستحيط به خبرا أو إيثار الرفع على النصب الذي هو الأصل للإيذان بأن ثبوت الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مثبت وأن ذلك أمر دائم مستمر لا حادث متجدد كما تفيده قراءة النصب وهو السر في كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحية والسلام أحسن من تحيتهم له في قوله تعالى قالوا سلاما قال سلام وتعريفه للجنس ومعناه الإشارة إلى الحقيقة من حيث هي حاضرة في ذهن السامع والمراد تخصيص حقيقة الحمد به تعالى المستدعى لتخصيص جميع أفرادها به سبحانه على الطريق البرهاني لكن لا بناء على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى فتكون الأفراد الواقعة بمقابلة ما صدر عنهم من الأفعال الجميلة راجعة إليه تعالى بل بناء على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها في المقام الخطابي منزلة العدم كيفا وكما وقد قيل للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققها في ضمن جميع افرادها حسبما يقتضيه المقام وقرئ الحمد للّه بكسر الدال اتباعا لها باللام وبضم اللام اتباعا لها بالدال بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمة واحدة مثل المغيرة ومنحدر الجبل

رب العالمين بالجر على أنه صفة للّه فإن إضافته حقيقية مفيدة للتعريف على كل حال ضرورة تعين إرادة الاستمرار وقرئ منصوبا على المدح أو بما دل عليه الجملة السابقة كأنه قيل نحمد اللّه رب العالمين ولا مساغ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المحلى باللام وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر والرب في الأصل مصدر بمعنى التربية وهي تبليغ الشئ إلى كماله شيئا فشيئا وصف به الفاعل مبالغة كالعدل

وقيل صفة مشبهة من ربه يربه مثل نمه ينمه بعد جعله لازما بنقله إلى فعل بالضم كما هو المشهور سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيد كرب الدار ورب الدابة ومنه قوله تعالى فيسقى ربه خمرا وقوله تعالى أرجع إلى ربك وما في الصحيحين من أنه قال لا يقل أحدكم أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدى ومولاي فقد قيل إن النهى فيه للتنزيه

وأما الأ رباب فحيث لم يكن إطلاقه على اللّه سبحانه جاز في أطلاقه الإطلاق والتقييد كما في قوله تعالى أأرباب متفرقون خير الآية والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب غلب فيما يعلم به الصانع تعالى من المصنوعات أي في القدر المشترك بين أجناسها وبين مجموعها فإنه كما يطلق على كل جنس جنس منها في قولهم عالم الأفلاك وعالم العناصر وعالم النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك يطلق على المجموع أيضا كما في قولنا العالم بجميع أجزائه محدث

وقيل هو اسم لأولى العلم من الملائكة والثقلين وتناوله لما سواهم بطريق الاستتباع

وقيل أريد به الناس فقط فإن كل واحد منهم من حيث اشتماله على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما فيه عالم على حياله ولذلك أمر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق فقيل وفي أنفسكم أفلا تبصرون والأول هو الأحق الأظهر وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها إذ لو أفرد لربما توهم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هي أو استغراق إفراد جنس واحد على الوجه الذي أشير إليه في تعريف الحمد وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نزل العالم وإن لم ينطلق على آحاد مدلولة منزلة الجمع حتى قيل أنه جمع لا واحد له من لفظه فكما أن الجمع المعرف يستغرق آحاد مفرده وإن لم يصدق عليها كما في مثل قوله تعالى واللّه يحب المحسنين أي كل محسن كذلك العالم يشمل أفراد الجنس المسمى به وإن لم ينطلق عليها كأنها آحاد مفرده التقديري ومن قضية هذا التنزيل تنزيل جمعه منزلة جمع الجمع فكما أن الأقاويل يتناول كل واحد من آحاد الأقوال يتناول لفظ العالمين كل واحد من آحاد الجناس التي لا تكاد تحصى روى عن وهب ابن منبه أنه قال للّه تعالى ثمانية عشر ألف عالم والدنيا عالم منها وإنما جمع بالواو والنون مع اختصاص ذلك بصفات العقلاء وما في حكمها من الاعلام لدلالته على معنى العلم مع اعتبار تغليب العقلاء على غيرهم واعلم ان عدم انطلاق اسم العالم على كل واحد من تلك الآحاد ليس الاباعتبار الغلبة والاصطلاح

وأما باعتبارالاصل فلا ريب في صحة الاطلاق قطعا لتحقيق المصداق حتما فإنه كما يستدل على اللّه سبحانه بمجموع ما سواه وبكل جنس من اجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من اجزاء ذلك المجموع وبكل فرد من افراد تلك الاجناس لتحقق الحاجة الى المؤثر الواجب لذاته في الكل فإن كل ما ظهر في المظاهر مما عزو هان وحضر في هذه المحاضر كائنا ما كان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح الى عالم التوحيد

وأما شمول ربوبيته عز و جل للكل فما لا حاجة الى بيانه اذ لا شيء مما أحدق به نطاق الامكان والوجود من العلويات والسفليات والمجردات والماديات والروحانيات والجسمانيات الا وهو في حد ذاته بحيث لو فرض انقطاع آثار التربية عنه آنا واحدا لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار الا في مطمورة العدم ومهاوى البوار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من فنون الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وصفاته وكمالاته ما لا يحيط به فلك التعبير ولا يعلمه الا العليم الخبير ضرورة انه كما لا يستحق شيء من الممكنات بذاته الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وانما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وعلا فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع انحاء عدمه الأصلى لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع انحاء عدمه الطارىء لما ان الدوام من خصائص الوجود الواجبي وظاهر ان ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي عللّه وشرائطه وإن كانت متناهيه لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده وهي المعبر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك اذ لا استحالة في ان يكون لشيء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على ارتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في نفسها فإبقاء تلك الموانع التي لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشيء من وجوه غير متناهية وبالجملة فآثار تربيته عز و جل الفائضة على كل فرد من افراد الموجودات في كل آن من آنات الوجود غير متناهية فسبحانه سبحانه ما اعظم سلطانه لا تلاحظه العيون بأنظارها ولا تطالعه العقول بأفكارها شأنه لا يضاهي وإحسانه لا يتناهى ونحن في معرفته حائرون وفي إقامة مراسم شكره قاصرون نسألك اللّهم الهداية إلى مناهج معرفتك والتوفيق لأداء حقوق نعمتك لا نحصى ثناء عليك لا اله الا انت نستغفرك ونتوب اليك

٣

الرحمن الرحيم صفتان للّه فإن اريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يفيض على الكل بعد الخروج الى طور الوجود من النعم فوجه تأخيرهما عن وصف الربوبية ظاهر وإن اريد ما يعم الكل في الاطوار كلها حسبما في قوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء فوجه الترتيب أن التربية لا تقتضي المقارنة للرحمة فإيرادهما في عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضل فيها فاعل بقضية رحمته السابقة من غير وجوب عليه وبأنها واقعة على أحسن ما يكون والإقتصار على نعته تعالى بهما في التسمية لما أنه الأنسب بحال المتبرك المستعين بإسمه الجليل والأوفق لمقاصده

٤

مالك يوم الدين صفة رابعة له تعالى وتأخيرها عن الصفات الأول مما لا حاجة إلى بيان وجهة وقرأ أهل الحرمين المحترمين ملك من الملك الذي هو عبارة عن السلطان القاهر والإستيلاء الباهر والغلبة التامة والقدرة على التصرف الكلي في أمور العامة بالأمر والنهي وهو الأنسب بمقام الإضافة إلى يوم الدين كما في قوله تعالى لمن الملك اليوم للّه الواحد القهار وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ الماضي ومالك بالنصب على المدح أو الحال وبالرفع منونا ومضافا على أنه خبر مبتدأ محذوف وملك مضافا بالرفع والنصب واليوم في العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان وفي الشرع عما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس والمراد ههنا مطلق الوقت والدين الجزاء خيرا كان أو شرا ومنه الثاني في المثل السائر كما تدين تدان والأول في بيت الحماسة ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا

وأما الأول في الأول والثاني في الثاني فليس بجزاء حقيقة وإنما سمي به مشاكلة أو تسمية للشيء باسم مسببه كما سميت إرادة القيام والقراءة بإسمهما في قوله عز اسمه إذا قمتم إلى الصلاة وقوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه ولعله هو السر في بناء المفاعلة من الأفعال التي تقوم أسبابها بمفعولاتها نحو عاقبت اللص ونظائره فإن قيام السرقة التي هي سبب للعقوبة باللص نزل منزلة قيام المسبب به وهي العقوبة فصار كأنها قامت بالجانبين وصدرت عنهما فبنيت صيغة المفاعلة الدالة على المشاركة بين الإثنين وإضافة اليوم إليه لأدنى ملابسة كإضافة سائر الظروف الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث كيوم الأحزاب وعام الفتح وتخصيصه من بين سائر ما يقع فيه من القيامة والجمع والحساب لكونه أدخل في الترغيب والترهيب فإن ما ذكر من القيامة وغيرها من مبادئ الجزاء ومقدماته وإضافة مالك إلى اليوم من إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على نهج الإتساع المبني علىإجرائه مجرى المفعول به مع بقاء المعنى على حاله كقولهم يا سارق الليلة أهل الدار أي مالك أمور العالمين كلها في يوم الدين وخلو إضافته عن إفادة التعريف المسوغ لوقوعه صفة للمعرفة إنما هو إذا أريد به الحال أو الإستقبال

وأما عند إرادة الإستمرار الثبوتي كما هو اللائق بالمقام فلا ريب في كونها إضافة حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها في قراءة ملك يوم الدين ويوم الدين وإن لم يكن مستمرا في جميع الأزمنة إلا أنه لتحقق وقوعه وبقائه أبدا أجرى مجرى المتحقق المستمر ويجوز أن يراد به الماضي بهذا الأعتبار كما يشهد به القراءة على صيغة الماضي وما ذكر من إجراء الظرف مجرى المفعول به إنما هو من حيث المعنى لا من حيث الإعراب حتى يلزم كون الإضافة لفظية ألا ترى أنك تقول في مالك عبده أمس انه مضاف إلى المفعول به على معنى انه كذلك معنى لا انه منصوب محلا وتخصيصه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله أو لبيان تفرده تعالى بإجراء الأمر فيه وانقطاع العلائق المجازية بين الملاك والأملاك حينئذ بالكلية وإجراء هاتيك الصفات الجليلة عليه سبحانه تعليل لما سبق من اختصاص الحمد به تعالى المستلزم لاختصاص استحقاقه به تعالى وتمهيد لما لحق من اقتصار العبادة والإستعانة عليه فإن كل واحدة منها مفصحة عن وجوب ثبوت كل واحد منها له تعالى إمتناع ثبوتها لما سواه أما الأولى والرابعة فظاهر لأنهما متعرضتان صراحة لكونه تعالى ربا مالكا وما سواه مربوبا مملوكا له تعالى

وأما الثانية والثالثة فلأن إتصافه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعى ان يكون الكل منعما عليهم فظهر ان كل واحدة من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوت الأمور المذكورة له تعالى دلت على إمتناع ثبوتها لما عداه على الإطلاق وهو المعنى بالإختصاص

٥

إياك نعبد وإياك نستعين إلتفات من الغيبة إلى الخطاب وتلوين للنظم من باب إلى باب جار على نهج البلاغة في إفتنان الكلام ومسلك البراعة حسبما يقتضى المقام لما أن التنقل من إسلوب إلى اسلوب أدخل في استجلاب النفوس وإستمالة القلوب يقع من كل واحد من التكلم والخطاب والغيبة إلى كل واحد من الآخرين كما في قوله عز و جل اللّه الذي ارسل الرياح فتثير سحابا الآية

وقوله تعالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم إلى غير ذلك من الإلتفاتات الواردة في التنزيل لأسرار تقتضيها ومزايا تستدعيها ومما استأثر به هذا المقام الجليل من النكت الرائقة الدالة على أن تخصيص العبادة والإستعانة به تعالى لما أجرى عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكمل تميز وأتم ظهور بحيث تبدل خفاء الغيبة بجلاء الحضور فاستدعى استعمال صيغة الخطاب والإيذان بأن حق التالي بعدما تأمل فيما سلف من تفرده تعالى بذاته الأقدس المستوجب للعبودية وامتيازه بذاته عما سواه بالكلية واستبداده بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميزة له عن جميع أفراد العالمين وافتقار الكل إليه في الذات والوجود ابتداء وبقاء على التفصيل الذي مرت إليه الإشارة أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان وينتقل من عالم الغيبة إلى معالم الشهود ويلاحظ نفسه في حظائر القدس حاضرا في محاضر الإنس كأنه واقف لدى مولاه ماثل بين يديه وهو يدعو بالخضوع والإخبات ويقرع بالضراعة باب المناجاة قائلا يا من هذه شئون ذاته وصفاته نخصك بالعبادة والإستعانة فإن كل ما سواك كائنا ما كان بمعزل من استحقاق الوجود فضلا عن استحقاق أن يعبد أو يستعان ولعل هذا هو السر في اختصاص السورة الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعة من الصلاة التي هي مناجاة العبد لمولاه ومئنة للتبتل إليه بالكلية و

إيا ضمير منفصل منصوب وما يلحقه من الكاف والياء والهاء حروف زيدت لتعيين الخطاب والتكلم والغيبة لا محل لها من الاعراب كالتاء في أنت والكاف في أرأيتك وما ادعاه الخليل من الإضافة محتجا عليه بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وايا الشواب فما لا يعول عليه

وقيل هي الضمائر وايا دعامة لها لتصيرها منفصلة

وقيل الضمير هو المجموع وقرئ إياك بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد وهياك بقلب الهمزة هاء والعبادة اقصى غاية التذلل والخضوع ومنه طريق معبد أي مذلل والعبودية أدنى منها

وقيل العبادة فعل ما يرضى به اللّه والعبودية الرضى بما فعل اللّه تعالى والاستعانة طلب المعونة على الوجه الذي مر بيانه وتقديم المفعول فيهما لما ذكر من القصر والتخصيص كما في قوله تعالى وإياى فارهبون مع ما فيه من التعظيم والأهتمام به قال ابن عباس رضي اللّه عنهما معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتكرير الضمير المنصوب للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والإستعانة ولإبراز الاستلذاذ بالمناجاة والخطاب وتقديم العبادة لما أنها من مقتضيات مدلول الأسم الجليل وان ساعده الصفات المجراة عليه أيضا

وأما الأستعانة فمن الأحكام المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادة من حقوق اللّه تعالى والإستعانة من حقوق المستعين ولأن العبادة واجبه حتما والاستعانة تابعة للمستعان فيه في الوجوب وعدمه

وقيل لأن تقديم الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول هذا على تقدير كون اطلاق الأستعانة على المفعول فيه ليتناول كل مستعان فيه كما قالوا

وقد قيل انه لما ان المسئول هو المعونة في العبادة والتوفيق لأقامة مراسمها على ما ينبغي وهو اللائق بشان التنزيل والمناسب لحال الحامد فإن استعانته مسبوقة بملاحظة فعل من أفعاله ليستعينه تعالى في أيقاعه ومن البين أنه عند استغراقه في ملاحظة شئونه تعالى واشتغاله بأداء ما يوجبه تلك الملاحظة من الحمد والثناء لا يكاد يخطر بباله من افعاله واحواله الا الأقبال الكلي عليه والتوجه التام إليه ولقد فعل ذلك بتخصيص العبادة به تعالى أولا وباستدعاء الهداية إلى ما يوصل إليه آخرا فكيف يتصور أن يشتغل فيما بينهما بما لا يعنيه من امور دنياه أو بما يعمها وغيرها كأنه قيل واياك نستعين في ذلك فإنا غير قادرين على اداء حقوقه من غير إعانة منك فوجه الترتيب حينئذ واضح وفيه من الإشعار بعلو رتبه عبادته تعالى وعزة منالها وبكونها عند العابد أشرف المباغي والمقاصد وبكونها من مواهبه تعالى لا من اعمال نفسه ومن الملائمة لما يعقبه من الدعاء ما لا يخفى

وقيل الواو للحال أي أياك نعبد مستعينين بك وآيثار صيغة المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصور نفسه وعدم لياقته بالوقوف في مواقف الكبرياء منفردا وعرض العبادة واستدعاء المعونة والهداية مستقلا وأن ذلك أنما يتصور من عصابة هو من جملتهم وجماعة هو من زمرتهم كما هو ديدن الملوك أو للإشعار باشتراك سائر الموحدين له في الحال العارضة له بناء على تعاضد الأدلة الملجئة إلى ذلك وقرئ نستعين بكسر النون على لغة بني تميم

٦

أهدنا الصراط المستقيم إفراد لمعظم أفراد المعونة المسئولة بالذكر وتعيين لما هو الأهم أو بيان لها كأنه قيل كيف أعينكم فقيل أهدينا والهداية دلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية ولذلك اختصت بالخير وقوله تعالى فاهدوهم إلى صراط الجحيم وارد على نهج التهكم والأصل تعديته بإلى واللام كما في قوله تعالى قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل اللّه يهدي للحق فعومل معاملة اختار في قوله تعالى واختار موسى قومه وعليه قوله تعالى لنهدينهم سبلنا وهداية اللّه تعالى مع تنوعها إلى انواع لا تكاد تحصر منحصرة في أجناس مترتبة منها انفسية كإفاضة القوى الطبيعية والحيوانية التي بها يصدر عن المرء أفاعيله الطبيعية والحيوانية والقوى المدركة والمشاعر الظاهرة والباطنة التي بها يتمكن من اقامة مصالحة المعاشية والمعادية ومنها آفاقية فإما تكوينية معربة عن الحق بلسان الحال وهي نصب الأدلة المودعة في كل فرد من افراد العالم حسبما لوح به فيما سلف

وأما تنزيلية مفصحة عن تفاصيل الأحكام النظرية والعملية بلسان المقال بإرسال الرسل وإنزال الكتب المنطوية على فنون الهدايات التي من جملتها الإرشاد إلى مسلك الاستدلال بتلك الأدلة التكوينية الآفاقية والأنفسية والتنبيه على مكانها كما أشير إليه مجملا في قوله تعالى وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي  قوله عز وعلا إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق اللّه في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون ومنها الهداية الخاصة وهي كشف الأسرار على قلب المهدي بالوحى أو الإلهام ولكل مرتبة من هذه المراتب صاحب ينتحيها وطالب يستدعيها والمطلوب إما زيادتها كما في قوله تعالى والذين اهتدوا ازادهم هدى

وأما الثبات عليها كما روى عن علي وأبي رضي اللّه عنهما اهدنا ثبتنا ولفظ الهداية على الوجه الأخير مجاز قطعا

وأما على الأول فإن اعتبر مفهوم الزيادة داخلا في المعنى المستعمل فيه كان مجازا أيضا وإن اعتبر خارجا عنه مدلولا عليه بالقرائن كان حقيقة لأن الهداية الزائدة هداية كما أن العبادة الزائدة عبادة فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وقرئ أرشدنا والصراط الجادة أصله السين قلبت صادا لمكان الطاء كمصيطر في مسيطر من سرط الشئ إذا ابتلعه سميت به لأنها تسترط السابلة إذا سلكوها كما سميت لقما لأنها تلتقمهم وقد تشم الصاد صوت الزائ تحريا للقرب من المبدل منه وقد قرئ بهن جميعا وفصحاهن إخلاص الصاد وهي لغة قريش وهي الثابتة في الإمام وجمعه صرط ككتاب وكتب وهو كالطريق والسبيل في التذكير والتأنيث والمستقيم المستوى والمراد به طريق الحق وهي الملة الحنفية السمحة المتوسطة بين الإفراط والتفريط

٧

صراط الذين أنعمت عليهم بدل من الأول بدل الكل وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة وفائدته التأكيد والتنصيص على أن طريق الذين أنعم اللّه عليهم وهم المسلمون هو العلم في الاستقامة والمشهود له بالاستواء بحيث لا يذهب الوهم عند ذكر الطريق المستقيم إلا إليه وإطلاق الإنعام لقصد الشمول فإن نعمة الإسلام عنوان النعم كلها فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها

وقيل المراد بهم الأنبياء عليهم السلام ولعل الأظهر أنهم المذكورون في قوله عز قائلا فأولئك مع الذين انعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بشهادة ما قبله من قوله تعالى ولهديناهم صراطا مستقيما

وقيل هم أصحاب موسى وعيسى عليهما السلام قبل النسخ والتحريف وقرئ صراط من أنعمت عليهم والإنعام إيصال النعمة وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان من النعمة وهي اللين ثم اطلقت على ما تستلذه النفس من طيبات الدنيا ونعم اللّه تعالى مع استحالة احصائها ينحصر اصولها في دنيوي وأخروي

والأول قسمان وهبي وكسبي والوهبي أيضا قسمان روحاني كنفخ الروح فيه وامداده بالعقل وما يتبعه من القوى المدركة فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعم جليلة في أنفسها وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وسلامة الأعضاء والكسبي تخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات البهية وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المرضية وحصول الحاه والمال

والثاني مغفرة ما فرط منه والرضى عنه وتبوئته في اعلى عليين مع المقربين والمطلوب هو القسم الأخير وما هو ذريعة إلى نيله من القسم الأول اللّهم أرزقنا ذلك بفضلك العظيم ورحمتك الواسعة

غير المغضوب عليهم ولا الضالين صفة للموصول على أنه عبارة عن احدى الطوائف المذكورة المشهورة بالإنعام عليهم وباستقامة المسلك ومن ضرورة هذه الشهرة شهر تهم بالمغايرة لما أضيف إليه كلمة غير من المتصفين بضدى الوصفين المذكورين أعنى مطلق المغضوب عليهم والضالين فاكتسبت بذلك تعرفا مصححا لوقوعها صفة للمعرفة كما في قولك عليك بالحركة غير السكون وصفوا بذلك تكملة لما قبله وإيذانا بأن السلامة مما ابتلى به أولئك نعمة جليلة في نفسها أي الذين جمعوا بين النعمة المطلقة التي هي نعمة الإيمان ونعمة السلامة من الغضب والضلال

وقيل المراد بالموصول طائفة من المؤمنين لا بأعيانهم فيكون بمعنى النكرة كذى اللام إذا أريد به الجنس في ضمن بعض الأفراد لا بعينه وهو المسمى بالمعهود الذهني وبالمغضوب عليهم والضالين اليهود والنصارى كما ورد في مسند أحمد والترمذي فيبقى لفظ غير على إبهامه نكرة كمثل موصوفة وأنت خبير بأن جعل الموصول عبارة عما ذكر من طائفة غير معينة مخل ببدليه ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارها كون صراط المؤمنين علما في الاستقامة مشهودا له بالاستواء على الوجه الذي تحققته فيما سلف ومن البين إن ذلك من حيث إضافته وإنتسابه إلى كلهم لا إلى بعض مبهم منهم وبهذا تبين أن لا سبيل إلى جعل غير المغضوب عليهم بدلا من الموصول لما عرفت من أن شأن البدل أن يفيد متبوعه مزيد تأكيد وتقرير وفضل إيضاح وتفسير ولا ريب في أن قصارى أمر ما نحن فيه أن يكتسب مما أضيف إليه نوع تعرف مصحح لوقوعه صفة للموصول

وأما استحقاق أن يكون مقصودا بالنسبة مفيدا لما ذكر من الفوائد فكل وقرئ بالنصب على الحال والعامل أنعمت أو على المدح أو على الإستثناء إن فسر النعمة بما يعم القبيلين والغصب هيجان النفس لإرادة الإنتقام وعند إسناده إلى اللّه سبحانه يراد به غايته بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسببه القريب إن أريد به إرادة الإنتقام وعلى مسببه البعيد أن أريد به نفس الإنتقام ويجوز حمل الكلام على التمثيل بأن يشبه الهيئة المنتزعة من سخطه تعالى للعصاة وإرادة الإنتقام منهم لمعاصيهم بما ينتزع من حال الملك إذا غضب على الذين عصوه وأراد أن ينتقم منهم ويعاقبهم وعليهم مرتفع بالمغضوب قائم مقام فاعله والعدول عن اسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعم والخيرات إليه عز و جل دون إضدادها كما في قوله تعالى الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين وقوله تعالى وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ولا مزيدة لتأكيد ما أفاده غير من معنى النفي كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين ولذلك جازانا زيدا غير ضارب جواز أنا زيدا لا ضارب وإن امتنع أنا زيدا مثل ضارب والضلال هو العدول عن الصراط السوي وقرئ وغير الضالين وقرئ ولا الضألين بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين

آمين اسم فعل هو استجب وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن معنى آمين فقال افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين وفيه لغتان مد ألفه وقصرها قال ويرحم اللّه عبدا قال آمينا وقال آمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا عن النبي صلى اللّه عليه و سلم لقننى جبريل آمين عند فراغى من قراءة فاتحة الكتاب وقال إنه كالختم على الكتاب وليست من القرآن وفاقا ولكن يسن ختم السورة الكريمة بها والمشهور عن أبي حنيفة رحمه اللّه أن المصلى يأتي بها مخافتة وعنه أنه لا يأتي بها الإمام لأنه الداعي وعن الحسن رحمه اللّه مثله وروى الإخفاء عبد اللّه بن مغفل وأنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه و سلم وعند الشافعي رحمه اللّه يجهر بها لما روى وائل بن حجر ان النبي كان اذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم انه قال لأبي بن كعب ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والانجيل والقرآن مثلها قلت بلى يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال فاتحة الكتاب أنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته وعن حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه أن النبي قال أن القوم ليبعث اللّه عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب الحمد للّه رب العالمين فيسمعه اللّه تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب اربعين سنة

﴿ ٠