ÓõæÑóÉõ ÇáúÅÓúÑóÇÁö ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÅöÍúÏóì ÚóÔóÑóÉó ÂíóÉð

سورة الاسراء

سورة الإسراء مكية إلا الآيات

بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

١

سبحان الذي أسرى بعبده سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل وحيث كان المسمى معنى لاعينا وجنسا لا شخصا لم تكن إضافته من قبيل ما في زيد المعارك أو حاتم طئ وانتصابه بفعل متروك الإظهار تقديره أسبح اللّه سبحان الخ وفيه ما لا يخفي من الدلالة على التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من السبح الذي هو الذهاب والإبعاد في الأرض ومنه فرس سبوح أي واسع الجري ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن ومن جهة قيامه مقام المصدر مع الفعل

وقيل هو مصدر كغفران بمعنى التنزه ففيه مبالغة من حيث إضافة التنزه إلى ذاته المقدسة ومناسبة تامة بين المحذوف وبين ما عطف عليه في قوله تعالى سبحانه وتعالى كأنه قيل تنزه بذاته وتعالى والإسراء السير بالليل خاصة كالسري وقوله تعالى

ليلا لإفادة قلة زمان الإسراء لما فيه من التنكير الدال على البعضية من حيث الأجزاء دلالته على البعضية من حيث الأفراد فإن قولك سرت ليلا كما يفيد بعضية زمان سيرك من الليالي يفيد بعضيته من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت سرت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعا فيكون معيارا للسير لا ظرفا له ويؤيده قراءة من الليل أي بعضه وإيثار لفظ العبد للإيذان بتمحضه عليه الصلاة و السلام في عبادته سبحانه وبلوغه في ذلك غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية حسبما يلوح به مبدأ الإسراء ومنتهاه وإضافة التنزيه أو التنزه إلى الموصول المذكور للإشعار بعلية ما في حيز الصلة للمضاف فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته ونهاية تنزهه عن صفات المخلوقين

من المسجد الحرام اختلف في مبدأ الإسراء فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الظاهر فإنه روى عنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه الصلاة و السلام بالبراق

وقيل هو دار أم هانئ بنت أبي طالب والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به أو لأن الحرم كله مسجد فإنه روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه صلى اللّه عليه و سلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فكان ما كان فقصه عليها فلما قام ليخرج

إلى المسجد تشبثت بثوبه صلى اللّه عليه و سلم لتمنعه خشية أن يكذبه القوم قال صلى اللّه عليه و سلم وإن كذبوني فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره صلى اللّه عليه و سلم بحديث الإسراء فقال أبو جهل يا معشر كعب بن لؤي بن غالب هلم فحدثهم فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر فقال إن كان قال ذلك لقد صدق قالوا أتصدقه على ذلك قال إني أصدقه على أبعد من ذلك فسمى الصديق وكان فيهم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا أما النعت فقد أصابه فقالوا أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم هذه واللّه الشمس قد أشرقت فقال آخر هذه واللّه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا قاتلهم اللّه أنى يؤفكون واختلف في وقته أيضا فقيل كان قبل الهجرة بسنة وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة واختلف أيضا أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه كان في المنام وأكثر الأقاويل بخلافه والحق أنه كان في المنام قبل البعثة وفي اليقظة بعدها واختلف أيضا أنه كان جسمانيا أو روحانيا فعن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت ما فقد جسد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ولكن عرج بروحه وعن معاوية أنه قال إنما عرج بروحه والحق أنه كان جسمانيا على ما ينبئ عنه التصدير بالتنزيه وما في ضمنه من التعجب فإن الروحاني ليس في الاستبعاد والاستنكار وخرق العادة بهذه المثابة ولذلك تعجبت منه قريش وأحالوه ولا استحالة فيه فإنه قد ثبت في الهندسة أن قطر الشمس ضعف قطر الأرض مائة ونيفا وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل إلى موضع طرفها الأعلى بحركة الفلك الأعظم مع معاوقة حركة فلكها لها في أقل من ثانية وقد تقرر أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض التي من جملتها الحركة وأن اللّه سبحانه قادر على كل ما يحيط به حيطة الإمكان فيقدر على أن يخلق يخلق مثل تلك الحركة بل أسرع منها في جسد النبي صلى اللّه عليه و سلم أو فيما يحمله ولو لم يكن مستبعدا لم يكن معجزة إلى المسجد

الأقصى أي بيت المقدس سمى به إذ لم يكن حينئذ وراءه مسجد وفي ذلك من تربية معنى التنزيه والتعجب مالا يخفى

الذي باركنا حوله ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

لنريه غاية للإسراء

من آياتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ولا يقدح في ذلك كونه قبل الوصول إلى المقصد ومشاهدة بيت المقدس وتمثل الأنبياء له ووقوفه على مقاماتهم العلية عليهم الصلاة والسلام والالتفات إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات وقرئ ليريه بالياء

إنه هو السميع لأقواله عليه الصلاة و السلام بلا أذن

البصير بأفعاله بلا بصر حسبما يؤذن به القصر فيكرمه ويقربه بحسب ذلك وفيه إيماء إلى أن الإسراء المذكور ليس إلا لتكرمته عليه الصلاة و السلام ورفع منزلته وإلا فالإحاطة بأقواله وأفعاله حاصلة من غير حاجة إلى التقريب والالتفات إلى الغيبة لتربية المهابة

٢

وآتينا موسى الكتاب أي التوراة وفيه إيماء إلى دعوته عليه الصلاة و السلام إلى الطور وما وقع فيه من المناجاة جمعا بين الأمرين المتحدين في المعنى ولم يذكر ههنا العروج بالنبي صلى اللّه عليه و سلم إلى السماء وما كان فيه مما لا يكتنه كنهه حسبما نطقت به سورة النجم تقريبا للإسراء إلى قبول السامعين أي آتيناه التوراة بعد ما أسرينا به إلى الطور

وجعلناه أي ذلك الكتاب

هدى لبني إسرائيل يهتدون بما في مطاويه

أن لا تتخذوا أي لا تتخذوا نحو كتبت إليه أن أفعل كذا وقرئ بالياء على أن أن مصدرية والمعنى آتينا موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا

من دوني وكيلا أي ربا تكلون إليه أموركم والإفراد لما أن فعيلا مفرد في اللفظ جمع في المعنى

٣

ذرية من حملنا مع نوح نصب على الاختصاص أو النداء على قراءة النهي والمراد تأكيد الحمل على التوحيد بتذكير إنعامه تعالى عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح عليه السلام أو على أنه أحد مفعولي لا يتخذوا على قراءة النفي ومن دوني حال من وكيلا فيكون كقوله تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من واو لا تتخذوا بإبدال الظاهر من ضمير المخاطب كما هو مذهب بعض البغاددة وقرئ ذرية بكسر الذال

أنه أي أن نوحا عليه الصلاة و السلام

كان عبدا شكورا كثير الشكر في مجامع حالاته وفيه إيذان بأن إنجاء من معه كان ببركة شكره عليه الصلاة و السلام وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفران

وقيل الضمير لموسى عليه السلام

٤

وقضينا أي أتممنا وأحكمنا منزلين

إلى بني إسرائيل أي موحين إليهم

في الكتاب أي في التوراة فإن الإنزال والوحي إلى موسى عليه السلام إنزال ووحي إليهم

 لتفسدن في الأرض جواب قسم محذوف ويجوز إجراء القضاء المحتوم مجرى القسم كأنه قيل وأقسمنا لتفسدن

مرتين مصدر والعامل فيه من غير جنسه أولاهما مخالفة حكم التوراة وقتل شعياء عليه الصلاة و السلام وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط اللّه تعالى والثانية قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم الصلاة والسلام

ولتعلن علوا كبيرا لتستكبرن عن طاعة اللّه سبحانه أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان وتفرطن في ذلك إفراطا مجاوز للحدود

٥

فإذا جاء وعد أولاهما أي أولي كرتي الإفساد أي حان وقت حلول العقاب الموعود

بعثنا عليكم لمؤاخذتكم بجناياتكم

عبادا لنا وقرئ عبيدا لنا

أولى بأس شديد ذوي قوة وبطش في الحروب هم سنجاريب من أهل نينوى وجنوده

وقيل بخت نصر عامل لهراسب

وقيل جالوت

فجاسوا أي ترددوا لطلبكم بالفساد وقرئ بالحاء والمعنى واحد وقرئ وجوسوا

خلال الديار في أوساطها للقتل والغارة وقرئ خلل الديار فقتلوا علماءهم وكبارهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفا وذلك من قبيل تولية بعض الظالمين بعضا مما جرت

وكان ذلك وعدا مفعولا لا محالة بحيث لا صارف عنه ولا مبدل

٦

ثم رددنا لكم الكرة أي الدولة والغلبة

عليهم على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنة حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلو قيل هي قتل بخت نصر واستنفاذ بني إسرائيل أساراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم وذلك أنه لما ورث بهمن بن اسفنديار الملك من جده كشتاسف بن لهراسب ألقى اللّه تعالى في قلبه الشفقة عليهم فرد أساراهم إلى الشام وملك عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بخت نصر

وقيل هي قتل داود عليه السلام لجالوت

وأمددناكم بأموال كثيرة بعد ما نهبت أموالكم

وبنين بعدما سبيت أولادكم

وجعلناكم أكثر نفيرا مما كنتم من قبل أو من عدوكم والنفير من ينفر مع الرجل من قومه

وقيل جمع نفروهم القوم المجتمعون للذهاب إلى العدو كالعبيد والمعين

٧

إن أحسنتم أعمالكم سواء كانت لازمة لأنفسكم أو متعدية إلى الغير أي عملتموها لا على الوجه اللائق ولا يتصور ذلك إلا بعد أن تكون الأعمال حسنة في أنفسها أو إن فعلتم الإحسان

أحسنتم لأنفسكم لأن ثوابها لها

وإن أسأتم أعمالكم بأن عملتموها لا على الوجه اللائق ويلزمه السوء الذاتي أو فعلتم الإساءة

فلها إذ عليها وبالها وعن على كرم اللّه وجهه ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها

فإذا جاء وعد الآخرة حان وقت ما وعد من عقوبة المرة الآخرة

ليسوءوا وجوهكم متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه أي بعثناهم لسوءوا ومعنى ليسوءوا وجوهكم ليجعلوا آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم كقوله تعالى سيئت وجوه الذين كفروا وقرئ ليسوء على أن الضمير للّه تعالى أو للوعد أو للبعث ولنسوء بنون العظمة وفي قراءة علي رضي اللّه عنه لنسو أن على أنه جواب إذا وقرئ لنسو أن بالنون الخفيفة وليسو أن واللام في قوله عز و جل

وليدخلوا المسجد عطف على ليسوءوا متعلق بما تعلق هو به

كما دخلوه أول مرة أي في أول مرة

وليتبروا أي يهلكوا

ما علوا ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم

تتبيرا فظيعا لا يوصف بان سلط اللّه عز سلطانه عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه جودرد

وقيل جردوس

وقيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال لم تصدقوني فقتل على ذلك ألوفا فلم يهدأ الدم ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا فقالوا إنه دم يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام فقال لمثل هذا ينتقم منكم ربكم ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن اللّه تعالى قبل أن لا أبقى منهم أحدا فهدأ

٨

عسى ربكم أن يرحمكم بعد المرة الآخرة

إن تبتم  توبة أخرى وانزجرتم عما كنتم عليه من المعاصي وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الفساد مرة أخرى

عدنا إلى عقوبتكم ولقد عادوا فأعاد اللّه سبحانه عليهم النقمة بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الإتاوة ونحو ذلك وعن الحسن عادوا فبعث اللّه تعالى محمدا صلى اللّه عليه و سلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وعن قتادة مثله

وجعلنا جهنم

للكافرين حصيرا أي محبسا لا يستطيعون الخروج منها أبد الآبدين

وقيل بساطا كما يبسط الحصير وإنما عدل عن أن يقال وجعلنا جهنم لكم تسجيلا على كفرهم بالعود وذما لهم بذلك وإشعار بعلة الحكم

٩

أن هذا القرآن الذي آتيناكه

يهدي أي الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى

للتي للطريقة التي

هي أقوم أي أقوم الطرائق وأسدها أعني ملة الإسلام والتوحيد وترك ذكرها ليس لقصد التعميم لها وللحالة وللخصلة ونحوها مما يعبر به عن المقصد المذكور بل للإيذان بالغنى عن التصريح بها لغاية ظهورها لا سيما بعد ذكر الهداية التي هي من روادفها والمراد بهدايته لها كونه بحيث يهتدي إليها من يتمسك به لا تحصيل الاهتداء بالفعل فإنه مخصوص بالمؤمنين حينئذ

ويبشر المؤمنين بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع وقرئ بالتخفيف

الذين يعملون الصالحات التي شرحت فيه

أن لهم أي بأن لهم بمقابلة تلك الأعمال

أجرا كبيرا بحسب الذات وبحسب التضعيف عشر مرات فصاعدا

١٠

وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء وتخصيصها بالذكر من بين سائر ما كفروا به لكونها معظم ما أمروا بالإيمان به ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها الذي أنبأ عنه قوله عز و جل

أعتدنا لهم عذابا أليما وهو عذاب جهنم أي اعتدنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا أليما وهو أبلغ في الزجر لما أن إتيان العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع والجملة معطوفة على جملة يبشر بإضمار يخبر أو على قوله تعالى أن لهم داخلة معه تحت التبشير المراد بة مجازا مطلق الأخبار المنتظم للأخبار بالخبر السار وبالنبأ الضار حقيقة فيكون ذلك بيانا لهداية القرآن بالترغيب والترهيب ويجوز كون التبشير بمعناه والمراد تبشير المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعقاب أعدائهم وقوله تعالى

١١

ويدع الإنسان بالشر بيان لحال المهدي أثر بيان حال الهادي وإظهار لما بينهما من التبيان والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه فالمعنى على الأول أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر ورائه من العذاب الأليم وهو أي

 بعض منه وهو الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور

أما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم اللّهم إن كان هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ومن قال فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين إلى غير ذلك مما حكى عنهم

وأما بأعمالهم السيئة المفضية إليه الموجبة له مجازا كما هو ديدن كلهم دعاءه بالخير أي مثل

دعاءه بالخير المذكور فرضا لا تحقيقا فإنه بمعزل من الدعاء به وفيه رمز إلى أنه اللائق بحاله

وكان الإنسان أي من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده

عجولا يسارع إلى طلب ما يخطر بباله متعاميا عن ضرره أو مبالغا في العجلة يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة ففيه نوع تهكم به وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال وعلى الثاني أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير وهو في بعض أحيانه كما عند الغضب يدعه ويدعو اللّه تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه روى أنه عليه الصلاة و السلام دفع إلى سودة أسيرا فأرخت كتافه رحمة لأنينه بالليل من ألم القيد فهرب فلما أخبر به النبي صلى اللّه عليه و سلم قال اللّهم اقطع يديها فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة فقال صلى اللّه عليه و سلم إن سألت اللّه تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي عذابا رحمة أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيرا وكان الإنسان عجولا غير متبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به وما هو شر جدير بالاستعاذة منه

١٢

وجعلنا الليل والنهار آيتين شروع في بيان بعض وجوه ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الأفاقية التي كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من لا ينتحيه فإن الجعل المذكور وما عطف عليه من محو

آية الليل وجعل آية النهار مبصرة وإن كانت من الهدايات التكوينية لكن الأخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات وتقديم الليل لمراعاة الترتيب الوجودي إذ منه ينسلخ النهار وفيه تظهر غرر الشهور ولو أن الليلة أضيفت إلى ما قبلها من النهار لكانت من شهر وصاحبها من شهر آخر ولترتيب غاية آية النهار عليها بلا واسطة أي جعلنا الملوين بهيا تهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر على وتيرة عجيبة يحار في فهمها العقول آيتين تدلان على أن لهما صانعا حكيما قادرا عليما وتهديان إلى ما هدى إليه القرآن الكريم من ملة الإسلام والتوحيد فمحونا آية الليل الإضافة أما بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود أي محونا الآية التي هي الليل وفائدتها تحقيق مضمون الجملة السابقة ومحوها جعلها ممحوة الضوء مطموسته لكن لا بعد أن لم يكن كذلك بل إبداعها على ذلك كما في قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل أي أنشأهما كذلك والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليس مما يحصل عقيب جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتماته وجعلنا آية النهار أي الآية التي هي النهار على نحو ما مر مبصرة

أي مضيئة يبصر فيها الأشياء وصفا لها بحال أهلها أو مبصرة للناس من أبصره فبصره

وأما حقيقية وآية الليل والنهار نيراهما ومحو القمر أما خلقه مطموس التور في نفسه فالفاء كما ذكر

وأما نقص ما استفادوا من الشمس شيئا فشيئا إلى المحاق على ما هو معنى المحو والفاء للتعقيب وجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات ذات أشعة تظهر بها الأشياء المظلمة لتبتغوا متعلق بقوله تعالى وجعلنا آية النهار كما أشير إليه أي وجعلناها مضيئة لتطلبوا لأنفسكم في بياض النهار فضلا من ربكم أي رزقا إذ لا يتسنى ذلك في الليل وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرض لصفة الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئا فشيئا دلالة على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب وإنما الإعطاء إلى اللّه سبحانه لا بطريق الوجوب عليه بل تفضلا بحكم الربوبية ولتعلموا متعلق بكلا الفعلين أعنى محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بإنفراده مدارا للعلم المذكور أي لتعلموا بتفاوت الجديدين أو نيريهما ذاتا من حيث الإظلام والإضاءة مع تعاقبهما أو حركتهما و أوضاعهما وسائر أحوالهما عدد السنين التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية والحساب أي الحساب المتعلق بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة ونفس السنة من حيث تحققها مما ينتظمه الحساب وإنما الذي تعلق به العد طائفة منها وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من الحيثية المذكورة أعني حيثية تحققها وتحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها بطائفة من الساعات مثلا فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث أنها فرد من تلك الطائفة المعدودة يعدها أي يفنيها من غير أن يعتبر في ذلك تحصل شي معين وتحقيقه ما مر في سورة يونس من أن الحساب أحصاه ماله كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل كما أشير إليه آنفا والعد إحصاؤه بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل منه شيء كذلك ولما أن السنين لم يعتبر فيها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف إليها الغدد وعلق الحساب بما عاداها مما اعتبر فيه تحصل مراتب معينة لها أسام خاصة وأحكام مستقلة وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتبارى لا يجدي في تحصل المعدودات وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلما على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب

تفصيلا أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبر فيه تحصل شيء آخر منه حسبما ذكر نازل من الحساب المعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب أو لأن العلم المتعلق بالأول أقصى المراتب فكان جديرا بالتقديم في مقام الامتنان واللّه سبحانه أعلم وكل شيء تفتقرون إليه في المعاش والمعاد سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية وهو منصوب بفعل يفسره قوله تعالى فصلناه تفصيلا أي بيناه في القرآن الكريم بيانا بليغا لا التباس معه كقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا

١٣

وكل إنسان مكلف

ألزمناه طائره أي عمله الصادر عنه باختياره حسبما قدر له كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر أو ما وقع له في القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه في العلم الأزلي من قولهم طار له سهم كذا

في عنقه تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط أي ألزمناه عمله بحيث لا يفارقه أبدا بل يلزمه لزوم القلادة أو الغل للعنق لا ينفك عنه بحال وقرئ بسكون النون ونخرج له بنون العظمة وقد قرئ بالياء مبنيا للفاعل على أن الضمير للّه عز و جل وللمفعول والضمير للطائر كما في قراءة يخرج من الخروج

يوم القيامة والبعث للحساب

كتابا مسطورا فيه ما ذكر من عمله نقيرا وقطميرا وهو مفعول لنخرج على القراءتين الأوليين أو حال من المفعول المحذوف الراجع إلى الطائر وعلى الأخريين حال من المستتر في الفعل من ضمير الطائر يلقاه أي يلقى الإنسان أو يلقاه الإنسان منشورا وهما صفتان للكتاب أو الأولى صفة والثاني حال منها وقرئ يلقاه من لقيته كذا أي يلقى الإنسان إياه قال الحسن بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك

وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة

١٤

اقرأ كتابك أي قائلين لك ذلك عن قتادة يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا

وقيل المراد بالكتاب نفسه المنتقشة بآثار أعماله فإن كل عمل يصدر من الإنسان خيرا أو شرا يحدث منه في جوهر روحه أمر مخصوص إلا أنه يخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن مشتغلا بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كانت ساكنة مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوى فيزول الغطاء وتنكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شيء عمله في مدة عمره وهذا معنى الكتابة والقراءة

كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا أي كفى نفسك والباء زائدة واليوم ظرف لكفى وحسيبا تمييز وعلى صلته لأنه بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي ووضع موضع الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه وتذكيره لأن ما ذكر من الحساب والكفاية مما يتولاه الرجال أو لأنه مبنى على تأويل النفس بالشخص على أنها عبارة عن النفس المذكر كقول جبلة بن حريث يا نفس إنك باللذات مسرور فاذكر فهل ينفعنك اليوم تذكير من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطرائق ولزوم الأعمال لأصحابها أي

١٥

من اهتدى بهدايته وعلم بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه

فإنما تعود منفعته اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم

يهتد ومن ضل عن الطريقة التي يهديه إليها

فإنما يضل عليها أي فإنما وبال ضلاله عليها لا على من عداه ممن لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه

ولا تزر وازرة وزر أخرى تأكيد للجملة الثانية أي لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعلمه من التلازم بل إنما تحمل كل منها وزرها وهذا تحقيق لمعنى قوله عز و جل ولك إنسان ألزمناه طائره في عنقه

وأما ما يدل عليه قوله تعالى من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وقوله تعالى ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما الذين يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال وإنما خص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم

وما كنا معذبين بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو

ما كان في حكمنا الماضي وقضائنا السابق أن نعذب أحدا من أهل الضلال والأوزار اكتفاء بقضية العقل

حتى نبعث إليهم

رسولا يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع حسبما في تضاعيف الكتاب المنزل عليه والمراد بالعذاب المنفي أما عذاب الاستئصال كما قاله الشيخ أبو منصورا لما تريدي رحمه اللّه وهو المناسب لما بعده أو الجنس الشامل للدنيوي والأخروي هو من أفراده وأياما كان فالبعث غاية لعدم صحة وقوعه في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقا كيف لا والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي أيضا لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان ألا يرى إلى قوم نوح كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة وقوله تعالى

١٦

وإذا أردنا أن نهلك قرية بيان لكيفية وقوع التعذيب بعد البعثة التي جعلت غاية لعدم صحته وليس المراد بالإرادة تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنها المراد ولا الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقته المقدر له إذ لا يقارنه الجزاء الآتي بل دنو وقتها كما في قوله تعالى أتى أمر اللّه أي وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بأن نعذب أهلها بما ذكرنا من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين أمرنا بواسطة الرسول المبعوث إلى أهلها مترفيها متنعميها وجباريها وملوكها خصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم الأصول في الخطاب والباقي أتباع لهم ولأن توجه الأمر إليهم آكدو عدم التعرض للمأمور به

أما لظهور أن المراد به الحق والخير لأن اللّه لا يأمر بالفحشاء لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه

وأما لأن المراد وجد منا الأمر كما يقال فلان يعطي ويمنع ففسقوا فيها أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا فحق عليها القول أي ثبت وتحقق موجبه بحلول العذاب إثر ما ظهر منهم من الفسق والطغيان فدمرناها بتدمير أهلها تدميرا لا يكتنه كنهه ولا يوصف هذا هو المناسب لما سبق

وقيل الأمر مجاز عن الحمل على الفسق والتسبب له بأن صب عليهم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق

وقيل هو بمعنى التكثير يقال أمرت الشيء فأمر أي كثرته فكثر وفي الحديث خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة أي كثيرة النتاج ويعضده قراءة

آمرنا وأمرنا من الإفعال والتفعيل وقد جعلتا من الإمارة أي جعلناهم أمراء وكل ذلك لا يساعده مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء فإن مؤدى ذلك أن طغيانهم منوطا بإرادة اللّه سبحانه وإنعامه عليهم بنعم وافرة أبطرتهم وحملتهم على الفسق حملا حقيقا بأن يعبر عنه بالأمر به

١٧

وكم أهلكنا أي وكثيرا ما أهلكنا

من القرون بيان لكم وتمييز له والقرن مدة من الزمان يخترم فيها القوم وهي عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو ثمانون أو مائة وقد أيد ذلك بأنه عليه الصلاة و السلام دعا لرجل فقال عش قرنا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرون

من بعد نوح من بعد زمنه عليه الصلاة و السلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص وعدم نظم قومه عليه الصلاة و السلام في تلك القرون المهلكة لظهور أمرهم على أن ذكره عليه الصلاة و السلام رمز إلى ذكرهم

وكفى بربك أي كفى ربك

بذنوب عباه خبيرا بصيرا يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها وتقديم الخبير لتقدم متعلقة من الاعتقادات والنيات التي هي مبادئ الأعمال الظاهرة أو لعمومه حيث يتعلق بغير المبصرات أيضا وفيه إشارة إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه

١٨

من كان يريد بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول الكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرياء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد لمحض الغنيمة العاجلة فقط من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبئ عنه الاستمرار المستفاد من زيادة كان ههنا مع الاقتصار على مطلق الإرادة في قسيمة والمراد بالعاجلة الدار الدنيا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى ومن كان يريد حرث الدنيا ويجوز ان يراد الحياة

العاجلة كقوله عز و جل من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها لكن الأول أنسب بقوله

عجلنا له فيها أي في تلك العاجلة فإن الحياة واستمرارها من جملة ما عجل له فالأنسب بذلك كلمة من كما في قوله تعالى ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ما نشاء أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد لمن نريد تعجيل ما نشاء له وهو بدل من الضمير في له بإعادة الجار بدل البعض فإنه راجع إلى الموصول المنبئ عن الكثرة وقرئ لمن يشاء على أن الضمير للّه سبحانه

وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد به ذلك وهو واحد من الدهماء وتقييد المعجل والمعجل له بما ذكر من المشيئة والإرادة لما أن الحكمة التي عليها يدور فلك التكوني لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه

وأما ما يتراءى من قوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون من نيل كل مؤمل لجميع آماله ووصول كل عامل إلى نتيجة أعماله فقد أشير إلى تحقيق القول فيه في سورة هود بفضل اللّه تعالى ثم جعلنا له مكان ما عجلنا له

جهنم وما فيها من أصناف العذاب

يصلاها يدخلها وهو حال من الضمير المجرور أو من جهنم أو استئناف

مذموما مدحورا مطرودا من رحمة اللّه تعالى

وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها ويأباه ما يقال إن السورة مكية سوى آيات معينة

١٩

ومن أراد بأعماله

الآخرة الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم

وسعى لها سعيها أي السعي اللائق بها

وهو الإتيان بما أمر والانتهاء عما نهى لا التقرب بما يخترعون بآرائهم وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص وهو

مؤمن إيمانا صحيحا لا يخالطه شيء قادح فيه وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز الصلة

فأولئك إشارة إلى الموصول بعنوان اتصافه بما في حيز الصلة وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماء إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي أولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان

كان سعيهم مشكورا مقبولا عند اللّه تعالى أحسن القبول مثابا عليه وفي تعليق المشكورية بالسعي دون قرينيه إشعار بأنه العمدة فيها

٢٠

كلا التنوين عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين لا الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط

نمد أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلا على ما سبق تصريحا وتلويحا واتكالا على ما لحق عبارة وإشارة كما ستقف عليه وقوله تعالى

هؤلاء بدل من كلا

وهؤلاء عطف عليه أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بماله من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين المضاف إليه المحذوف دفعا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول وقوله تعالى

من عطاء ربك أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له متعلق بنمد ومغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل

وما كان عطاء ربك أي دنيويا كان أو أخرويا وإنما أظهر إظهارا لمزيد الاعتناء بشأنه وإشعارا بعليته للحكم

محظورا ممنوعا ممن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبينة على الحكمة وإن وجد منه ما يقتضي الحظر كالكافر وهو في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين والتعرض لعنوان الربوبية في الموضعين للإشعار بمبدئيتها لما ذكر من الإمداد وعدم الحظر

٢١

انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض كيف في محل النصب بفضلنا على الحالية والمراد توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم به من العطايا العاجلة فمن وضيع ورفيع وظالع وضليع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الآجلة ودرجات تفاضل أهلها على طريقة الاستشهاد بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى

وللآخرة أكبر أي هي وما فيها أكبر من قدرها ولا يكتنه كنهها كيف لا وقد عبر عنه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر هذا ويجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط ويحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصولهم إلهيا بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة ووصولا مما توهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل واحد من الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد ممن يريده وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة الآية واعتبار عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقا لشمول الإمداد له كما فعله الجمهور حيث قالوا لا يمنعه من عاص لعصيانه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلا عن إيهام اختصاصه

٢٢

لا تجعل مع اللّه إلها آخر الخطاب للرسول صلى اللّه عليه و سلم والمراد به أمته وهو من باب التهييج والإلهاب أو كل أحد ممن يصلح للخطاب فتقعد بالنصب جوابا للنهي والقعود بمعنى الصيرورة من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة أو بمعنى العجز من قعد عنه أي عجز عنه

مذموما مخذولا خبران أو حالان أي جامعا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين والخذلان من اللّه تعالى وفيه إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة

٢٣

وقضى ربك أي أمر أمرا مبرما وقرئ وأوصى ربك ووصى ربك

أن لا تعبدوا أي بأن لا تعبدوا

إلا إياه على أن أن مصدرية ولا نافيه أو أي لا تعبدوا على أنها مفسرة ولا ناهية لأن العبادة غاية التعظيم فلا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام وهو كالتفصيل للسعي للآخرة

وبالوالدين أي وبأن تحسنوا بهما أو وأحسنوا بهما

إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش

إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما إما مركبة من أن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها ولذلك دخل الفعل نون التأكيد ومعنى عندك في كنفك وكفالتك وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخر عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان وأحدهما فاعل للفعل وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه وقرئ يبلغان فأحدهما بدل من ضمير التثنية وكلاهما عطف عليه ولا سبيل إلى جعل كلاهما تأكيدا للضمير وتوحيد ضمير الخطاب في عندك وفيما بعده مع أن ما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد فإن المقصود نهى كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما ولو قوبل الجمع بالجمع أو بالتثنية لم يحصل هذا المرام

فلا تقل لهما أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع

أف وهو صوت ينبئ عن تضجر أو اسم فعل هو أتضجر وقرئ بالكسر بلا تنوين وبالفتح والضم منونا وغير منون أي لا تتضجر بها تستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما وبهذا النهي يفهم الهي عن سائر ما يؤذيهما بدلالة النص وقد خص بالذكر بعضه إظهار اللاعتناء بشأنه فقيل

ولا تنهرهما أي لا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ قيل النهي والنهر والنهم أخوات

وقل لهما بدل التأفيف والنهر

قولا كريما ذات كرم أو هو وصف له بوصف صاحبه أي قولا صادرا عن كرم ولطف وهو القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أباه ويا أماه كدأب إبراهيم عليه السلام إذ قال لأبيه يا أبت مع ما به من الكفر ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وديدن الدعار وسئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين فقال أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل

وقيل أن لا ترفع صوتك عليهما ولا تنظر إليهما شزرا ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن وأن تترحم عليهما ما عاشا وتدعو لهما إذا ماتا وتقوم بخدمة أودائهما من بعدهما فعن النبي صلى اللّه عليه و سلم إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه

٢٤

واخفض لهما جناح الذل عبارة عن إلانة الجانب والتواضع والتذلل لهما فإن إعزازهما لا يكون إلا بذلك فكأنه قيل واخفض لهما جناحك الذليل أو جعل لذله جناح كما جعل لبيد في قوله وغداة ريح قد كشفت وقرة إذا أصبحت بيد الشمال زمامها للقرة زماما وللشمال يدا تشبيها له بطائر يخفض جناحه لأفراخه تربية لها وشفقة عليها

وأما جعل خفض الجناح عبارة عن ترك الطيران كما فعله القفال فلا يناسب المقام

من الرحمة من فرط رحمتك وعطفك عليهما ورقتك لهما لافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق اللّه تعالى إليهما ولا تكتف برحمتك الفانية بل ادع اللّه لهما برحمته الواسعة الباقية

وقل رب ارحمهما برحمتك الدنيوية والأخروية التي من جملتها الهداية إلى الإسلام فلا ينافي ذلك كفرهما

كما ربياني الكاف في محل النصب على نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل رب ارحمهما وربهما

كما رحماني

وربياني صغيرا ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربتهما لي كقوله تعالى واذكروه كما هداكم ولقد بالغ عز و جل في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمها في سلك القضاء بهما معا ثم ضيق الأمر في باب مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع ماله من موجبات الضجر مالا يكاد يدخل تحت الحصر وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كل شيء مشبهة بتربيتهما وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم رضي اللّه في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما وروي يفعل البار ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة وقال رجل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إن أبوي بلغا من الكبر أني إلي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما قال لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما وري أن شيخا أتى النبي صلى اللّه عليه و سلم فقال إن ابني هذا له مال كثير وإنه لا ينفق على من ماله فنزل جبريل عليه السلام وقال إن هذا الشيخ قد أنشأ في أنبه أبياتا ما قرع سمع بمثلها فاستنشهدها فأنشدها الشيخ فقال

... غذوتك مولدا ومنتك يافعا ... تعل بما أجني عليك وتنهل

... إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا باكيا أتململ

... كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل

... فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل

... جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك ... أنت المنعم المتفضل

... فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل ...

فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقال أنت ومالك لأبيك

٢٥

ربكم أعلم بما في نفوسكم من البر والعقوق

إن تكونوا صالحين قاصدين للصلاح والبر دون العقوق والفساد

فإنه تعالى

كان للأوابين أي الرجاعين إليه تعالى عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو عنه البشر

غفورا لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية فعلية أو قولية وفيه مالا يخفى من التشديد في الأمر بمراعاة حقوقهما ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ويدخل فيه الجاني على أبويه دخولا أوليا

٢٦

وآت ذا القربى أي ذا القرابة

حقه توصية بالأقارب إثر التوصية ببر الوالدين ولعل المراد بهم المحارم وبحقهم النفقة كما ينبئ عنه قوله تعالى

والمسكين وابن السبيل فإن المأمور به في حقهما المواساة المالية لا محالة أي وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهي عن التبذير وعن الإفراط في القبض والبسط فإن الكل من التصرفات المالية

ولا تبذر تبذيرا نهى عن صرف المال إلى من سواهم ممن لا يستحقه فإن التبذير تفريق في غير موضعه مأخوذ من تفريق حبات وإلقائها كيفما كان من غير تعهد لمواقعة لا عن الإكثار في صرفه إليهم وإلا لناسبه الإسراف الذي هو تجاوز الحد في صرفه وقد نهى عنه بقوله تعالى ولا تبسطها وكلاهما مذموم

٢٧

إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا في قرن الشياطين والمراد بالإخوة المماثلة التامة في كل مالا خير فيه من صفات السوء التي من جملتها التبذير أي كانوا بما فعلوا من التبذير أمثال الشياطين أو الصداقة والملازمة أي كانوا أصدقاءهم وأتباعهم فيما ذكر من التبذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر مالا خير فيه من المباهي والملاهي أو المقارنة أي قرناءهم في النار على سبيل الوعيد

وكان الشيطان لربه كفورا من تتمة التعليل أي مبالغا في كفران نعمته تعالى لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه اللّه تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت هي له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر باللّه وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر اللّه تعالى به وتخصيص هذا الوصف بالذكر من بين سائر أوصافه القبيحة للإيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم اللّه تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمال عتوه فإن كفران نعمة الرب مع كون الربوبية من قوى الدواعي إلى شكرها غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان

٢٨

وأما تعرضن عنهم أي إن اعتراك أمر اضطرك إلى أن تعرض عن أولئك المستحقين

ابتغاء رحمة من ربك أي لفقد رزق من ربك إقامة للمسبب مقام السبب فإن الفقد سبب للابتغاء

ترجوها من اللّه تعالى لتعطيهم وكان صلى اللّه عليه و سلم إذا سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء فأمر بتعهدهم بالقول الجميل لئلا تعتريهم الوحشة بسكوته صلى اللّه عليه و سلم فقيل

فقل لهم قولا ميسورا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا من يسر الأمر نحو سعد أو قل لهم رزقنا اللّه وإياكم من فضله على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجرا لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد كلا طرفي قصد الأمور ذميم وحيث كان قبح الشح مقارنا له معلوما من أول الأمر روعي ذلك في التصوير بأقبح الصور ولما كان غائلة الإسراف في آخره بين قبحه في أثره فقيل فتقعد ملوما أي فتصير ملوما عند اللّه وعند الناس وعند نفسك إذا احتجت وندمت على ما فعلت محسورا نادما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسره السفر إذا بلغ منه وما قيل من أنه روي عن جابر رضي اللّه عنه أنه قال بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قاعد إذ أتاه صبي فقال إن أمي تستكسيك درعا فقال صلى اللّه عليه و سلم من ساعة إلى ساعة فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت له قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل صلى اللّه عليه و سلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت فيأباه أن السورة مكية خلا آيات في آخرها كذا ما قيل إنه صلى اللّه عليه و سلم أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وكذا عيينة بن حصن الفزاري فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول

... أتجعل نهي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع

... وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع

... وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع ...

فقال صلى اللّه عليه و سلم يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعا من المؤلفة القلوب فنزلت

٣٠

إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر تعليل لما مر أي يوسعه على بعض ويضيقه على آخرين حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فليس ما يرهقك من الإضافة التي تحوجك إلى الإعراض عن السائلين أو نفاذ ما في يدك إذا بسطتها كل البسط إلا لمصلحتك

إنه كان بعباده خبيرا بصيرا تعليل لما سبق أي يعلم سرهم وعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويجوز أن يراد أن البسط والقبض من أمر اللّه العالم بالسرائر والظواهر الذي بيده خزائن السموات والأرض

وأما العباد فعليهم أن يقتصدوا وأن يراد أنه تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى فاستنوا بسنته فلا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط وأن يراد أنه تعالى يبسط ويقدر حسب مشيئته فلا تبسطوا على من قدر عليه رزقه وأن يكون تميهدا لقوله

٣١

ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق أي مخافة فقر وقرئ بكسر الخاء كانوا يئدون بناتهم مخافة الفقر فنهوا عن ذلك

نحن نرزقهم وإياكم لا أنتم فلا تخافوا الفاقه بناء على علمكم بعجزكم عن تحصيل رزقهم وهو ضمان لرزقهم وتعليل للنهي المذكور بإبطال موجبه في زعمهم وتقديم ضمير الأولاد على المخاطبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بإصالتهم في إفاضة الرزق أو لأن الباعث على القتل هناك الإملاق الناجز ولذلك قيل من إملاق وههنا الإملاق المتوقع ولذلك قيل خشية إملاق فكأنه قيل نرزقهم من غير أن ينتقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه وإياكم أيضا رزقا إلى رزقكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا تعليل آخر ببيان أن المنهي عنه في نفسه منكر عظيم والخطء الذنب والإثم يقال خطء خطأ كإثم إثما وقرئ بالفتح والسكون وبفتحتين بمعناه كالحذر والحذر

وقيل بمعنى ضد الصواب وبكسر الخاء والمد وبفتحها ممدودا وبفتحها وحذف الهمزة وبكسرها كذلك

٣٢

ولا تقربوا الزنا بمباشرة مباديه القريبة أو البعيدة فضلا عن مباشرته وإنما نهى عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق من القتل للمبالغة في النهي عن نفسه ولأن قربانه داع إلى مباشرته وتوسيط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرمة على الإطلاق باعتبار أنه قتل للأولاد لما أنه تضييع للأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكما

إنه كان فاحشة فعلة ظاهرة القبح متجاوزة عن الحد

وساء سبيلا أي بئس طريقا طريقه فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلال أمر الأنساب وهيجان الفتن كيف لا وقد قال النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا انقطع رجع إليه وقال صلى اللّه عليه و سلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وعن حذيفة رضي اللّه عنه أنه قال صلى اللّه عليه و سلم إياكم والزنا فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأما التي في الدنيا فذهاب البهاء ودوام الفقر وقصر العمر

وأما التي في الآخرة فسخط اللّه تعالى وسوء الحساب والخلود في النار

٣٣

ولا تقلتوا النفس التي حرم اللّه قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد

إلا بالحق إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس معصومة عمدا فالاستنثاء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق أو ملتبسين أو ملتبسة بشيء من الأشياء ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا ملتبسا بالحق

ومن قتل مظلوما بغير حق يوجب قتله أو يبيحه للقاتل حتى إنه لا يعتبر إباحته لغير القاتل فإن من عليه القصاص إذا قتله غير من له القصاص يقتص له ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك ما لم يكن الأمر ظاهرا

فقد جعلنا لوليه لمن يلي أمره من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث

سلطانا تسلطا واستيلاء على القاتل يؤاخذه بالقصاص أو بالدية حسبما تقتضيه جنايته أو حجة غالبة

فلا يسرف وقرئ لا نسرف

في القتل أي لا يسرف الولي في أمر القتل بأن يتجاوز الحد المشروع بأن يزيد عليه المثلة أو بأن يقتل غير القاتل من أقاربه أو بأن يقتل الاثنين مكان الواحد كما يفعله أهل الجاهلية أو بأن يقتل القاتل في مادة الدية وقرئ بصيغة النفي مبالغة في إفادة معنى النهي

إنه كان منصورا تعليل للنهي والضمير للولي على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب له القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فلا يبغ ما وراء حقه ولا يستزد عليه ولا يخرج من دائرة أمر الناصر أو للمقتول ظلما على معنى أنه تعالى نصره بما ذكر فلا يسرف وليه في شأنه أو للذي يقتله الولي ظلما وإسرافا ووجه التعليل ظاهر وعن مجاهد أن الضمير في لا يسرف للقاتل الأول ويعضده قراءة فلا تسرفوا والضميران في التعليل عائدان إلى الولي أو المقتول فالمراد بالإسراف حينئذ إسراف القاتل على نفسه بتعريضه لها للّهلاك العاجل والآجل لا الإسراف وتجاوز الحد في القتل أي لا يسرف على نفسه في شأن القتل كما في قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم

٣٤

ولا تقربوا مال اليتيم نهى عن قربانه لما ذكر من المبالغة في النهي

 عن التعرض له ومن إفضاء ذلك إليه وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى

إلا بالتي هي أحسن أي إلا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن الخصال والطرائق وهي حفظه واستثماره

حتى يبلغ أشده غاية لجواز التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء لا للوجهة المذكور فقط

وأوفوا بالعهد سواء جرى بينكم وبين ربكم أو بينكم وبين غيركم من الناس والإيفاء بالعهد والوفاء به هو القيام بمقتضاه والمحافظة عليه ولا يكاد يستعمل إلا بالباء فرقا بينه وبين الإيفاء الحسي كإيفاء الكيل والوزن

إن العهد أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال العناية بشأنه أو لأن المراد مطلق العهد المنتظم للعهد المعهود

كان مسئولا أي مسئولا عنه على حذف الجار وجعل الضمير بعد انقلابه مرفوعا مستكنا في اسم المفعول كقوله تعالى وذلك يوم مشهود أي مشهود فيه ونظيره ما في قوله تعالى تلك آيات الكتاب الحكيم على أن أصله الحكيم قائله فحذف المضاف وجعل الضمير مستكنا في الحكيم بعد انقلابه مرفوعا ويجوز أن يكون تخييلا كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتا للناكث كما يقال للموءودة بأي ذنب قتلت

٣٥

وأوفوا الكيل أي أتموه ولا تخسروه

إذا كلتم أي وقت كيلكم للمشترين وتقييد الأمر بذلك لما أن التطفيف هناك يكون

وأما وقت الاكتيال على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى إذا اكتالوا على الناس يستوفون الآية

وزنوا بالقسطاس وهو القرسطون

وقيل كل ميزان صغيرا كان أو كبيرا رومي معرب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لانتظام المعربات في سلك الكلم العربية وقرئ بضم القاف

المستقيم أي العدل السوي ولعل الاكتفاء باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أن عند استقامته لا يتصور الجور غالبا بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاء بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءه لا يتصور بدون تعديل المكيال وقد أمر بتقويمه أيضا في قوله تعالى وأوفوا الكيل والميزان بالقسط

ذلك أي إيفاء الكيل والوزن بالميزان السوي

خير في الدنيا إذ هو أمانة توجب الرغبة في معاملته والذكر الجميل بين الناس

وأحسن تأويلا عاقبة تفعيل من آل إذا رجع والمراد ما يئول إليه ولا تقف ولا تتبع من قفا أثره إذا تبعه وقرئ

٣٦

ولا تقف من قاف أثره أي قفاه ومنه القافة في جمع القائف

ما ليس لك به علم أي لا تكن في اتباع مالا علم لك به من قول أو فعل كمن يتبع مسلكا لا يدري أنه يوصله إلى مقصده واحتج به من منع اتباع الظن وجوابه أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند قطعيا كان أو ظنيا واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه

وقيل إنه مخصوص بالعقائد

وقيل بالرمي وشهادة الزور ويؤيده قوله صلى اللّه عليه و سلم من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه اللّه تعالى في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج ومنه قول الكميت

... ولا أرمي البرئ بغير ذنب ... ولا أقفوا الحواصن إن رمينا ...

إن السمع والبصر والفؤاد وقرئ بفتح الفاء والواو المقلوبة من الهمزة عند ضم الفاء كل

أولئك أي كل واحد من تلك الأعضاء فأجريت مجرى العقلاء لما كان مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لذا الذي يعم القبيلين جاء لغيرهم أيضا قال

... ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام ...

كان عنه مسئولا أي كان كل من تلك الأعضاء مسئولا عن نفسه على أن اسم كان ضمير يرجع إلى كل وكذا الضمير المجرور وقد جوز أن يكون الاسم ضمير القافي بطريق الالتفات إذ الظاهر أن يقال كنت عنه مسئولا

وقيل الجار والمجرور في محل الرفع قد أسند إليه مسئولا معللا بأن الجار والمجرور لا يلتبس بالمبتدأ وهو السبب في منع تقديم الفاعل وما يقوم مقامه ولكن النحاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا ويجوز أن يكون من باب الحذف على شريطة التفسير ويحذف الجار من المفسر ويعود الضمير مستكنا كما ذكرنا في قوله تعالى يوم مشهود وجوز أن يكون مسئولا مسندا إلى المصدر المدلول عليه بالفعل وأن يكون فاعله المصدر وهو السؤال وعنه في محل النصب وسأل ابن جني أبا على عن قولهم فيك يرغب وقال لا يرتفع بما بعده فأين المرفوع فقال المصدر أي فيك يرغب الرغبة بمعنى تفعل الرغبة كما في قولهم يعطي ويمنع أي يفعل الإعطاء والمنع وجوز أن يكون اسم كان أو فاعله ضمير كل بحذف المضاف أي كان صاحبه عنه مسئولا أو مسئولا صاحبه

٣٧

ولا تمش في الأرض التقييد لزيادة التقرير والإشعار بأن المشي عليها مما لا يليق بالمرح مرحا تكبرا وبطرا واختيالا وهو مصدر وقع موقع الحال أي ذا

مرح أو تمرح مرحا أو لأجل المرح وقرئ بالكسر

إنك لن تخرق الأرض تعليل للنهي وفيه تهكم بالمختال وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وتكبر عليها أي لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطأتك وقرئ بضم الراء

ولن تبلغ الجبال التي هي بعض أجزاء الأرض

طولا حتى يمكن لك أن تنكير عليها إذ التكبر إنما يكون بكثرة القوة وعظم الجنة وكلاهما مفقود وفيه تعريض بما عليه المختال من رفع رأسه ومشيه على صدور قدميه

٣٨

كل ذلك إشارة إلى ما علم في تضاعيف ذكر الأوامر والنواهي من الخصال الخمس والعشرين

كان سيئة الذي نهى عنه وهي اثنتا عشرة خصلة

عند ربك مكروها مبغضا غير مرضي أو غير مراد بالإرادة الأولية لا غير مراد مطلقا لقيام الأدلة القاطعة على أن جميع الأشياء واقعة بإرادته سبحانه وهو تتمة لتعليل الأمور المنهي عنها جميعا ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن البعض من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الانتهاء عن ذلك وتوجيه الإشارة إلى الكل ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء لما أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة بل على وجه الاختلاط وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده تعالى وإنما لم يصرح بذلك إيذانا بالغني عنه

وقيل الإضافة بيانية كما في آية الليل وآية النهار وقرئ سيئة على أنه خبر كان وذلك إشارة إلى ما نهى عنه من الأمور المذكورة وكروها بدل من سيئة أو صفة لها محمولة على المعنى فإنه بمعنى سيئا وقد قرئ به أو مجرى على موصوف مذكر أي أمرا مكروها أو مجرى مجرى الأسماء زال عنه معنى الوصفية ويجوز كونه حالا من المستكن في كان أو في الظرف على أنه صفة سيئة وقرئ سيئاته وقرئ شأنه

٣٩

ذلك أي الذي تقدم من التكاليف المفصلة

مما أوحى إليك ربك أي بعض منه أو من جنسه من الحكمة التي هي علم الشرائع أو معرفة الحق لذاته والعمل به أو

من الأحكام

المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن هذه الآيات الثماني عشرة كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها

لا تجعل مع اللّه إلها آخر قال تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وهي عشر آيات في التوراة ومن أما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية

وأما بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره المحذوف في الصلة أي كائنا من الحكمة

وأما بدل من الموصول بإعادة الجار ولا تجعل مع اللّه إلها آخر الخطاب للرسول صلى اللّه عليه و سلم والمراد غيره ممن يتصور منه صدور المنهي عنه وقد كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه وإن بذفيها أساطين الحكماء وحك بيافوخه عنان السماء وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أو لا حيث قيل فتقعد مذموما مخذولا ورتب عليه ههنا نتيجته في العقبى فقيل

فتلقى في جهنم ملوما من جهة نفسك ومن جهة غيرك

مدحورا مبعدا من رحمة اللّه تعالى وفي إيراد الإلقاء مبينا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه فيطرحها في التنور

٤٠

أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا خطاب للقائلين بأن الملائكة بنات اللّه سبحانه والإصفاء بالشيء جعله خالصا والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يفسره المذكور أي أفضلكم على جنابه فخصكم بأفضل الأولاد على وجه الخلوص وآثر لذاته أخسها وأدناها كما في قوله سبحانه ألكم الذكر وله الأنثى وقوله تعالى أم له البنات ولكم البنون وقد قصد ههنا بالتعرض لعنوان الربوبية تشديد النكير وتأكيده وأشير بذكر الملائكة عليهم السلام وإيراد الإناث مكان البنات إلى كفرة لهم أخرى وهي وصفهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخس صفات الحيوان كقوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا

إنكم لتقولون بمقتضى مذهبكم الباطل الذي هو إضافة الولد إليه سبحانه

 قولا عظيما لا يقادر قدره في استتباع الإثم وخرقه لقضايا العقول بحيث لا يجترئ عليه أحد حيث يجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال وليس كمثله شيء وهو الواحد القهار الباقي بذاته ثم تضيفون إليه ما تكرهون من أخس الأولاد وتفضلون عليه أنفسكم بالبنين ثم تصفون الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق بالأنوثة التي هي أخس أوصاف الحيوان فيالها من ضلة ما أقبحها وكفرة ما أشنعها وأفظعها

٤١

ولقد صرفنا هذا المعنى وكررناه

في هذا القرآن على وجوه من التصريف في مواضع منه وإنما ترك الضمير تعويلا على الظهور وقرئ بالتخفيف

ليذكروا ما فيه ويقفوا على بطلان ما يقولونه والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء الحال أن يعرض عنهم ويحكي للسامعين هناتهم وقرئ بالتخفيف من الذكر بمعنى التذكر ويجوز أن يراد بهذا القرآن ما نطق ببطلان مقالتهم المذكورة من الآيات الكريمة الواردة على أساليب مختلفة ومعنى التصريف فيه جعله مكانا له أي أوقعنا فيه التصريف كقوله يجرح في عراقيها نصلي وقد جوز أن يراد به إبطال إضافتهم إليه تعالى البنات وأنت تعلم أن إبطالها من آثار القرآن ونتائجها

وما يزيدهم أي والحال أنه ما يزيدهم ذلك التصريف البالغ

إلا نفورا عن الحق وإعراضا عنه فضلا عن التذكر المؤدي إلى معرفة بطلان ما هم عليه من القبائح

٤٢

قل في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى

لو كان معه تعالى

آلهة كما يقولون أي المشركون قاطبة وقرئ بالتاء خطابا لهم من قبل النبي صلى اللّه عليه و سلم والكاف في محل النصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون والمراد بالمشابهة الموافقة والمطابقة

إذا لابتغوا جواب عن مقالتهم الشنعاء وجزاء للو أي لطلبوا

إلى ذي العرش أي إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق

سبيلا بالمغالبة والممانعة كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض على طريقة قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا

وقيل بالتقرب إليه تعالى كقوله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة والأول هو الأظهر الأنسب

٤٣

سبحانه فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم من حيث لا يحتسبون

وأما ابتغاء السبيل إليه

تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقرير ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمر يعتقدونه رأسا أي تنزه بذاته تنزها حقيقا به وتعالى متباعدا

عما يقولون من العظيمة التي هي أن يكون معه آلهة وأن يكون له بنات

علوا تعاليا كقوله تعالى واللّه أنبتكم من الأرض نباتا

كبيرا لا غاية وراءه كيف لا وإنه سبحانه في أقصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه من أن له تعالى شركاء وأولادا في أبعد مراتب العدم أعني الامتناع لا لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود لذاته واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه كما قيل فإن ما يقولونه ليس مجرد اتخاذ الولد بل اتخاذه تعالى له وأن يكون معه آلهة ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلا عن دخوله تحت الوجود وكونه من أدنى مراتب الوجود إنما هو بالنسبة إلى من شأنه ذلك

٤٤

تسبح بالفوقانية وقرئ بالتحتانية وقرئ سبحت

له السموات السبع والأرض ومن فيهن من الملائكة والثقلين على أن لمراد بالتسبيح معنى منتظم لما ينطق به لسان المقال ولسان الحال بطريق عموم المجاز

وإن من شيء من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا

إلا يسبح ملتبسا

بحمده أي ينزهه تعالى بلسان الحال عما لا يليق بذاته الأقدس من لوازم الإمكان ولواحق الحدوث إذ ما من موجود إلا وهو بإمكانه وحدوثه يدل دلالة واضحة على أن له صانعا عليما قادرا حكيما واجبا لذاته قطعا للسلسلة

ولكن لا تفقهون تسبيحهم أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم ذلك وقرئ لا يفقهون على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل

إنه كان حليما ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة مع ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن التدبر في الدلائل الواضحة الدالة على التوحيد والانهماك في الكفر والإشراك

غفورا لمن تاب منكم

٤٥

وإذا قرأت القرآن الناطق بالتسبيح والتنزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ورفض الشرك وغير ذلك من الشرائع

جعلنا بقدرتنا ومشيئتنا المنية على دواعي الحكم الخفية

بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة أوثر الموصول على الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة وإنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك

حجابا يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة ويفهموا قدرك الجليل ولذلك اجترموا على تفوه العظيمة التي هي قولهم إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أو حمل الحجاب على ما روى عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنه من أنه لما نزلت سورة تبت أقبلت العوراء أم جميل امرأة أبي لهب وفي يدها فهر والنبي صلى اللّه عليه و سلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي اللّه عنه فلما رآها قال يا رسول اللّه لقد أقبلت هذه وأخاف إن تراك قال صلى اللّه عليه و سلم إنها لن تراني وقرأ قرآنا فوقفت على أبي بكر رضي اللّه عنه ولم تر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم

مستورا ذا ستر كما في قولهم سيل مفعم أو مستورا عن الحسن بمعنى غير حسي أو مستورا في نفسه بحجاب آخر أو مستورا كونه حجابا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون

٤٦

وجعلنا على قلوبهم أكنه أغطية كثيرة جمع كنان

أن يفقهوه مفعول لأجله أي كراهة أن يفقهوه أو مفعول لما دل عليه الكلام أي منعناهم أن يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند اللّه تعال

وفي  آذانهم وقرأ صمما وثقلا مانعا من سماعه اللائق به وهذه تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون النبي صلى اللّه عليه و سلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جيء بها بيانا لعدم فقههم لتسبيح لسان المقال إثر بيان عدم فقههم لتسبيح لسان الحال وإيذانا بأن هذا التسبيح من الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيها على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق لا حكاية لما فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيها على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق لا حكاية لما قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب كيف لا وقصدهم بذلك أنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى اللّه عليه و سلم جهلا وكفرا من اتصافهما بأوصاف مانعة من التصديق والأيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقس عليه حال النبي صلى اللّه عليه و سلم لا الإخبار بأن هناك أمرا وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام

وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده واحدا غير مشفوع به آلهتهم وهو مصدر وقع موقع الحال أصله يحدو حده

ولوا على أدبارهم أي هربوا ونفروا

نفورا أو ولوا نافرين

٤٧

نحن أعلم بما يستمعون به ملتبسين به من اللغو الاستخفاف والهزء بك وبالقرآن يروي أنه كان يقوم عن يمينه صلى اللّه عليه و سلم رجلان من بني عبد الدار وعن يساره رجلان فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار

إذ يستمعون إليك ظرف لأعلم وفائدت تأكيد الوعيد بالإخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم يستفاد هناك من أحد وكذا قوله تعالى

وإذ هم نجوى لكن لا من حيث تعلقه بما به الاستماع بل بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم والمعنى نحن أعلم بالذي يستمعون ملتبسين به مما لا خير فيه من الأمور المذكورة وبالذي يتناجون به فيما بينهم أو الأول ظرف ليستمعون والثاني ليتناجون والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم غير تأخير وبما به التناجي وقت تناجيهم ونجوى مرفوع على الخبرية بتقدير المضاف أي ذوو نجوى أو هو جمع نجى كقتلى جمع قتيل أي متناجون

إذ يقول الظالمون بدل من إذ هم وفيه دليل على أن ما يتناجون به غير ما يستمعون به وإنما وضع الظالمون موضع المضمر إشعارا بأنهم في ذلك ظالمون مجاوزون للحد أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم

إن تتبعون ما تتبعون إن وجد منكم الاتباع فرضا أو ما تتبعون باللغو والهزء

إلا رجلا مسحورا أي سحر فجن أو رجلا ذا سحر أي رئة يتنفس أي بشرا مثلكم

٤٨

انظر كيف ضربوا لك الأمثال أي مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون

فضلوا في جميع ذلك عن منهاج المحاجة

فلا يستطيعون سبيلا إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه أحد أو إلى سبيل الحق والرشاد وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلى اللّه عليه و سلم ما لا يخفى

٤٩

وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا استفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار للبعث بعد ما آل الحال إلى هذا المآل لما بين غضاضة الحي ويبوسة الرميم من التنافي كان استحالة الأمر من الظهور بحيث لا يقدر المخاطب على التكلم به والرفات ما بولغ في دقه وتفتيته وقال الفراء هو التراب وهو قول مجاهد

وقيل هو الحطام وإذا متمحضة للظرفية وهو الأظهر والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى

أئنا لمبعوثون لا نفسه لأن ما بعد إن والهمزة واللام لا يعمل فيما قبلها وهو نبعث أو نعاد وهو المرجع للآنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيصه به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وتكرير الهمزة في قولهم أئنا لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة كما في مثل قوله تعالى أفلا تعقلون ونظائره على رأي الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيب الإنكار لا إنكار التعقيب كما هو المشهور وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم عطاما ورفاتا كما يتراءى من ظاهر الجملة الاسمية بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيد عليه

خلقا جديدا نصب على المصدر من غير لفظه أو الحالية على أن الخلق بمعنى المخلوق

٥٠

قل جوابا لهم وقريبا لما استبعدوه

كونوا حجارة أو حديدا

٥١

أو خلقا آخر مما يكبر في صدوركم أي يعظم عندكم عن قبول الحياة لكمال المباينة والمنافاة بينها وبينه فإنكم مبعوثون ومعادون لا محالة

فسيقولون من يعيدنا مع ما بيننا وبين الإعادة من مثل هذه المباعدة والمباينة قل لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشاد لهم إلى طريقة الاستدلال الذي أي يعيدكم القادر العظيم

الذي فطركم اخترعكم

أول مرة من غير مثال يحتذيه ولا أسلوب ينتحيه وكنتم ترابا ما شم رائحة الحياة أليس الذي يقدر على ذلك بقادر على أن يعيد العظام البالية إلى حالتها المعهودة بلى إنه على كل شيء قدير

فسينغضون إليك رءوسهم أي سيحركونها نحوك تعجبا وإنكارا

ويقولون استهزاء

متى

هو أي ما ذكرته من الإعادة

قل لهم

عسى أن يكون ذلك

قريبا نصب على أنه خبر ليكون أو ظرف على أن كان تامة أي أن يقع في زمان قريب ومحل أن مع ما في حيزها أما نصب على أنه خبر لعسىوهي ناقصة وإسمها ضمير عائد إلى ما عاد إليه هو أي عسى البعث أن يكون قريبا أو عسى البعث يقع في زمان قريب أو رفع على أنه فاعل لعسى وهي تامة أي عسى كونه قريبا أو وقوعه في زمان قريب

٥٢

يوم يدعوكم منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو على أنه بدل من قريبا على أنه ظرف أو بيكون تامة بالاتفاق أو ناقصة عند من يجوز إعمال الناقصة في الظروف أو بضمير المصدر المستكن في عسى أو يكون أعنى البعث عند من يجوز إعمال ضمير المصدر كما في قول زهير

... وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم ...

فهو ضمير المصدر وقد تعلق به ما بعده من الجار

فتستجيبون أي يوم يبعثكم فتبعثون وقد استعير لهما الدعاء والإجابة إيذانا بكمال سهولة التأتي وبأن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجواب بحمده حال من ضمير تستجيبون أي منقادين له حامدين لما فعل بكم غير مستعصين أو حامدين له تعالى على كمال قدرته عند مشاهدة آثارها ومعاينة أحكامها وتظنون عطف على تستجيبون أي

تظنون عند ما ترون ما ترون من الأمور الهائلة

إن لبثتم أي ما لبثتم في القبور

إلا قليلا كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدنيا

٥٣

وقل لعبادي أي المؤمنين يقولوا عند محاورتهم مع المشركين التي أي الكلمة

التي هي أحسن ولا يخاشنوهم كقوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن

إن الشيطان ينزغ بينهم أي يفسد ويهيج الشر والمراء ويغري بعضهم على بعض لتقع بينهم المشاقة والمشارة والمعارة والمضارة فلعل ذلك يؤدي إلى تأكد العناد وتمادي الفساد فهو تعليل للأمر السابق وقرئ بكسر الزاء

إن الشيطان كان قدما

للإنسان عدوا مبينا ظاهر العداوة وهو تعليل لما سبق من أن الشيطان ينزغ بينهم

٥٤

ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم بالتوفيق للإيمان

أو إن يشأ يعذبكم بالإمانة على الكفر وهذا تفسير التي هي أحسن وما بينهما إعتراض أي قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن العاقبة مما لا يعلمه إلا اللّه سبحانه فعسى يهديهم إلى الإيمان

وما أرسلناك عليهم وكيلا موكولا إليك أمورهم تقسرهم على الإيمان وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة والمشاقة وذلك قبل نزول آية السيف وقبل نزلت في عمر رضي اللّه عنه شتمه رجل فأمر بالعفو

وقيل أفرط أذية المشركين بالمؤمنين فشكوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت

وقيل الكلمة التي هي أحسن أن يقولوا يهديكم اللّه ويرحمكم اللّه

٥٥

وربك أعلم بمن في المسوات والأرض وتفاصيل أحوالهم الظاهرة والكامنة التي بها يستأهلون الاصطفاء والاجتباء فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن يستحقه وهو رد عليهم إذ قالوا بعيد أن يكون يتيم أبي طالب نبيا وأن يكون العراة الجوع أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد وذكر من في السموات لإبطال قولهم لولا أنزل علينا الملائكة وذكر من في الأرض لرد قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم

ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض بالفضائل النفسانية والتنزه عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والاتباع

وآتينا داود زبورا بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة و السلام فإن ذلك إيتاء الزبور لا إيتاء الملك والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل النبي صلى اللّه عليه و سلم فإن نعوته الجليلة وكونه خاتم النبيين مسطورة في الزبور وأن المراد بعباد اللّه الصالحين في قوله تعالى إن الأرض يرثها عبادي الصالحون هو النبي صلى اللّه عليه و سلم وأمته وتعريف الزبور تارة وتنكيره أخرى

أما لأنه في الأصل فعول بمعنى المفعول كالحلوب أو مصدر بمعناه كالقول

وأما لأن المراد آتينا داود زبورا من الزبر أو بعضا من الزبور فيه ذكره صلى اللّه عليه و سلم وقرئ بضم الزاي على أنه جمع زبر بمعنى مزبور

٥٦

قل ادعوا الذين زعمتم أنها آلهة

من دونه تعالى من الملائكة والمسيح وعزير

فلا يملكون فلا يستطيعون

كشف الضر عنكم بالمرة كالمرض والفقر والقحط ونحو ذلك

ولا تحويلا أي ولا تحويله إلى غيركم

٥٧

أولئك الذين يدعون أي أولئك الآلهة الذين يدعوهم المشركون من المذكورين

يبتغون يطلبون لأنفسهم

إلى ربهم ومالك أمورهم

الوسيلة القربة بالطاعة والعبادة

أيهم أقرب بدل من فاعل يبتغون وأي موصولة أي يبتغي من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة فكيف بمن دونه أو ضمن الابتغاء معنى الحرص فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إليه تعالى بالطاعة والعبادة

ويرجون رحمته بها ويخافون عذابه بتركها كدأب سائر العباد فأين هم من كشف الضر فضلا عن الآلهية

إن عذاب ربك كان محذورا حقيقا بأن يحذره كل أحد حتى الملائكة والرسل عليهم الصلاة والسلام وهو تعليل لقوله تعالى ويخافون عذابه وتخصيصه بالتعليل لما أن المقام مقام التحذير من العذاب وأن بينهم وبين العذاب بونا بعيدا

٥٨

وإن من قرية بيان لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره إثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام على حذر من ذلك وكلمة إن نافية ومن استغراقية والمراد بالقرية القرية الكافرة أي ما من قرية من قرى الكفار

إلا نحن مهلكوها وتفاصيل أحوالهم الظاهرة والكامنة التي بها يستأهلون أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجب لذلك وفي صيغة الفاعل وإن كانت بمعنى المستقبل ما ليس فيه من الدلالة على التحقق والتقرر وإنما قيل

قبل يوم القيامة لأن الإهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا

أو معذبوها أي معذبوا أهلها على الإسناد المجازي

عذابا شديدا لا بالقتل والسبي ونحوهما من البلايا الدنيوية فقط بل بما لا يكتنه كنهه من فنون العقوبات الأخروية أيضا حسبما يفصخ عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة كيف لا وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوباتها إلى يوم القيامة

كأن ذلك الذي ذكر من الإهلاك والتعذيب

في الكتاب أي اللوح المحفوظ

مسطورا مكتوبا لم يغادر منه شيء إلا بين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له هذا وقد قيل الهلاك للقرى الصالحة والعذاب للطالحة وعن مقاتل وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكة فيخربها الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواحف

وأما خراسان فهلاكها ضروب ثم ذكرها بلدا بلدا وقال الحافظ أبو عمرو الدواني في كتاب الفتن أنه روى عن وهب ابن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب أفريقية من قبل الأندلس وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من الجوع وخراب الكوفة من قبل عدو من ورائهم يحصرهم حتى لا يستطيعون أن يشربوا من الفرات قطرة وخراب البصرة من قبل الغرق وخراب الآيلة من قبل عدو يحصرهم برا وبحرا وخراب الري من الديلم وخراب خراسان من قبل التبت وخراب التبت من قبل الصين وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه و سلم قال آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة وقد أخرجه العمري من هذا الوجه وأنت خبير بأن تعميم القرية لا يساعده السباق ولا السياق

٥٩

وما منعنا أن نرسل بالآيات أي الآيات التي اقترحتها قريش من إحياء الموتى وقلب الصفا ذهبا ونحو ذلك إل

أن كذب بها الأولون استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما منعنا إرسالها شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين بها حين جاءتهم باقتراحهم وعدم إرساله تعالى بها وإن كان بمشيئته المبنية على الحكم البالغة لا لمنع مانع عن ذلك من التكذيب أو غيره لاستحالة العجز عليه تعالى لكن تكذيبهم المذكور بواسطة استتباعه لاستئصالهم بحكم السنة الإلهية واستلزمه لتكذيب الآخرين بحكم الاشتراك في العتو والعتاد وإفضائه إلى أن يحل بهم مثل ما حل بهم بحكم الشركة في الجريرة لما كان منافيا لإرسال ما اقترحوه من الآيات لتعيين التكذيب المستدعى للاستئصال المخالف لما جرى به قلم القضاء من تأخير عقوبات هذه الأمة إلى الآخرة لحكم باهرة من جملتها ما يتوهم من إيمان بعض أعقابهم عبر عن تلك المنافاة بالمنع على نهج الاستعارة إيذانا بتعاضد مبادئ الإرسال لا كماز عموا من عدم إرادته تعالى لتأييده صلى اللّه عليه و سلم بالمعجزات وهو السر في إيثار الإرسال على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآيات إلى النزول لولا أن تمسكها يد التقدير وإسناد على هذا المنع إلى تكذيب الأولين لا إلى عمله تعالى بما سيكون من الآخرين كما في قوله تعالى ولو علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون لإقامة الحجة عليهم بإبراز الا نموذج وللإيذان بان مدار عدم الإجابة إلى إيتاء مقترحهم ليس إلا صنيعهم

وآتينا ثمود الناقة عطف على ما يفصح عنه النظم الكريم كأنه قيل وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث آتيناهم ما اقترحوا من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا باقتراحهم ثمود الناقة

مبصرة على صيغة الفاعل أي بينة ذات إبصار أو بصائر يدركها الناس أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازا أو جاعلتهم ذوي بصائر من أبصره جعله بصيرا وقرئ على صيغة المفعول وبفتح الميم والصادر وهي نصب على الحالية وقرئ بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف

فظلموا بها فكفروا بها ظالمين أي لم يكتفو بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر أو ظلموا أنفسهم وعرضوها للّهلاك بسبب عقرها ولعل تخصيصها بالذكر لما أن ثمود عرب مثلهم وأن لهم من العلم بحالهم مالا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم ورودا أو صدودا أو لأنها من جهة أنها حيوان أخرج من الحجر أوضح دليل على تحقق مضمون قوله تعالى قل كونوا حجارة أو حديدا

وما نرسل بالآيات المقترحة إلا تخويفا لمن أرسلت هي عليهم مما يعقبها من العذاب المستأصل كالطليعة له وحيث لم يخافوا ذلك فعل بهم ما فعل فلا محل للجملة حينئذ من الاعراب ويجوز أن تكون حالا من ضمير ظلموا أي ظلموا بها ولم يخافوا عاقبته والحال أنا ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها

إلا تخويفا من العذاب الذي يعقبها فنزل بهم ما نزل

٦٠

وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس أي علما كما نقله الإمام الثعلبي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما فلا يخفى عليه شيء من أفعالهم الماضية والمستقبلة من الكفر والتكذيب وفي قوله تعالى

وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس إلى آخر الآية تنبيه على تتحقها بالاستدلال عليها بما صدر عنهم عند مجىء بعض الآيات لاشتراك الكل في كونها أمورا خارقة للعادات منزلة من جانب اللّه سبحانه لتصديق النبي صلى اللّه عليه و سلم فتكذيبهم لبعضها مستلزم لتكذيب الباقي كما أن تكذيب الآخرين بغير المقترحة يدل على تكذيبهم بالآيات المقترحة والمراد بالرؤيا ما عاينه صلى اللّه عليه و سلم ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء حسبما ذكر في فاتحة السورة الكريمة والتعبير عن ذلك بالرؤيا أما لأنه لا فرق بينها وبين الرؤية أو لأنها وقعت بالليل أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عيانا مع كونها أية عظيمة وآية آية حقيقة بأن

 لا يتلعثم في تصديقها أحد ممن له أدنى بصيرة إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعضهم

والشجرة الملعونة في القرآن عطف على الرؤيا والمراد بلعنها فيه لعن طاعمها على الإسناد المجازي أو إبعادها عن الرحمة فإنها تنبت في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة أي وما جعلناها إلى فتنة لهم حيث أنكروا ذلك وقالوا إن محمدا يزعم أن الجحيم يحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر ولقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلغ الجمر وقطع الحديد المحماة فلا تضرها ويشاهدون المناديل المتخذة من وبر السمندر تلقى في النار فلا تؤثر فيها ويرون أن في كل شجر نارا وقرئ بالرفع على حذف الخبر كأنه قيل والشجرة الملعونة في القرآن كذلك وتخوفهم بذلك وبنظائرها من الآيات فإن الكل للتخويف وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا كبيرا متجاوزا عن الحد فلو أنا أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها ما فعلوا بنظائرها وفعل بهم ما فعل بأشياعهم وقد قضينا بتأخير العقوبة العامة لهذه الأمة إلى الطامة الكبرى هذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم وقد حمل أكثر المفسرين الإحاطة على الإحاطة بالقدرة تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عما عسى يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات التي اقترحوها لأن إنزالها ليس بمصلحة من نوع حزن من طعن الكفرة حيث كانوا يقولون لو كنت رسولا حقا لأتيت بهذه المعجزات كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل اذكر وقت قولنا لك إن ربك اللطيف بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته فهو يحفظك منهم فلا تهتم بهم وامضى لما أمرتك به من تبليغ الرسالة ألا يرى أن الرؤيا التي أريناك من قبل جعلناها فتنة للناس مورثة للشبهة مع أنها ما أورثت ضعفا لأمرك وفتورا في حالك وقد فسر الإحاطة بإهلاك قريش يوم بدر وإنما عبر عنه بالماضي مع كونه منتظرا حسبما ينبئ عنه قوله تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر وقوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وغير ذلك جريا على عادته سبحانه في أخباره وأولت الرؤيا بما رآه صلى اللّه عليه و سلم في المنام من مصارعهم لما روى أنه صلى اللّه عليه و سلم لما ورد ماء بدر قال واللّه لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فتسامعت به قريش فاستسخروا منه وبما رأه النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه سيدخل مكة وأخبر به أصحابه فتوجه إليها فصده عام المشركون الحديبية واعتذر عن كون ما ذكر مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بإهلاكهم وكذا الرؤيا واقعا بمكة وذكر الرؤيا وتعيين المصارع واقعين بعد الهجرة وأنت خبير بانه يلزم منه أن يكون افتتان الناس بذلك واقعا بعد الهجرة وأن يكون ازديادهم

طغيانا متوقعا غير واقع عند نزول الآية وقد قيل الرؤيا ما رآه صلى اللّه عليه و سلم في وقعة بدر من مضمون قوله تعالى إذ يريكهم اللّه في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولا ريب في أن تلك الرؤيا مع وقوعها في المدينة ما جعلت فتنة للناس

٦١

وإذا قلنا للملائكة تذكير لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعة من غير تردد وتحقيق لمضمون ما سبق من قوله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ويعلم من حال الملائكة حال غيرهم من عيسى وعزير عليهما السلام في الطاعة وابتغاء الوسيلة ورجاء الرحمة ومخافة العذاب ومن حال إبليس حال من يعاند الحق ويخالف الأمر أي واذكر وقت قولنا لهم

اسجدوا لآدم تحية وتكريما لما له من الفضائل المستوجبة لذلك

فسجدوا له من غير تلعثم امتثالا للأمر وأداء لحقه عليه الصلاد والسلام

إلا إبليس وكان داخلا في زمرتهم مندرجا تحت الأمر بالسجود

قال أي عند ما وبخ بقوله عز سلطانه يا إبليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين وقوله ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك وقوله ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي كما أشير إليه في سورة الحجر

أأسجد وأنا مخلوق من العنصر العالي

لمن خلقت طينا نصب على نزع الخافض أي من طين أو حال من الراجع إلى الموصول أي خلقته وهو طين أو من نفس الموصول أي أأسجد له وأصله طين والتعبير عنه صلى اللّه عليه و سلم بالموصول لتعليل إنكاره بما في حيز الصلة

٦٢

قال أي إبليس لكن لا عقيب كلامه المحكي بل بعد الإنظار المترتب على استنظاره المتفرع على الأمر بخروجه من بين الملأ الأعلى باللعن المؤبد وإنما لم تصرح بذلك اكتفاء بما ذكر في مواضع أخر فإن توسيط قال بين كلامي اللعين للإيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره كما في قوله تعالى قال فما خطبكم بعد قوله تعالى قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا لضالون

أرأيتك هذا الذي كرمت على الكاف لتأكيد الخطاب لا محل لها من الإعراب وهذا مفعول أول والموصول صفته والثاني محذوف لدلالة الصلة عليه أي أخبرني عن هذا الذي كرمته على بأن أمرتني بالسجود له لم كرمته على

وقيل هذا مبتدأ حذف عنه حرف الاستفهام والموصول مع صلته خبره ومقصوده الاستصغار والاستحقار ما يخاطبه به عقيبه

لئن أخرتن حيا

إلى يوم القيامة كلام مبتدأ واللام موطئة للقسم وجوابه قوله

لأحتنكن ذريته أي لاستأصلنهم من قولهم احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا أو لأقودنهم حيث ما شئت ولأستولين عليهم استيلاء قويا من قولهم حنكت الدابة واحتنكتها إذا جعلت في حنكها الأسفل حبلا تقودها به وهذا كقوله لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين وإنما علم تسني ذلك المطلب له تلقيا من جهة الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو استنباطا من قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء أو نوسما من خلقه

إلا قليلا منهم وهم المخلصون الذين عصمهم اللّه تعالى

٦٣

قال اذهب أي امض لشأنك الذي اخترته وهو طرد له وتخلية بينه وبين ما سولت له نفسه

فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم أي جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب في الغائب رعاية الحق المتبوعية

جزاء موفورا أي جزاء مكملا من قولهم فر لصاحبك عرضه فرة أي وفر وهو نصب على أنه مصدر مؤكد لما في قوله فإن جهنم جزاؤكم من معنى تجازون أو للفعل المقدر أو حال موطئه لقوله موفورا

٦٤

واستفزز أي استخف

من استطعت منهم أن تستفزه

بصوتك بدعائك إلى الفساد

واجلب عليهم أي صح

عليهم من الجلبة وهي الصياح

بخيلك ورجلك أي بأعوانك وأنصارك من راكب وراجل من أهل العبث والفساد قال ابن عباس رضي اللّه عنهما ومجاهد وقتادة إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية اللّه تعالى فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل في معصية اللّه تعالى فهو من رجل إبليس والخيل الخيالة ومنه قوله صلى اللّه عليه و سلم يا خيل اللّه اركبي والرجل اسم جمع للراجل كالصحب والركب وقرئ بكسر الجيم وهي قراءة حفص على أنه فعل بمعنى فاعل كتعب وتاعب وبضمه مثل حدث وحدث وندس وندس وندس ونظائرهما أي جمعك الراجل ليطابق الخيل وقرئ رجالك ورجالك ويجوز أن يكون استفزازه بصوته وإجلابه بخيله ورجله تمثيلا لتسلطه على من يغويه فكأنه مغوار اوقع على قوم فصوت بهم صوتا يزعجهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم واجلب عليهم يجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم

وشاركهم في الأموال بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام والتصرف فيها على ما لا ينبغي

والأولاد بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة والإشراك كتسميتهم بعبد العزى والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة

وعدهم المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة بتطويل الأمل

وما يعدهم الشيطان إلا غرورا اعتراض لبيان شأن مواعيده والالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان شأنه للناس ومن الإشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب

٦٥

إن عبادي الإضافة للتشريف وهم المخلصون وفيه أن من تبعه ليس منهم وأن الإضافة لثبوت الحكم في قوله تعالى

ليس لك عليهم سلطان أي تسلط وقدرة على إغوائهم كقوله تعالى إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون

وكفى بربك وكيلا لهم يتوكلون عليه ويستمدون به في الخلاص عن إغوائك والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي مع الإضافة إلى ضمير إبليس للإشعار بكيفية كفايته تعالى لهم أعني سلب قدرته على إغوائهم

٦٦

ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر مبتدأ وخبر والإزجاء السوق حالا بعد حال أي هو القادر الحكيم الذي يسوق لمنافعكم الفلك ويجريها في البحر

لتبتغوا من فضله من رزقه الذي هو فضل من قبله أو من الربح الذي هو معطيه ومن مزيدة أو تبعيضية وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائل التوحيد وتمهيد لذكر توحيدهم

 عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله تعالى فلا يملكون الآية

إنه كان بكم أزلا وأبدا

رحيما حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من مباديه وهذا تذييل فيه تعليل لما سبق من الإزجاء لابتغاء الفضل وصيغة الرحيم للدلالة على أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة

٦٧

وإذا مسكم الضر في البحر خوف الغرق فيه

ضل من تدعون أي ذهب عن خواطركم ما كنتم تدعون من دون اله من الملائكة أو المسيح أو غيرهم

إلا إياه وحده من غير أن يخطر ببالكم أحد منهم وتدعوه لكشفه استقلالا أو اشتراكا أو ضل كل من تدعونه عن إغاثتكم وإنقاذكم ولم يقدر على ذلك إلا اللّه على الاستثناء المنقطع

فلما نجاكم من الغرق وأوصلكم

إلى البر أعرضتم عن التوحيد أو اتسعتم في كفران النعمة

وكان الإنسان كفورا تعليل لما سبق من الإعراض

٦٨

أفأمنتم الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم

أن يخسف بكم جانب البر الذي هو مأمنكم أي يقلبه ملتبسا بكم أو بسبب كونكم فيه وفي زيادة الجانب تنبيه على تساوي الجوانب والجهات بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى وقهره وسلطانه وقرئ بنون العظمة

أو يرسل عليكم من فوقكم وقرئ بالنون

حاصبا ريحا ترمى بالحصباء

ثم لا تجدوا لكم وكيلا يحفظكم من ذلك أو يصرفه عنكم فإنه لا راد لأمره الغالب

٦٩

أم أمنتم أن يعيدكم فيها في البحر أو ثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم

فيه تارة أخرى أسناد لإعادة إليه تعالى مع أن العود إليه بإختبارهم باعتبار خلق الدواعي الملجئة لهم إلى ذلك وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لا قوة في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة لما عادوا

فيرسل عليكم وأنتم في البحر وقرئ بالنون

قاصفا من الريح وهي التي لا تمر بشيء إلا كسرته وجعلته كالرميم أو التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر

فيغرقكم بعد كسر فلككم كما ينبئ عنه عنوان القصف وقرئ بالنون وبالتاء على الإسناد إلى ضمير الريح

بما كفرتم بسبب إشراككم أو كفرانكم لنعمة الإنجاء

ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا أي ثائرا يطالبنا بما فعلنا انتصارا منا ودركا للثأر من جهتنا كقوله سبحانه و لا يخاف عقباها

٧٠

وقلد كرمنا بني آدم قاطبة تكريما شاملا لبرهم وفاجرهم أي كرمناهم بالصورة والقامة المعتدل والتسلط على ما في الأرض والتمتع به والتمكن من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يحيط به نطاق العبارة ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضي اللّه عنهما من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده وما قيل من شركة القرد له في ذلك مبنى على عدم الفرق بين اليد والرجل فإنه متناول له برجله التي يطأ بها القاذورات لا بيده

وحملناهم في البر والبحر على الدواب والسفن من حملته إذا جعلت له ما يركبه وليس من المخلوقات شيء كذلك

وقيل

حملناهم فيها حيث لم نخسف بهم الأرض ولم نغرقهم بالماء وأنت خبير بأن الأول هو الأنسب بالتكريم إذ جميع الحيوانات كذلك ورزقناهم من الطيبات أي فنون النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنيعهم وبغير صنيعهم وفضلناهم في العلوم والإدراكات بما ركبنا فيهم من القوى المدركة التي بها يتميز الحق من الباطل والحسن من القبيح

على كثير ممن خلقنا وهم من عدا الملائكة عليهم الصلاة والسلام

تفضيلا عظيما فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحقة ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تميز فضلا عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقول المحضة وإنما استثنى جنس الملائكة من هذا التفضيل لأن علومهم دائمة عارية عن الخطأ والخلل وليس فيه دلالة على أفضليتهم بالمعنى المتنازع فيه فإن المراد هنا بيان التفضيل في أمر مشترك بين جميع أفراد البشر صالحها وطالحها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضل في عظم الدرجة وزيادة القربة عند اللّه سبحانه إن قيل أي حاجة إلى تعيين ما فيه التفضيل بعد بيان ما هو المراد بالمفضلين فإن استثناء الملائكة عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفراد البشر عليهم لا يستلزم استثناءهم من تفضيل بعض أفراده عليهم قلنا لا بد من تعيينه البتة إذ ليس من الأفراد الفاجرة للبشر أحد يفضل على أحد من الخلوقات فيما هو المتنازع فيه أصلا بل هم أدنى من كل دنئ حسبما ينبئ عنه قوله تعالى أولئك كالانعام بل هم أضل وقوله تعالى إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا

٧١

يوم ندعو نصب على المفعولية بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه قوله تعالى ولا يظلمون وقرئ بالياء على البناء للفاعل وللمفعول ويدعو بقلب الألف واوا على لغة من يقول في افعى افعوا وقد جوز كون الواو علامة الجمع كما في قوله تعالى وأسروا النجوى أو ضميره وكل بدلا منه والنون محذوفة لقلة المبالاة فإنها ليست إلا علامة الرفع وقد يكتفي بتقديره كما في يدعي

كل أناس من بني آدم الذين

فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم والتفضيل وهذا شروع في بيان تفاوت أحوالهم في الآخرة بحسب أحوالهم وأعمالهم في الدنيا

بإمامهم أي بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين

وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر أو يا أهل دين كذا يا أهل كتاب كذا

وقيل الإمام جمع أم كخف وخفاف والحكمة في دعوتهم بأمهاتهم بإجلال عيسى عليه السلام وتشريف الحسنين رضي اللّه عنهما والستر على أولاد الزنا

فمن أوتي يومئذ من أولئك المدعوين

كتابه صحيفة أعماله

بيمينه إباننة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفا لصاحبه وتبشيرا له من أول الأمر بما في مطاوية

فأولئك إشارة إلى من باعتبار معناه إيذانا بأنهم حزب مجتمعون على شأن جليل أو إشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الإيتاء وما فيه من الدلالة على البعد للإشعار برفعة درجاتهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامة التي يشعر بها الإيتاء المزبور

يقرءون كتابهم الذي أوتوه على الوجه المبين تبجحا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات

ولا يظلمون أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة

فتيلا أي قدر فتيل وهو القشرة التي في شق النواة أو أدنى شيء فإن الفتيل مثل في القلة والحقارة

٧٢

ومن كان من المدعوين المذكورين

في هذه الدنيا التي فعل بهم فيها ما فعل من فنون التكريم والتفضيل

أعمى فاقد البصيرة لا يهتدي إلى رشده ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل فضلا عن شكرها والقيام بحقوقها ولا يستعمل ما أودعناه فيه من العقول والقوى فيما خلقن له من العلوم والمعارف الحقة فهو في الآخرة التي عبر عنها بيوم ندعو أعمى كذلك أي لا يهتدي إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول موجب للثاني وقد جوز كون الثاني بمعنى التفضيل على أن عماه

في الآخرة أشد من عماه في الدنيا ولذلك قرأ أبو عمرو الأول مما لا والثاني مفخما

واضل سبيلا أي من الأعمى لزوال الاستعداد الممكن وتعطل الآلات بالكلية وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له ولعل العدول عن ذكره بذلك العنوان مع أنه الذي يستدعيه حسن المقابلة حسبما هو الواقع في سورة الحاقة وسورة الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبة له كما في قوله تعالى وأما إن كان من المكذبين الضالين بعد قوله تعالى وأما إن كان من أصحاب اليمين وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وقد ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخرة السبب ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلا على شهادة العقل كما في قوله عز وعلا وإن يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله

٧٣

وإن كادوا ليفتنونك نزلت في ثقيف إذ قالوا للنبي صلى اللّه عليه و سلم لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبي في صلاتنا كل ربا لنا فهو لنا كل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وأدينا وج كما حرمت مكة فإذا قالت العرب لم فعلت فقل إن اللّه أمرني بذلك

وقيل في قريش حيث قالوا اجعل لنا آية عذاب آية رحمة وآية رحمة آية عذاب أو قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا فإن مخففة من المشددة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف واللام هي الفارقة بينها وبين النافية أي أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين

عن الذي أوحينا إليك من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا

لتفتري علينا غيره لتتقول علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحته ثقيف أو قريش حسبما نقل

وإذن لا تخذوك خليلا أي لو اتبعت أهواءهم لكنت لهم وليا ولخرجت من ولايتي

٧٤

ولولا أن ثبتناك على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا

لك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا من الركون الذي هو أدنى ميل أي لولا تثبيتنا لك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك العصمة فنمنعك من أن تقرب من أدنى مراتب الركون إليهم فضلا عن نفس الركون وهذا صريح في أنه صلى اللّه عليه و سلم ما هم بإجابتهم مع قوة الداعي إليها ودليل على أن العصمة بتوفيق اللّه تعالى وعنايته

٧٥

إذن لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة

لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما يعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك لأن خطأ الخطير خطير وكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات بمعنى مضاعفا ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت إضافة موصوفها

وقيل الضعف من أسماء العذاب

وقيل المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وبضعف الممات عذاب القبر

ثم لا تجد لك علينا نصيرا يدفع عنك العذاب

٧٦

وإن كادوا الكلام فيه كما في الأول أي كاد أهل مكة

ليستفزونك أي ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم

من الأرض أي الأرض التي أنت فيها وهي أرض مكة

ليخرجوك منها وإذن لا يلبثون بالرفع عطفا على خبر كاد وقرئ لا يلبثوا بالنصب بأعمال إذن على أن الجملة معطوفة على جملة وإن كادوا ليستفزونك

خلافك أي بعدك قال

... خلت الديار خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا ...

أي وله خرجت لا يبقون بعد خروجك وقرئ

خلفك إلا قليلا إلا زمانا قليلا وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته صلى اللّه عليه و سلم

وقيل نزلت الآية في اليهود حيث حسدوا مقام النبي صلى اللّه عليه و سلم بالمدينة فقالوا الشام مقام الأنبياء عليهم السلام فإن كنت نبيا فالحق بها حتى نؤمن بك فوقع ذلك في قلبه صلى اللّه عليه و سلم فخرج مرحلة فنزلت فرجع ثم قتل منهم بنو قريظة وأجلى بنوا النضير بقليل

٧٧

سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا نصب على المصدرية أي سن اللّه تعالى سنة وهي أن يهلك كل أمة أخرجت سولهم من بين أظهرهم فالسنة للّه تعالى وإضافتها إلى الرسل لأنها سنت لأجلهم على ما ينطق به قوله عز و جل

ولا تجد لسنتنا تحويلا أي تغييرا

٧٨

أقم الصلاة لدلوك الشمس لزوالها كما ينبئ عنه قوله صلى اللّه عليه و سلم أتاني جبريل عليه السلام والدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر واشتقاقه من الدلك لأن من نظر إليها حينئذ يدلك عينه

وقيل لغروبها من دلكت الشمس أي غربت

وقيل أصل الدلوك الميل فينتظم كلا المعنيين واللام للتأقيت مثلها في قولك لثلاث خلون

إلى غسق الليل إلى اجتماع ظلمته وهو وقت صلاة العشاء وليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام كما أن اعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه صلى اللّه عليه و سلم ولعل الاكتفاء بيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلوات من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدهما عن الآخر ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات

وقيل المراد بالصلاة صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدئه ومنتهاه واستدل به على امتداد وقته إلى غروب الشفق وقوله تعالى

وقرآن الفجر أي صلاة الفجر نصب عطفا على مفعول أقم أو على الإغراء قاله الزجاج وإنما سميت قرآنا لأنه ركنها كما تسمى ركوعا وسجودا واستدل به على الركنية ولكن لا دلالة له على ذلك لجواز كون مدار الجوز كون القراءة مندوبة فيها نعم لو فسر بالقراءة في صلاة الفجر لدل الأمر بإقامتها عن الوجوب فيها نصا وفيما عداها دلالة ويجوز أن يكون وقرآن الفجر حثا على تطويل القراءة في صلاة الفجر

إن قرآن الفجر أظهر في مقام الإضمار إبانة لمزيد الاهتمام به

كان مشهودا يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار أو شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت أو يشهده كثير من المصلين أو من حقه أن يشهده الجم الغفير فالآية على تفسير الدلوك بالزوال جامعة للصلوات الخمس وعلى تفسيره بالغروب لما عدا الظهر والعصر ومن الليل قيل هو نصب على الإغراء أي ألزم بعض الليل

وقيل لا يكون المغرى به حرفا ولا يجدي نفعا كون معناها التبعيض فإن وامع ليست اسما بالاجتماع وإن كانت بمعنى الاسم الصريح بل هو منصوب على الظرفية بمضمر أي قم بعض الليل فتهجد به أي ازل والق الهجر أي النوم فإن صيغة التفعل تجيء للإزالة كالتحرج والتحنث والتأثم ونظائرها والضمير المجرور للقرآن من حيث هو لا يقيدلاإضافته إلى الفجر أو للبعض المفهوم من قوله تعالى

٧٩

ومن الليل أي تهجد في ذلك البعض على أن الباء بمعنى في

وقيل منصوب يتهجد أي تهجد بالقرآن بعض الليل على طريقة وإياي فارهبون

نافلة لك فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة ولعله هو الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر مع تقدم وقتها على وقتها أو تطوعا لكن لا لكونها زيادة على الفرائض بل لكونها زيادة له صلى اللّه عليه و سلم في الدرجات على ما قال مجاهد والسدى فإنه صلى اللّه عليه و سلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيكون تطوعه زيادة في درجاته بخلاف من عداه من الأمة فإن تطوعهم لتكفير ذنوبهم وتدارك الخلل الواقع في فرائضهم وانتصابها

أما على المصدرية بتقدير تنفل أو بجعل تهجد بمعناه أو يجعل نافلة بمعنى تهجدا فإن ذلك عبادة زائدة

وأما على الحالية من الضمير الراجع إلى القرآن أي حال كونها صلاة نافلة

وأما على المفعولية لتهجد إذا جعل بمعنى صل وجعل الضمير المجرور للبعض أي فصل في ذلك البعض نافلة لك

عسى أن يبعثك ربك الذي يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد الموت الأكبر كما انبعثت من النوم الذي هو الموت الأصغر بالصلاة والعبادة مقاما نصب على الظرفية على إضمار فيقيمك أو تضمين البعث معنى الإقامة إذ لا بد من أن يكون العامل في مثل هذا الظرف فعلا فيه معنى الاستقرار ويجوز أن يكون حالا بتقدير مضاف أي يبعثك ذا

مقام محمودا عندك وعند جميع الناس وفيه تهوين لمشقة قيام الليل وروى أبو هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما مقاما يحمدك فيه الأولون والآخرون تشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى وتشفع فتشفع ليس أحد إلا تحت لوائك وعن حذيفة رضي اللّه عنه يجمع الناس في صعيد واحد فلا تتكلم فيه نفس فأول مدعو محمد صلى اللّه عليه و سلم فيقول لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت

٨٠

وقل رب ادخلني أي القبر

مدخل صدق أي إدخال مرضيا

وأخرجني أي منه عند البعث

مخرج صدق أي إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة فهو تلقين الدعاء بما وعده من البعث المقرون بالإقامة المعهودة التي لا كرامة فوقها

وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة وتغيير ترتيب الوجود لكون الإدخال هو المقصد

وقيل إدخاله صلى اللّه عليه و سلم مكة ظاهرا عليها وإخراجه منها آمنا من المشركين

وقيل إدخاله الغار وأخراجه منه سالما

وقيل إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة وإخراجه منه مؤديا حقه

وقيل إدخاله في كل ما يلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه وقرئ مدخل ومخرج بالفتح على معنى ادخلني فأدخل دخولا وأخرجوني فأخرج خروجا كقوله ... وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف ...

أي لم تدع فلم يبق

واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا حجة تنصرني على من يخالفني أو ملكا عزا ناصرا للإسلام مظهرا له على الكفر فأجيبت دعوته صلى اللّه عليه و سلم بقوله عز وعلا واللّه يعصمك من الناس الا إن حزب اللّه هم الغالبون ليظهره على الدين كله ليستخلفنهم في الأرض

٨١

وقل جاء الحق أي الإسلام والوحي الثابت الراسخ

وزهق الباطل أي ذهب وهلك الشرك والكفر وتسوبلات الشيطان من زهق روحه إذا خرج

إن الباطل كائنا ما كان

كان زهوقا أي شأنه أن يكون مضمحلا غير ثابت

 وهو عدة كريمة بإجابة الدعاء بالسلطان النصير الذي لقنه عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أنه صلى اللّه عليه و سلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلثمائة وستون صنما فجعل ينكت بمخصرة كانت بيده في عين واحد واحد ويقول جاء الحق وزهق الباطل فينكب لوجهه حتى ألقى جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال يا علي ارم به فصعد فرمى به فكسره

٨٢

وتنزل من القرآن وقرئ ننزل من الإنزال

ما هو شغاء لما في الصدور من أدواء الريب وأسقام الأوهام

ورحمة للمؤمنين به العالمين بما في تضاعيفه أي ما هو في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى من بيانية قدمت على المبين اعتناء فإن كل القرآن كذلك وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه اللّه أو تبعيضية لكن لا بمعنى أن بعضه ليس كذلك بل بمعنى أنا ننزل منه في كل نوبة ما تستدعي الحكمة نزوله حينئذ فيقع ذلك ممن نزل عليهم بسبب موافقته لأحوالهم الداعية إلى نزوله موقع الدواء الشافي المصادف للا بأنه من المرضى المحتاجين إليه بحسب الحال من غير تقديم ولاتأخير فكل بعض منه متصف بالشفاء لكن لا في كل حين بل عند تنزيله وتحقيق التبعيض باعتبار الشفاء الجسماني كما في الفاتحة وآيات الشفاء لا يساعده قوله سبحانه

ولا يزيد الظالمين إلى خسارا أي لايزيد القرآن كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين لأشياء في غير مواضعها مع كونه في نفسه شفاء من الاسقام

إلا خسارا أي هلاكا بكفرهم وتكذيبهم لا نقصانا كما قيل فإن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الأسقام فيهم وزيادتهم في مراتب الهلاك من حيث أنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآيات النازلة تدريجيا ازدادوا بذلك هلاكا وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعتربة لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم هم المزدادون في ذلك بسوء صنيعهم واعتبار كونه سببا لذلك وفيه تعجيب من أمره حيث يكون مدارا للشفاء والهلاك

٨٣

وإذا أنعمنا على الإنسان بالصحة والنعمة

أعرض عن ذكرنا فضلا عن القيام بموجب الشكر ونأى تباعد عن طاعتنا بجانبه

النأي بالجانب أن يلوي عن الشيء عطفه ويوليه عرض وجهه فهو تأكيد للإعراض أو عبارة عن الاستكبار لأنه من ديدن المستكبرين

وذا مسه الشر من فقر أو مرض أو نازلة من النوازل وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الإنعام إلى ضمير الجلالة إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك

كان يئوسا شديد اليأس من روحنا وهذا وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة ولا ينافيه وقوله تعالى وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ونظائره فإن ذلك شأن بعض آخرين منهم

وقيل أريد به الوليد بن المغيرة وقرئ ناء

أما على القلب كما يقال راء في رأى

وأما على أنه بمعنى نهض

٨٤

قل كل أي كل أحد منكم وممن هو على خلافكم

يعمل عمله

على شاكلته طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال أو جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه قربكم الذي برأكم على هذه الطبائع المتخالفة

أعلم بمن هو أهدى سبيلا أي أسد طريقا وأبين منهاجا وقد فسرت الشاكلة بالطبيعة والعادة والدين

٨٥

ويسألونك عن الروح الظاهر أن السؤال كان

عن حقيقة

الروح الذي هو مدبر البدن الإنساني ومبدأ حياته روى أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها جيمعا أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة قل الروح أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه

من أمر ربي كلمة من بيانية والأمر بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الايجادي لاشتراك الكل فيه وفيها من تشريف المضاف مالا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هو من جنس ما استأثر اللّه تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر

وما أوتيتم من العلم إلا قليلا لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك روى أنه صلى اللّه عليه و سلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب قال صلى اللّه عليه و سلم بل نحن وأنتم فقالوا ما أعجب شأنك ساعة تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وساعة تقول هذا فنزلت ولو أن ما الأرض من شجرة أقلام الآية وإنما قالوا ذلك لركاكة عقولهم فإن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية بل ما نيط به المعاش والمعاد وذلك بالإضافة إلى مالا نهاية له من معلوماته سبحانه قليل ينال به خير كثير في نفسه أو بالنسبة إلى الإنسان أو هو من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كأعضاء الجسد حتى يمكن تعريفه ببعض مباديه ومآله أنه من عالم الأمر لا من عالم الخلق وليس هذا من قبيل قوله سبحانه إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق وفيه تنبيه على أنه مما لا يحيط بكنهه دائرة إدراك البشر وإنما الممكن هذا القدر الإجمالي المندرج تحت ما استثنى بقوله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو من إحساس الجزيئات ولذلك قيل من فقد حسا فقد فقد علما ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيء من أحواله التي يدور عليها معرفة ذاته

وأما حمل ما ذكر على السؤال عن قدمه وحدوثه وجعل الجواب إخبارا بحدوثه أي كائن بتكوينه حادث بإحداثه بالأمر التكويني فمع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذ وقد أخبر عنه

وقيل المراد بالروح خلق عظيم روحاني أعظم من الملك

وقيل جبريل عليه السلام

وقيل القرآن ومعنى من أمر ربي من وحيه وكلامه لا من كلام البشر

٨٦

ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين ومنبع للعلوم التي أوتيتموها وثبتناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه ولولاه لكدت تركن إليهم شيئا قليلا وإنما عبر عنه بالموصول تفخيما لشأنه ووصفا له بما في حيز الصلة ابتداء وإعلاما بحاله من أول الأمر وبأنه ليس من قبيل كلام المخلوق واللام موطئة للقسم ولنذهبن جوابه النائب مناب جزاء الشرط وبذلك حسن حذف مفعول المشيئة والمراد من الذهاب به المحو من المصاحف والصدور وهو أبلغ من الإذهاب عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولادين لهم وأن هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شيء فقال رجل كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم فقال يسرى عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب

ثم لا تجد لك به أي القران

علينا وكيلا من يتوكل علينا استرداده مسطورا محفوظا

٨٧

الا رحمة من ربك فانها ان نالتك لعلها تسترده عليك ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به فيكون امتنانا بابقائه بعد المنة بتنزيله وترغيبا في المحافظة على أداء حقوقه وتحذيرا من أن لا يقدر قدره الجليل ويفرط في القيام بشكره وهو أجل النعم وأعظمها

ان فضله كان عليك كبيرا كارسالك وانزال الكتاب عليك وابقائه في حفظك وغير ذلك

٨٨

قل للذين لا يعرفون جلالة قدر التنزيل ولا يفهمون فخامة شأنه الجليل بل يزعمون أنه من كلام البشر

لئن اجتمعت الانس والجن أي اتفقوا

على أن يأتو بمثل هذا القران المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند اللّه تعالى منهما لا من غيرهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة

لا يأتون بمثله أوثر الإظهار على ايراد الضمير الراجع الى المثل المذكور احترازا عن أن يتوهم أن له مثلا معينا وايذانا بأن المراد نفي الاتيان بمثل ما أى لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة وفيهم العرب العاربة أرباب البراعة والبيان وهو جواب للقسم الذي ينبئ عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان جوابا له بغير جزم لكون الشرط ماضيا كما في قول زهير

... وان أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم ...

وحيث كان المراد بالاجتماع على الاتيان بمثل القران مطلق الاتفاق عل ذلك سواء كان التصدي للمعارضة من كل واحد منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الانظالر قيل

ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا

 في تحقيق ما يتوخونه من الاتيان بمثله وهو عطف على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا لبعض ولو كان الخ وقد حذف المعطوف عليه حذفا مطردا لدلالة المعطوف عليه دلالة واضحة فإن الاتيان بمثله حيث انتفى عند التظاهر فلأن ينتفي عند عدمه أولى وعلى هذه النكتة يدور ما في إن ولو الوصليتين من التأكيد كما مر غير مرة ومحله النصب على الحالية حسبما عطف عليه أي لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في هذه الحال المنافية لعدم الاتيان به فضلا عن غيرها وفيه حسم لأطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكون الآية تقريرا لما قبلها من قوله تعالى ثم لا تجد لك به علينا وكيلا كما قيل لكن لا لما قيل من أن الإتيان بمثله أصعب من استرداد عينه ونفي الشيء إنما يقرره نفي مادونه لانفي مافوقه فإن اصعبيه الاسترداد بغير أمره تعالى من الاتيان بمثله مما لا شبهة فية بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلي النبي صلى اللّه عليه و سلم بل إلي المكابرين من قبله صلى اللّه عليه و سلم

٨٩

واقد صر فنا كررنا ورددنا علي انحاء مختلفه توجب زيادة تقرير وبيان ووكادة رسوخ واطمئنان

للناس في هذا القرآن المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة

من كل مثل من كل معنى بديع هو في الحسن والغرابة واستجلاب النفس كالمثل ليتلقوه بالقبول

فأبى أكثر الناس أوثر الإظهار على الإضمار تأكيدا وتوضيحا

إلا كفورا أي إلا جحودا وإنما صح الاستثناء من الموجب مع أنه لا يصح ضربت إلا زيدا لأنه متأول بالنفي كأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا وفيه من المبالغة ما ليس في أبو الإيمان لأن فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور من الإيمان والتوقف في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء

٩٠

وقالوا عند ظهور عجزهم ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي وغيره من المعجزات الباهرة متعللين بما لا يمكن في العادة وجوده ولا تقتضي الحكمة وقوعه من الأمور كما هو ديدن المبهوت المحجوج

لن نؤمن لك حتى تفجر وقرئ بالتشديد

لنا من الأرض أرض مكة

ينبوعا عينا لا ينضب ماؤها بفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخ

٩١

أو تكون لك جنة أي بستان تستر أشجاره ما تحتها من العرصة

من نخيل وعنب فتفجر الأنهار أي تجريها بقوة

خلالها تفجيرا كثرا والمراد

أما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبئ عنه الفاء لا ابتداؤه

٩٢

أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا جمع كسفة كقطعة وقطع لفظا ومعنى وقرىء بالسكون كسدرة وسدر وهي حال من السماء والكاف في كما في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي أسقاطا مماثلا لما زعمت

يعنون بذلك قوله تعالى أو تسقط عليهم كسفا من السماء

أو تأتي باللّه والملائكة قبيلا أي مقابلا كالعشير والمعاشر أو كفيلا يشهد بصحة ما تدعيه وهو حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالتها عليها أي والملائكة قبلاء كما حذف الخبر في قوله فإني وقيار بها الغريب أو جماعة فيكون حالا من الملائكة

٩٣

أو يكون لك بيت من زخرف من ذهب وقد قرئ به وأصله الزينة

أو ترقى في السماء أي في معارجها فحذف المضاف يقال رقى في السلم وفي الدرجة

ولن نؤمن لرقيك أي لأجل رقيك فيها وحده أو لن نصدق رقيك فيها حتى تتنزل منها

علينا كتابا فيه تصديقك

نقرؤه نحن من غير أن يتلقى من قبلك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال عبد اللّه بن ابي أمية

لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وما كانوا يقصدون بهاتيك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج ولو أنهم أوتو أضعاف ما اقترحوا من الآيات ما زادهم ذلك إلا مكابرة وإلا فقد كما يكفيهم بعض ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال قل تعجبا من شدة شكيمتهم وتنزيها لساحة السبحات عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحات الشنيعة التي تكاد السموات يتفطرن منها أو عن طلبك ذلك وتنبيها على بطلان ما قالوه

سبحان ربي وقرئ قال سبحان ربي

هل كنت إلا بشرا لا ملكا حتى يتصور مني الرقى في السماء ونحوه

رسولا مأمورا من قبل ربي بتبليغ الرسالة من غير أن يكون لي خيرة في الأمر كسائر الرسل وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره اللّه على ايديهم حسبما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على اللّه سبحانه بشيء منها وقوله بشرا خبر لكنت ورسولا صفته

٩٤

وما منع الناس أي الذين حكيت أباطيلهم

أن يؤمنوا مفعول ثان لمنع وقوله

إذا جاءهم الهدى أي الوحي ظرف لمنع أو يؤمنوا أي وما منعهم وقت مجئ الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن يؤمنوا بذلك وقت مجئ ما ذكر

إلا أن قالوا في محل الرفع على أنه فاعل منع أي إلا قولهم

أبعث اللّه بشرا رسولا منكرين أن يكون رسول اللّه تعالى من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعضهم فمنع بعضا آخر منهم بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم وإنما عبر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق وحصر المانع من الإيمان فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعنى عند سماع الجواب بقوله تعالى هل كنت إلا بشرا رسولا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية وفيه إيذان بكمال عنادهم حيث يشير إلىأن الجواب المذكور مع كونه حاسما لمواد شبههم ملجئا إلى الإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعا منه

٩٥

قل لهم أولا من قبلها تبيينا للحكمة وتحقيقا للحق المزيح للريب

لو كان أي ولو وجد واستقر

في الأرض بدل البشر

ملائكة يمشون مطمئنين قارين فيها من غير أن يعرجوا في السماء ويعلموا ما يجب أن يعلم

لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا يهديهم إلى الحق ويرشدهم إلى الخير لتمكنهم من الاجتماع والتلقي منه

وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية فكيف لا وهي منوطة بالتناسب والتجانس فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها مبنى التكوين والتشريع وإنما يبعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية لمؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب وقوله تعالى ملكا يحتمل أن يكون حالا من رسولا وأن يكون موصوفا به وكذلك بشرا في قوله تعالى أبعث اللّه بشرا رسولا والأول أولى

٩٦

قل لهم ثانيا من جهتك بعد ما قلت لهم من قبلنا ما قلت وبينت لهم ما تقتضيه الحكمة في البعثة ولم يرفعوا إليه رأسا

كفى باللّه وحده شهيدا على أني أديت ما علي من مواجب الرسالة أكمل أداء وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد وتوجيه الشهادة إلى كونه صلى اللّه عليه و سلم رسولا بإظهار المعجزة على وفق دعواه كما اختير لا يساعده قوله تعالى

بين وبينكم وما بعده من التعليل وإنما لم يقل بيننا تحقيقا للمفارقة وإبانة للمباينة وشهيدا أما حال أو تميير

إنه كان بعباده من الرسل والمرسل إليهم خبيرا

بصيرا محيطا بظواهر أحوالهم وبواطنها فيجازيهم على ذلك وهو تعليل الكفاية وفيه تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وتهديد للكفار

٩٧

ومن يهد اللّه كلام مبتدأ يفصل ما أشار إليه الكلام السابق من مجازاة العباد إشارة إجمالية أي من يهده اللّه إلى الحق بما جاء من قبله من الهدى

فهو المهتد إليه وإلى ما يؤدي إليه من الثواب أو المهتد إلى كل مطلوب

ومن يضلل أي يخلق فيه الضلال بسوء اختياره كهؤلاء المعاندين

فلن تجد لهم أوثر ضمير الجماعة اعتبارا لمعنى من غب ما أوثر في مقابله الإفراد نظرا إلى لفظها تلويحا بوحدة طريق الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال

أولياء من دونه من دون اللّه تعالى أي أنصارا يهدونهم إلى طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والآخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالهم على معنى أن تجد لأحد منهم وليا على ما تقتضيه قضية مقابلة بالجمع من انقسام الآحاد إلى الآحاد

ونحشرهم التفات من الغيبة إلى التكلم إيذانا بكمال الاعتناء بأمر الحشر

يوم القيامة على وجوههم حال من الضمير المنصوب أي

كائنين عليها سحبا كقوله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم أو مشيا فقد روى أنه قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم

عميا حال من الضمير المجرور في الحال السابقة

وبكما وصما لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا ينطقون ما يقبل منهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم لما قد كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف الى النار موفي القوى والحواس وأن يحشروا كذلك ثم يعاد اليهم قواهم وحواسهم فإن ادراكاتهم بهذه المشاعر في بعض المواطن مما لا ريب فيه

مأواهم جهنم أما حال أو استئناف وكذا قوله تعالى

كلما خبت زدناهم سعيرا أي كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه زدناهم توقدا بأن بدلناهم جلودا غيرها فعادت ملتهبة ومستعرة ولعل ذلك عقوبة لهم على إنكارهم الاعادة بعد الفناء بتكريرها مرة بعد أخرى ليروها عينا حيث لم يعلموها برهانا كما يفصح عنه قوله تعالى

٩٨

ذلك أي ذلك

العذاب جزاؤهم بأنهم أي بسبب أنهم

كفروا بآياتنا العقلية والنقلية الدالة على صحة الاعادة دلالة واضحة فذلك مبتدأ وجزاؤهم خبره ويجوز أن يكون مبتدأ ثانيا وبأنهم خبره والجملة خبرا لذلك وأن يكون جزاؤهم بدلا من ذلك أو بيانا له والخبر هو الظرف

وقالوا منكرين أشد الانكار

أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا أما مصدر مؤكد من غير لفظه أي لمبعوثون بعثا جديدا

وأما حال أي مخلوقين مستأنفين

٩٩

أو لم يروا أي ألم يتفكروا ولم يعلموا

أن اللّه خلق السموات والأرض من غير مادة مع عظمهما

قادر على أن يخلق مثلهم في الصغر على أن المثل مقحم والمراد بالخلق الاعادة كما عبر عنها بذلك حيث قيل خلقا جديدا

وجعل لهم أجلا لا ريب فيه عطف على أولم يروا فإنه في قوة قدر أو واو المعنى قد علموا أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس وجعل لهم ولبعثهم أجلا محققا لا ريب فيه هو يوم القيامة

فأبى الظالمون وضع موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد بالمرة

إلا كفورا أي جحودا

١٠٠

قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي خزائن رزقه التي أفاضها على كافة الموجودات وأنتم مرتفع بفعل يفسره المذكور كقول حاتم لو ذات سوار لطمتني وفائدة ذلك المبالغة والدلالة على الاختصاص

إذن لأمسكتم لبخليم

خشية الانفاق مخالفة النفاد بالإنفاق إذ ليس في الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه ولو آثر غيره بشيء فإنما يؤثره لعوض يفوقه فإذن هو بخيل بالاضافة إلى جود اللّه سبحانه

وكان الإنسان قتورا مبالغا في البخل لأن مبنى أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه وملاحظة العوض بما يبذله

١٠١

ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات واضحات الدلالة على نبوته وصحة ما جاء به من عند اللّه وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والطوفان والسنون ونقص الثمرات

وقيل انفجار الماء من الحجر ونتق الطور على

بنى إسرائيل وانفلاق البحر بدل الثلاث الأخيرة ويأباه أن هذه الثلاث لم تكن منزلة إذ ذاك وأن الأولين لا تعلق لهما بفرعون وإنما أوتيهما بنو اسرائيل عن صفوان بن عسال أن يهوديا سأل النبي صلى اللّه عليه و سلم عنها فقال أن لا تشركوا به شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبل اليهودي يده ورجله صلى اللّه عليه و سلم ولا يساعده أيضا ما ذكر ولعل جوابه صلى اللّه عليه و سلم بذلك لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان في التوارة مسطورا وقد علم أنه ما علمه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلا من جهة الوحي فاسأل بني اسرائيل وقرئ فسل اي فقلنا له سلهم من فرعون وقل له ارسل معي بني إسرائيل أو سلهم عن ايمانهم أو عن حال دينهم أو سلهم أن يعاضدوك ويؤيده قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على صيغة الماضي

وقيل الخطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلم أي فاسألهم عن تلك الآيات لتزداد يقينا وطمأنينة أو ليظهر صدقك

إذ جاءهم متعلق بقلنا وبسأل على القراءة المذكورة وبآياتنا أو بمضمر هو يخبروك أو اذكر على تقدير كون الخطاب للرسول صلى اللّه عليه و سلم

فقال له فرعون الفاء فصيحة أي فأظهر عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون

إني لأظنك يا موسى مسحورا سحرت فتخبط عقلك

١٠٢

قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء يعني الآيات التي أظهرها

إلا رب السموات والأرض خالقهما ومدبرهما والتعرض لربوبيته تعالى لهما للايذان بأنه لا يقدر على ايتاء مثل هاتيك الايات العظام الا خالقهما ومدبرهما بصائر حال من الآيات أي بينات مكشوفات تبصرك صدقي ولكنك تعاند وتكابر نحو وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ومن ضرورة ذلك العلم العلم بأنه صلى اللّه عليه و سلم على كمال رصانة العقل فضلا عن توهم المسحورية وقرئ علمت على صيغة التكلم أي لقد علمت بيقين أن هذه الايات الباهرة أنزلها اللّه عز سلطانه فكيف يتوهم أن يحوم حولي سحر

وإني لأظنك يا فرعون مثورا مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم ما ثبرك عن هذا أي ما صرفك أو هالكا ولقد قارع صلى اللّه عليه و سلم ظنه بظنه وشتان بينهما كيف لا وظن فرعون إنك مبين وظنه صلى اللّه عليه و سلم يتاخم اليقين

١٠٣

فأراد أي فرعون

أن يستفزهم أي يستخفهم ويزعجهم

من الأرض أرض مصر أو من الأرض مطلقا بالقتل كقوله سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم

فأغرقناه ومن معه جميعا فعكسنا عليه مكره واستفززناه وقومه بالإغراق

١٠٤

وقلنا من بعده من بعد إغراقهم

لبني إسرائيل اسكنوا الأرض التي أراد أن يستفزكم منها

فإذا جاء وعد الآخرة الكرة الآخرة أو الحياة أو الساعة والدار الآخرة أي قيام القيامة جئنا بكم لفيفا مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم اللفيف الجماعات من قبائل شتى

١٠٥

وبالحق أنزلناه وبالحق نزل أي وما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحق المقتضى لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه أو ما أنزلناه من السماء الا محفوظا وما نزل على الرسول الا محفوظا من تخليط الشياطين ولعل المراد بيان عدم اعتراء البطلان له أول الأمر وآخره

وما أرسلناك إلا مبشرا للمطيع بالثواب

ونذيرا للعاصي من العقاب وهو تحقيق لحقيه بعثته صلى اللّه عليه و سلم إثر تحقيق حقية إنزال القرآن

١٠٦

وقرآنا منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى

فرقناه وقرئ بالتشديد دلالة على كثرة نجومه

لتقرأه على الناس مكث على مهل وتثبت فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم وقرئ بالفتح وهو لغة فيه

ونزلناه تنزيلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة ويقع من الحوادث والواقعات

١٠٧

قل للذين كفروا

أمنوا به أو لا تؤمنوا فإن ايمانكم به لا يزيده كمالا وامتناعكم لا يورثه نقصا

إن الذين أوتوا العلم من قبله أي العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من قبل تنزيله وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل والمحق والمبطل ورأوا فيها نعتك ونعت ما انزل إليك

إذا يتلى أي القرآن

عليهم يخرون للأذقان أي يسقطون على وجوههم

سجدا تعظيما لأمر اللّه تعالى أو شكرا لانجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك وتخصيص الأذقان بالذكر للدلالة على كمال التذلل إذ حينئذ يتحقق الخرور عليها وإيثار اللام للدلالة على اختصاص الخرور بها كما في قوله فخر صريعا لليدين وللفم وهو تعليل لما يفهم من قوله تعالى آمنوا به أو لا تؤمنوا من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم ويجوز أن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم

١٠٨

ويقولون في سجودهم

سبحان ربنا عما يفعل الكفرة من التكذيب أو عن خلف وعده

إن كان وعد ربنا لمفعولا إن مخففة من المثقلة واللام فارقة أي إن الشأن هذا

١٠٩

ويخرون للأذقان يبكون كرر الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر اللّه تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية اللّه

ويزيدهم أي القرآن بسماعهم

خشوعا كما يزيدهم علما ويقينا باللّه تعالى

١١٠

قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن نزل حين سمع المشركون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول يا اللّه يا رحمن فقالوا أنه ينهانا عن عبادة إلهين وهو يدعو إلها آخر وقالت اليهود إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره اللّه تعالى في التوراة والمراد على الأول هو التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحدة وإن اختلف الاعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود وعلى الثاني أنهما سيان في حسن الاطلاق والإفضاء إلى المقصود وهو أوفق لقوله تعالى أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى والدعاء بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حذف اولهما استغناء عنه و أو للتخيير والتنوين في أيا عوض عن المضاف إليه وما مزيدة لتأكيد ما في أي من الإبهام والضمير في له للمسمى لأن التسمية له لا للإسم وكان أصل الكلام

أياما تدعوا فهو حسن فوضع موضعه

فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه إذ حسن جميع أسمائه يستدعى حسن ذينك الاسمين وكونها حسنى لدلالتها على صفات الكمال من الجلالة والجمال والإكرام

ولا تجهر بصلاتك أي بقراءة صلاتك بحيث تسمع المشركين فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها

ولا تخافت بها أي بقراءتها بحيث لا تسمع من خلفك من المؤمنين

وابتغ بين ذلك اي بين الجهر والمخافتة على الوجه المذكور

سبيلا أمرا وسطا قصدا فإن خير الأمور أوساطها والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب وروى أن أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه كان يخفت ويقول أناجي ربي وقد علم حاجتي وعمر رضي اللّه عنه كان يجهر بها ويقول أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فلما نزلت أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ابا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلا

وقيل المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها باسرها وابتغ بين ذلك سبيلا بالمخافتة نهارا والجهر ليلا

وقيل بصلاتك بدعائك وذهب قوم إلى أنها منسوخة بقوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية

١١١

وقل الحمد للّه الذي لم يتخذ ولدا كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مليح حيث قالوا عزيز ابن اللّه والمسيح ابن اللّه والملائكة بنات اللّه تعالى عن ذلك علوا كبيرا

ولم يكن له شريك في الملك أي الألوهية كما يقوله الثنوية القائلون بتعدد الآلية

ولم يكن له ولى من الذل ناصر ومانع منه لاعتزازه به أو لم يوال أحدا من أجل مذلة ليدفعها به وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من هذه نعوته دون غيره إذ بذلك يتم الكمال والقدرة التامة على الإيجاد وما يتفرع عليه من إضافة أنواع النعم وما عداه ناقص مملوك نعمته أو منعم عليه ولذلك عطف عليه قوله تعالى

وكبره تكبيرا وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد واجتهد في الطاعة والتحميد ينبغي أن يعترف بالقصور في ذلك روى أنه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علمه هذه الآية لكريمة وعنه صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والحمد للّه سبحانه وله الكبرياء والعظمة والجبروت

﴿ ٠