زاد المسير فى علم التفسير

 أبو الفرج ابن الجوزي:

عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد التيمي البكري  القرشي

الحنبلي

(ت ٥٩٧ هـ ١٢٠١ م)

_________________________________

سُورَةُ الْفاَتِحَةِ الْكِتاَبِ

مَكِّيَّةٌ وَهِيَ سَبْعُ آياَتٍ

مقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي شرفنا على الأمم بالقرآن المجيد، ودعانا بتوفيقه على الحكم الى الأمر الرشيد، وقوم به نفوسنا بين الوعد والوعيد، وحفظه من تغيير الجهول وتحريف العنيد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

أحمده على التوفيق للتحميد، وأشكره على التحقيق فى التوحيد، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، شهادة يبقى ذخرها على التأبيد وأن محمدا عبده ورسوله أرسله الى القريب والبعيد، بشيرا للخلائق ونذيرا، وسراجا فى الأكوان منيرا، ووهب له من فضله خيرا كثيرا، وجعله مقدما على الكل كبيرا، ولم يجعل له من أرباب جنسه نظيرا، ونهى أن يدعى باسمه تعظيما له وتوقيرا، وأنزل عليه كلاما قرر صدق قوله بالتحدي بمثله تقريرا، فقال: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [الاسراء ٨٨] فصلى اللّه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه وأشياعه، وسلم تسليما كثيرا. لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم، كان الفهم لمعانيه أوفى الفهوم، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، وإنى نظرت فى جملة من كتب التفسير، فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه والمتوسط منها قليل الفوائد، عديم الترتيب، وربما أهمل فيه المشكل، وشرح غير الغريب، فأتيتك بهذا المختصر اليسير، منظويا على العلم الغزير ووسمته ب: زاد المسير فى علم التفسير وقد بالغت فى اختصار لفظه، فاجتهد وفقك اللّه فى حفظه، واللّه المعين على تحقيقه، فما زال جائدا بتوفيقه.

فصل في فضيلة علم التفسير روى أبو عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود قال: كنا نتعلم من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العشر فلا نجاوزها الى العشر، الآخر حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل: وروى قتادة عن الحسن أنه قال: ما أنزل اللّه آية إلا أحب أن أعلم فيم أنزلت وماذا عني بها. وقال إياس بن معاوية: مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو لا يعلم، مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلهم لمجىء الكتاب روعة لا يدرون ما فيه، فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه.

فصل

اختلف العلماء: هل التفسير والتأويل بمعنى، أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون الى العربية إلى أنهما بمعنى،وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين. وذهب قوم يميلون الى الفقه الى اختلافهما، فقالوا: التفسير: إخراج الشيء من مقام الخفاء الى مقام التجلى. والتأويل: نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج فى إثباته الى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو مأخوذ من قولك: آل الشيء الى كذا، أي صار إليه.

فصل

فى مدة نزول القرآن. روى عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ فى ليلة القدر الى بيت العزة ثم أنزل بعد ذلك فى عشرين سنة.وقال الشعبى: فرق اللّه تنزيل القرآن، فكان بين أوله وآخره عشرون سنة. وقال الحسن: ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة، أنزل عليه بمكة ثمانى سنين.

فصل

واختلفوا فى أول ما نزل من القرآن، فأثبت المنقول: أن أول ما نزل: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ} العلق: ١ رواه عروة عن عائشة وبه قال قتادة وأبوا صالح.

وروي عن جابر بن عبد اللّه أن أول ما نزل {يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ} المدثر: ١ والصحيح أنه لما نزل عليه {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ} رجع فتدثر فنزل: {يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ} يدل عليه ما أخرج فى «الصحيحين» من حديث جابر قال: سمعت النبى صلى اللّه عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه: فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه رعبا، فرجعت فقلت: زملوني، زملوني، فدثروني، فأنزل اللّه تعالى: {يأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ} ومعنى جثثت: فرقت. يقال: رجل مجؤوث ومجثوث وقد صحفه بعض الرواة فقال: جبنت من الجبن، والصحيح الأول.

وروي عن الحسن وعكرمة: أن أول ما نزل: {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}.

فصل

واختلفوا في آخر ما نزل، فروى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس، قال: آخر آية أنزلت على النبى صلى اللّه عليه وسلم: آية الربا: وفي أفراد مسلم عنه: آخر سورة نزلت جميعا {إِذَا جَاء نَصْرُ ٱللّه وَٱلْفَتْحُ} النصر: ١.

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت {وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللّه} البقرة: ٢٨١ وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي صالح وروى أبو إسحاق عن البراء قال: آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللّه يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ} النساء: ١٧٦ وآخر سورة نزلت {بَرَاءةٌ}

وروي عن أبي بن كعب:أن آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} التوبة: ١٣٨ الى آخر السورة.

فصل

لما رأيت جمهور كتب المفسرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة فى كتب فرب تفسير أخل فيه بعلم الناسخ والمنسوخ، أو ببعضه، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول، أو أكثرها، فإن وجد لم يوجد بيان المكي من المدني، وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة الى حكم الآية، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع فى الآية، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة. وقد أدرجت فى هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه. وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة، ولم أغادر من الأقوال التى أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره، فهو لا يخلو من أمرين؛ إما أن يكون قد سبق، وإما أن يكون ظاهرا لا يحتاج الى تفسير. وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير، فأخذ منها الأصح والأحسن والأصون، فنظمه في عبارة الاختصار. وهذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له واللّه الموفق.

فصل

في الاستعاذة قد أمر اللّه عز وجل بالاستعاذة عند القراءة بقوله تقالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللّه مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ} النحل ٩٨ ومعناه: إذا أردت القراءة. ومعنى أعوذ: ألجأ وألوذ.

زاد المسير فى علم التفسير أبو الفرج ابن الجوزي:

عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد التيمي البكري القرشي الحنبلي(ت ٥٩٧ هـ ١٢٠١ م)

_________________________________

سورة الفاتحة

١

فصل فى:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قال ابن عمر: نزلت في كل سورة.

وقد اختلف العلماء: هل هي آية كاملة، أم لا؟ وفيه عن احمد روايتان.

واختلفوا: هل هي من الفاتحة، أم لا؟ فيه عن احمد روايتان أيضا. فأما من قال: إنها من الفاتحة، فإنه يوجب قرائتها في الصلاة إذا قال بوجوب الفاتحة وأما من لم يرها من الفاتحة، فإنه يقول: قراءتها في الصلاة سنة. ما عدا مالكا فإنه لا يستحب قراءتها في الصلاة.

واختلفوا في الجهر بها في الصلاة فيما يجهر به، فنقل جماعة عن احمد: أنه لا يسن الجهر بها، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن مغفل، وابن الزبير، وابن عباس، وقال به من كبراء التابعين ومن بعدهم: الحسن، والشعبي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وسفيان الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأبو عبيد في آخرين. وذهب الشافعي إلى أن الجهر مسنون، وهو مروي عن معاوية بن أبي سفيان، وعطاء، وطاووس، ومجاهد. فأما تفسيرها: فقوله:«بسم اللّه» اختصار كأنه قال: أبدأ بسم اللّه. أو: بدأت باسم اللّه. وفي الإسم خمس لغات: إسم بكسر الألف، وأسم بضم الألف إذا ابتدات بها، وسم بكسر السين، وسم بضمها، وسما. قال الشاعر:

واللّه أسماك مباركا آثرك اللّه به إيثاركا

وأنشدوا:

باسم الذي في كل سورة سمه

قال: الفراء بعض قيس يقولون: سمه يريدون: اسمه، وبعض قضاعة يقولون: سمه. أنشدني بعضهم:

وعامنا أعجبنا مقدمه  يدعى أبا السمح وقرضاب سمه

والقرضاب: القطاع، يقال: سيف قرضاب.

واختلف العلماء في اسم اللّه الذي هو «اللّه»: فقال قوم: مشتق

وقال آخرون: إنه علم ليس بمشتق. وفيه عن الخليل روايتان.

إحداهما: أنه ليس بمشتق، ولا يجوز حذف الألف واللام منه كما يجوز من الرحمن.

والثانية: رواها عنه سيبويه: أنه مشتق. وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض العلماء أن أصله في الكلام مشتق من: أله الرجل يأله: إذا فزع إليه من أمر نزل به. فألهه أي: أجاره وأمنه، فسمي إلها كما يسمى الرجل إماما،

وقال غيره: أصله ولاه. فأبدلت الواو همزة  فقيل: إله كما قالوا: وسادة و إسادة، ووشاح وإشاح واشتق من الوله، لأن قلوب العباد توله نحوه. كقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـئَرُونَ} النحل ٥٣ وكان القياس أن يقال: مألوه، كما قيل: معبود، إلا أنهم خالفوا به البناء ليكون علما، كما قالوا للمكتوب: كتاب، وللمحسوب: حساب.

وقال بعضهم: أصله من: أله الرجل يأله إذا تحير، لأن القلوب تتحير عند التفكر في عظمته. وحكي عن بعض اللغويين: أله الرجل يأله إلاهه، بمعنى: عبد يعبد عبادة. وروي عن ابن عباس انه قال: {وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ} الأعراف ١٢٧ أي عبادتك. قال: والتأله: التعبد. قال رؤبة:

للّه در الغانيات المده  سبحن واسترجعن من تألهي

فمعنى الإله: المعبود.

فأما«الرحمن»: فذهب الجمهور الى أنه مشتق من الرحمة، مبني على المبالغة، ومعناه: ذو الرحمة التي لا نظير له فيها.وبناء فعلان في كلامهم للمبالغة، فإنهم يقولون للشديد الامتلاء: ملآن، وللشديد الشبع: شبعان. قال الخطابي: في«الرحمن»: ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم، وعمت المؤمن والكافر.

و«الرحيم» خاص للمؤمنين. قال عز وجل: {وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} الاحزاب: ٤٣ والرحيم بمعنى الراحم.

روى أبو هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال وقرأ عليه أبي بن كعب أم القرآن فقال:

والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة: ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.

فمن أسمائها: الفاتحة، لأنه يستفتح الكتاب بها تلاوة وكتابة. ومن أسمائها أم القرآن، وأم الكتاب، لأنها أمت الكتاب بالتقدم. ومن أسمائها: السبع المثاني، وإنما سميت بذلك لما سنشرحه في الحجر إن شاء اللّه .

واختلف العلماء في نزولها على قولين.

احدهما: أنها مكية، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وأبي العالية وقتادة، وأبي ميسرة.

والثاني: أنها مدنية، وهو مروي عن أبي هريرة، ومجاهد، وعبيد بن عمير، وعطاء الخراسانى. وعن ابن عباس كالقولين.

٢

فصل

فأما تفسيرها

ف {ٱلْحَمْدُ} رفع بالابتداء، و {للّه} الخبر. والمعنى: الحمد ثابت للّه، ومستقر له، والجمهور على كسر لام«للّه» وضمها ابن عبلة، قال الفراء: هي لغة بعض بني ربيعة، وقرأ ابن السميفع: «الحمد» بنصب الدال«للّه» بكسر اللام. وقرأ أبو نهيك. بكسر الدال واللام جميعا. واعلم أن الحمد: ثناء على المحمود، ويشاركه الشكر، إلا أن بينهما فرقا، وهو: أن الحمد قد يقع ابتداء للثناء، والشكر لا يكون إلا في مقابلة النعمة، وقيل: لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، فتقديره: قولوا: الحمد للّه.

وقال ابن قتيبة: الحمد: الثناء على الرجل بما فيه من كرم أو حسب أو شجاعة، وأشباه ذلك. والشكر: الثناء عليه بمعروف أولاكه، وقد يوضع الحمد موضع الشكر. فيقال: حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرت له على شجاعته.

فأما«الرب» فهو المالك، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالاضافة، فيقال: هذا رب الدار، ورب العبد. وقيل هو مأخوذ من التربية. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: رب فلان صنيعته يربها ربا: إذا أتمها وأصلحها،فهو رب وراب. قال الشاعر:

يرب الذي يأتي من الخير إنه  إذا سئل المعروف زاد وتمما

قال: والرب يقال على ثلاثة أوجه.

احدها: المالك. يقال رب الدار.

والثاني: المصلح، يقال: رب الشيء.

والثالث: السيد المطاع قال تعالى: {فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا} يوسف: ٤١

والجمهور على خفض باء«رب». وقرأ أبو الغاليه، وابن السميفع، وعيسى ابن عمر بنصبها. وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خيثم، وأبو عمران الجوني برفعها.

فأما«العالمين» فجمع عالم، وهو عند أهل العربية: اسم للخلق من مبدئهم الى منتهاهم، وقد سموا أهل الزمان الحاضر عالما.

فقال الحطيئة:

تنحي فاجلسي مني بعيدا  أراح اللّه منك العالمينا

فأما أهل النظر، فالعلم عندهم: اسم يقع على الكون الكلي المحدث من فلك، وسماء، وأرض، وما بين ذلك. وفي اشتقاق العالم قولان.

احدهما: أنه من العلم، وهو يقوي قول أهل اللغة.

والثاني: أنه من العلامة، وهو يقوي قول أهل النظر، فكأنه إنما سمي عندهم بذلك، لانه دال على خالقه.

وللمفسرين في المراد ب«العالمين» هاهنا خمسة أقوال:

احدهما: الخلق كله، السموات والارضون وما فيهن وما بينهن. رواه الضحاك عن ابن عباس.

الثاني: كل ذي روح دب على وجه الأرض. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: أنهم الجن والإنس. روي ايضا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، ومقاتل.

والرابع: أنهم الجن والإنس والملائكة، نقل عن ابن عباس أيضا، واختاره ابن قتبية.

والخامس: أنهم الملائكة، وهو مروي عن ابن عباس أيضا.

٣

قوله تعالى: {ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} قرأ أبو العاليه، وابن السميفع، وعيسى بن عمر بالنصب فيهما، وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خيثم، وأبو عمران الجوني بالرفع فيهما.

٤

قوله تعالى: {مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ} قرأ عاصم والكسائي، وخلف ويعقوب: «مالك» بألف. وقرأ إبن السميفع، وابن أبي عبلة كذلك، إلا أنهما نصبا الكاف. وقرأ أبو هريرة، وعاصم الجحدري:«ملك» باسكان اللام من غير الألف مع كسر الكاف، وقرأ أبو عثمان النهدي، والشعبي «ملك» بكسر اللام ونصب الكاف من غير ألف. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعائشة، ومورق العجلي: «ملك» مثل ذلك إلا أنهم رفعوا الكاف. وقرأ أبي بن كعب، وأبو رجاء العطاردي «مليك» بيياء بعد اللام مكسورة الكاف من غير ألف. وقرأ عمرو بن العاص كذلك، إلا أنه ضم الكاف. وقرأ أبو حنيفة، وأبو حيوة «ملك» على الفعل الماضي،«ويوم» بالنصب.

وروى عبد الوارث عن أبي عمرو: إسكان اللام، والمشهور عن أبي عمرو وجمهور القراء «ملك» بفتح الميم مع كسر اللام، وهو أظهر في المدح، لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا.

وفي {ٱلدّينِ} هاهنا قولان.

احدهما: انه الحساب. قاله ابن مسعود.

والثاني: الجزاء. قاله ابن عباس، ولما أقر اللّه عز وجل {رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ أَنَّهُ مَـٰلِكَ ٱلدُّنْيَا * ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ} على أنه مالك الأخرى. وقيل: إنما خص يوم الدين، لأنه ينفرد يومئذ بالحكم في خلقه.

٥

قوله تعالىإياك نعبد» وقرأ الحسن، وأبو المتوكل، وأبو مجلز «يعبد» بضم الياء وفتح الباء. قال ابن الأنباري: المعنى: قل يا محمد: إياك يعبد، والعرب ترجع من الغيبة الى الخطاب، ومن الخطاب الى الغيبة، كقوله تعالىحتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم» يونس ٢٢ وقوله: {جَزَاء} يونس ٢٢ وقوله وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء الدهر: ٢١/ ٢٢.

وقال لبيد:

باتت تشكى الي النفس مجهشة  وقد حمتلك سبعا بعد سبعينا

وفي المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال.

احدهما: أنها بمعنى التوحيد. روي عن علي، وابن عباس في آخرين.

والثاني: أنها بمعنى الطاعة، كقوله: {لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ} يس: ٦٠

الثالث: أنها بمعنى الدعاء، كقوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} غافر ٦٠

٦

قوله تعالى: {ٱهْدِنَا} فيه أربعة أقوال:

احدها: ثبتنا. قاله علي، وأبي.

والثاني: أرشدنا.

والثالث: وفقنا.

والرابع: ألهمنا. رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس.

و {ٱلصّرٰطِ} الطريق ويقال: إن أصله بالسين، لأنه من الاستراط وهو: الا بتلاع، فالسراط كأنه يسترط المارين عليه، فمن قرأ السين، كمجاهد، وابن محيصن، ويعقوب، فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصاد كأبي عمرو، والجمهور، فلأنها اخف على اللسان، ومن قرأ بالزاي، كرواية الأصمعي عن أبي عمرو، واحتج بقول العرب: سقر وزقر وروي عن حمزة: إشمام السين زايا، وروي عنه أنه تلفظ بالصراط بين الصاد والزاي.قال الفراء: اللغة الجيد بالصاد، وهي لغة قريش الأولى، وعامة العرب يجعلونها سينا، وبعض قيس يشمون الصاد، فيقول: السراط بين الصاد والسين، وكان حمزة يقرأ«الزراط» بالزاي، وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. يقولون في أصدق أزدق.

٧

وفي المراد بالصراط هاهنا أربعة اقوال.

احدها: أنه كتاب اللّه، رواه علي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والثاني: أنه دين الاسلام. قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، و أبوالعالية في آخرين.

والثالث: أنه الطريق الهادي الى دين اللّه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.

والرابع: أنه طريق الجنة، نقل عن ابن عباس أيضا.

فان قيل: ما معنى سؤال المسلمين الهداية وهم مهتدون؟

ففيه ثلاثة أجوبة:

احدها: أن المعنى: إهدنا لزوم الصراط، فحذف اللزوم. قاله ابن الأنباري.

والثاني: أن المعنى ثبتنا على الهدى، تقول العرب للقائم: قم حتى آتيك، أي: اثبت على حالك.

والثالث: أن المعنى زدنا هدى. قوله تعالى:

{ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}قال ابن عباس: هم النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون. وقرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء، وكذلك «لديهم» و «إليهم» وقرأهن حمزة بضمها. وكان ابن كثير يصل ضم الميم بواو وقال ابن الأنباري: حكى اللغويون في «عليهم» عشر لغات، قرى بعامتها عليهم بضم الهاء وإسكان الميم و«عليهم» بكسر الهاء وإسكان الميم، و«عليهمي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة، و«عليهمو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة، و«عليهمو» بضم الهاء والميم وإدخال واو بعد الميم و«عليهم» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء، وأوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهمي» بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء، و«عليهم» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء، و«عليهم» بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو، و «عليهم» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم.

فأما«المغضوب عليهم» فهم اليهود؛ و «الضالون»: النصارى. رواه عدي بن حاتم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. قال ابن قتيبة: والضلال: الحيرة والعدول عن الحق.

فصل

ومن السنة في حق قارىء الفاتحة ان يعقبها ب«آمين» قال شيخنا أبو الحسن علي ابن عبيد اللّه: وسواء كان خارج الصلاة أو فيها، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: إذا قال الامام {غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ} فقال من خلفه: آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه. وفي معنى آمين: ثلاثة أقوال.

احدها: أن معنى آمين: كذلك يكون. حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس، والحسن.

والثاني: أنها بمعنى : اللّهم استجب. قاله الحسن والزجاج.

والثالث: أنه اسم من أسماء اللّه تعالى. قاله مجاهد، وهلال بن يساف، وجعفر ابن محمد. وقال ابن قتيبة: معناها: يا أمين أجب دعاءنا، فسقطت يا، كما سقطت في قوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا} يوسف : ٢٩ تأويله: يا يوسف. ومن طول الألف قال: آمين، أدخل ألف النداء على ألف أمين، كما يقال، آزيد أقبل: ومعناه: يا زيد. قال ابن الأنباري : وهذا القول خطأ عند جميع النحويين، لأنه إذا أدخل «يا» على« آمين» كان منادى مفردا، فحكم آخره الرفع، فلما أجمعت العرب على فتح نونه، دل على أنه غير منادى، وإنما فتحت نون«آمين» لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما تقول العرب: ليت، ولعل. قال: وفي«آمين» لغتان: «أمين» بالقصر،«وآمين» بالمد، والنون فيهما مفتوحة.انشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي:

سقى اللّه حيا بين صارة والحمى  حمى فيد صوب المدجنات المواطر

أمين وأدى اللّه ركبا إليهم  بخير ووقاهم حمام المقادر

وانشدنا أبو العباس أيضا:

تباعد مني فطحل وابن أمه  أمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا

وانشدنا أبو العباس أيضا:

يا رب لا تسلبني حبها أبدا  ويرحم اللّه عبدا قال آمينا

وأنشدني أبي:

أمين ومن اعطاك مني هوداة  رمى اللّه في أطرافه فاقفعلت

وأنشدني أبي:

فقلت له قد هجت لي بارح الهوى  أصاب حمام الموت أهوننا وجدا

أمين وأضناه الهوى فوق ما به  أمين ولاقى من تباريحه جهد

فصل نقل الأكثرون عن احمد أن الفاتحه شرط في صحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: لا تتعين، وهي رواية عن احمد، ويدل على الرواية الأولى ما روي في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب . واللّه تعالى أعلم بالصواب...أنتهت الفاتحه ويليهها سورة البقرة ..

﴿ ٠