ÓõæÑóÉõ ÇáúÃóäúÝóÇáö ãóÏóäöíøóÉñ æóåöíó ÎóãúÓñ æóÓóÈúÚõæäó ÂíóÉð سورة الأنفال وهي مدنية باجماعهم. وحكى الماوردي عن ابن عباس أن فيها سبع آيات مكيات أولها: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ}. _________________________________ ١ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم بدر: من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن اسر أسيرا فله كذا وكذا، فأما المشيخة، فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم، فانا كنا لكم ردءا، فأبوا، فاختصموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت سورة {ٱلانفَالِ} رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أن سعد بن أبي وقاص أصاب سيفا يوم بدر، فقال: يا رسول اللّه، هبه لي، فنزلت هذه الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه. وفي رواية أخرى عن سعد قال: قتلت سعد بن العاص، وأخذت سيفه، فأتيت به رسول اللّه، فقال: اذهب فاطرحه في القبض، فرجعت، وبي مالا يعلمه إلا اللّه، فما جاوزت إلا قريبا حتى نزلت سورة {ٱلانفَالِ}، فقال: {ٱذْهَبْ فَخُذْ}. وقال السدي: اختصم سعد وناس آخرون في ذلك السيف، فسألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأخذه النبي صلى اللّه عليه وسلم منهم، فنزلت هذه الآية. والثالث: أن الأنفال كانت خالصة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ليس لأحد منها شيء، فسالوه أن يعطيهم منها شيئا، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي المراد بالأنفال ستة أقوال. احدها: أنها الغنائم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، وأبو عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين. وواحد الانفال: نفل، قال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل وباذن اللّه ريثي وعجل والثاني: أنها ما نفله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القاتل من سلب قتيله. والثالث: أنها ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابة بغير قتال، قاله عطاء. وهذا والذي قبله مرويان عن ابن عباس ايضا. والرابع: أنه الخمس الذي أخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الغنائم، قاله مجاهد. والخامس: أنه أنفال السرايا، قاله علي بن صالح بن حي. وحكي عن الحسن قال: هي السرايا التي تتقدم أمام الجيوش. والسادس: أنها زيادات يؤثر بها الإمام بعض الجيش لما يراه من المصلحة، ذكره الماوردي. وفي عن قولان. احدهما: أنها زائدة، والمعنى: يسألونك الأنفال، وكذلك قرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وابو العالية: {يَسْأَلُونَكَ ٱلانفَالِ} بحذف {عَنْ}. والثاني: أنها أصل، والمعنى: يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ أو عن حكم الأنفال؛ وقد ذكرنا في سبب نزولها ما يتعلق بالقولين. وذكر أنهم إنما سألوا عن حكمها لأنها كانت حراما على الأمم قبلهم. فصل واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فقال بعضهم: إنها ناسخة من وجه، منسوخة من وجه، وذلك أن الغنائم كانت حراما في شرائع الأنبياء المتقدمين، فنسخ اللّه ذلك بهذه الآية، وجعل الأمر في الغنائم إلى ما يراه الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ}. وقال آخرون: المراد بالأنفال: شيئان. احدهما: ما يجعله الرسول صلى اللّه عليه وسلم لطائفة من شجعان العسكر ومتقدميه، يستخرج به نصحهم ويحرضهم على القتال. والثاني: ما يفضل من الغنائم بعد قسمتها كما روي عن ابن عمر قال: بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سرية، فغنمنا إبلا، فأصاب كل واحد منا اثنا عشر بعيرا، ونفلنا بعيرا بعيرا؛ فعلى هذا هي محكمة، لأن هذا الحكم باق إلى وقتنا هذا. فصل ويجوز النفل قبل إحراز الغنيمة، وهو أن يقول الإمام: من أصاب شيئا فهو له، وبه قال الجمهور. فأما بعد إحرازها ففيه عن احمد روايتان. وهل يستحق القاتل سلب المقتول إذا لم يشرطه له الإمام؟ فيه قولان. احدهما: يستحقه، وبه قال الأوزاعي، والليث، والشافعي. والثاني: لا يستحقه، ويكون غنيمة للجيش، وبه قال أبو حنيفة، ومالك؛ وعن احمد روايتان كالقولين. قوله تعالى: {قُلِ ٱلانفَالُ للّه وَٱلرَّسُولِ} يحكمان فيها ما أرادا، {فَٱتَّقُواْ ٱللّه} بترك مخالفته {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} قال الزجاج: معنى ذات بينكم: حقيقة وصلكم. والبين: الوصل؛ كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}. ثم في المراد بالكلام قولان. احدهما: أن يرد القوي على الضعيف، قاله عطاء. والثاني: ترك المنازعة تسليما للّه ورسوله. قوله تعالى:{وَأَطِيعُواْ ٱللّه وَرَسُولَهُ} أي: اقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها. ٢ قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللّه} قال الزجاج: إذا ذكرت عظمته وقدرته وما خوف به من عصاه، فزعت قلوبهم، قال الشاعر: لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول يقال: وجِل يَوْجَل وياجَل ويَيْجَل ويِيجَل، هذه أربع لغات حكاها سيبويه. وأجودها: يوجل. وقال السدي: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر اللّه فينزع عنها. قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا} أي: آيات القرآن. وفي قوله: {زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً} ثلاثة أقوال. احدها: تصديقا، قاله ابن عباس. والمعنى: أنهم كلما جاءهم شيء عن اللّه آمنوا به فيزدادوا إيمانا بزيادة الآيات. والثاني: يقينا، قاله الضحاك. والثالث: خشية اللّه، قاله الربيع بن أنس. وقد ذكرنا معنى التوكل في {ءالَ عِمْرَانَ}. ٣ قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ} قال ابن عباس: يعني: الصلوات الخمس. {وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ} يعني: الزكاة. ٤ قوله تعالى: {أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} قال الزجاج: {حَقّاً} منصوب بمعنى دلت عليه الجملة، والجملة: {أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ} فالمعنى: أحق ذلك حقا. وقال مقاتل: المعنى: أولئك هم المؤمنون لا شك في إيمانهم كشك المنافقين. قوله تعالى: {لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبّهِمْ} قال عطاء: درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم، والرزق الكريم: ما أعد لهم فيها. ٥ انظر تفسير الآية:٦ ٦ قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} في متعلق هذه الكاف خمسة أقوال. احدها: أنها متعلقة بالأنفال. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال. احدها: أن تأويله: امض لأمر اللّه في الغنائم وإن كرهوا، كما مضيت في خروجك من بيتك وهم كارهون، قاله الفراء. والثاني: أن الانفال للّه والرسول صلى اللّه عليه وسلم بالحق الواجب، كما أخرجك ربك بالحق، وإن كرهوا ذلك، قاله الزجاج. والثالث: أن المعنى: يسألوك عن الأنفال مجادلة، كما جادلوك في خروجك، حكاه جماعة من المفسرين. والثاني: أنها متعلقة بقوله: {فَٱتَّقُواْ ٱللّه وَأَصْلِحُواْ}، والمعنى: إن التقوى والاصلاح خير لكم، كما كان إخراج اللّه نبيه محمدا خير لكم وإن كرهه بعضكم، هذا قول عكرمة. والثالث: أنها متعلقة بقوله: {يُجَـٰدِلُونَكَ} فالمعنى: مجادلتهم إياك في الغنائم كاخراج اللّه إياك إلى بدر وهم كارهون، قاله الكسائي. والرابع: أنها متعلقة بقوله: {أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ} والمعنى: وهم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، ذكره بعض ناقلي التفسير. والخامس: أن {كَمَا} في موضع قسم، معناها: والذي أخرجك من بيتك، قاله أبو عبيدة، واحتج بأن {مَا} في موضع {ٱلَّذِى} ومنه قوله: {وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلاْنثَىٰ} قال ابن الانباري: وفي هذا القول بُعد، لأن الكاف ليست من حروف الاقسام. وفي هذا الخروج قولان. احدهما: أنه خروجه إلى بدر، وكره ذلك طائفة من أصحابه، لأنهم علموا أنهم لا يظفرون بالغنيمة إلا بالقتال. والثاني: أنه خروجه من مكة إلى المدينة للّهجرة. وفي معنى قوله: {بِٱلْحَقّ} قولان. احدهما: أنك خرجت ومعك الحق. والثاني: أنك خرجت بالحق الذي وجب عليك. وفي قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَـِّرِهُونَ} قولان. احدهما: كارهون خروجك. والثاني: كارهون صرف الغنيمة عنهم، وهذه كراهة الطبع لمشقة السفر والقتال، وليست كراهة لأمر اللّه تعالى. قوله تعالى: {يُجَـٰدِلُونَكَ فِي ٱلْحَقّ} يعني:في القتال يوم بدر، لأنهم خرجوا بغير عُدة، فقالوا: هلا أخبرتنا بالقتال لنأخذ العُدة، فجادلوه طلبا للرخصة في ترك القتال. وفي قوله {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} ثلاثة أقوال. احدها: تبين لهم فرضه. والثاني: تبين لهم صوابه. والثالث: تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرت به، وفي المجادلين قولان. احدهما: أنهم طائفة من المسلمين، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنهم المشركون، قاله ابن زيد. فعلى هذا، يكون جدالهم في الحق الذي هو التوحيد، لا في القتال. فعلى الأول، يكون معنى قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ} أي: في لقاء العدو {وَهُمْ يَنظُرُونَ}، لأن أشد حال من يساق إلى الموت أن يكون ناظرا إليه، وعالما به. وعلى قول ابن زيد: كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهتهم إياه. ٧ انظر تفسير الآية:٨ ٨ قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللّه إِحْدَى ٱلطَّائِفَتَيْنِ} قال أهل التفسير: أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش، حتى إذا دنا من بدر، نزل جبريل فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فخرج في جماعة من اصحابه يريدهم، فبلغهم ذلك فبعثوا عمرو ابن ضمضم الغفاري إلى مكة مستغيثا، فخرجت قريش للمنع عنها، ولحق أبو سفيان بساحل البحر، ففات رسول اللّه، ونزل جبريل بهذه الآية: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللّه} والمعنى: اذكروا إذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين. والطائفتان: أبو سفيان وما معه من المال، وأبو جهل ومن معه من قريش؛ فلما سبق أبو سفيان بما معه كتب إلى قريش: إن كنتم خرجتم لتحرزوا ركائبكم، فقد أحرزتها لكم. فقال أبو جهل: واللّه لا نرجع. وسار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد القوم، فكره أصحابه ذلك وودوا أن لو نالوا الطائفة التي فيها الغنيمة دون القتال؛ فذلك قوله {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ} أي: ذات السلاح. يقال: فلان شاكي السلاح، بالتخفيف، وشاكٌّ في السلاح؛ بالتشديد، وشائك. قال أبو عبيدة: ومجاز الشوكة: الحد؛ يقال: ما أشد شوكة بني فلان، أي: حدهم. وقال الأخفش: إنما أنث {ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ} لأنه يعني الطائفة. قوله تعالى: {وَيُرِيدُ ٱللّه أَن يُحِقَّ الحَقَّ} في المراد بالحق قولان. احدهما: أنه الإسلام، قاله ابن عباس في آخرين. والثاني: أنه القرآن، والمعنى: يحق ما أنزل إليك من القرآن. قوله تعالى: {بِكَلِمَـٰتِهِ} أي: بِعداتِه التي سبقت من إعزاز الدين، كقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ}. قوله تعالى: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَـٰفِرِينَ} أي: يجتث أصلهم؛ وقد بينا ذلك في {ٱلاْنْعَـٰمِ}. قوله تعالى: {لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ} المعنى: ويريد أن يقطع دابر الكافرين كيما يحق الحق. وفي هذا الحق القولان المتقدمان. فأما الباطل، فهو الشرك؛ والمجرمون هاهنا: المشركون. ٩ انظر تفسير الآية:١٠ ١٠ قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} سبب نزولها: ما روى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: لما كان يوم بدر، نظر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين وهم ألف وزيادة، فاستقبل القبلة، ثم مد يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: اللّهم أنجز ما وعدتني، اللّهم أنجز ما وعدتني اللّهم إنك إن تُهْلِكْ هذه العصابة لا تُعبدْ في الأرض أبدا فما زال يستغيث ربه ويدعوه، حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر الصديق فأخذ رداءه فردّاه به، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي اللّه كذاك مناشدتك ربك، فانه سينجز لك ما وعدك؛ وأنزل اللّه تعالى هذه الآية. قوله تعالى: {إِذْ} قال ابن جرير: هي من صلة {يبطل}. وفي قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} قولان. احدهما: تستنصرون. والثاني: تستجيرون. والفرق بينهما أن المستنصر يطلب الظفر، والمستجير يطلب الخلاص. وفي المستغيثين قولان. احدهما: أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون، قاله الزهري. والثاني: أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قاله السدي. فأما الإمداد فقد سبق في {ءالَ عِمْرَانَ}. وقوله: {بِأَلْفٍ} قرأ الضحاك، وابو رجاء: ب{ءالافٍ} بهمزة ممدودة وبألف على الجمع. وقرأ أبوالعالية، وأبو المتوكل: ب{أُلُوفٌ} برفع الهمزة واللام وبواو بعدها على الجمع. وقرأ ابن حذلم، والجحدري، {بِأَلْفٍ} بضم الألف واللام من غير واو ولا ألف، وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران: {بَيْلف} بياء مفتوحة وسكون اللام من غير واو ولا ألف، فأما قوله: {ٱلْمَلَـئِكَةِ مُرْدِفِينَ} فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {مُرْدِفِينَ} بكسر الدال. قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، والفراء: هم المتتابعون. وقال أبو علي: يحتمل وجهين. احدهما: أن يكونوا مردفين مثلهم، تقول: أردفت زيدا دابتي؛ فيكون المفعول الثاني محذوفا في الآية. والثاني:أن يكونوا جاؤوا بعدهم؛ تقول العرب: بنو فلان مردوفونا، أي: هم يجيؤون بعدنا. قال أبو عبيدة: مردفين: جاؤوا بعدُ. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: {مُرْدِفِينَ} بفتح الدال. قال الفراء: أراد: فُعِلَ ذلك بهم، أي: إن اللّه أردف المسلمين بهم. وقرأ معاذ القارىء، وأبو المتوكل الناجي، وأبو مجلز: {مُرْدِفِينَ} بفتح الراء والدال مع التشديد. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران {مُرْدِفِينَ} برفع الراء وكسر الدال. وقال الزجاج: يقال: ردفت الرجل: إذا ركبت خلفه، وأردفته: إذا أركبته خلفي. ويقال: هذه دابة لا تُرادِف. ولا يقال: لا تُردِف. ويقال: أردفت الرجل: إذا جئت بعده. فمعنى {مُرْدِفِينَ} يأتون فرقة بعد فرقة. ويجوز في اللغة مَردِّفين ومُرُدِّفين ومُرِدِّفين، فالدال مكسورة مشددة على كل حال، والراء يجوز فيها الفتح والضم والكسر. قال سيبويه: الأصل مرتدفين، فأدغمت التاء في الدال فصارت مُرَدِّفين لأنك طرحت حركة التاء على الراء؛ وإن شئت لم تطرح حركة التاء، وكسرت الراء لالتقاء الساكنين. والذين ضموا الراء، جعلوها تابعة لضمة الميم. وقد سبق في {ءالَ عِمْرَانَ} تفسير قوله: {وَمَا جَعَلَهُ ٱللّه إِلاَّ بُشْرَىٰ} وكان مجاهد يقول: ما أمد اللّه النبي صلى اللّه عليه وسلم بأكثر من هذه الألف التي ذكرت في {ٱلانفَالِ}، وما ذكر الثلاثة والخمسة إلا بشرى، ولم يمدوا بها؛ والجمهور على خلافه، وقد ذكرنا اختلافهم في عدد الملائكة في {ءالَ عِمْرَانَ}. ١١ قوله تعالى: {إِذْ يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ} قال الزجاج: {إِذْ} موضعها نصب على معنى: وما جعله اللّه إلا بشرى، في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون المعنى: اذكروا إذ يغشاكم النعاس. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {إِذْ} بفتح الياء وجزم الغين وفتح الشين وألف {يُغَشّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ} بالرفع. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {يُغَشّيكُمُ} بضم الياء وفتح الغين مشددة الشين مكسورة {ٱلنُّعَاسَ} بالنصب. وقرأ نافع: {يُغَشّيكُمُ} بضم الياء وجزم الغين وكسر الشين {ٱلنُّعَاسَ} بالنصب. وقال أبو سليمان الدمشقي: الكلام راجع على قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} إذ يغشاكم النعاس. قال الزجاج: وأمنةَ منصوب: مفعول له، كقولك: فعلت ذلك حذر الشر. يقال: أمنتُ آمَنُ أمْناً وأمانا وأمَنَةً. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو المتوكل، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن محيصن: {أَمَنَةً مّنْهُ} بسكون الميم. قوله تعالى: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن ٱلسَّمَاء مَاء} قال ابن عباس: نزل النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم بدر، وبينه وبين الماء رملة، وغلبهم المشركون على الماء، فأصاب المسلمين الظمأُ، وجعلوا يصلون محدِثين، وألقى الشيطان في قلوبهم الوسوسة، يقول: تزعمون أنكم أولياء اللّه وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون محدثين، فأنزل اللّه عليهم مطرا، فشربوا وتطهروا، واشتد الرمل حين اصابه المطر، وأزال اللّه رجز الشيطان، وهو وسواسه، حيث قال: قد غلبكم المشركون على الماء. وقال ابن زيد: رجز الشيطان: كيده، حيث أوقع في قلوبهم أنه ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة. وقال ابن الانباري: ساءهم عدم الماء عند فقرهم إليه، فأرسل اللّه السماء، فزالت وسوسة الشيطان التي تُكسب عذابَ اللّه وغضبه، إذ الرجز: العذاب. قوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ} الربط: الشد. و{عَلَىٰ} في قول بعضهم صلة، فالمعنى: وليربط قلوبكم. وفي الذي ربط به قلوبهم وقوّاها ثلاثة اقوال. احدها:أنه الصبر، قاله ابو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه الإيمان، قاله مقاتل. والثالث: أنه المطر الذي أرسله يثبِت به قلوبهم بعد اضطرابها بالوسوسة التي تقدم ذكرها. قوله تعالى: {وَيُثَبّتَ بِهِ ٱلاْقْدَامَ} في هاء به قولان. احدهما: أنها ترجع إلى الماء؛ فان الأرض كانت رملة، فاشتدت بالمطر، وثبتت عليها الأقدام، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي في آخرين. والثاني: انها ترجع إلى الربط، فالمعنى: ويثبت بالربط الأقدام، ذكره الزجاج. ١٢ انظر تفسير الآية:١٤ ١٣ انظر تفسير الآية:١٤ ١٤ قوله تعالى: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ} قال الزجاج: {إِذْ} في موضع نصب، والمعنى: وليربط إذ يوحي. ويجوز أن يكون المعنى: واذكروا إذ يوحي. قال ابن عباس: وهذا الوحي: إلهام. قوله تعالى: {إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ} وهم الذين أمد بهم المسلمين. {إِنّى مَعَكُمْ} بالعون والنصرة. {فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} فيه أربعة اقوال. احدها: قاتلوا معهم، قاله الحسن. والثاني: بشروهم بالنصر، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل، ويقول: أبشروا فان اللّه ناصركم، قاله مقاتل. والثالث: ثبِّتوهم بأشياء تُلْقُونها في قلوبهم تقوى بها. ذكره الزجاج. والرابع: صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد، ذكره الثعلبي. فأما الرعب: فهو الخوف. قال السائب بن يسار: كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السوائي عن الرعب الذي ألقاه اللّه في قلوب المشركين كيف؟ كان يأخذ الحصى فيرمي به الطست فيطن، فيقول: كنا نجد في أجوافنا مثل هذا. قوله تعالى: {فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ} في المخاطب بهذا قولان. احدهما: أنهم الملائكة، قال ابن الانباري: لم تعلم الملائكة أين تقصد بالضرب من الناس، فعلمهم اللّه تعالى ذلك. والثاني: أنهم المؤمنون، ذكره جماعة من المفسرين. وفي معنى الكلام قولان. احدهما: فاضربوا الأعناق، {وَفَوْقَ} صلة، وهذا قول عطية، والضحاك، والأخفش، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: {فَوْقَ} بمعنى {عَلَىٰ} تقول: ضربته فوق الرأس، وضربته على الرأس. والثاني: اضربوا الرؤوس لانها فوق الأعناق،وبه قال عكرمة. وفي المراد بالبنان ثلاثة أقوا. احدها: إنه الأطراف، قاله ابن عباس، والضحاك. وقال الفراء: علمهم مواضع الضرب، فقال: اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل. وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة: البنان أطراف الأصابع. قال ابن الانباري: واكتفى بهذا من جملة اليد والرجل. والثاني: أنه كل مفصل، قاله عطية، والسدي. والثالث: أنه الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء، والمعنى: أنه أباحهم قتلهم بكل نوع، هذا قول الزجاج. قال: واشتقاق البنان من قولهم: أبَنَّ بالمكان: إذا أقام به؛ فالبنان به يُعتمل كل ما يكون للاقامة والحياة. قوله تعالى: {ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ٱللّه} {ذٰلِكَ} إشارة إلى الضرب، {وَشَاقُّواْ} بمعنى: جانبوا، فصاروا في شِقٍ غيرِ شقِ المؤمنين. قوله تعالى: {ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ} خطاب للمشركين؛ والمعنى: ذوقوا هذا في عاجل الدنيا. وفي فتح أن قولان. احدهما: باضمار فعل، تقديره: ذلكم فذوقوه واعلموا أن للكافرين. والثاني: أن يكون المعنى: ذلك بأن للكافرين عذاب النار. فاذا ألقيت الباء، نصبت. وإن شئت، جعلت {ءانٍ} في موضع رفع، يريد: ذلكم فذوقوه، وذلكم أن للكافرين عذاب النار، هذا معنى قول الفراء. ١٥ انظر تفسير الآية:١٦ ١٦ قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً} الزحف: جماعة يزحفون إلى عدوهم؛ قاله الليث. والتزاحف: التداني والتقارب، قال الأعشى: لمن الظعائن سيرهن تزحف قال الزجاج: ومعنى الكلام: إذا واقفتموهم للقتال فلا تدبروا {وَمَن يُوَلّهِمْ} يوم حربهم {دُبُرَهُ} إلا أن يتحرف ليقاتل، أو يتحيز إلى فئة، ف {مُتَحَرّفاً} و {مُتَحَيّزاً} منصوبان على الحال. ويجوز أن يكون نصبهما على الاستثناء؛ فيكون المعنى: إلا رجلا متحرفا أو متحيزا. وأصل متحيز: مُتْحَيْوِز؛ فأدغمت الياء في الواو. قوله تعالى: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي: مرجعه إليها؛ ولا يدل ذلك على التخليد. فصل اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هذه خاصة في أهل بدر، وهو مروي عن ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، والحسن، وابن جبير، وقتادة، والضحاك. وقال آخرون: هي على عمومها في كل منهزم؛ وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. وقال آخرون: هي على عمومها، غير أنها نسخت بقوله: {فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} فليس للمسلمين أن يفروا من مِثْلَيهم، وبه قال عطاء بن أبي رباح. وروى أبو طالب عن احمد أنه سئل عن الفراء من الزحف، فقال: لا يفر رجل من رجلين؛ فان كانوا ثلاثة، فلا بأس. وقد نقل نحو هذا عن ابن عباس. وقال محمد بن الحسن: إذا بلغ الجيش اثني عشر ألفا، فليس لهم أن يفروا من عدوهم، وإن كثر عددهم. ونقل نحو هذا عن مالك؛ ووجهه ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: {مَا} إذا صبروا وصدقوا. ١٧ انظر تفسير الآية:١٨ ١٨ قوله تعالى: {فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ ٱللّه وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللّه قَتَلَهُمْ} وقرأ ابن عامر، وأهل الكوفة إلا عاصما {وَلَـٰكِنَّ ٱللّه قَتَلَهُمْ} {وَلَـٰكِنَّ ٱللّه رَمَىٰ} بتخفيف النون ورفع اسم اللّه فيهما. وسبب نزول هذا الكلام أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رجعوا عن بدر جعلوا يقولون: قتلنا وقتلنا، هذا معنى قول مجاهد. فأما قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} ففي سبب نزوله ثلاثة أقوال. احدها: {ءانٍ ٱلنَّبِىّ صَلَّىٰ ٱللّه عَلَيْهِ وَسَلَـٰمٌ قَالَ لَّعَـلّى}، وقيل: أخذ قبضة من تراب، فرمى بها، وقال: {يَشْوِى ٱلْوجُوهَ}؛ فما بقي مشرك إلا شغل بعينه يعالج التراب الذي فيها، فنزلت: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللّه رَمَىٰ} وذلك يوم بدر؛ هذا قول الأكثرين. وقال ابن الانباري: وتأويل شاهت: قبحت، يقال: شاه وجهه يشوه شوها وشُوهة، ويقال: رجل أشوه، وامرأة شوهاء: إذا كانا قبيحين. والثاني: أن أبي بن خلف أقبل يوم أحد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يريده، فاعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخلوا سبيله، وطعنه النبي صلى اللّه عليه وسلم بحرتبه، فسقط أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور، فقالوا: إنما هو خدش، فقال: والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل المجاز لماتوا أجمعون، فمات قبل أن يقدم مكة؛ فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن المسيب عن أبيه. والثالث: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رمى يوم خيبر بسهم، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه، فنزلت هذه الآية، ذكره أبو سليمان الدمشقي في آخرين. قوله تعالى: {وَلَـٰكِنَّ ٱللّه قَتَلَهُمْ} اختلفوا في معنى إضافة قتلهم إليه على أربعة اقوال. احدها: أنه قتلهم بالملائكة الذين أرسلهم. والثاني: أنه أضاف القتل إليه لأنه تولى نصرهم. والثالث: لأنه ساقهم إلى المؤمنين وأمكنهم منهم. والرابع: لأنه ألقى الرعب في قلوبهم. وفي قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} ثلاثة اقوال. احدها: أن المعنى: وما ظفرت أنت ولا أصبت، ولكن اللّه اظفرك وايدك، قاله أبو عبيدة. والثاني: وما بلغ رميك كفا من تراب أو حصى أن تملأ عيون ذلك الجيش الكثير، إنما اللّه تولى ذلك، قاله الزجاج. والثالث: وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب، ذكره ابن الانباري. قوله تعالى: {وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا} أي: لينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والأجر. {إِنَّ ٱللّه سَمِيعٌ} لدعائهم {عَلِيمٌ} بنياتهم. قوله تعالى: {ذٰلِكُمْ} قال الزجاج: موضعه رفع؛ والمعنى: الأمر ذلكم. وقال غيره: ذلكم إشارة إلى القتل والرمي والبلاء الحسن. {وَأَنَّ ٱللّه} أي: واعلموا أن اللّه. والذي ذكرناه في فتح {ءانٍ} في قوله: {وَأَنَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ} هو مذكور في فتح {ءانٍ} هذه. قوله تعالى: {مُوهِنُ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمر: {مُوهِنُ} بفتح الواو وتشديد الهاء منونة {كَيْدَ} بالنصب. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {مُوهِنُ} ساكنة الواو {كَيْدَ} بالنصب. وروى حفص عن عاصم: {مُوهِنُ كَيْدِ} مضاف. والموهن: المضعف، والكيد: المكر. ١٩ انظر تفسير الآية:٢٠ ٢٠ قوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} في سبب نزولها خمسة أقوال. احدها: أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استنصروا اللّه وسألوه الفتح، فنزلت هذه الآية؛ وهذا المعنى مروي عن أبي بن كعب، وعطاء الخراساني. والثاني: أن أبا جهل قال: اللّهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن المشركين أخذوا بأستار الكعبة قبل خروجهم إلى بدر، فقالوا: اللّهم انصر أعلى الجندين وأكرم القبيلتين؛ فنزلت هذه الآية، قاله السدي. والرابع: أن المشركين قالوا: اللّهم إنا لا نعرف ما جاء به محمد، فافتح بيننا وبينه بالحق؛ فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. والخامس: أنهم قالوا بمكة: {ٱللّهمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ ٱلسَّمَاء}، الآية فعذبوا يوم بدر، قاله ابن زيد. فخرج من هذه الأقوال أن في المخاطبين بقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} قولان. احدهما: أنهم المؤمنون. والثاني: المشركون؛ وهو الأشهر. وفي الاستفتاح قولان. احدهما: انه الاستنصار، قاله ابن عباس، والزجاج في آخرين. فان قلنا: إنهم المسلمون، كان المعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر بالملائكة؛ وإن قلنا: إنهم المشركون؛ احتمل وجهين. احدهما: إن تستنصروا فقد جاء النصر عليكم. والثاني: إن تستنصروا لأحب الفريقين إلى اللّه، فقد جاء النصر لأحب الفريقين. والثاني: أن الاستفتاح: طلب الحكم، والمعنى: إن تسألوا الحكم بينكم وبين المسلمين، فقد جاءكم الحكم؛ وإلى هذا المعنى ذهب عكرمة، ومجاهد، وقتادة. فأما قوله: {وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فهو خطاب للمشركين على قول الجماعة. وفي معناه قولان. احدهما: إن تنتهوا عن قتال محمد صلى اللّه عليه وسلم والكفر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: إن تنتهوا عن استفتاحكم، فهو خير لكم، لأنه كان عليهم، لا لهم، ذكره الماوردي. وفي قوله: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} قولان. احدهما: وإن تعودوا إلى القتال، نعد إلى هزيمتكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وإن تعودوا إلى الاستفتاح، نعد إلى الفتح لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله السدي. قوله تعالى: {وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً} أي: جماعتكم وإن كثرت، {وَأَنَّ ٱللّه مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} بالعون والنصر. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: {وَأَنَّ ٱللّه} بكسر الألف. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: {وَأَنْ} بفتح الألف. فمن قرأ بكسر {ءانٍ} استأنف. قال الفراء: وهو أحب إلي من فتْحِها. ومن فتَحَها أراد: ولأن اللّه مع المؤمنين. قوله تعالى: {وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} فيه قولان. احدهما: لا تولوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والثاني: لا تولوا عن أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} ما نزل من القرآن، روي القولان عن ابن عباس. ٢١ انظر تفسير الآية:٢٢ ٢٢ قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال. احدها: أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصي، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في اليهود قريظة والنضير، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: في المنافقين، قاله ابن إسحاق، والواقدي، ومقاتل. وفي معنى الكلام قولان. احدهما: أنهم قالوا: سمعنا، ولم يتفكروا فيما سمعوا، فكانوا كمن لم يسمع، قاله الزجاج. والثاني: أنهم قالوا: سمعنا، سماع من يقبل، وليسوا كذلك، حكي عن مقاتل. قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللّه ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ} اختلفوا فيمن نزلت على قولين. احدهما: أنها نزلت في بني عبد الدار بن قصي، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في المنافقين، قاله ابن إسحاق، والواقدي. والدواب: اسم كل حيوان يَدِبُّ وقد بينا في سورة {البقرة} معنى الصم والبكم، ولم سماهم بذلك. ٢٣ قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ ٱللّه فِيهِمْ خَيْرًا} فيه أربعة أقوال. احدها: ولو علم فيهم صدقا وإسلاما. والثاني: لو علم فيهم خيرا في سابق القضاء. والثالث: لو علم أنهم يصلحون. والرابع: لو علم أنهم يصغون. وفي قوله: {لاسْمَعَهُمْ} ثلاثة اقوال. احدها: لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه، قاله الزجاج. والثاني: لرزقهم الفهم، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: لأسمعهم كلام الموتى يشهدون بنبوتك، حكاه الماوردي. وفي قوله: {وَهُم مُّعْرِضُونَ} قولان. احدهما: مكذبون، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وهم معرضون عما أسمعهم لمعاندتهم، قاله الزجاج. ٢٤ قوله تعالى: {ٱسْتَجِيبُواْ} أي: أجيبوا. قوله تعالى: {إِذَا دَعَاكُمْ} يعني: الرسول {لِمَا يُحْيِيكُمْ} وفيه ستة أقوال. احدها: أن الذي يحييكم كل ما يدعو الرسول إليه، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس. وفي أفراد البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول اللّه، إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل اللّه: {ٱسْتَجِيبُواْ للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قلت: بلى، ولا أعود إن شاء اللّه. والثاني: أنه الحق، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث: أنه الإيمان، رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال السدي. والرابع: أنه اتباع القرآن، قاله قتادة، وابن زيد. والخامس: أنه الجهاد، قاله ابن إسحاق. وقال ابن قتيبة: هو الجهاد الذي يحيي دينهم ويعليهم. والسادس: أنه إحياء أمورهم، قاله الفراء. فيخرج في إحيائهم خمسة اقوال. احدها: أنه إصلاح أمورهم في الدنيا والآخرة. والثاني: بقاء الذكر الجميل لهم في الدنيا، وحياة الأبد في الآخرة. والثالث: أنه دوام نعيمهم في الآخرة. والرابع: أنه كونهم مؤمنين، لأن الكافر كالميت. والخامس: أنه يحييهم بعد موتهم، وهو على قول من قال هو الجهاد، لأن الشهداء أحياء، ولأن الجهاد يعزهم بعد ذلهم، فكأنهم صاروا به أحياء. قوله تعالى: {وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللّه يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ} وفيه عشرة أقوال. احدها: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: يحول بين المؤمن وبين معصيته، وبين الكافر وبين طاعته، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء. والثالث: يحول بين المرء وقلبه حتى لا يتركه يعقل، قاله مجاهد. قال ابن الانباري: المعنى: يحول بين المرء وعقله، فبادروا الأعمال، فانكم لاتأمنون زوال العقول، فتحصلون على ما قدمتم. والرابع: أن المعنى: هو قريب من المرء، لا يخفى عليه شيء من سره، كقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ} {٥٠،١٦} وهذا معنى قول قتادة. والخامس: يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع إيمانا ولا كفرا إلا بإذنه، قاله السدي. والسادس: يحول بين المرء وبين هواه، ذكره ابن قتيبة. والسابع: يحول بين المرء وبين ما يتمنى بقلبه من طول العمر والنصر وغيره. والثامن: يحول بين المر وقلبه بالموت، فبادروا الأعمال قبل وقوعه. والتاسع: يحول بين المرء وقلبه بعلمه، فلا يضمر العبد شيئا في نفسه إلا واللّه عالم به، لا يقدر على تغييبه عنه. والعاشر: يحول بين ما يوقعه في قلبه من خوف أو أمن، فيأمن بعد خوفه، ويخاف بعد أمنه، ذكر معنى هذه الأقوال ابن الانباري. وحكى الزجاج: أنهم لما فكروا في كثرة عدوهم وقلة عددهم، فدخل الخوف قلوبهم، أعلمه اللّه تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدله بالخوفِ الأمنَ، ويبدل عدوَّةُ بالقوةِ الضعفَ، وقد أعلمت هذه الآية أن اللّه تعالى هو المقلِبُ للقلوب، المتصرف فيها. قوله تعالى: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: للجزاء على أعمالكم. ٢٥ قوله تعالى: {وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً} اختلفوا فيمن نزلت على أربعة اقوال. احدها: أنها نزلت في أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة، قاله ابن عباس، والضحاك. وقال الزبير بن العوام: لقد قرأناها زمانا، وما نرى أنا من أهلها، فاذا نحن المعنيون بها. والثاني: أنها نزلت في رجلين من قريش، قاله أبو صالح عن ابن عباس، ولم يسمهما. والثالث: أنها عامة، قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: في هذه الآية أمر اللّه المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم اللّه بالعذاب. وقال مجاهد: هذه الآية لكم أيضا. والرابع: أنها نزلت في علي، وعمار، وطلحة، والزبير، قاله الحسن. وقال السدي: نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل. وفي الفتنة هاهنا سبعة أقوال. احدها: القتال. والثاني: الضلالة. والثالث: السكوت عن إنكار المنكر. والرابع: الاختبار. والخامس: الفتنة بالأموال والأولاد. والسادس: البلاء. والسابع: ظهور البدع. فأما قوله: {لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} فقال الفراء: أمرهم، ثم نهاهم، وفيه طرف من الجزاء. وإن كان نهيا، كقوله: {يأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ} أمرهم، ثم نهاهم؛ وفيه تأويل الجزاء. وقال الأخفش: {لاَّ تُصِيبَنَّ} ليس بجواب، وإنما هو نهي بعد نهي؛ ولو كان جوابا ما دخلت النون. وذكر ابن الانباري فيها قولين. احدهما: أن الكلام تأويله تأويل الخبر، إذ كان المعنى: إن لا يتقوها، تُصِبِ الذين ظلموا، أي: وغيرهم، أي: لا تقع بالظالمين دون غيرهم، لكنها تقع بالصالحين والطالحين؛ فلما ظهر الفعل ظهور النهي، والنهي راجع إلى معنى الأمر، إذ القائل يقول: لا تقم، يريد: دع القيام، ووقع مع هذا جوابا للأمر، أو كالجواب له، فأكد له شبه النهي، فدخلت النون المعروف دخولها في النهي وما يضارعه. والثاني: أنها نهي محض، معناه: لا يقصدنَّ الظالمون هذه الفتنة، فيهلكوا؛ فدخلت النون لتوكيد الاستقبال، كقوله: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} وللمفسرين في معنى الكلام قولان. احدهما: لا تصيبن الفتنة الذين ظلموا. والثاني:لا يصيبن عقاب الفتنة. فان قيل: فما ذنب من لم يظلم؟ فالجواب: أنه بموافقته للأشرار، أو بسكوته عن الإنكار، أو بتركه للفرار، استحق العقوبة. وقد قرأ علي، وابن مسعود، وأبي بن كعب: {يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ} بغير ألف. ٢٦ قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} قال ابن عباس: نزلت في المهاجرين خاصة، كانت عدتهم قليلة، وهم مقهورون في أرض مكة، يخافون أن يستلبهم المشركون. وفي المراد بالناس ثلاثة أقوال. احدها: أنهم أهل مكة، قاله ابن عباس. والثاني: فارس والروم، قاله وهب بن منبه. والثالث: أنهم المشركون الذين حضروا بدرا، والمسلمون قليلون يومئذ، قاله قتادة. قوله تعالى: {فَآوَاكُمْ} فيه قولان. احدهما: فآواكم إلى المدينة بالهجرة، قاله ابن عباس والأكثرون. والثاني: جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين، ذكره الماوردي. وفي قوله: {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} قولان. احدهما: قواكم بالملائكة يوم بدر، قاله الجمهور. والثاني: عضدكم بنصره في بدر وغيرها، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي قوله: {وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ} قولان. احدهما: أنها الغنائم التي أحلها لهم، قاله السدي. والثاني: أنها الخيرات التي مكنهم منها،ذكره الماوردي. ٢٧ قوله تعالى: {لاَ تَخُونُواْ ٱللّه وَٱلرَّسُولَ} اختلفوا فيمن نزلت على أربعة اقوال. احدها: أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، وذاك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما حاصر قريظة سألوه أن يصالحهم على ما صالح عليه بني النضير، على أن يسيروا إلى أرض الشام، فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا، وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحا لهم، لأن ولده وأهله كانوا عندهم، فبعثه إليهم، فقالوا: ما ترى، أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: إنه الذبح فلا تفعلوا، فأطاعوه، فكانت تلك خيانته؛ قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت اللّه ورسوله، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، والأكثرين. وروي أن أبا لبابة ربط نفسه بعد نزول هذه الآية إلى سارية من سواري المسجد، وقال: واللّه لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أويتوب اللّه علي، فمكث سبعة أيام كذلك، ثم تاب اللّه عليه، فقال: واللّه لا أَحُلُ نفسي حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يَحُلني، فجاء فحله بيده، فقال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {فَلاِمّهِ ٱلثُّلُثُ}. والثاني: أن جبريل أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فقال النبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه: {أَخْرِجُواْ إِلَيْهِ} فكتب إليه رجل من المنافقين: إن محمدا يريدكم، فخذوا حذركم، فنزلت هذه الآية، قاله جابر بن عبد اللّه. والثالث: أنها نزلت في قتل عثمان بن عفان، قاله المغيرة بن شعبة. والرابع: أن قوما كانوا يسمعون الحديث من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيفشونه حتى يبلغ المشركين، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. وفي خيانة اللّه قولان. احدهما: ترك فرائضه. والثاني: معصية رسوله. وفي خيانة الرسول قولان. احدهما: مخالفته في السر بعد طاعته في الظاهر. والثاني: ترك سنته. وفي المراد بالأمانات ثلاثة أقوال. احدها: أنها الفرائض، قاله ابن عباس.وفي خيانتها قولان. احدهما: تنقيصها. والثاني: تركها. والثاني: أنها الدين، قاله ابن زيد. فيكون المعنى: لا تظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر. والثالث: أنها عامة في خيانة كل مؤتمن، ويؤكده نزولها في ما جرى لأبي لبابة. ٢٨ انظر تفسير الآية:٢٩ ٢٩ قوله تعالى: {تَعْلَمُونَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ} قال ابن عباس: هذا خطاب لأبي لبابة، لأنه كانت له أموال وأولاد عند بني قريظة. فأما الفتنة، فالمراد بها: الابتلاء والامتحان الذي يظهر ما في النفس من اتباع الهوى أو تجنبه {وَأَنَّ ٱللّه عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} خير من الأموال والأولاد. قوله تعالى: {إَن تَتَّقُواْ ٱللّه} أي: بترك معصيته، واجتناب الخيانة للّه ورسوله. قوله تعالى: {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} فيه أربعة أقوال. احدها: أنه المخرج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وابن قتيبة. والمعنى: يجعل لكم مخرجا في الدين من الضلال. والثاني: أنه النجاة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي. والثالث: أنه النصر، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الفراء. والرابع: أنه هدى في قلوبهم يفرقون به بين الحق والباطل، قاله ابن زيد، وابن إسحاق. ٣٠ قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} هذه الآية متعلقة بقوله: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} فالمعنى: أَذْكِرِ المؤمنين ما مَنَّ اللّه به عليهم، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا. الإشارة إلى كيفية مكرهم قال أهل التفسير: لما بويع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة، اشفقت قريش أن يعلو أمره، وقالوا: واللّه لكأنكم به قد كر عليكم بالرجال، فاجتمع جماعة من أشرافهم ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من أهل نجد، سمعت ما اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا من رأيي نصحا، فقالوا: ادخل، فدخل معهم، فقالوا: انظروا في أمر هذا الرجل، فقال بعضهم: احبسوه في وثاق، وتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: ما هذا برأي، يوشك أن يثب أصحابه فيأخذوه من أيديكم. فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم. فقال: ما هذا برأي، يوشك أن يجمع عليكم ثم يسير إليكم. فقال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة غلاما، ثم نعطي كل غلام سيفا فيضربوه به ضربة رجل واحد، فيفرق دمه في القبائل، فما أظن هذا الحي من قريش يقوى على ضرب قريش كلها، فيقبلون العقل ونستريح. فقال إبليس: هذا واللّه الرأي، فتفرقوا عن ذلك. وأتى جبريل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت في مضجعه تلك الليلة، وأمر عليا فبات في مكانه، وبات المشركون يحرسونه، فلما أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أذن له اللّه في الخروج إلى المدينة، وجاء المشركون لما أصبحوا، فرأوا عليا، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره حتى بلغوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم يكن عليه نسج العنكبوت. فأما قوله: {لِيُثْبِتُوكَ} فقال ابن قتيبة: معناه: ليحبسوك. يقال فلان مثبت وجعا: إذا لم يقدر على الحركة. وللمفسرين فيه قولان. احدهما: ليثبتوك في الوثاق، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين. والثاني: ليثبتوك في الحبس، قاله عطاء، والسدي في آخرين.وكان القوم أرادوا أن يحبسوه في بيت ويشدوا عليه بابه ويلقوا إليه الطعام والشراب، وقد سبق بيان المكر في {ءالَ عِمْرَانَ}. ٣١ قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُنَا} ذكر أهل التفسير أن هذه الآيه نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة، وأنه لما سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر قصص القرون الماضية، قال: لو شئت لقلت مثل هذا. وفي قوله: {قَدْ سَمِعْنَا} قولان. احدهما: قد سمعنا منك ولا نطيعك. والثاني: قد سمعنا قبل هذا مثله، وكان النضر يختلف إلى فارس تاجرا، فيسمع العُبّاد يقرؤون الإنجيل. وقد بين التحدي كذب من قال: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا}. وقد سبق معنى الأساطير في {ٱلاْنْعَـٰمِ}. ٣٢ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ ٱللّهمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال. احدها: أنها نزلت في النضر أيضا، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والسدي. والثاني: أنها نزلت في أبي جهل، فهو القائل لهذا؛ قاله أنس بن مالك، وهو مخرج في {الصحيحين}. والثالث: أنها نزلت في قريش، قالوا: هذا، ثم ندموا فقالوا غفرانك اللّهم، فأنزل اللّه {فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللّه مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، رواه أبو معشر عن يزيد ابن رومان، ومحمد بن قيس. وفي المشار إليه بقوله: {إِن كَانَ هَـٰذَا} ثلاثة أقوال. احدها: أنه القرآن. والثاني: كل ما يقوله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الأمر بالتوحيد وغيره. والثالث: أنه إكرام محمد صلى اللّه عليه وسلم بالنبوة من بين قريش. ٣٣ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱللّه لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} في المشار إليه قولان. احدهما: أهل مكة. وفي معنى الكلام قولان. احدهما: وما كان اللّه ليعذبهم وأنت مقيم بين أظهرهم. قال ابن عباس: لم تعذب قرية حتى يخرج نبيها والمؤمنون معه. والثاني: وما كان اللّه ليعذبهم وأنت حي، قاله أبو سليمان. والثاني: أن المشار إليهم المؤمنون، والمعنى: وما كان اللّه ليعذب المؤمنين بضرب من العذاب الذي أهلك به من قبلهم وأنت حي، ذكره أبو سليمان الدمشقي. فصل قال الحسن، وعكرمة: هذه الآية منسوخة بقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ ٱللّه} وفيه بُعد لأن النسخ لا يدخل على الأخبار، وقال ابن أبزى: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة، فأنزل اللّه عز وجل {وَمَا كَانَ ٱللّه لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} فخرج إلى المدينة، فأنزل اللّه {وَمَا كَانَ ٱللّه مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وكان أولئك البقية من المسلمين بمكة يستغفرون، فلما خرجوا أنزل اللّه {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ ٱللّه}. وجميع أقوال المفسرين تدل على أن قوله: {وَمَا كَانَ ٱللّه مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} كلام مبتدأ من إخبار اللّه عز وجل. وقد روي عن محمد بن إسحاق أنه قال: هذه الآية من قول المشركين، قالوا: واللّه إن اللّه لا يعذبنا ونحن نستغفر، فرد اللّه عليهم ذلك بقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ ٱللّه}. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱللّه مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وفي معنى هذا الكلام خمسة أقوال. احدها: وما كان اللّه معذب المشركين، وفيهم من قد سبق له أن يؤمن؛ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، واختاره الزجاج. والثاني: وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون اللّه، فانهم كانوا يلبون ويقولون: غفرانك؛ وهذا مروي عن ابن عباس أيضا، وفيه ضعف، لأن استغفار المشرك لا أثر له في القبول. والثالث: وما كان اللّه معذبَهم، يعني: المشركين، وهم ـ يعني المؤمنين الذين بينهم ـ يستغفرون؛ روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال الضحاك، وأبو مالك: قال ابن الانباري وصفوا بصفة بعضهم،لأن المؤمنين بين أظهرهم، فأوقع العموم على الخصوص، كما يقال: قتل أهل المسجد رجلا، وأخذ أهل البصرة فلانا، ولعله لم يفعل ذلك إلا رجل واحد. والرابع: وما كان اللّه معذبَهم وفي أصلابهم من يستغفر اللّه، قاله مجاهد. قال ابن الانباري: فيكون معنى تعذيبهم: إهلاكهم؛ فالمعنى: وما كان اللّه مهلكهم، وقد سبق في علمه أنه يكون لهم أولاد يؤمنون به ويستغفرونه؛ فوصفهم بصفة ذراريهم، وغلبوا عليهم كما غلب بعضهم على كلهم في الجواب الذي قبله. والخامس: أن المعنى لو استغفروا لما عذبهم اللّه، ولكنهم لم يستغفروا فاستحقوا العذاب، وهذا كما تقول العرب: ما كنت لأهينك وأنت تكرمني؛ يريدون: ما كنت لأهينك لو أكرمتني، فأما إذا لست تكرمني، فانك مستحق لإهانتي، وإلى هذا القول ذهب قتادة والسدي. قال ابن الانباري: وهو اختيار اللغويين. وذكر المفسرون في معنى هذا الاستغفار ثلاثة أقوال. احدها: أنه الاستغفار المعروف، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: أنه بمعنى الصلاة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، ومنصور عن مجاهد، وبه قال الضحاك. والثالث: أنه بمعنى الإسلام، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وبه قال عكرمة. ٣٤ قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ ٱللّه} هذه الآية أجازت تعذيبهم، والأولى نفت ذلك، وهل المراد بهذا: العذاب الاول، أم لا؟ فيه قولان. احدهما: أنه هو الأول، إلا أن الأول امتنع بشيئين: احدهما كون النبي صلى اللّه عليه وسلم فيهم. والثاني: كون المؤمنين المستغفرين بينهم، فلما وقع التمييز بالهجرة، وقع العذاب بالباقين يوم بدر، وقيل: بل وقع بفتح مكة. والثاني: أنهما مختلفان، وفي ذلك قولان. احدهما: أن العذاب الثاني: قتلُ بعضهم يوم بدر، والأول: استئصال الكل، فلم يقع الأول لما قد عُلِمَ من إيمان بعضهم، وإسلام بعض ذراريهم، ووقع الثاني. والثاني: أن العذاب الأول: عذاب الدنيا. والثاني: عذاب الآخرة، قاله ابن عباس، فيكون المعنى: وما كان اللّه معذب المشركين لاستغفارهم في الدنيا، وما لهم ألا يعذبهم اللّه في الآخرة. قوله تعالى: {وَهُمْ يَصُدُّونَ} قال الزجاج: المعنى: وهم يصدون {عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} أولياءه. وفي هاء الكناية في قوله: {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاؤُهُ} قولان. احدهما: أنها ترجع إلى المسجد، وهو قول الجمهور. قال الحسن: إن المشركين قالوا: نحن أولياء المسجد الحرام، فرد اللّه عليهم بهذا. والثاني: أنها تعود إلى اللّه عز وجل، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ} أي: ما أولياؤه {إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ} للشرك والمعاصي، ولكن أكثر أهل مكة لا يعلمون من الأولى ببيت اللّه. ٣٥ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ} سبب نزولها: أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويصفقون ويصفرون ويضعون خدودهم بالأرض، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر. فأما المكاء ففيه قولان. احدهما: أنه الصفير، قاله ابن عمر، وابن عباس، وابن جبير، وقتادة، وأبو عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة. قال ابن فارس: يقال: مكا الطائر [يمكو] مُكاءً: إذا صَفَر، ويقال: مَكِيَتْ يده [تمكى] مَكىً، مقصور، أي: غلظت وخشنت، ويقال: تمكّى: إذا توضأ. وأنشدوا: إنك والجور على سبيل كالمتمكي بدم القتيل وسئل أبو سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء، فجمع كفيه وجعل يصفر فيهما. والثاني: أنه إدخال أصابعهم في أفواههم يخلطون به وبالتصدية على محمد صلى اللّه عليه وسلم صلاته، قاله مجاهد: قال ابن الانباري: أهل اللغة ينكرون أن يكون المكاء إدخال الأصابع في الأفواه، وقالوا: لا يكون إلا الصفير. وفي التصدية قولان. احدهما: أنها التصفيق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. قال ابن قتيبة: يقال: صدى: إذا صفق بيديه. قال الراجز: ضنت بخد وجلت عن خد وأنا من غرو الهوى أصديالغرو: العجب، يقال: لا غرو من كذا، أي: لا عجب. والثاني: أن التصدية: صدهم الناس عن البيت الحرام، قاله سعيد بن جبير. وقال ابن زيد: هو صدهم عن سبيل اللّه ودينه. وزعم مقاتل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام، قام رجلان من المشركين من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران، ورجلان عن يساره فيصفقان، فتختلط على النبي صلى اللّه عليه وسلم صلاته وقراءته، فقتلهم اللّه ببدر، فذلك قوله: {فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بتوحيد اللّه. فان قيل: كيف سمى المكاء والتصدية صلاة. فعنه جوابان ذكرهما ابن الانباري. احدهما: أنهم جعلوا ذلك مكان الصلاة، ومشهور في كلام العرب أن يقول الرجل: زرت عبد اللّه، فجعل جفائي صلتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة، قال الشاعر: قلت له اطعمني عميم تمرا فكان تمري كَهْرَةَ وزَبْرا أي: أقام الصياح علي مقام التمر. والثاني: أن من كان المكاء والتصدية صلاته، فلا صلاة له، كما تقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء، يريدون: من السخاء عيبه، فلا عيب له، قال الشاعر: فتى كملت خيراته غير أنه جواد فلا يبقى من المال باقيا ٣٦ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللّه} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال. احدها: أنها نزلت في المطعمين ببدر، وكانوا اثني عشر رجلا يطعمون الناس الطعام، كل رجل يطعم يوما، وهم عتبة، وشيبة، ومنبه، ونُبَية ابنا الحجاج، وأبو البَخْتري، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأخوه الحارث، وحكيم بن حزام، وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحارث بن عامر ابن نوفل، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش لقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، سوى من استجاش من العرب، قاله سعيد بن جبير. وقال مجاهد: نزلت في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد. والثالث: أنها نزلت في أهل بدر، وبه قال الضحاك. فأما سبيل اللّه، فهو دين اللّه. قوله تعالى: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي: تكون عاقبة نفقتهم ندامة، لأنهم لم يظفروا. ٣٧ قوله تعالى: {لِيَمِيزَ ٱللّه ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: {لِيَمِيزَ} خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: {لِيَمِيزَ} بالتشديد وهما لغتان: مزته وميّزته. وفي لام ليميز قولان. احدهما: أنها متعلقة بقوله: {فَسَيُنفِقُونَهَا} قاله ابن الانباري. والثاني: أنها متعقلة بقوله: {إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} قاله ابن جرير الطبري. وفي معنى الآية ثلاثة اقوال. احدها: ليميز أهل السعادة من أهل الشقاء، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال السدي، ومقاتل: يميز المؤمن من الكافر. والثاني: ليميز العمل الطيب من العمل الخبيث، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: ليميز الإنفاق الطيب في سبيله، من الانفاق الخبيث في سبيل الشيطان، قاله ابن زيد، والزجاج. قوله تعالى: {وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ} أي: يجمع بعضه فوق بعض، وهو قوله: {فَيَرْكُمَهُ}. قال الزجاج: الركم: أن يجعل بعض الشيء على بعض، يقال: ركمت الشيء أركُمه رَكما، والركام: الاسم؛ فمن قال: المراد بالخبيث: الكفار فانهم: في النار بعضهم على بعض؛ ومن قال: أموالهم، فله في ذلك قولان. احدهما: أنها ألقيت في النار ليعذب بها أربابها، كما قال تعالى: {فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ}. والثاني: أنهم لما عظموها في الدنيا، أراهم هوانها بالقائها في النار كما تلقى الشمس والقمر في النار، ليرى من عبدهما ذلهما. ٣٨ قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} نزلت في أبي سفيان وأصحابه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وفي معنى الآية قولان. احدهما: إن ينتهوا عن المحاربة، يغفر لهم ما قد سلف من حربهم، فلا يؤاخذون به، وإن يعودوا إلى المحاربة، فقد مضت سنة الاولين في نصر اللّه أولياءه، وقيل: في قتل من قتل يوم بدر وأسر. والثاني: إن ينتهوا عن الكفر، يُغفر لهم ما قد سلف من الإثم؛ وإن يعودوا إليه، فقد مضت سنة الأولين من الأمم السالفة حين أخذوا بالعذاب المستأصِل. قال يحيى بن معاذ. في هذه الآية: إن توحيدا لم يعجِز عن هدم ما قبله من كفر، لا يعجِز عن هدم ما بعده من ذنب. ٣٩ قوله تعالى: {وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك. وقال الزجاج: حتى لا يفتن الناس فتنة كفر، ويدل عليه قوله: {وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ للّه}. قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} أي: عن الكفر والقتال {فَإِنَّ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. وقرأ يعقوب إلا روحا بما {تَعْمَلُونَ} بالتاء. ٤٠ قوله تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عن الإيمان وعادوا إلى القتال {فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللّه مَوْلاَكُمْ} أي: وليكم وناصركم. قال ابن قتيبة: {نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ} أي: نعم الولي {وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ} أي: الناصر، مثل قدير وقادر، وسميع وسامع. ٤١ قوله تعالى: {وَٱعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء} اختلفوا، هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد، أم يختلفان؟ على قولين. احدهما: أنهما يختلفان. ثم في ذلك قولان. احدهما: أن الغنيمة: ما ظُهر عليه من أموال المشركين، والفيء، ما ظُهر عليه من الأرضين، قاله عطاء بن السائب. والثاني: أن الغنيمة: ما أخذ عنوة، والفيء: ما أخذ عن صلح، قاله سفيان الثوري. وقيل: بل الفيء: ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، كالعشور، والجزية، وأموال المهادنة، والصلح، وما هربوا عنه. والثاني: أنهما واحد، وهما: كل ما نيل من المشركين، ذكره الماوردي. وقال الزجاج: الأموال: ثلاثة اصناف؛ فما صار إلى المسلمين من المشركين في حال الحرب، فقد سماه اللّه تعالى: أنفالا وغنائم، وما صار من المشركين من خراج أو جزية مما لم يؤخذ في الحرب، فقد سماه: فيئاً؛ وما خرج من أموال المسلمين كالزكاة والنذر والقرب سماه صدقة. وأما قوله: {مِن شَىْء} فالمراد به: كل ما وقع عليه اسم شيء. قال مجاهد: المِخْيَط من الشيء. قوله تعالى: {فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ} وروى عبد الوارث: {خُمُسَهُ} بسكون الميم. وفي المراد بالكلام قولان. احدهما: أن نصيب اللّه مستحق يصرف إلى بيته. قال أبو العالية: كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على خمسة أسهم، فيقسم أربعة بين الناس، ثم يجعل من السهم الخامس للكعبة؛ وهذا مما انفرد به أبو العالية فيما يقال. والثاني: أن ذِكر اللّه هاهنا لأحد وجهين. احدهما: لأنه المتحكم فيه، والمالك له، والمعنى: فان للرسول خمسة ولذي القربى، كقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ قُلِ ٱلانفَالُ للّه وَٱلرَّسُولِ}. والثاني: أن يكون المعنى: إن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى اللّه تعالى، وهذ قول الجمهور. فعلى هذا، تكون الواو زائدة، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـٰدَيْنَـٰهُ} المعنى: ناديناه، ومثله كثير. فصل أجمع العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة لأهل الحرب خاصة، فأما الخمس الخامس، فكيف يقسم؟ فيه ثلاثة أقوال: احدها: يقسم منه للّه وللرسول ولمن ذكر في الآية. وقد ذكرنا أن هذا مما انفرد به أبو العالية، وهو يقتضي أن يقسم على ستة أسهم. والثاني: أنه مقسوم على خمسة أسهم: سهم للرسول، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، على ظاهر الآية، وبه قال الجمهور. والثالث: أنه يقسم على أربعة اسهم: فسهم اللّه عز وجل وسهم رسوله عائد على ذوي القربى، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن يأخذ منه شيئا، وهذا المعنى رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فصل فأما سهم الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فانه كان يصنع فيه ما بّينا. وهل سقط بموته، أم لا؟ فيه قولان. احدهما: لم يسقط بموته، وبه قال احمد، والشافعي في آخرين. وفيما يصنع به قولان. احدهما: أنه للخليفة بعده، قاله قتادة. والثاني: أنه يصرف في المصالح، وبه قال احمد، والشافعي. والثاني: أنه يسقط بموته كما يسقط الصفي، فيرجع إلى جملة الغنيمة، وبه قال أبو حنيفة. وأما ذوو القربى، ففيهم ثلاثة أقوال. احدها: أنهم جميع قريش. قال ابن عباس: كنا نقول: نحن هم؛ فأبى علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى. والثاني: بنو هاشم، وبنو المطلب، و به قال احمد، و الشافعي. والثالث: أنهم بنو هاشم فقط، قاله أبو حنفية. و بماذا يستحقون؟ فيه قولان. احدهما: بالقرابة وإن كانوا أغنياء، وبه قال احمد، والشافعي. والثاني: بالفقر، لا بالاسم، وبه قال أبو حنيفة. وقد سبق في {البقرة} معنى اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وينبغي أن تعتبر في اليتيم أربعة أوصاف: موت الأب، وإن كانت الأم باقية، والصغر لقوله عليه السلام: {لا يُتِمَّ بَعْدَ} والإسلام، لأنه مال للمسلمين، والحاجة، لأنه معد للمصالح. قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ} هو: يوم بدر فرق فيه بين الحق والباطل بنصر المؤمنين. والذي أنزل عليه يومئذ قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ} نزلت حين اختلفوا فيها، فالمعنى: إن كنتم آمنتم بذلك، فاصدروا عن أمر الرسول في هذا أيضا. ٤٢ قوله تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {بِالْعُدْوَةِ} و{العِدوة} العين فيهما مكسورة. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بضم العين فيهما. قال الأخفش: لم يسمع من العرب إلا الكسر. وقال ثعلب: بل الضم أكثر اللغتين. قال ابن السكيت: عدوة الوادي وعدوته: جانبه؛ والجمع: عُدىً وعِدىً. والدنيا: تأنيث الأدنى؛ وضدها: القصوى، وهي تأنيث الأقصى؛ وما كان من النعوت على {ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ} من ذوات الواو، فان العرب تحوله إلى الياء، نحو الدنيا، من: دنوت؛ والعليا، من علوت؛ لأنهم يستثقلون الواو مع ضم الأول، وليس في هذا اختلاف، إلا أن أهل الحجاز قالوا: القُصوى، فأظهروا الواو، وهو نادر؛ وغيرهم يقول: القصيا. قال المفسرون: إذ أنتم بشفير الوادي الأدنى من المدينة، وعدوكم بشفيره الأقصى من مكة، وكان الجمعان قد نزلا وادي بدر على هذه الصفة، والركب: أبو سفيان وأصحابه. قال الزجاج: من نصب {أَسْفَلَ} اراد: والركب مكانا أسفل منكم، ويجوز الرفع على المعنى: والركب أشدُ تسفلا منكم. قال قتادة: وكان المسلمون أعلى الوادي، والمشركون أسفله. وفي قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَـٰدِ} قولان. احدهما: لو تواعدتم، ثم بلغكم كثرتهم لتأخرتم عن الميعاد، قاله ابن اسحاق. والثاني: لو تواعدتم على الاجتماع في المكان الذي اجتمعتم فيه من عدوتي وادي بدر لاختلفتم في الميعاد، قاله أبو سليمان. وقال الماوردي: كانت تقع الزيادة والنقصان، أو التقدم والتأخر من غير قصد لذلك. قوله تعالى: {وَلَـٰكِن لّيَقْضِيَ ٱللّه أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} وهو إعزاز الإسلام، وإذلال الشرك. قوله تعالى: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ} وروى خلف عن يحيى: {لِيُهْلِكَ} بضم الياء وفتح اللام. قوله تعالى: {وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {مَنْ حَىَّ} بياء واحدة مشددة، وهذه رواية حفص عن عاصم، وقنبل عن ابن كثير. وروى شبل عن ابن كثير، وابو بكر عن عاصم: {حيِيَ} بياءين الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وهي قراءة نافع. فمن قرأ بياءين، بيّن ولم يُدغم، ومن أدغم ياء {حيي} فلاجتماع حرفين من جنس واحد. وفي معنى الكلام قولان. احدهما: ليقتل من قتل من المشركين عن حجة، ويبقى من بقي منهم عن حجة. والثاني: ليكفر من كفر بعد حجة، ويؤمن من آمن عن حجة. ٤٣ قوله تعالى: {عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللّه فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً} فيه قولان. احدهما: أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى عسكر المشركين في المنام قبل لقائهم في قلة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد: لما أخبر أصحابه بأنه رآهم في المنام قليلا، كان ذلك تثبيتا لهم. قال أبو سليمان الدمشقي: والكلام متعلق بما قبله فالمعنى: وإن اللّه لسميع لما يقوله أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ حدثتهم بما رأيت في منامك. والثاني: إذ يريكهم اللّه بعينك التي تنام بها، قاله الحسن. قال الزجاج: وكثير من النحويين يذهبون إلى هذا المذهب. ومعناه عندهم: إذ يريكهم اللّه في موضع منامك، أي: بعينك؛ ثم حذف الموضع، واقام المنام مقامه. قوله تعالى: {لَّفَشِلْتُمْ} أي: لجبنتم وتأخرتم عن حربهم. وقال مجاهد: لفشل اصحابك، ولرأوا ذلك في وجهك. قوله تعالى: {وَلَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلاْمْرِ} أي: لاختلفتم في حربهم، فكان ذلك من دواعي هزيمتكم، {وَلَـٰكِنَّ ٱللّه سَلَّمَ} من المخالفة والفشل. ٤٤ قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} قال مقاتل: صدق اللّه رؤيا رسوله التي أخبر بها المؤمنين عن قلة عدوهم قبل لقائهم، بأن قللّهم وقت اللقاء في أعينهم. وقال ابن مسعود: لقد قلوا في أعيننا، حتى قلت لرجل إلى جانبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة؛ حتى أخذنا رجلا منهم، فسألناه، فقال: كنا ألفاً. قال أبو صالح عن ابن عباس: استقل المسلمون المشركين، والمشركون المسلمين، فاجترأ بعضهم على بعض. فان قيل: ما فائدة تكرير الرؤية هاهنا، وقد ذكرت في قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللّه}؟ فعنه جوابان. احدهما: أن الأولى كانت في المنام، والثانية في اليقظة. والثاني: أن الأولى للنبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة. والثانية: له ولأصحابه. فان قيل: تكثير المؤمنين في أعين الكافرين أولى، لمكان إعزازهم فعنه ثلاثة أجوبة. احدها: أنهم لو كثروا في أعينهم، لم يقدموا عليهم، فلم يكن قتال، والقتال سبب النصر، فقللّهم لذلك. والثاني: أنه قللّهم لئلا يتأهب المشركون كل التأهب، فاذا تحقق القتال، وجدهم المسلمون غير مستعدين، فظفروا بهم. والثالث: أنه قللّهم ليحمل الأعداء عليهم في كثرتهم، فيغلبهم المسلمون، فيكون ذلك آية للمشركين ومنبها على نصرة الحق. ٤٥ انظر تفسير الآية:٤٦ ٤٦ قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ} الفئة: الجماعة {وَٱذْكُرُواْ ٱللّه كَثِيراً} فيه قولان. احدهما: أنه الدعاء والنصر. والثاني: ذكر اللّه على الإطلاق. قوله تعالى: {وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} قد سبق ذكر التنازع والفشل آنفا. قوله تعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وروى أبان: {وَيُذْهِبَ} بالياء والجزم. وفيه أربعة أقوال. احدها: تذهب شدتكم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال السدي: حدتكم وجدكم. وقال الزجاج: صولتكم وقوتكم. والثاني: يذهب نصركم، قاله مجاهد، وقتادة. والثالث: تتقطع دولتكم، قاله أبو عبيدة. وقال ابن قتيبة: يقال: هبت له ريح النصر إذا كانت له الدولة. ويقال: له الريح اليوم، أي: الدولة. والرابع: أنها ريح حقيقة، ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها اللّه فتضرب وجوه العدو؛ ومنه قوله عليه السلام {نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهْلِكت عاد بالدَّبور} وهذا قول ابن زيد، ومقاتل. ٤٧ قوله تعالى: {وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللّه مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم بَطَراً} قال المفسرون: هم أبو جهل ومن خرج معه من مكة، خرجوا ليدفعوا عن عيرهم التي كانت مع أبي سفيان، ومعهم القيان والمعازف، وهم يشربون الخمور. فلما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز ما معه، كتب إليهم: إني قد أحرزت أموالكم فارجعوا. فقال أبو جهل: واللّه لا نفعل حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا، وننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابونا. فساروا إلى بدر، فكانت الوقعة؛ فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. فأما البطر، فهو الطغيان في النعم، وترك شكرها. والرياء: العمل من أجل رؤية الناس، وسبيل اللّه هاهنا: دينه. ٤٨ قوله تعالى: {وَإِذَا زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ} قال عروة بن الزبير: لما أجمعت قريش المسير إلى بدر، ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي، وكان من اشراف بني كنانة، فقال لهم: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا. وفي المراد بأعمالهم هاهنا ثلاثة أقوال. احدها: شركهم. والثاني: مسيرهم إلى بدر. والثالث: قتالهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءتِ ٱلْفِئَتَانِ} أي: صارتا بحيث رأت إحداهما الأخرى. وفي المراد بالفئتين قولان. احدهما: فئة المسلمين، وفئة المشركين، وهو قول الجمهور. والثاني: فئة المسلمين، وفئة الملائكة، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ} قال أبو عبيدة: رجع من حيث جاء. وقال ابن قتيبة: رجع القهقري. قال ابن السائب: كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة، آخذا بيد الحارث بن هشام، فرأى الملائكة فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: أفرارا من غير قتال؟ فقال: {إِنّى أَرَىٰ مَالاً تَرَوْنَ}؛ فلما هزم المشركون، قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغه ذلك، فقال: واللّه ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. قال قتادة: صدق عدة اللّه في قوله: {إِنّى أَرَىٰ مَالاً تَرَوْنَ}، ذُكر لنا أنه رأى جبريل ومعه الملائكة، فعلم أنه لا يد له بالملائكة، وكذب عدو اللّه في قوله: {إِنّى أَخَافُ ٱللّه}، واللّه ما به مخافة اللّه، ولكن علم أنه لا قوة له بهم. وقال عطاء: معناه: إني أخاف اللّه أن يهلكني. وقال ابن الانباري: لما رأى نزول الملائكة، خاف أن تكون القيامة، فيكون انتهاء إنظاره، فيقع به العذاب. ومعنى {نَكَصَ}: رجع هاربا بخزي وذل. واختلفوا في قوله: {وَٱللّه شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} هل هو ابتداء كلام، أو تمام الحكاية عن إبليس، على قولين. ٤٩ قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ} قال ابن عباس: هم قوم من أهل المدينة من الأوس والخزرج. فأما الذين في قلوبهم، مرض ففيهم ثلاثة اقوال. احدها: أنهم قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام، بمكة فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر كرها؛ فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين، ارتابوا ونافقوا، وقالوا: {غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ}، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وإليه ذهب الشعبي في آخرين. وعدّهم مقاتل فقال: كانوا سبعة: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منية بن الحجاج، والوليد بن الوليد بن المغيرة، والوليد بن عتبة ابن ربيعة. والثاني: أنهم المشركون، لما رأوا قلة المسلمين، قالوا: {غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ} رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثالث: أنهم قوم مرتابون، لم يظهروا عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم، ذكره الماوردي. والمرض هاهنا: الشك، والإشارة بقوله: {هَـؤُلاء} إلى المسلمين؛ وإنما قالوا هذا، لأنهم رأوا قلة المسلمين، فلم يشكوا في أن قريشا تغلبهم. ٥٠ قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلَـئِكَةُ} قرأ الجمهور {يَتَوَفَّى} بالياء. وقرأ ابن عامر: {تتوفى} بتاءين. قال المفسرون: نزلت في الرهط الذين قالوا: {مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ} وفي المراد بالملائكة ثلاثة أقوال. احدها: ملك الموت وحده، قاله مقاتل. والثاني: ملائكة العذاب، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: الملائكة الذين قاتلوا يوم بدر، ذكره الماوردي. وفي قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ} أربعة أقوال. احدها: يضربون وجوههم ببدر لما قاتلوا، وأدبارهم لما انهزموا. والثاني: أنهم جاؤوهم من بين أيديهم ومن خلفهم، فالذين أمامهم ضربوا وجوههم، والذين وراءهم ضربوا أدبارهم. والثالث: يضربون وجوههم يوم القيامة إذا لقوهم، وأدبارهم إذا ساقوهم إلى النار. والرابع: أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت بسياط من نار. وهل المراد نفس الوجوه والأدبار، أم المراد ما أقبل من أبدانهم وأدبر؟ فيه قولان.وفي قوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ} قولان. احدهما: أنه في الدنيا، وفيه إضمار {يَقُولُونَ}، فالمعنى: يضربون ويقولون، كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ رَبَّنَا} أي: ويقولان. قال النابغة: كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن المعنى: كأنك جمل من جمال لبني أقيش، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة. والثاني: أن الضرب لهم في الدنيا، فاذا وردوا يوم القيامة إلى النار، قال: خزنتها ذوقوا عذاب الحريق، هذا قول مقاتل. ٥١ قوله تعالى: {ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: بما كسبتم من قبائح أعمالكم. {وَأَنَّ ٱللّه لَيْسَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ} لا يظلم عباده بعقوبتهم على الكفر. وإن كان كفرهم بقضائه، لأنه مالك، فله التصرف في ملكه كما يشاء، فيستحيل نسبة الظلم إليه. ٥٢ قوله تعالى: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} أي: كعادتهم. والمعنى: كذب هؤلاء كما كذب أولئك، فنزل بهم العذاب كما نزل بأولئك، قال ابن عباس: أيقن آل فرعون أن موسى نبي اللّه فكذبوه، فكذلك هؤلاء في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم. ٥٣ قوله تعالى: {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللّه} أي: ذلك الأخذ والعقاب {بِأَنَّ ٱللّه} {لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ} بالكفران وترك الشكر. قال مقاتل: والمراد بالقوم هاهنا: أهل مكة، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ثم بعث فيهم محمدا صلى اللّه عليه وسلم، فلم يعرفوا المنعم عليهم، فغير اللّه ما بهم. وقال السدي: كذبوا بمحمد، فنقله اللّه إلى الأنصار. قال أبو سليمان الخطابي: والقوي يكون بمعنى القادر، فمن قوي على شيء فقد قدر عليه، وقد يكون معناه: التام القوة الذي لا يستولي عليه العجز في حال، والمخلوق وإن وصف بالقوة، فقوته متناهية، وعن بعض الأمور قاصرة. ٥٤ قوله تعالى: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: كذب أهل مكة بمحمد والقرآن، كما كذب آل فرعون بموسى والتوراة، وكذب من قبلهم بأنبيائهم. قال مكي بن أبي طالب: الكاف من {كَدَأْبِ} في موضع نصب، نعت لمحذوف تقديره: غيّرنا بهم لما غيروا تغييرا مثل عادتنا في آل فرعون، ومثلها الآية الأولى، إلا أن الأولى للعادة في العذاب؛ تقديره: فعلنا بهم ذلك فعلا مثل عادتنا في آل فرعون. قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ} يعني: الأمم المتقدمة بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالريح، فكذلك أهلكنا كفار مكة ببدر. وقال بعضهم: يعني بقوله {فَأَهْلَكْنَـٰهُمْ} الذين أهلكوا ببدر. ٥٥ قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللّه ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في بني قريظة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه. ٥٦ قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتَّ مِنْهُمْ} في من أربعة أقوال. احدها: أنها صلة، والمعنى: الذين عاهدتم. الثاني: أنها للتبعيض، فالمعنى: إن شر الدواب الكفار، وشرهم الذين عاهدت ونقضوا. والثالث: أنها بمعنى {مَعَ} والمعنى: عاهدت معهم. والرابع: أنها دخلت، لأن العهد أخذ منهم. قوله تعالى: {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ} أي: كلما عاهدتهم نقضوا. وفي قوله: {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} قولان. احدهما: لا يتقون نقض العهد. والثاني: لا يتقون اللّه في نقض العهد. قال المفسرون: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد عاهد يهود قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه، فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا؛ ثم عاهدوه الثانية، فنقضوا ومالؤوا الكفار يوم الخندق، وكتب كعب ابن الأشرف إلى مكة يوافقهم على مخالفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ٥٧ قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} قال أبو عبيدة مجازه: فان تثقفنهم. فعلى قوله، تكون {مَا} زائدة. وقد سبق بيان {فَأَمَّا} في البقرة. قال ابن قتيبة: فمعنى تثقفنهم: تظفر بهم {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي: افعل بهم فعلا من العقوبة والتنكيل يتفرق به من وراءهم من أعدائك. قال: ويقال شرد بهم أي: سمع بهم، بلغة قريش. قال الشاعر: أطوف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيمو قال ابن عباس: نكل بهم تنكيلا يشرد غيرهم من ناقضي العهد، لعلهم يذكرون النكال فلا ينقضون العهد. ٥٨ قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} قال المفسرون. الخوف هاهنا بمعنى: العلم، والمعنى: إن علمت من قوم قد عاهدتهم خيانة، وهي نقض عهد. وقال مجاهد: نزلت في بني قريظة. وفي قوله: {فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاء} أربعة أقوال. احدها: فألق إليهم نقضك العهد لتكون وإياهم في العلم بالنقض سواءً، هذا قول الأكثرين، واختاره الفراء، وابن قتيبة، وأبو عبيدة. والثاني: فانبذ إليهم جهرا غير سرٍ، ذكره الفراء أيضا في آخرين. والثالث: فانبذ إليهم على مهل، قاله الوليد بن مسلم. والرابع: فانبذ إليهم على عدل من غير حيف، وأنشدوا: فاضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى السواءذكره أبو سليمان الدمشقي. ٥٩ قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} بالتاء وكسر السين؛ إلا أن عاصما فتح السين. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: {بالياء} وفتح السين. وفي الكافرين هاهنا قولان. احدهما: جميع الكفار، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم الذين انهزموا يوم بدر، ذكره محمد بن القاسم النحوي وغيره. و{كَفَرُواْ سَبَقُواْ} بمعنى: فاتوا. قال ابن الانباري: وذلك أنهم أشفقوا من هلكة تنزل بهم في بعض الأوقات؛ فلما سلموا منها، قيل: لا تحسبن أنهم فاتوا بسلامتهم الآن، فانهم لا يعجزونا، أي: لا يفوتونا فيما يستقبلون من الأوقات. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} قرأ الجمهور: بكسر الألف. وقرأ ابن عامر: بفتحها؛ وعلى قراءته اعتراض. لقائل أن يقول: إذا كان قد قرأ {يَحْسَبَنَّ} بالياء، وقرأ {أَنَّهُمْ} بالفتح، فقد أقرهم على أنهم لا يعجزون؛ ومتى علموا أنهم لا يعجزون، لم يلاموا. فقد أجاب عنه ابن الانباري فقال: المعنى: {لا يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ} لا يحسبن أنهم يعجزون؛ و{لا} زائدة مؤكدة. وقال أبو علي: المعنى: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا وآباءهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون، فهم يجزون على كفرهم. ٦٠ قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ} في المراد بالقوة أربعة اقوال. احدها: أنها الرمي، رواه عقبة بن عامر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال الحكم بن أبان: هي النبل. والثاني: ذكور الخيل، قاله عكرمة. والثالث: السلاح، قاله السدي، وابن قتيبة. والرابع: أنه كل ما يتقوى به على حرب العدو من آلة الجهاد. قوله تعالى: {وَمِن رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ} يعني: ربطها واقتناءها للغزو؛ وهو عام في الذكور والإناث في قول الجمهور. وكان عكرمة يقول: المراد بقوله {وَمِن رّبَاطِ ٱلْخَيْلِ}: إناثها. قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ} روى رويس، وعبد الوارث: {تُرْهِبُونَ} بفتح الراء وتشديد الهاء، أي: تخيفون وترعبون به عدو اللّه وعدوكم، وهم مشركو مكة وكفار العرب. قوله تعالى: {وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي: من دون كفار العرب. واختلفوا فيهم على خمسة أقوال. احدها: أنهم الجن، روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: {هُمْ ٱلْجِنَّ وَأَنْ ٱلشَّيْطَـٰنِ لا}. والثاني: أنهم بنو قريظة، قاله مجاهد. والثالث: أهل فارس، قاله السدي. والرابع: المنافقون، قاله ابن زيد. والخامس: اليهود، قاله مقاتل. ٦١ قوله تعالى: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} قرأ أبو بكر عن عاصم: {لِلسَّلْمِ} بكسر السين. قال الزجاج: السَّلْم: الصلح والمسالمة. يقال: سَلْم وسِلْم وسَلَم في معنى واحد، أي: إن مالوا إلى الصلح فمل إليه. قال الفراء: إن شئت جعلت لها كناية عن السَّلم لأنها تؤنث، وإن شئت جعلتها للفَعْلَة، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. فان قيل: لم قال {لَهَا} ولم يقل {إِلَيْهَا}؟. فالجواب: أن {اللام} و{فَٱنظُرْ إِلَىٰ} تنوب كل واحدة منهما عن الأخرى. وفيمن أريد بهذه الآية قولان. احدهما: المشركون، وأنها نسخت بآية السيف. والثاني: أهل الكتاب. فان قيل: إنها نزلت في ترك حربهم إذ بذلوا الجزية وقاموا بشرط الذمة، فهي محكمة. وإن قيل: نزلت في موادعتهم على غير جزية، توجه النسخ لها بآية الجزية. ٦٢ انظر تفسير الآية:٦٣ ٦٣ قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ} قال مقاتل: يعني: يهود قريظة {أَن يَخْدَعُوكَ} بالصلح لتكف عنهم، حتى إذا جاء مشركو العرب، أعانوهم عليك {فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللّه}. قال الزجاج: فان الذي يتولى كفايتك اللّه {هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ} أي: قواك. وقال مقاتل: قواك بنصره وبالمؤمنين من الأنصار يوم بدر. قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} يعني: الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانت بينهم عداوة في الجاهلية، فألف اللّه بينهم بالإسلام. وهذا من أعجب الآيات، لأنهم كانوا ذوي أنفة شديدة؛ فلو أن رجلا لطم رجلا، لقاتلت عنه قبيلته حتى تدرك ثأره، فآل بهم الإسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه وأباه. ٦٤ قوله تعالى: {حَسْبُكَ ٱللّه وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ} فيه قولان. احدهما: حسبك اللّه، وحسب من اتبعك، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، ومقاتل، والأكثرون. والثاني: حسبك اللّه ومتبعوك، قاله مجاهد. وعن الشعبي كالقولين. وأجاز الفراء، والزجاج الوجهين. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أسلم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسعة وثلاثون، ثم أسلم عمر فصاروا أربعين، فنزلت هذه الآية. قال أبو سليمان الدمشقي: هذا لا يحفظ، والسورة مدنية باجماع، والقول الأول أصح. ٦٥ انظر تفسير الآية:٦٦ ٦٦ قوله تعالى: {حَرّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ} قال الزجاج: تأويله: حثهم. وتأويل التحريض في اللغة: أن يحث الإنسان على الشيء حثا يعلم معه أنه حارض إن تخلف عنه. والحارض: الذي قد قارب الهلاك. قوله تعالى: {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَـٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} لفظ هذا الكلام لفظ الخبر، ومعناه الأمر، والمراد: يقاتلوا مائتين، وكان هذا فرضا في أول الأمر، ثم نسخ بقوله: { اَ ْلآنَ خَفَّفَ ٱللّه عَنكُمْ} ففرض على الرجل أن يثبت لرجلين، فان زادوا جاز له الفرار. قال مجاهد: وهذا التشديد كان في يوم بدر. واتفق القراء على قوله: {إِن يَكُن مّنكُمْ} فقرؤوا {يَكُنِ} بالياء، واختلفوا في قوله: {وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا}، وفي قوله: {فَانٍ تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ} فقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: بالتاء فيهما. وقرأهما: عاصم، وحمزة، والكسائي، بالياء. وقرأ أبو عمرو: {يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ} بالياء، {فَانٍ تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ} بالتاء. قال الزجاج: من أنث، فللفظ المائة؛ ومن ذكَّر، فلأن المائة وقعت على عدد مذكر. وقال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأنه أريد منه المذكر، بدليل قوله: {يَغْلِبُواْ}، وكذلك المائة الصابرة هم رجال، فقرؤوها بالياء، لموضع التذكير. فأما أبو عمرو، فانه لما رأى صفة المائة مؤنثة بقوله: {صَابِرَةٌ} أنث الفعل، ولما رأى {يَغْلِبُواْ} مذكرا، ذكّر. ومعنى الكلام: إن يكن منكم عشرون صابرون يثبتون عند اللقاء، يغلبوا مائتين، لأن المؤمنين يحتسبون أفعالهم، وأهل الشرك يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب،فاذا صدقهم المؤمنون القتال لم يثبتوا؛ وذلك معنى قوله: {لاَّ يَفْقَهُونَ}. قوله تعالى: {وَعَلَّمَ} وروى المفضل {وَعَلَّمَ} بضم العين {أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} بضم الضاد. وقرأ عاصم، وحمزة: بفتح الضاد. وكذلك خلافهم في {ٱلرُّومُ}، قال الفراء: الضم لغة قريش، والفتح لغة تميم. قال الزجاج: والمعنى: في القراءتين واحد، يقال: هو الضَّعف والضُّعف، والمَكث والمُكث، والفَقر والفُقر، وفي اللغة كثير من باب فَعْل وفُعْل، والمعنى واحد. وقرأ أبو جعفر: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعَفَاء} على فُعلاء. فأما قوله: {بِإِذُنِ ٱللّه} فهو إعلام بأن الغلبة لا تقع إلا بارادته. ٦٧ قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن تَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلاْرْضِ} روى مسلم في افراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما هزم اللّه المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون واسر منهم سبعون، استشار النبي صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا، فقال أبو بكر: يا نبي اللّه هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم اللّه فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول اللّه: {مَّا تَرَىٰ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ} قلت: واللّه ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فلان فيضرب عنقه، حتى يعلم اللّه أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول اللّه ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد، غدوت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فاذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان. فقلت: يا رسول اللّه أخبرني، ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فان وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ٱلشَّيْطَـٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَـٰكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ} لشجرة قريبة، فأنزل اللّه {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ} إلى قوله {عظِيمٌ}. وروي عن ابن عمر قال: لما أشار عمر بقتلهم، وفاداهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أنزل اللّه تعالى {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ} إلى قوله {حَلَـٰلاً طَيّباً} فلقي النبي صلى اللّه عليه وسلم عمر، فقال: {كَادَ يُصِيبَنَا فِى خِلَـٰفَكَ بَلاء}. فأما الأسرى، فهو جمع أسير، وقد ذكرناه في {البقرة}. والجمهور قرؤوا {أَن يَكُونَ} بالياء، لأن الاسراء مذكرون. وقرأ أبو عمرو: {أَن تَكُونَ}، قال أبو علي: أنث على لفظ الاسرى، لأن الاسرى وإن كان المراد به التذكير والرجال فهو مؤنث اللفظ.والأكثرون قرؤوا: {أَسْرَىٰ} وكذلك {لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ ٱلاْسْرَىٰ}. قرأ أبو جعفر، والمفضل: {أُسَـٰرَىٰ} في الموضعين، ووافقهما أبو عمرو، وأبان في الثاني. قال الزجاج: والإثخان في كل شيء: قوة الشيء وشدته. يقال: قد أثخنه المرض: إذا اشتدت قوته عليه. والمعنى: حتى يبالغ في قتل أعدائه. ويجوز أن يكون المعنى: حتى يتمكن في الأرض. قال المفسرون: معنى الآية: ما كان لنبي أن يحبس كافرا قدر عليه للفداء أو المن قبل الإثخان في الارض. وكانت غزاة بدر أول قتال قاتله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولم يكن قد أثخن في الأرض بعد. {تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا} وهو المال، وكان أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قد فادوا يومئذ بأربعة آلاف أربعة آلاف. وفي قوله: {وَٱللّه يُرِيدُ ٱلاْخِرَةَ} قولان. احدهما: يريد لكم الجنة، قاله ابن عباس. والثاني: يريد العمل بما يوجب ثواب الآخرة، ذكره الماوردي. فصل وقد روي عن ابن عباس، و مجاهد في آخرين: أن هذه الآية منسوخة بقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}، وليس للنسخ وجه، لأن غزاة بدر كانت وفي المسلمين قلة، فلما كثروا واشتد سلطانهم، نزلت الآية الأخرى، ويبين هذا قوله: {حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلاْرْضِ}. ٦٨ قوله تعالى: {لَّوْلاَ كِتَـٰبٌ مّنَ ٱللّه سَبَقَ} في معناه خمسة أقوال. احدها: لولا أن اللّه كتب في أم الكتاب أنه سيحل لكم الغنائم لمسكم فيما تعجلتم من المغانم والفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك عذاب عظيم، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. وقال أبو هريرة: تعجل ناس من المسلمين فأصابوا الغنائم، فنزلت الآية. والثاني: لولا كتاب من اللّه سبق أنه لا يعذب من أتى ذنبا على جهالة لعوقبتم، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد. وقال ابن اسحاق: سبق أن لا أعذب إلا بعد النهي، ولم يكن نهاهم. والثالث: لولا ما سبق لأهل بدر أن اللّه لا يعذبهم، لعذبتم، قاله الحسن، وابن جبير، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والرابع: لولا كتاب من اللّه سبق من أنه يغفر لمن عمل الخطايا ثم علم ما عليه فتاب، ذكره الزجاج. والخامس: لولا القرآن الذي اقتضى غفران الصغائر لعذبتم، ذكره الماوردي. فيخرج في الكتاب قولان. احدهما: أنه كتاب مكتوب حقيقة. ثم فيه قولان. احدهما: أنه ما كتبه اللّه في اللوح والمحفوظ. والثاني: أنه القرآن. والثاني: أنه بمعنى القضاء. ٦٩ انظر تفسير الآية:٧٠ ٧٠ قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} قال الزجاج: الفاء للجزاء. والمعنى: قد أحللت لكم الفداء فكلوا. والحلال منصوب على الحال. قال مقاتل: إن اللّه غفور لما أخذتم من الغنيمة قبل حلها، رحيم بكم إذ أحلها لكم. فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت، يوم بدر على القبض، وقسمها النبي صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة، وانطلق بالأسارى، فيهم العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث ابن عبد المطلب. وكان مع العباس يومئذ عشرون أوقية من ذهب، فلم تحسب له من فدائه، وكلف أن يفدي ابني أخيه، فأدى عنهما ثمانين أوقية من ذهب. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم {أضعفوا على العباس الفداء} فأخذوا منه ثمانين أوقية، وكان فداء كل أسير أربعين أوقية: فقال العباس لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي. فقال له: {أَيْنَ ٱلذَّهَبِ ٱلَّذِى فَضْلِ ٱللّه وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ} فقال: أي الذهب؟ فقال: {إِنَّكَ قُلْتَ لَهَا أَنّى لاَ أَدْرِى مَا} فقال: ابن أخي، من أخبرك؟ فقال: {ٱللّه}، فقال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول اللّه قبل اليوم؛ وأمر ابني أخيه فأسلما. وفيهم نزلت: {قل لمن في أيديكم من الأسارى} الآية. وروى العوفي عن ابن عباس أنها نزلت في جميع من اسر يوم بدر. وقال ابن زيد: لما بُعِثَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه رجال، فقالوا: لولا أنا نخاف هؤلاء القوم لأسلمنا، ولكنا نشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه. فلما كان يوم بدر، قال المشركون: لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستحللنا ماله، فخرج أولئك القوم، فقُتلت طائفة منهم واسرت طائفة. فأما الذين قتلوا، فهم الذين قال اللّه فيهم: {ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَـٰلِمِينَ أَنفُسَهُمْ}. وأما الذين أسروا، فقالوا: يا رسول اللّه، أنت تعلم أنا كنا نشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه، وإنما خرجنا مع هؤلاء خوفا منهم. فذلك قوله {قل لمن في أيديكم من الأسارى} إلى قوله {عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. فأما قوله: {إِن يَعْلَمِ ٱللّه فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} فمعناه: إسلاما وصدقا {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء وفيه قولان. احدهما: أكثر مما أخذ منكم. والثاني: أحل وأطيب. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن أبي عبلة: {مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} بفتح الخاء، يشيرون إلى اللّه تعالى وفي قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} قولان. احدهما: يغفر لكم كفركم وقتالكم رسول اللّه، قاله الزجاج. والثاني: يغفر لكم خروجكم مع المشركين، قاله ابن زيد في تمام كلامه الأول. ٧١ قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} يعني: إن أراد الأسراء خيانتك بالكفر بعد الإسلام {فَقَدْ خَانُواْ ٱللّه مِن قَبْلُ} إذ كفروا به قبل أسرهم. وقال ابن زيد: فقد خانوا بخروجهم مع المشركين؛ وقد ذكرنا عنه أنها نزلت في قوم تكلموا بالإسلام. وقال مقاتل: المعنى: إن خانوك أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما أمكنتك ببدر. قال الزجاج: {وَٱللّه عَلِيمٌ} بخيانة إن خانوها {حَكِيمٌ} في تدبيره عليهم ومجازاته إياهم. ٧٢ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللّه} يعني: المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأموالهم وقومهم في نصرة الدين. {وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ} يعني: الأنصار آووا رسول اللّه، وأسكنوا المهاجرين ديارهم، ونصروهم على أعدائهم. {أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} فيه قولان. احدهما: في النصرة. والثاني: في الميراث. قال المفسرون: كانوا يتوارثون بالهجرة، وكان المؤمن الذي لم يهاجر لا يرث قريبه المهاجر، وهو معنى قوله: {مَالَكُمْ مّن وَلـٰيَتِهِم مّن شَىْء} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وعاصم، والكسائي: {وَلـٰيَتِهِم} بفتح الواو. وقرأ حمزة: بكسر الواو. قال الزجاج: المعنى: ليس بينكم وبينهم ميراث حتى يهاجروا. ومن كسر واو الوِلاية، فهي بمنزلة الإمارة؛ وإذا فتحت، فهي من النصرة. وقال يونس النحوي: الولاَية بالفتح، للّه عز وجل، والوِلاية بالكسر، من وُليت الأمر. وقال أبو عبيدة: الوَلاية بالفتح، للخالق؛ والولاية، للمخلوق. قال ابن الانباري: الوَلاية بالفتح مصدر الولي، والوِلاية: مصدر الوالي، يقال: ولي بين الوَلاية، ووال بيّن الولاية؛ فهذا هو الاختيار؛ ثم يصلح في ذا ما يصلح في ذا. وقال ابن فارس: الوَلاية بالفتح: النصرة، وقد تكسر. والوِلاية، بالكسر: السلطان. فصل وذهب قوم إلى أن المراد بهذه الولاية موالاة النصر والمودة. قالوا: ونسخ هذا الحكم بقوله: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}. فأما القائلون بأنها ولاية الميراث، فقالوا: نسخت بقوله: {وَأُوْلُو ٱلاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ}. قوله تعالى: {وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِى ٱلدّينِ} أي: إن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فانصروهم، إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تغدروا بأرباب العهد. وقال بعضهم: لم يكن على المهاجر أن ينصر من لم يهاجر إلا أن يستنصره. ٧٣ انظر تفسير الآية:٧٤ ٧٤ قوله تعالى: {وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} فيه قولان. احدهما: في الميراث، قاله ابن عباس. والثاني: في النصرة، قاله قتادة. وفي قوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} قولان. احدهما: أنه يرجع إلى الميراث، فالمعنى: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه يرجع إلى التناصر، فالمعنى: إلا تتعانوا وتتناصروا في الدين، قاله ابن جريج. وبيانه: أنه إذا لم يتول المؤمن المؤمن توليا حقا، ويتبرأ من الكافر جدا، أدى ذلك إلى الضلال والفساد في الدين. فاذا هجر المسلم أقاربه الكفار، ونصر المسلمين، كان ذلك أدعى لأقاربه الكفار إلى الإسلام وترك الشرك. قوله تعالى: {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} قرأ أبو هريرة، وابن سيرين، وابن السميفع: {كَثِيرٍ} بالثاء. قوله تعالى: {أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} أي: هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة، بخلاف من أقام بدار الشرك. والرزق الكريم: هو الحسن، وذلك في الجنة. ٧٥ قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ} أي: من بعد المهاجرين الأولين. قال ابن عباس: هم الذين هاجروا بعد الحديبية. قوله تعالى: {وَأُوْلُواْ ٱلارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ} أي: في المواريث بالهجرة. قال ابن عباس: آخى رسول النبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين أصحابه، وكانوا يتوارثون بذلك الإخاء حتى نزلت هذه الآية، فتوارثوا بالنسب. قوله تعالى: {فِي كِتَـٰبِ ٱللّه} فيه ثلاثة أقوال. احدها: أنه اللوح المحفوظ. والثاني: أنه القرآن ـ وقد بين لهم قسمة الميراث في سورة {ٱلنّسَاء}ـ. والثالث: أنه حكم اللّه، ذكره الزجاج. |
﴿ ٠ ﴾