١٧

قوله تعالى: {وَٱسْتَفْتَحُواْ} يعني: استنصروا. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وحميد، وابن محيص: «واستفتحوا» بكسر التاء على الأمر.

وفي المشار إليهم قولان.

احدهما: أنهم الرسل، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.

والثاني: أنهم الكفار، واستفتاحهم: سؤالهم العذاب، كقولهم: {رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: ١٦] وقولهم: {إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} الآية [الانفال: ٢٣]، هذا قول ابن زيد. قوله تعالى:

{وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} قال ابن السائب: خسر عند الدعاء، وقال مقاتل: خسر عند نزول العذاب، وقال أبو سليمان الدمشقي: يئس من الإجابة. وقد شرحنا معنى الجبار والعنيد في [هود: ٥٩] قوله تعالى:

{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} فيه قولان.

احدهما: أنه بمعنى القدام، قال ابن عباس، يريد: أمامه جهنم. وقال أبو عبيدة: «من ورائه» أي: قدامه وأمامه، يقال: الموت من ورائك،

وأنشد:

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي  وقومي تميم والفلاة ورائيا

والثاني: أنها بمعنى: «بعد»، قال ابن الأنباري: «من ورائه» أي: من بعد يأسه، فدل «خاب» على اليأس، فكنى عنه، وحملت «وراء» على معنى: «بعد» كما

قال النابغة:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة  وليس وراء اللّه للمرء مذهب

أراد: ليس بعد اللّه مذهب. قال الزجاج: والوراء يكون بمعنى الخلف والقدام، لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك،

قال الشاعر:

أليس ورائي إن تراخت منيتي  لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

قال: وليس الوراء من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة. وسئل ثعلب: لم قيل: الوراء للأمام؟ فقال: الوراء: اسم لما توارى عن عينك، سواء أكان أمامك أو خلفك. وقال الفراء:إنما يجوز هذا في المواقيت من الأيام والليالي والدهر، تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد. ولا يجوز أن تقول للرجل وهو بين يديك: هو وراءك، ولا للرجل: وراءك: هو بين يديك. قوله تعالى:

{وَيُسْقَىٰ مِن مَّاء صَدِيدٍ} قال عكرمة، ومجاهد، واللغويون: الصديد: القيح، والدم، قاله قتادة، وهو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه. وقال القرظي: هو غسالة أهل النار، وذلك مايسيل من فروج الزناة. وقال ابن قتيبة: المعنى: يسقى الصديد مكان الماء، قال: ويجوز أن يكون على التشبيه، أي: مايسقي ماء كأنه صديد. قوله تعالى:

{يَتَجَرَّعُهُ} والتجرع: تناول المشروب جرعة جرعة، لا في مرة واحدة، وذلك لشدة كراهته له، وأنما يكرهه على شربه. قوله تعالى:

{وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} قال الزجاج: لا يقدر على ابتلاعه، تقول: ساغ لي الشيء، وأسغته. وروى أبو أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يقرب إليه فيكرهه، فاذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فاذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره». قوله تعالى:

{وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ} أي: هم الموت وكربه وألمه

{مّن كُلّ مَكَانٍ} وفيه ثلاثة أقوال.

احدها: من كل شعرة في جسده، رواه عطاء عن ابن عباس. وقال سفيان الثوري: من كل عرق وقال ابن جريج: تتعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فتموت، ولا ترجع إلى مكانها فتجد راحة.

والثاني: من كل جهة، من فوقه وتحته، وعن يمينه وشماله، وخلفه وقدامه، قاله ابن عباس أيضا.

والثالث: أنها البلايا التي تصيب الكافر في النار، سماها موتا، قاله الأخفش. قوله تعالى:

{وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ} أي: موتا تنقطع معه الحياة.

{وَمِن وَرَائِهِ} أي: من بعد هذا العذاب. قال ابن السائب: من بعد الصديد

{عَذَابٍ غَلِيظٍ}. وقال إبراهيم التيمي: بعد الخلود في النار. والغليظ: الشديد.

﴿ ١٧