٢٣

قوله تعالى: {وَٱلذرِيَـٰتِ ذَرْواً} يعني الرياح، يقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا، إذا فرقته، قال الزجاج: يقال ذرت فهي ذارية، وأذرت فهي مذرية بمعنى واحد. والذاريات، مجرورة على القسم، المعنى أحلف بالذاريات وهذه الأشياء، والجواب {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَـٰدِقٌ} قال قوم: المعنى: ورب الذاريات، ورب الجاريات.

قوله تعالى: {فَٱلْحَـٰمِلَـٰتِ وِقْراً} يعني السحاب التي تحمل وقرها من الماء. {فَٱلْجَـٰرِيَـٰتِ يُسْراً} يعني السفن تجري ميسرة في الماء جريا سهلا. {فَٱلْمُقَسّمَـٰتِ أَمْراً} يعني الملائكة تقسم الأمور على ما أمر اللّه به، قال ابن السائب: والمقسمات أربعة: جبريل، وهو صاحب الوحي، والغلظة، وميكائيل، وهو صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل، وهو صاحب الصور واللوح، وعزرائيل وهو قابض الأرواح. وإنما أقسم بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة على صنعه وقدرته. ثم ذكر المقسم عليه فقال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} أي: من الثواب والعقاب يوم القيامة {لَصَـٰدِقٌ} أي لحق.

{وَإِنَّ ٱلدّينَ} فيه قولان:

أحدهما:الحساب.

والثاني: الجزاء {لَوَاقِعٌ} أي لكائن. ثم ذكر قسما آخر فقال: {وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْحُبُكِ} وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين، «الحبك» بكسر الحاء والباء جميعا وقرأ عثمان بن عفان، والشعبي، وأبو العالية، وأبو حيوة، «الحِبْك» بكسر الحاء وإسكان الباء. وقرأ أبي ابن كعب، وابن عباس، وأبو رجاء، وابن أبي عبلة، «الحُبْك» برفع الحاء وإسكان الباء وقرأ ابن مسعود، وعكرمة «الحَبَك» بفتح الحاء والباء جميعا وقرأ أبو الدرداء، وأبو الجوزاء، وأبو المتوكل، وأبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري، «الحَبِك» بفتح الحاء وكسر الباء.

ثم في معنى الحبك أربعة أقوال:

أحدها: ذات الخلق الحسن رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال قتادة.

والثاني: البنيان المتقن قاله مجاهد.

والثالث: ذات الزينة قاله سعيد بن جبير وقال الحسن: حبكها نجومها.

والرابع: ذات الطرائق قاله الضحاك واللغويون. وقال الفراء «الحبك» تكسر لكل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، والشعرة الجعدة تكسرها حبك، وواحد الحبك حباك وحبيكة وقال الزجاج: أهل اللغة يقولون الحبك الطرائق الحسنة، والمحبوك في اللغة ما أجيد عمله، وكل ما تراه من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا اصابته الريح فهو حبك وروي عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال هذه هي السماء السابعة.

ثم ذكر جواب القسم الثاني {قَالَ إِنَّكُمْ} يعني أهل مكة {لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} في أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم، بعضكم يقول: شاعر، وبعضكم يقول: مجنون، وفي القرآن بعضكم يقول: سحر، وبعضكم يقول: كهانة ورجز، إلى غير ذلك. {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يصرف عن الإيمان به من صرف فحرمه. والهاء في عنه عائدة إلى القرآن، وقيل يصرف عن هذا القول، أي: من أجله وسببه عن الإيمان من صرف. وقرأ قتادة «من أفك» بفتح الألف والفاء وقرأ عمرو بن دينار «من أفك» بفتح الأف وكسر الفاء.

{قُتِلَ ٱلْخَرصُونَ} قال الفراء: يعني: لعن الكذابون الذين قالوا: إن النبي صلى اللّه عليه وسلم ساحر وكذاب وشاعر، خرصوا ما لا علم لهم به وفي رواية العوفي عن ابن عباس أنهم الكهنة وقال ابن الأنباري: والقتل إذ أخبر عن اللّه به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه اللّه فهو بمنزلة المقتول الهالك.

قوله تعالى {ٱلَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ} أي في عمى وجهالة بأمر الآخرة {سَـٰهُونَ} أي:غافلون والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه.

{يَسْـئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدّينِ} أي يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء؟ٰ تكذيبا منهم واستهزاءا. ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ} قال الزجاج: اليوم منصوب على معنى يقع الجزاء يوم هم على النار. {يُفْتَنُونَ} أي: يحرقون ويعذبون، ومن ذلك يقال للحجارة السود التي كأنها قد أحرقت بالنار الفتين. قوله تعالى: {ذُوقُواْ} المعنى يقال لهم: ذوقوا {فِتْنَتَكُمْ} وفيها قولان:

أحدهما: تكذيبكم، قاله ابن عباس.

والثاني: حريقكم، قاله مجاهد. قال أبو عبيدة ها هنا تم الكلام ثم ائتنف، فقال {هَـٰذَا ٱلَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} قال المفسرون: يعني الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاءا. ثم ذكر ما وعد اللّه لأهل الجنة فقال {إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ} وقد سبق شرح هذا [البقرة/٢٥] [الحجر/٤٥].

قوله تعالى: {ءاخِذِينَ} قال الزجاج هو منصوب على الحال فالمعنى: في جنات وعيون في حال أخذ {مَا ءاتَـٰهُمْ رَبُّهُمْ}

قال المفسرون أي: ما أعطاهم اللّه من الكرامة {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} في أعمالهم، وفي الآية وجه آخر آخذين ما آتاهم ربهم أي عاملين بما أمرهم به من الفرائض، إنهم كانوا قبل أن تفرض الفرائض عليهم محسنين، أي مطيعين، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية مسلم البطين. ثم ذكر إحسانهم فقال: {كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} والهجوع النوم بالليل دون النهار.

وفي «ما» قولان.

أحدهما: النفي. ثم في المعنى قولان:

أحدهما: كانوا يسهرون قليلا من الليل قال أنس بن مالك وأبو العالية هو ما بين المغرب والعشاء.

والثاني: كانوا ما ينامون قليلا من الليل. واختار قوم الوقف على قوله «قليلا» على معنى كانوا من الناس قليلا، ثم ابتدأ فقال من الليل «ما يهجعون» على معنى نفي النوم عنهم البتة، وهذا مذهب الضحاك ومقاتل.

والقول الثاني: أن «ما» بمعنى الذي فاللمعنى كانوا قليلا من الليل الذي يهجعونه، وهذا مذهب الحسن، والأحنف بن قيس، والزهري. وعلى هذا يحتمل أن تكون «ما» زائدة.

قوله تعالى: {وَبِٱلاْسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وقد شرحناه في [آل عمران/ ١٧].

قوله تعالى: {وَفِى أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ} أي نصيب وفيه قولان:

أحدهما: أنه ما يصلون به رحما،أو يقرون به ضيفا، أو يحملون به كلا، أو يعينون به محروما وليس بالزكاة، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه الزكاة قاله قتادة، وابن سيرين.

قوله تعالى: {لَّلسَّائِلِ} وهو الطالب.

وفي {المحروم} ثمانية أقوال:

أحدها: أنه الذي ليس له سهم في فيء المسلمين، وهو المحارف قاله ابن عباس. وقال إبراهيم هو الذي لا سهم له في الغنيمة.

والثاني: أنه الذي لا ينمى له شيء قاله مجاهد، وكذلك قال عطاء هو المحروم في الرزق والتجارة.

والثالث: أنه المسلم الفقير قاله محمد بن علي.

والرابع: أنه المتعفف الذي لا يسأل، شيئا قاله قتادة، والزهري.

والخامس: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة، وليس له فيها سهم، قاله: الحسن ابن محمد بن الحنفية.

والسادس: أنه المصاب ثمرته وزرعه أو نسل ماشيته، قاله ابن زيد.

والسابع: أنه المملوك، حكاه الماوردي.

والثامن: أنه الكلب، روي عن عمر بن عبد العزيز. وكان الشعبي يقول: أعياني أن أعلم ما المحروم. وأظهر الأقوال قول قتادة والزهري، لأنه قرنه بالسائل، والمتعفف لا يسأل ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل ثم يتحفظ بالتعفف من ظهور أثر الفاقة عليه، فيكون محروما من قبل نفسه حين لم يسأل، ومن قبل الناس حين لا يعطونه، وإنما يفطن له متيقظ. وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة، ولا يصح.

قوله تعالى: {وَٱلْمَحْرُومِ وَفِى ٱلاْرْضِ ءايَـٰتٌ} كالجبال والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك {لّلْمُوقِنِينَ} باللّه عز وجل الذين يعرفونه بصنعه.

{وَفِى أَنفُسِكُمْ ءايَـٰتِ} إذ كنتم نطفا، ثم عظاما، ثم علقا، ثم مضغا، إلى غير ذلك من أحوال الاختلاف، ثم اختلاف الصور والألوان والطبائع، وتقويم الأدوات والسمع والبصر والعقل، وتسهيل سبيل الحدث، إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم. وتم الكلام عند قوله: «وفي أنفسكم»، ثم قال: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} قال مقاتل: أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث.

قوله تعالى: {وَفِى ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ} وقرأ أبي بن كعب، وحميد، وأبو حصين الأسدي: «أرْزاقُكم» براء ساكنة وبألف بين الزاي والقاف وقرأ ابن معسود، والضحاك، وأبو نهيك: رازِقُكم بفتح الراء وكسر الزاي وبألف بينهما.

وعن ابن محيصن كهاتين القراءتين. وفيه قولان.

أحدهما: أنه المطر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وليث عن مجاهد، وهو قول الجمهور.

والثاني: الجنة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.

وفي قوله: {مَّا تُوعَدُونَ} قولان.

أحدهما: أنه الخير والشر كلاهما يأتي من السماء، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد.

والثاني: الجنة رواه ليث عن مجاهد. قال: أبو عبيدة: في هذه الآية مضمر مجازه: عند من في السماء رزقكم، وعنده ما توعدون، والعرب تضمر، قال نابغة ذبيان: كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن. أراد: كأنك جمل من جمال بني أقيش.

قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} قال الزجاج: يعني: ما ذكره من أمر الآيات والرزق وما توعدون وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم، {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «مِثْلَ» برفع اللام وقرأ الباقون بنصب اللام. قال الزجاج: فمن رفع «مِثْلَ» فهي من صفة الحق،

والمعنى: إنه لحق مثل نطقكم، ومن نصب فعلى ضربين:

أحدهما: أن يكون في موضع رفع إلا أنه لما أضيف إلى «أن» فتح.

والثاني: أن يكون منصوبا على التأكيد، على معنى: إنه لحق حقا مثل نطقكم، وهذا الكلام كما تقول: إنه لحق كما أنك تتكلم.

﴿ ٢٣