١١

قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ مُهَـٰجِرٰتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ} قال ابن عباس: إن مشركي مكة صالحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم. ومن أتى أهل مكة من أصحابه، فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب، وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافرا، فقال: يا محمد: اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت هذه الآية.

وذكر جماعة من العلماء منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أول من هاجر من النساء إلى المدينة بعد هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقدمت المدينة في هدنة الحديبية، فخرج في أثرها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة، فقالا: يا محمد، أوف لنا بشرطنا، وقالت أم كلثوم: يا رسول اللّه؛ أنا امرأة، وحال النساء إلى الضعف ما قد علمت، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني، ولا صبر لي؟ٰ فنقض اللّه عز وجل العهد في النساء وأنزل فيهن المحنة، وحكم فيهن بحكم رضوه كلهم، ونزل في أم كلثوم {فَٱمْتَحِنُوهُنَّ} فامتحنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وامتحن النساء بعدها يقول: واللّه ما أخرجكن إلا حب اللّه ورسوله، وما خرجتن لزوج ولا مال؟ فإذا قلن ذلك تركن، فلم يرددن إلى أهليهن.

وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سببا لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها سبيعة، وقد ذكرناه عن ابن عباس.

والثاني: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقد ذكرناه عن جماعة من أهل العلم وهو المشهور.

والثالث: أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف، ذكره أبو نعيم الأصبهاني، قال الماوردي: وقد اختلف أهل العلم هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظا أو عموما؟ فقالت طائفة قد كان شرط ردهن في لفظ الهدنة لفظا صريحا؛ فنسخ اللّه تعالى ردهن من العقد، ومنع منه، وأبقاها في الرجال على ما كان، وقالت طائفة: لم يشرط ردهن في العقد صريحا، وإنما أطلق العقد، وكان ظاهر العموم اشتماله مع الرجال،

فبين اللّه عز وجل خروجهن عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين.

أحدهما: أنهن ذوات فروج تحرمن عليهم.

والثاني: أنهن أرق قلوبا، وأسرع تقلبا منهم. فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم، وقال القاضي أبو يعلى: وإنما لم يرد النساء عليهم لأن النسخ جائز بعد التمكين من الفعل، وإن لم يقع الفعل.

قال المفسرون: والمراد بقوله تعالى {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنه هو الذي تولى امتحانهن، ويراد به سائر المؤمنين عند غيبته صلى اللّه عليه وسلم قال ابن زيد وإنما أمرنا بامتحانهن لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة، قالت لألحقن بمحمد.

وفيما كان يمتحنهن به ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه كان يمتحنهن ب «شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله»، رواه العوفي عن ابن عباس.

والثاني: أنه كان يستحلف المرأة باللّه: ما خرجت من بغض زوج، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلا حبا للّه ولرسوله، روي عن ابن عباس أيضا.

والثالث: أنه كان يمتحنهن بقوله تعالى {إِذَا جَاءكَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ يُبَايِعْنَكَ} فمن أقرت بهذا الشرط قالت: قد بايعتك، هذا قول عائشة.

قوله تعالى: {ٱللّه أَعْلَمُ بِإِيمَـٰنِهِنَّ} أي: إن هذا الامتحان لكم، واللّه أعلم بهن، {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـٰتٍ} وذلك يعلم بإقرارهن، فحينئذ لا يحل ردهن {إِلَى ٱلْكُفَّـٰرِ} لأن اللّه تعالى لم يبح مؤمنة لمشرك وآتوهم يعني أزواجهن الكفار

{مَّا أَنفَقُواْ} يعني: المهر قال مقاتل: هذا إذا تزوجها مسلم. فإن لم يتزوجها أحد فليس لزوجها الكافر شيء

{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وهي المهور. فصل عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها، وقعت الفرقة على انقضاء عدتها. فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي امرأته، وهذا قول الأوزاعي، والليث، ومالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: تقع الفرقة باختلاف الدارين.

قوله تعالى {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، «تُمسِكوا» بضم التاء والتخفيف وقرأ أبو عمرو ويعقوب «تُمسِّكوا» بضم التاء وبالتشديد وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وابن يعمر، وأبو حيوة «تَمسَّكوا» بفتح التاء والميم والسين مشددة «والكوافرَ» جمع كافرة، والمعنى: إن اللّه تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهن. وقال الزجاج: المعنى: أنها إذا كفرت، فقد زالت العصمة بينها وبين المؤمن، أي: قد انبت عقد النكاح، وأصل العصمة: الحبل، وكل ما أمسك شيئا فقد عصمه.

قوله تعالى {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم يدفعوها إليكم

{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} يعني: المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم فليسأل أزواجهن الكفار من تزوجهن «ما أنفقوا» وهو المهر والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصداق كما يغرمون لكم. قال أهل السير: وكانت أم كلثوم حين هاجرت عاتقا لم يكن لها زوج، فيبعث إليه قدر مهرها، فلما هاجرت تزوجت زيد بن حارثة.

قوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللّه} يعني ما ذكر في هذه الآية. فصل وذكر بعضهم في قوله تعالى

{وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ} أنه نسخ ذلك في حرائر أهل الكتاب بقوله تعالى: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} [المائدة: ٥] وهذا تخصيص لا نسخ.

قوله تعالى: {وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أَزْوٰجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّـٰرِ فَعَـٰقَبْتُمْ} قال الزجاج: أي: أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم وقرأ ابن مسعود، والأزهري، والنخعي: «فعَقَبتم» بغير ألف وبفتح العين والقاف وبتخفيفها، وقرأ ابن عباس، وعائشة، وحميد، والأعمش: مثل ذلك، إلا أن القاف مشددة، قال الزجاج: المعنى: في التشديد والتخفيف واحد، فكانت العقبى لكم بأن غلبتم.

وقرأ أبي بن كعب وعكرمة، ومجاهد، «فأعقبتم» بهمزة ساكنة العين، مفتوحة القاف خفيفة. وقرأ معاذ القارىء، وأبو عمران الجوني: «فعَقِبتم» بفتح العين وكسر القاف وتخفيفها من غير ألف

{فَاتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوٰجُهُمْ مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} أي: أعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر.

وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في عياض بن غنم، كانت زوجته مسلمة وهي أم الحكم بنت أبي سفيان، فارتدت فلحقت بمكة، فأمر اللّه المسلمين أن يعطوا زوجها من الغنيمة بقدر ما ساق إليها من المهر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {بَرَاءةٌ مّنَ ٱللّه وَرَسُولِهِ} {ٱلتَّوْبَةُ} إلى رأس الخمس.

فصل

قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام في أداء المهر، وأخذه من الكفار، وتعويض الزوج من الغنيمة، أو من صداق قد وجب رده على أهل الحرب، منسوخة عند جماعة من أهل العلم. وقد نص أحمد على هذا قلت: وكذا قال مقاتل: كل هؤلاء الآيات نسختها آية السيف.

﴿ ١١