تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير) مفاتيح الغيب

الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين

الشافعي

(ت ٦٠٦  هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________

سُورَةُ الْفاَتِحَةِ الْكِتاَبِ

مَكِّيَّةٌ وَهِيَ سَبْعُ آياَتٍ

بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه الذي وفقنا لأداء أفضل الطاعات ووفقنا على كيفية اكتساب أكمل السعادات وهدانا إلى قولنا : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم من كل المعاصي والمنكرات " {بسم اللّه الرحمن الرحيم} " نشرع في أداء كل الخيرات والمأمورات " {الحمد للّه} " الذي له ما في السموات " {رب العالمين} " بحسب كل الذوات والصفات " {الرحمن الرحيم} " على أصحاب الحاجات وأرباب الضرورات " {مالك يوم الدين} " في إيصال الأبرار إلى الدرجات وإدخال الفجار في الدركات " {إياك نعبد وإياك نستعين} " في القيام بأداء جملة التكليفات " {اهدنا الصراط المستقيم} " بحسب كل أنواع الهدايات " {صراط الذين أنعمت عليهم} " في كل الحالات والمقامات " {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} "

من أهل الجهالات والضلالات والصلاة على محمد المؤيد بأفضل المعجزات والآيات وعلى آله وصحبه بحسب تعاقب الآيات وسلم تسليما

أما بعد : فهذا كتاب مشتم على شرح بعض ما رزقنا اللّه تعالى من علوم الفاتحة ونسأل اللّه العظيم أن يوفقنا لإتمامه وان يجعلنا في الدارين أهلا لإكرامه وإنعامه إنه خير موفق ومعين وبإسعاف الطالبين قمين وهذا الكتاب مرتب على مقدمة وكتب

أما المقدمة ففيها فصول:

 الفصل الأول في التنبيه على علوم هذه السورة على سبيل الإجمال اعلم أنه مر على لساني في بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة فاستبعد هذا بعض الحساد وقوم من أهل الجهل وألغي والعناد وحملوا ذلك على ما ألفو من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعاني والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب قدمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر ممكن الحصول قريب الوصول فنقول وباللّه التوفيق : إن قولنا " {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} " لا شك أن المراد منه الاستعاذة باللّه من جميع المنهيات والمحظورات ولا شك ان المنهيات أما أن تكون من باب الاعتقاد أو من باب أعمال الجوارح ؛

أما الاعتقاد فقد جاء في الخبر المشهور قوله صلى اللّه عليه وسلم: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة

وهذا يدل على أن الاثنتين والسبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة ؛ ثم إن ضلال كل واحدة من أولئك الفرق غير مختص بمسألة واحدة بل هو حاصل في مسائل كثيرة من المباحث المعلقة بذات اللّه تعالى وبصفاته وبأحكامه وبأفعاله وبأسمائه وبمسائل الجبر والقدر والتعديل والتجوير والثواب والمعاد والوعد والوعيد والأسماء والأحكام والإمامة فإذا وزعنا الفرق الضالة - وهو الاثنتان والسبعون - على هذه المسائل الكثيرة بلغ العدد الحاصل مبلغا عظيما وكل ذلك أنواع الضلالات الحاصلة في فرق الأمة في جميع المسائل العقلية المتعلقة بالإلهيات والمتعلقة بأحكام الذوات والصفات ؛ بلغ المجموع مبلغا عظيما في العدد ؛ ولا شك أن قولنا " {أعوذ باللّه} " يتناول الاستعاذة من جميع تلك الأنواع والاستعاذة من الشيء لا تمكن إلا بعد معرفة المستعاذ منه وإلا بعد معرفة كون ذلك الشيء باطلا وقبيحا فظهر بهذا الطريق أن قولنا " {أعوذ باللّه} " مشتمل على عشرة آلاف مسئلة أو أزيد أو أقل من المسائل المهمة المعتبرة .

تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير): مفاتيح الغيب - الإمام العلامة فخر الدين الرازى

أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن الحسين - الشافعي (ت ٦٠٦ هـ ١٢٠٩ م)

_________________________________ 

سورة الفاتحة

وآياتها سبع مكية "

_________________________________ 

١

{بسم اللّه الرحمن الرحيم} "

وأما قوله جل جلاله " {بسم اللّه الرحمن الرحيم} " ففيه نوعان من البحث :

النوع الأول : قد اشتهر عند العلماء أن للّه تعالى ألفا وواحدا من الأسماء المقدسة المطهرة وهي موجودة في الكتاب والسنة ولا شك أن البحث عن كل واحد من تلك الأسماء مسألة شريفة عالية وأيضا فالعلم بالاسم لا يحصل إلا إذا كان مسبوقا بالعلم بالمسمى وفي البحث عن ثبوت تلك المسميات وعن الدلائل الدالة على ثبوتها وعن أجوبة الشبهات التي تذكر في نفيها مسائل كثيرة ومجموعها يزيد على الألوف

النوع الثاني من مباحث هذه الآية : أن الباء في قوله " {بسم اللّه} " باء الإلصاق وهي متعلقة بفعل والتقدير : باسم اللّه أشرع في أداء الطاعات وهذا المعنى لا يصير ملخصا معلوما إلا بعد الوقوف على أقسام الطاعات وهي العقائد الحقة والأعمال الصافية مع الدلائل والبينات ومع الأجوبة عن الشبهات وهذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة.

ومن اللطائف أن قوله " {أعوذ باللّه} " إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من العقائد والأعمال وقوله " {بسم اللّه} " إشارة إلى ما ينبغي من الاعتقادات والعمليات فقوله " {بسم اللّه} " لا يصير معلوما إلا بعد الوقوف على جميع العقائد الحقة والأعمال الصافية وهذا هو الترتيب الذي يشهد بصحته العقل الصحيح والحق الصريح .

أما قوله جل جلاله " {الحمد للّه} " فاعلم أن الحمد إنما يكون حمدا على النعمة والحمد على النعمة لا يمكن إلا بعد معرفة تلك النعمة لكن أقسام نعم اللّه خارجة عن التحديد والإحصاء كما قال تعالى : " {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} " [ إبراهيم : ٣٤ ] ولنتكلم في مثال واحد وهو ان العاقل يجب أن يعتبر ذاته وذلك لأنه مؤلف من نفس وبدن ؛ ولا شك أن أدون الجزءين وأقلهما فضيلة ومنفعة هو البدن ثم إن أصحاب التشريح وجدوا قريبا من خمسة آلاف نوع من المنافع والمصالح التي دبرها اللّه عز وجل بحكمته في تخليق بدن الإنسان ثم إن من وقف على هذه الأصناف المذكورة في كتب التشريح عرف أن نسبة هذا القدر المعلوم المذكور إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط وعند هذا يظهر أن معرفة أقسام حكمة الرحمن في خلق الإنسان تشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أكثر ؛ ثم إذا ضمت إلى هذه الجملة آثار حكم اللّه تعالى في تخليق العرش والكرسي وأطباق السموات وأجرام النيرات من الثوابت والسيارات وتخصيص كل واحد منها بقدر مخصوص ولون مخصوص وغير مخصوص ثم يضم إليها آثار حكم اللّه تعالى في تخليق الأمهات والمولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات وأصناف أقسامها وأحوالها - علم أن هذا المجموع مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل ثم إنه تعالى نبه على أن أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان كما قال تعالى : " {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض} " [ الجاثية : ١٣ ] وحينئذ يظهر أن قوله جل جلاله " {الحمد للّه} " مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل .

وأما قوله جل جلاله " {رب العالمين} " فاعلم أن قوله " {رب} " مضاف وقوله " {العالمين} " مضاف إليه وإضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى ربا للعالمين إلا بعد معرفة رب العالمين ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى اللّه تعالى وهي على ثلاثة أقسام : المتحيزات والمفارقات والصفات

أما المتحيزات فهي

أما بسائط أو مركبات

أما البسائط فهي الأفلاك والكواكب والأمهات

وأما المركبات فهي المواليد الثلاثة واعلم أنه لم يقم دليل على أنه لا جسم إلا هذه الأقسام الثلاثة وذلك لأنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية ؛ قال أبو العلاء المعري :

( يا أيها الناس كم للّه من فلك تجري النجوم به والشمس والقمر ) ( هين على اللّه ماضينا وغابرنا فما لنا في نواحي غيره خطر )

ومعلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات - لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب ولا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى : " {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّه} " [ لقمان : ٢٧ ] وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله " {رب العالمين} " ؟

 وأما قوله تعالى " {الرحمن الرحيم} " فاعلم أن الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات

أما التخليص عن أقسام الآفات فلا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الآفات وهي كثيرة لا يعلمها إلا اللّه تعالى ومن شاء أن يقف على قليل منها فليطالع كتب الطب حتى يقف عقله على أقسام الأسقام التي يمكن تولدها في كل واحد من الأعضاء والأجزاء ثم يتأمل في أنه تعالى كيف هدى عقول الخلق إلى معرفة أقسام الأغذية والأدوية من المعادن والنبات والحيوان فإنه إذا خاض في هذا الباب وجده بحرا لا ساحل له .

وقد حكى جالينوس أنه لما صنف كتابه في منافع أعضاء العين قال : بخلت على الناس بذكر حكمة اللّه تعالى في تخليق العصبين المجوفين ملتقيين على موضع واحد فرأيت في النوم كان ملكا نزل من السماء وقال : يا جالينوس إن إلهك يقول : لم بخلت على عبادي بذكر حكمتي ؟ قال : فانتبهت فصنفت فيه كتابا وقال أيضا : إن طحالي قد غلظ فعالجته بكل ما عرفت فلم ينفع فرأيت في الهيكل كأن ملكا نزل من السماء وأمرني بفصد العرق الذي بين الخنصر والبنصر ؛ واكثر علامات الطب في أوائلها تنتهي إلى أمثال هذه التنبيهات والإلهامات فإذا وقف الإنسان على أمثال هذه المباحث عرف أن أقسام رحمة اللّه تعالى على عباده خارجة عن الضبط والإحصاء .

وأما قوله تعالى " {مالك يوم الدين} " فاعلم أن الإنسان كالمسافر في هذه الدنيا وسنوه كالفراسخ وشهوره كالأميال وأنفاسه كالخطوات ومقصده الوصول إلى عالم أخراه ؛ لأن هناك يحصل الفوز بالباقيات الصالحات فإذا شاهد في الطريق أنواع هذه العجائب في ملكوت الأرض والسموات فلينظر أنه كيف يكون عجائب حال عالم الآخرة في الغبطة والبهجة والسعادة إذا عرفت هذا فنقول : قوله : " {مالك يوم الدين} " إشارة إلى مسائل المعاد والحشر والنشر وهي قسمان : بعضها عقلية محضة وبعضها سمعية أما العقلية المحضة فكقولنا : هذا العالم يمكن تخريبه وإعدامه ثم يمكن إعادته مرة اخرى وإن هذا الإنسان بعد موته تمكن إعادته وهذا الباب لا يتم إلا بالبحث عن حقيقة جوهر النفس وكيفية أحوالها وصفاتها وكيفية بقائها بعد البدن وكيفية سعادتها وشقاوتها وبيان قدرة اللّه عز وجل على إعادتها وهذه المباحث لا تتم إلا بما يقرب من خمسمائة مسألة من المباحث الدقيقة العقلية .

وأما السمعيات فهي على ثلاثة أقسام :

 أحدها الأحوال التي توجد قبل قيام القيامة وتلك العلامات منها صغيرة ومنها كبيرة وهي العلامات العشرة التي سنذكرها ونذكر أحوالها

وثانيها الأحوال التي توجد عند قيام القيامة وهي كيفية النفخ في الصورة وموت الخلائق وتخريب السموات والكواكب وموت الروحانيين والجسمانيين

وثالثها الأحوال التي توجد بعد قيام القيامة وشرح أحوال أهل الموقف وهي كثيرة يدخل فيها كيفية وقوف الخلق وكيفية الأحوال التي يشاهدونها وكيفية حضور الملائكة والأنبياء عليهم السلام وكيفية الحساب وكيفية وزن الأعمال وذهاب فريق إلى الجنة وفريق إلى النار وكيفية صفة أهل الجنة وصفة أهل النار ومن هذا الباب شرح أحوال أهل الجنة وأهل النار بعد وصولهم إليها وشرح الكلمات التي يذكرونها والأعمال التي يباشرونها ولعل مجموع هذه المسائل العقلية والنقلية يبلغ الألوف من المسائل وهي بأسرها داخلة تحت قوله " {مالك يوم الدين} " .

وأما قوله تعالى " {إياك نعبد وإياك نستعين} " فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأموز به على سبيل التعظيم للآمر فما لم يثبت بالدليل أن لهذا العالم إلها واحدا قادرا على مقدورات لا نهاية لها عالما بمعلومات لا نهاية لها غنيا عن كل الحاجات فإنه أمر عباده ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وأنه يجب على الخلائق طاعته والانقياد لتكاليفه - فإنه لا يمكن القيام بلوازم قوله تعالى " {إياك نعبد} " ثم إن بعد الفراغ من المقام المذكور لا بد من تفصيل أقسام تلك التكاليف وبيان أنواع تلك الأوامر والنواهي وجميع ما صنف في الدين من كتب الفقه يدخل فيه تكاليف اللّه ثم كما يدخل فيه تكاليف اللّه تعالى بحسب هذه الشريعة فكذلك يدخل فيه تكاليف اللّه تعالى بحسب الشرائع التي قد كان أنزلها اللّه تعالى على الأنبياء المتقدمين وأيضا يدخل فيه الشرائع التي كلف اللّه بها ملائكته في السموات منذ خلق الملائكة وأمرهم بالاشتغال بالعبادات والطاعات وأيضا فكتب الفقه مشتملة على شرح التكاليف المتوجهة في أعمال الجوارح

أما أقسام التكاليف الموجودة في أعمال القلوب فهي أكبر وأعظم وأجل وهي التي تشتمل عليها كتب الأخلاق وكتب السياسات بحسب الملل المختلفة والأمم المتباينة وإذا اعتبر الإنسان مجموع هذه المباحث وعلم أنها بأسرها داخلة تحت قوله تعالى " {إياك نعبد} " علم حينئذ أن المسائل التي اشتملت هذه الآية عليها كالبحر المحيط الذي لا تصل العقول والأفكار إلا إلى القليل منها .

أما قوله جل جلاله " {اهدنا الصراط المستقيم} " فاعلم أنه عبارة عن طلب الهداية ولتحصيل الهداية طريقان :

أحدهما طلب المعرفة بالدليل والحجة

والثاني : بتصفية الباطن والرياضة

أما طرق الاستدلال فإنها غير متناهية لأنه لا ذرة من ذرات العالم الأعلى والأسفل إلا وتلك الذرة شاهدة بكمال إلهيته وبعزة عزته وبجلال صمديته كما قيل :

( وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد )

وتقريره : أن أجسام العالم متساوية في ماهية الجسمية ومختلفة في الصفات وهي الألوان والأمكنة والأحوال ويستحيل أن يكون اختصاص كل جسم بصفته المعينة لأجل الجسمية أو لوازم الجسمية وإلا لزم حصول الاستواء فوجب أن يكون ذلك لتخصيص مخصص وتدبير مدبر وذلك المخصص إن كان جسما عاد الكلام فيه وإن لم يكن جسما فهو المطلوب ثم ذلك الموجود إن لم يكن حيا عالما قادرا بل كان تأثيره بالفيض والطبع عاد الإلزام في وجوب الاستواء وإن كان حيا عالما قادرا فهو المطلوب إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من ذرات السموات والأرض شاهد صادق ومخبر ناطق بوجود الإله القادر الحكيم العليم وكان الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر رحمه اللّه يقول : إن للّه تعالى في كل جوهر فرد أنواعا غير متناهية من الدلائل الدالة على القدرة والحكمة والرحمة وذلك لأن كل جوهر فرد فإنه يمكن وقوعه في أحياز غير متناهية على البدل ويمكن أيضا اتصافه بصفات غير متناهية على البدل وكل واحد من تلك الأحوال المقدرة فإنه بتقدير الوقوع يدل على الافتقار إلى وجود الصانع الحكيم الرحيم فثبت بما ذكرنا أن هذا النوع من المباحث غير متناه

وأما تحصيل الهداية بطريق الرياضة والتصفية فذلك بحر لا ساحل له ولكل واحد من السائرين إلى اللّه تعالى منهج خاص ومشرب معين كما قال ولكل وجهة هو موليها ولا وقوف للعقول على تلك الأسرار ولا خبر عند الافهام من مبادئ ميادين تلك الأنوار والعارفون المحققون لحظوا فيها مباحث عميقة وأسرارا دقيقة قلما ترقى إليها أفهام الأكثرين .

وأما قوله جل جلاله " {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} " فما أجل هذه المقامات وأعظم مراتب هذه الدرجات ! ومن وقف على ما ذكرناه من البيانات أمكنه أن يطلع على مبادئ هذه الحالات فقد ظهر بالبيان الذي سبق أن هذه السورة مشتملة على مباحث لا نهاية لها وأسرار لا غاية لها وأن قول من يقول هذه السورة مشتملة على عشرة آلاف مسئلة كلام خرج على ما يليق بأفهام السامعين .

الفصل الثاني في تقرير مشرع آخر يدل على أنه يمكن استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة ولنتكلم في قولنا " {أعوذ باللّه} " فنقول : أعوذ نوع من أنواع الفعل المضارع والفعل المضارع نوع من أنواع الفعل

وأما الباء في قوله باللّه فهي باء الإلصاق وهي نوع من أنواع حروف الجر وحروف الجر نوع من أنواع الحروف

وأما قولنا اله فهو اسم معين :

أما من أسماء الأعلام أو من الأسماء المشتقة على اختلاف القولين فيه والاسم العلم والاسم المشتق كل واحد منهما نوع من أنواع مطلق الاسم وقد ثبت في العلوم العقلية أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس لأن الجنس جزء من ماهية النوع والعلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب لا محالة فقولنا " {أعوذ باللّه} " لا يمكن تحصيل العلم به كما ينبغي إلا بعد معرفة الاسم والفعل والحرف أولا وهذه المعرفة لا تحصل إلا بعد ذكر حدودها وخواصها ثم بعد الفراغ منه لا بد من تقسيم الاسم إلى الاسم العلم وإلى الاسم المشتق وإلى اسم الجنس وتعريف كل واحد من هذه الأقسام بحده ورسمه وخواصه ثم بعد الفراغ منه يجب الكلام في أن لفظة {اللّه} اسم علم أو اسم مشتق وبتقدير أن يكون مشتقا فهو مشتق من ماذا ويذكر فيه الوجوه الكثيرة التي قيل بكل واحد منها وأيضا يجب البحث عن حقيقة الفعل المطلق ثم يذكر بعده أقسام الفعل ومن جملتها الفعل المضارع ويذكر حده وخواصه وأقسامه ثم يذكر بعده المباحث المتعلقة بقولنا أعوذ على التخصيص وأيضا يجب البحث عن حقيقة الحرف المطلق ثم يذكر بعده حرف الجر وحده وخواصه وأحكامه ثم يذكر بعده باء الإلصاق وحده وخواصه وعند الوقوف على تمام هذه المباحث يحصل الوقوف على تمام المباحث اللفظية المتعلقة بقوله " {أعوذ باللّه} " ومن المعلوم أن المباحث التي أشرنا إلى معاقدها كثيرة جدا .ثم نقول :

والمرتبة الرابعة من المراتب أن نقول : الاسم والفعل والحرف أنواع ثلاثة داخلة تحت جنس الكلمة فيجب البحث أيضا عن ماهية الكلمة وحدها وخواصها وأيضا فههنا ألفاظ أخرى شبيهة بالكلمة وهي : الكلام والقول واللفظ واللغة والعبارة فيجب البحث عن كل واحد منها ثم يجب البحث عن كونها من الألفاظ المترادفة أو من الألفاظ المتباينة وبتقدير أن تكون ألفاظا متباينة فإنه يجب ذكر تلك الفروق على التفصيل والتحصيل .ثم نقول :

والمرتبة الخامسة من البحث أن نقول : لا شك أن هذه الكلمات إنما تحصل من الأصوات والحروف فعند ذلك يجب البحث عن حقيقة الصوت وعن أسباب وجوده ولا شك أن حدوث الصوت في الحيوان إنما كان بسبب خروج النفس من الصدر فعندها يجب البحث عن حقيقة النفس وأنه ما الحكمة في كون الإنسان متنفسا على سبيل الضرورة وأن هذا الصوت يحصل بسبب استدخال النفس أو بسبب إخراجه وعند هذا تحتاج هذه المباحث إلى معرفة أحوال القلب والرئة ومعرفة الحجاب الذي هو المبدأ الأول لحركة الصوت ومعرفة سائر العضلات المحركة للبطن والحنجرة واللسان والشفتين

وأما الحرف فيجب البحث أنه هل هو نفس الصوت أو هيئة موجودة في الصوت مغايرة له وأيضا لا شك أن هذه الحروف إنما تتولد عند تقطيع الصوت وهي مخارج مخصوصة في الحلق واللسان والأسنان والشفتين فيجب البحث عن أحوال تلك المحابس ويجب أيضا البحث عن أحوال العضلات التي باعتبارها تتمكن الحيوانات من إدخال الأنواع الكثيرة من الجنس في الوجود وهذه المباحث لا تتم دلالتها إلا عند الوقوف على علم التشريح .ثم نقول :

والمرتبة السادسة من البحث هي أن الحرف والصوت كيفيات محسوسة بحاسة السمع

وأما الألوان والأضواء فهي كيفيات محسوسة بحاسة البصر والطعوم كيفيات محسوسة بحاسة الذوق وكذا القول في سائر الكيفيات المحسوسة فهل يصح أن يقال : هذه الكيفيات أنواع داخلة تحت جنس واحد وهي متباينة بتمام الماهية وأنه لا مشاركة بينها إلا باللوازم الخارجية أم لا ؟ ثم نقول :

والمرتبة السابعة من البحث أن الكيفيات المحسوسة نوع واحد من أنواع جنس الكيف في المشهور فيجب البحث عن تعريف مقولة الكيف ثم يجب البحث أن وقوعه على ما تحته هل هو قول الجنس على الأنواع أم لا ؟ ثم نقول :

والمرتبة الثامنة أن مقولة الكيف ومقولة الكم ومقولة النسبة عرض فيجب البحث عن مقولة العرض وأقسامه وعن أحكامه ولوازمه وتوابعه .

ثم نقول :

والمرتبة التاسعة أن العرض والجوهر يشتركان في الدخول تحت الممكن والممكن والواجب مشتركان في الدخول تحت الموجود فيجب البحث عن لواحق الوجود والعدم وهي كيفية وقوع الموجود والممكن أنه هل هو قول الجنس على أنواعه أو هو قول اللوازم على موصوفاتها وسائر المباحث المتعلقة بهذا الباب .

ثم نقول :

والمرتبة العاشرة أن نقول : لا شك أن المعلوم والمذكور والمخبر عنه يدخل فيها الموجود والمعدوم فكيف يعقل حصول أمر أعم من الموجود ؟ ومن الناس من يقول المظنون أعم من المعلوم وأيضا فهب أن أعم الاعتبارات هو المعلوم ولا شك أن المعلوم مقابلة غير المعلوم لكن الشيء ما لم تعلم حقيقته امتنع الحكم عليه بكونه مقابلا لغيره فلما حكمنا على غير المعلوم بكونه مقابلا للمعلوم وجب أن يكون غير المعلوم معلوما فحينئذ يكون المقابل للمعلوم معلوما وذلك محال .

واعلم أن من اعتبر هذه المراتب العشرة في كل جزء من جزئيات الموجودات فقد انفتحت عليه أبواب مباحث لا نهاية لها ولا يحيط عقله بأقل القليل منها فظهر بهذا كيفية الاستنباط للعلوم الكثيرة من الألفاظ القليلة .

الفصل الثالث في تقرير مشرع آخر لتصحيح ما ذكرناه من استنباط المسائل الكثيرة من هذه السورة اعلم أنا إذا ذكرنا مسألة واحدة في هذا الكتاب ودللنا على صحتها بوجوه عشرة فكل واحد من تلك الوجوه والدلائل مسألة بنفسها ثم إذا حكينا فيها مثلا شبهات خمسة فكل واحد منها أيضا مسألة مستقلة بنفسها ثم إذا أجبنا عن كل واحد منها بجوابين أو ثلاثة فتلك الأجوبة الثلاثة أيضا مسائل ثلاثة وإذا قلنا مثلا : الألفاظ الواردة في كلام العرب جاءت على ستين وجها وفصلنا تلك الوجوه فهذا الكلام في الحقيقة ستون مسألة وذلك لأن المسألة لا معنى لها إلا موضع السؤال والتقرير فلما كان كل واحد من هذه الوجوه كذلك كان كل واحد منها مسألة على حدة وإذا وقفت على هذه الدقيقة

فنقول : إنا لو اعتبرنا المباحث المتعلقة بالاسم والفعل ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيم الأفعال بالمعلوم والمذكور والمباحث المتعلقة بالموجود والمعدوم والمباحث المتعلقة بالواجب والممكن والمباحث المتعلقة بالجوهر والعرض والمباحث المتعلقة بمقولة الكيف وكيفية انقسامه إلى الكيفية المحسوسة وغير المحسوسة والمباحث المتعلقة بالصوت وكيفية حدوثه وكيفية العضلات المحدثة للأصوات والحروف - عظم الخطب واتسع الباب ولكنا نبدأ في هذا الكتاب بالمباحث المتعلقة بالكلمة والكلام والقول واللفظ والعبارة ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف ثم ننزل منها إلى المباحث المتعلقة بتقسيمات الأسماء والأفعال والحروف حتى ننتهي إلى الأنواع الثلاثة الموجودة في قوله " {أعوذ باللّه} " ونرجو من فضل اللّه العميم أن يوفقنا للوصول إلى هذا المطلوب الكريم .

الكتاب الأول

في العلوم المستنبطة من قوله ( أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم )

اعلم أن العلوم المستنبطة من هذه الكلمة نوعان :

 أحدهما المباحث المتعلقة باللغة والإعراب والثاني : المباحث المتعلقة بعلم الأصول والفروع .

القسم الأول

من هذا الكتاب في المباحث الأدبية المتعلقة بهذه الكلمة

وفيه أبواب .

الباب الأول

في المباحث المتعلقة بالكلمة وما يجري مجراها

وفيه مسائل

المسألة الأولى : اعلم أن أكمل الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ هو طريقة الاشتقاق ثم إن الاشتقاق على نوعين : الاشتقاق الأصغر والاشتقاق الأكبر أما الاشتقاق الأصغر فمثل اشتقاق صيغة الماضي والمستقبل من المصدر ومثل اشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول وغيرهما منه

وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن الكلمة إذا كانت مركبة من الحروف كانت قابلة للانقلابات لا محالة فنقول : أول مراتب هذا التركيب أن تكون الكلمة مركبة من حرفين ومثل هذه الكلمة لا تقبل إلا نوعين من التقليب كقولنا من وقلبه نم وبعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة مركبة من ثلاثة أحرف كقولنا حمد وهذه الكلمة تقبل ستة أنواع من التقليبات وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الثلاثة ابتداء لتلك الكلمة وعلى كل واحد من التقديرات الثلاث فإنه يمكن وقوع الحرفين الباقيين على وجهين لكن ضرب الثلاثة في اثنين بستة فهذه التقليبات الواقعة في الكلمات الثلاثيات يمكن وقوعها على ستة أوجه ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة رباعية كقولنا عقرب وثعلب وهي تقبل أربعة وعشرين وجها من التقليبات وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الأربعة ابتداء لتلك الكلمة وعلى كل واحد من تلك التقديرات الأربعة فإنه يمكن وقوع الحروف الثلاثة الباقية على ستة أنواع من التقليبات وضرب أربعة في ستة يفيد أربعة وعشرين وجها ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة خماسية كقولنا سفرجل وهي تقبل مائة وعشرين نوعا من التقليبات وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الخمسة ابتداء لتلك الكلمة وعلى كل واحد من هذه التقديرات فإنه يمكن وقوع الحروف الأربعة الباقية على أربعة وعشرين وجها على ما سبق تقريره وضرب خمسة في أربعة وعشرين بمائة وعشرين والضابط في الباب أنك إذا عرفت التقاليب الممكنة في العدد الأقل ثم أردت أن تعرف عدد التقاليب الممكنة في العدد الذي فوقه فاضرب العدد الفوقاني في العدد الحاصل من التقاليب الممكنة في العدد الفوقاني واللّه أعلم .

المسألة الثانية : اعلم أن اعتبار حال الاشتقاق الأصغر سهل معتاد مألوف أما الاشتقاق الأكبر فرعايته صعبة وكأنه لا يمكن رعايته إلا في الكلمات الثلاثية لأن تقاليبها لا تزيد على الستة

أما الرباعيات والخماسيات فإنها كثيرة جدا وأكثر تلك التركيبات تكون مهملة فلا يمكن رعاية هذا النوع من الاشتقاق فيها إلا على سبيل الندرة .

وأيضا الكلمات الثلاثية قلما يوجد فيها ما يكون جميع تقاليبها الممكنة معتبرة بل يكون في الأكثر بعضها مستعملا وبعضها مهملا ومع ذلك فإن القدر الممكن منه هو الغاية القصوى في تحقيق الكلام في المباحث اللغوية .

المسألة الثالثة : في تفسير الكلمة : اعلم أن تركيب الكاف واللام والميم بحسب تقاليبها الممكنة الستة تفيد القوة والشدة خمسة منها معتبرة وواحد ضائع

فالأول : ك ل م فمنه الكلام لأنه يقرع السمع ويؤثر فيه وأيضا يؤثر في الذهن بواسطة إفادة المعنى ومنه الكلم للجرح وفيه شدة والكلام ما غلظ من الأرض وذلك لشدته

الثاني ك م ل لأن الكامل أقوى من الناقص

والثالث ل ك م ومعنى الشدة في اللكم ظاهر

والرابع م ك ل ومنه بئر مكول إذا قل ماؤها وإذا كان كذلك كان ورودها مكروها فيحصل نوع شدة عند ورودها

الخامس م ل ك يقال ملكت العجين إذا أمعنت عجنه فاشتد وقوي ومنه ملك الإنسان لأنه نوع قدرة وأملكت الجارية لأن بعلها يقدر عليها .

المسألة الرابعة : لفظ الكلمة قد يستعمل في اللفظة الواحدة ويراد بها الكلام الكثير الذي قد ارتبط بعضه ببعض كتسميتهم القصيدة بأسرها كلمة ومنها يقال كلمة الشهادة ويقال : الكلمة الطيبة صدقة ولما كان المجاز أولى من الاشتراك علمنا أن إطلاق لفظ الكلمة على المركب مجاز وذلك لوجهين

الأول : أن المركب إنما يتركب من المفردات فإطلاق لفظ الكلمة على الكلام المركب يكون إطلاقا لاسم الجزء على الكل

والثاني : أن الكلام الكثير إذا ارتبط بعضه ببعض حصلت له وحدة فصار شبيها بالمفرد في تلك الوجوه والمشابهة سبب من أسباب حسن المجاز فأطلق لفظ الكلمة على الكلام الطويل لهذا السبب .

المسألة الخامسة : لفظ الكلمة جاء في القرآن لمفهومين آخرين

أحدهما يقال لعيسى كلمة اللّه أما لأنه حدث بقوله كن أو لأنه حدث في زمان قليل كما تحدث الكلمة كذلك

والثاني أنه تعالى سمى أفعاله كلمات كما قال تعالى في الآية الكريمة " {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} " والسبب فيه الوجهان المذكوران فيما تقدم واللّه أعلم .

المسألة السادسة في القول : هذا التركيب بحسب تقاليبه الستة يدل على الحركة والخفة

فالأول ق ول فمنه القول ؛ لأن ذلك أمر سهل على اللسان

الثاني ق " ل و ومنه القلو وهو حمار الوحش وذلك لخفتة في الحركة ومنه قلوت البر والسويق فهما مقلوان لأن الشيء إذا قلي جف وخف فكان أسرع إلى الحركة ومنه القلولي وهو الخفيف الطائش

والثالث و ق ل الوقل الوعل وذلك لحركته ويقال توقل في الجبل إذا صعد فيه

والرابع و ل ق " يقال : ولق يلق إذا أسرع وقرئ إذ تلقونه بألسنتكم أي : تخفون وتسرعون

والخامس ل وق كما جاء في الحديث لا آكل الطعام إلا ما لوق لي أي : أعملت اليد في تحريكه وتليينه حتى يصلح ومنه اللوقة وهي الزبدة قيل لها ذلك لخفتها وإسراع حركتها لأنه ليس بها مسكة الجبن والمصل

والسادس ل ق " و ومنه اللقوة وهي العقاب قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها ومنه اللقوة في الوجه لأن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش واللقوة الناقة السريعة اللقاح .

المسألة السابعة : قال ابن جني رحمه اللّه تعالى : اللغة فعلة من لغوت أي : تكلمت وأصلها لغوة ككرة وقلة فإن لاماتها كلها واوات بدليل قولهم كروت بالكرة وقلوت بالقلة

وقيل فيه لغي يلغي إذا هذى ومنه قوله تعالى " {وإذا مروا باللغو مروا كراما} "

قلت: إن ابن جني قد اعتبر الاشتقاق الأكبر في الكلمة والقول ولم يعتبره ههنا وهو حاصل فيه

فالأول ل غ و ومنه اللغة ومنه أيضا الكلام اللغو والعمل اللغو

والثاني ل وغ ويبحث عنه

والثالث غ ل و ومنه يقال : لفلان غلو في كذا ومنه الغلوة

والرابع غ ول ومنه قوله تعالى " {لا فيها غول} "

والخامس و غ ل ومنه يقال : فلان أوغل في كذا

والسادس و ل غ ومنه يقال : ولغ الكلب في الإناء ويشبه أن يكون القدر المشترك بين الكل هو الإمعان في الشيء والخوض التام فيه .

المسألة الثامنة في اللفظ :

 وأقول : أظن أن إطلاق اللفظ على هذه الأصوات والحروف على سبيل المجاز وذلك لأنها إنما تحدث عند إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج فالإنسان عند إخراج النفس من داخل الصدر إلى الخارج يحبسه في المحابس المعينة ثم يزيل ذلك الحبس فتتولد تلك الحروف في آخر زمان حبس النفس وأول زمان إطلاقه والحاصل أن اللفظ هو : الرمي وهذا المعنى حاصل في هذه الأصوات والحروف من وجهين :

 الأول أن الإنسان يرمي ذلك النفس من داخل الصدر إلى خارجه ويلفظه وذلك هو الإخراج واللفظ سبب لحدوث هذه الكلمات فأطلق اسم اللفظ على هذه الكلمات لهذا السبب

والثاني : أن تولد الحروف لما كان بسبب لفظ ذلك الهواء من الداخل إلى الخارج صار ذلك شبيها بما أن الإنسان يلفظ تلك الحروف ويرميها من الداخل إلى الخارج والمشابهة إحدى أسباب المجاز .

المسألة التاسعة العبارة : وتركيبها من ع ب ر وهي في تقاليبها الستة تفيد العبور والانتقال

فالأول ع ب ر ومنه العبارة لأن الإنسان لا يمكنه أن يتكلم بها إلا إذا انتقل من حرف إلى حرف آخر ؛ وأيضا كأنه بسبب تلك العبارة ينتقل المعنى من ذهن نفسه إلى ذهن السامع ومنه العبرة لأن تلك الدمعة تنتقل من داخل العين إلى الخارج ومنه العبر لأن الإنسان ينتقل فيها من الشاهد إلى الغائب ومنه المعبر لأن الإنسان ينتقل بواسطته من أحد طرفي البحر إلى

الثاني ومنه التعبير لأنه ينتقل مما يراه في النوم إلى المعاني الغائبة

والثاني ع ر ب ومنه تسمية العرب بالعرب لكثرة انتقالاتهم بسبب رحلة الشتاء والصيف ومنه فلان أعرب في كلامه لأن اللفظ قبل الإعراب يكون مجهولا فإذا دخله الإعراب انتقل إلى المعرفة والبيان

والثالث ب ر ع ومنه فلان برع في كذا إذا تكامل وتزايد

الرابع ب ع ر ومنه البعر لكونه منتقلا من الداخل إلى الخارج

الخامس ر ع ب ومنه يقال للخوف رعب لأن الإنسان ينتقل عند حدوثه من حال إلى حال أخرى

والسادس ر ب ع ومنه الربع لأن الناس ينتقلون منها وإليها .

المسألة العاشرة : قال أكثر النحويين : الكلمة غير الكلام فالكلمة هي اللفظة المفردة والكلام هو الجملة المفيدة وقال أكثر الأصوليين إنه لا فرق بينهما فكل واحد منهما يتناول المفرد والمركب وابن جني وافق النحويين واستبعد قول المتكلمين وما رأيت في كلامه حجة قوية في الفرق سوى أنه نقل عن سيبويه كلاما مشعر بأن لفظ الكلام مختص بالجملة المفيدة وذكر كلمات اخرى إلا أنها في غاية الضعف

أما الأصوليون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه

الأول : أن العقلاء قد اتفقوا على أن الكلام ما يضاد الخرس والسكوت والتكلم بالكلمة الواحدة يضاد الخرس والسكوت فكان كلاما

الثاني : أن اشتقاق الكلمة من الكلم وهو الجرح والتأثير ومعلوم أن من سمع كلمة واحدة فإنه يفهم معناها فههنا قد حصل معنى التأثير فوجب أن يكون كلاما

والثالث : يصح أن يقال : إن فلانا تكلم بهذه الكلمة الواحدة ويصح أن يقال أيضا : أنه ما تكلم إلا بهذه الكلمة الواحدة وكل ذلك يدل على أن الكلمة الواحدة كلام وإلا لم يصح أن يقال تكلم بالكلمة الواحدة

الرابع أنه يصح أن يقال تكلم فلان بكلام غير تام وذلك يدل على أن حصول الإفادة التامة غير معتبر في اسم الكلام .

المسألة الحادية عشرة : تفرع على الاختلاف المذكور مسألة فقهية وهي أولى مسائل أيمان الجامع الكبير لمحمد بن الحسن رحمه اللّه تعالى وهي أن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها : إن كلمتك فأنت طالق ثلاث مرات قالوا عن ذكر هذا الكلام في المرة الثانية طلقت طلقة واحدة وهل تنعقد هذه الثانية طلقة ؟ قال أبو حنيفة وصاحباه : تنعقد وقال زفر : لا تنعقد وحجة زفر أنه لما قال في المرة الثانية إن كلمتك فعند هذا القدر من الكلام حصل الشرط لأن اسم الكلام اسم لكل ما أفاد شيئا سواء أفاد فائدة تامة أو لم يكن كذلك وإذا حصل الشرط حصل الجزاء وطلقت عند قوله إن كلمتك فوقع تمام قوله أنت طالق خارج تمام ملك النكاح وغير مضاف إليه فوجب أن لا تنعقد وحجة أبي حنيفة أن الشرط - وهو قوله إن كلمتك - غير تام والكلام اسم للجملة التامة فلم يقع الطلاق إلا عند تمام قوله إن كلمتك فأنت طالق وحاصل الكلام أنا إن قلنا إن اسم الكلام يتناول الكلمة الواحدة كان القول قول زفر وإن قلنا لا يتناول إلا الجملة فالقول قول أبي حنيفة ومما يقوي قول زفر أنه لو قال في المرة الثانية إن كلمتك وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله فأنت طالق طلقت ولولا أن هذا القدر كلام وإلا لما طلقت ومما يقوي قول أبي حنيفة أنه لو قال كلما كلمتك فأنت طالق ثم ذكر هذه الكلمة في المرة الثانية فكلمة كلما توجب التكرار فلو كان التكلم بالكلمة الواحدة كلاما لوجب أن يقع عليه الطلقات الثلاث عند قوله في المرة الثانية كلما كلمتك وسكت عليه ولم يذكر بعده قوله فأنت طالق لأن هذا المجموع مشتمل على ذكر الكلمات الكثيرة وكل واحد منها يوجب وقوع الطلاق

وأقول : لعل زفر يلتزم ذلك .

المسألة الثانية عشرة : محل الخلاف المذكور بين أبي حنيفة وزفر ينبغي أن يكون مخصوصا بما إذا قال إن كلمتك فأنت طالق

أما لو قال : إن تكلمت بكلمة فأنت طالق أو قال إن نطقت أو قال إن تلفظت بلفظة أو قال إن قلت قولا فأنت طالق وجب أن يكون الحق في جميع هذه المسائل قول زفر قولا واحدا واللّه أعلم .

المسألة الثالثة عشرة :لفظ الكلمة والكلام هل يتناول المهمل أم لا ؟ منهم من قال يتناوله لأنه يصح أن يقال الكلام منه مهمل ومنه مستعمل ولأنه يصح أن يقال تكلم بكلام غير مفهوم ولأن المهمل يؤثر في السمع فيكون معنى التأثير والكلام حاصلا فيه ومنهم من قال الكلمة والكلام مختصان بالمفيد إذ لو لم يعتبر هذا القيد لزم تجويز تسمية أصوات الطيور بالكلمة والكلام .

المسألة الرابعة عشرة : إذا حصلت أصوات متركبة تركيبا يدل على المعاني إلا أن ذلك التركيب كان تركيبا طبيعيا لا وضعيا فهل يسمى مثل تلك الأصوات كلمة وكلاما ؟ مثل أن الإنسان عند الراحة أو الوجع قد يقول أخ وعند السعال قد يقول أح أح فهذه أصوات مركبة وحروف مؤلفة وهي دالة على معان مخصوصة لكن دلالتها على مدلولاتها بالطبع لا بالوضع فهل تسمى أمثالها كلمات ؟ وكذلك صوت القطا يشبه كأنه يقول قطا وصوت اللقلق يشبه كانه يقول لق لق فأمثال هذه الأصوات هل تسمى كلمات ؟ اختلفوا فيه وما رأيت في الجانبين حجة معتبرة وفائدة هذا البحث تظهر فيما إذا قال : إن سمعت كلمة فعبدي حر فهل يترتب الحنث والبر على سماع هذه الألفاظ أم لا ؟

المسألة الخامسة عشرة : قال ابن جني : لفظ القول يقع على الكلام التام وعلى الكلمة الواحدة على سبيل الحقيقة

أما لفظ الكلام فمختص بالجملة التامة ولفظ الكلمة مختص بالمفرد وحاصل كلامه في الفرق بين البابين أنا إذا بينا أن تركيب القول يدل على الخفة والسهولة وجب أن يتناول الكلمة الواحدة

أما تركيب الكلام فيفيد التأثير وذلك لا يحصل إلا من الجملة التامة ؛ إلا أن هذا يشكل بلفظ الكلمة ومما يقوي ذلك قول الشاعر :

( قلت لها قفي فقالت قاف سمي نطقها بمجرد القاف قولا )

 المسألة السادسة عشرة : قال أيضا إن لفظ القول يصح جعله مجازا عن الاعتقادات والآراء كقولك : فلان يقول بقول أبي حنيفة ويذهب إلى قول مالك أي : يعتقد ما كانا يريانه ويقولان به ألا ترى أنك لو سألت رجلا عن صحة رؤية اللّه تعالى فقال : لا تجوز رؤيته فتقول : هذا قول المعتزلة ولا تقول هذا كلام المعتزلة إلا على سبيل التعسف وذكر أن السبب في حسن هذا المجاز أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره فلما حصلت المشابهة من هذا الوجه لا جرم حصل سبب جعله مجازا عنه .

المسألة السابعة عشرة : لفظ قال قد يستعمل في غير النطق قال أبو النجم :

( قالت له الطير تقدم راشدا إنك لا ترجع إلا حامدا )

وقال آخر :

( وقالت له العينان سمعا وطاعة وحدرتا كالدر لما يثقب )

وقال :

( امتلأ الحوض وقال : قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني )

ويقال في المثل : قال الجدار للوتد لم تشقني قال : سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورأيي ومنه قوله تعالى : " {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} " [ النحل : ٤٠ ] وقوله تعالى : " {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} " [ فصلت : ١١ ] .

المسألة الثامنة عشرة : الذين ينكرون كلام النفس اتفقوا على أن الكلام والقول اسم لهذه الألفاظ والكلمات

أما مثبتو كلام النفس فقد اتفقوا على أن ذلك المعنى النفساني يسمى بالكلام وبالقول واحتجوا عليه بالقرآن والأثر والشعر :

أما القرآن فقوله تعالى : " {واللّه يشهد أن المنافقين لكاذبون المنافقون} " وظاهر أنهم ما كانوا كاذبين في اللفظ لأنهم أخبروا أن محمدا رسول اللّه وكانوا صادقين فيه فوجب أن يقال إنهم كانوا كاذبين في القول اللساني قوله أخبروا أن محمدا رسول اللّه

قلنا لا نسلم بل أخبروا عن كونهم شاهدين بأن محمدا رسول اللّه لأنهم كانوا قالوا نشهد إنك لرسول اللّه المنافقون والشهادة لا تحصل إلا مع العلم وهم ما كانوا عالمين به فثبت أنهم كانوا كاذبين فيما أخبروا عنه بالقول اللساني

وأما الأثر فما نقل أن عمر قال يوم السقيفة : كنت قد زورت في نفسي كلاما فسبقني إليه أبو بكر

وأما الشعر فقول الأخطل : ( إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا )

وأما الذين أنكروا كون المعنى القائم بالنفس يسمى بالكلام فقد احتجوا عليه بأن من لم ينطق ولم يتلفظ بالحروف يقال إنه لم يتكلم وأيضا الحنث والبر يتعلق بهذه الألفاظ ومن أصحابنا من قال : اسم القول والكلام مشترك بين المعنى النفساني وبين اللفظ اللساني .

المسألة التاسعة عشرة : هذه الكلمات والعبارات قد تسمى أحاديث قال اللّه تعالى " {فليأتوا بحديث مثله} " والسبب في هذه التسمية أن هذه الكلمات إنما تتركب من الحروف المتعاقبة المتوالية فكل واحد من تلك الحروف يحدث عقيب صاحبه فلهذا السبب سميت بالحديث ويمكن أيضا ان يكون السبب في هذه التسمية أن سماعها يحدث في القلوب العلوم والمعاني واللّه أعلم .

المسألة العشرون : ههنا الفاظ كثيرة

فأحدها الكلمة

وثانيها الكلام

وثالثها القول ورابعها اللفظ

وخامسها العبارة

وسادسها الحديث وقد شرحناها بأسرها

وسابعها النطق ويجب البحث عن كيفية اشتقاقه وأنه هل هو مرادف لبعض تلك الألفاظ المذكورة أو مباين لها وبتقدير حصول المباينة فما الفرق .

المسألة الحادية والعشرون : في حد الكلمة قال الزمخشري في أول المفصل : الكلمة هي اللفظة الدالة على معنى مفرد بالوضع وهذا التعريف ليس بجيد لأن صيغة الماضي كلمة مع أنها لا تدل على معنى مفرد بالوضع فهذا التعريف غلط لأنها دالة على أمرين : حدث وزمان وكذا القول في أسماء الأفعال كقولنا : مه وصه وسبب الغلط أنه كان يجب عليه جعل المفرد صفة للفظ فغلط وجعله صفة للمعنى .

المسألة الثانية والعشرون : اللفظ

أما أن يكون مهملا وهو معلوم أو مستعملا وهو على ثلاثة أقسام :

 أحدها : أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء من المعاني البتة وهذا هو اللفظ المفرد كقولنا فرس وجمل

وثانيها : أن لا يدل شيء من أجزائه على شيء أصلا حين هو جزؤه

أما باعتبار آخر فإنه يحصل لأجزائه دلالة على المعاني كقولنا عبد اللّه فإنا إذا اعتبرنا هذا المجموع اسم علم لم يحصل لشيء من أجزائه دلالة على شيء أصلا

أما إذا جعلناه مضافا ومضافا إليه فإنه يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على شيء آخر وهذا القسم نسميه بالمركب

وثالثها : أن يحصل لكل واحد من جزأيه دلالة على مدلول آخر على جميع الاعتبارات وهو كقولنا : العالم حادث والسماء كرة وريد منطلق وهذا نسميه بالمؤلف .

المسألة الثالثة والعشرون : المسموع المفيد ينقسم إلى أربعة أقسام : لأنه

أما أن يكون اللفظ مؤلفا والمعنى مؤلفا كقولنا الإنسان حيوان وغلام زيد

وأما أن يكون المسموع مفردا والمعنى مفردا وهو كقولنا الوحدة والنقطة بل قولنا اللّه سبحانه وتعالى

وأما أن يكون اللفظ مفردا والمعنى مؤلفا وهو كقولك إنسان فإن اللفظ مفرد والمعنى ماهية مركبة من أمور كثيرة

وأما أن يكون اللفظ مركبا والمعنى مفردا وهو محال .

المسألة الرابعة والعشرون : الكلمة هي اللفظة المفردة الدالة بالاصطلاح على معنى وهذا التعريف مركب من قيود أربعة :

فالقيد الأول كونه لفظا

والثاني كونه مفردا وقد عرفتهما

والثالث كونه دالا وهو احتراز عن المهملات

والرابع كونه دالا بالاصطلاح وسنقيم الدلالة على أن دلالات الألفاظ وضعية لا ذاتية .

المسألة الخامسة والعشرون : قيل : الكلمة صوت مفرد دال على معنى بالوضع قال أبو علي بن سينا في كتاب الأوسط : وهذا غير جائز لأن الصوت مادة واللفظ جنس وذكر الجنس أولى من ذكر المادة وله كلمات دقيقة في الفرق بين المادة والجنس ومع دقتها فهي ضعيفة قد بينا وجه ضعفها في العقليات

وأقول : السبب عندي في أنه لا يجوز ذكر الصوت أن الصوت ينقسم إلى صوت الحيوان وإلى غيره وصوت الإنسان ينقسم إلى ما يحدث من حلقة وإلى غيره والصوت الحادث من الحلق ينقسم إلى ما يكون حدوثه مخصوصا بأحوال مخصوصة مثل هذه الحروف وإلى ما لا يكون كذلك مثل الأصوات الحادثة عند الأوجاع والراحات والسعال وغيرها فالصوت جنس بعيد واللفظ جنس قريب وإيراد الجنس القريب أولى من الجنس البعيد .

المسألة السادسة والعشرون : قالت المعتزلة : الشرط في كون الكلمة مفيدة أن تكون مركبة من حرفين فصاعدا فنقضوه بقولهم ق وع وأجيب عنه بأنه مركب في التقدير فإن الأصل أن يقال قي وعي بدليل أن عند التثنية يقال قيا وعيا وأجيب عن هذا الجواب بان ذلك مقدر

أما الواقع فحرف واحد وأيضا نقضوه بلام التعريف وبنون التنوين وبالإضافة فإنها بأسرها حروف مفيدة والحرف نوع داخل تحت جنس الكلمة ومتى صدق النوع فقد صدق الجنس فهذه الحروف كلمات مع أنها غير مركبة .

المسألة السابعة والعشرون :

الأولى أن يقال : كل منطوق به أفاد شيئا بالوضع فهو كلمة وعلى هذا التقدير يدخل فيه المفرد والمركب وبقولنا : منطوق به يقع الاحتراز عن الخط والإشارة .

المسألة الثامنة والعشرون : دلالة الألفاظ على مدلولاتها ليست ذاتية حقيقية خلافا لعباد لنا أنها تتغير باختلاف الأمكنة والأزمنة والذاتيات لا تكون كذلك حجة عباد أنه لو لم تحصل مناسبات مخصوصة بين الألفاظ المعينة والمعاني المعينة وإلا لزم أن يكون تخصيص كل واحد منها بمسماه ترجيحا للممكن من غير مرجح وهو محال وجوابنا أنه ينتقض باختصاص حدوث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده وإلا لم يرجح ويشكل أيضا باختصاص كل إنسان باسم علمه المعين .

المسألة التاسعة والعشرون : وقد يتفق في بعض الألفاظ كونه مناسبا لمعناه مثل تسميتهم القطا بهذا الاسم لأن هذا اللفظ يشبه صوته وكذا القول في اللقلق وأيضا وضعوا لفظ الخضم لأكل الرطب نحو البطيخ والقثاء ولفظ القضم لأكل اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها لأن حرف الخاء يشبه صوت أكل الشيء الرطب وحرف القاف يشبه صوت أكل الشيء اليابس ولهذا الباب أمثلة كثيرة ذكرها ابن جني في الخصائص .

المسألة الثلاثون : لا يمكننا القطع بان دلالة الألفاظ توقيفية ومنهم من قطع به واحتج فيه بالعقل والنقل :

أما العقل فهو أن وضع الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة لا يمكن إلا بالقول فلو كان ذلك القول بوضع آخر من جانبهم لزم أن يكون كل وضع مسبوقا بوضع آخر لا إلى نهاية وهو محال فوجب الانتهاء إلى ما حصل بتوقيف اللّه تعالى

وأما النقل فقوله تعالى : " {وعلم آدم الأسماء كلها} " [ البقرة : ٣١ ] وأجيب عن الأول بأنه لم لا يجوز أن يكون وضع الألفاظ للمعاني يحصل بالإشارة وعن الثاني لم لا يجوز أن يكون المراد من التعليم الإلهام ؟ وأيضا لعل هذه اللغات وضعها أقوام كانوا قبل آدم عليه السلام ثم إنه تعالى علمها لآدم عليه السلام .

المسألة الحادية والثلاثون : لا يمكن القطع بأنها حصلت بالاصطلاح خلافا للمعتزلة واحتجوا بأن العلم بالصفة إذا كان ضروريا كان العلم بالموصوف أيضا ضروريا فلو خلق اللّه تعالى العلم في قلب العاقل بأنه وضع هذا اللفظ لهذا المعنى لزم أن يكون العلم باللّه ضروريا وذلك يقدح في صحة التكليف وأجيب عنه بأنه لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يخلق علما ضروريا في القلب بأن واضعا وضع هذا اللفظ لهذا المعنى من غير أن يخلق العلم بأن ذلك الواضع هو اللّه تعالى ؟ وعلى هذا التقدير فيزول الإشكال .

المسألة الثانية والثلاثون : لما ضعفت هذه الدلائل جوزنا أن تكون كل اللغات توقيفية وان تكون كلها اصطلاحية وأن يكون بعضها توقيفيا وبعضها اصطلاحيا .

المسألة الثالثة والثلاثون : اللفظ المفرد لا يفيد البتة مسماه لأنه ما لم يعلم كون تلك اللفظة موضوعة لذلك المعنى لم يفد شيئا لكن العلم بكونها موضوعة لذلك المعنى علم بنسبة مخصوصة بين ذلك اللفظ وذلك المعنى والعلم بالنسبة المخصوصة بين أمرين مسبوق بكل واحد منهما فلو كان العلم بذلك المعنى مستفادا من ذلك اللفظ لزم الدور وهو محال وأجيب عنه بأنه يحتمل أنه إذا استقر في الخيال مقارنة بين اللفظ المعين والمعنى المعين فعند حصول الشعور باللفظ ينتقل الخيال إلى المعنى وحينئذ يندفع الدور .

المسألة الرابعة والثلاثون : والإشكال المذكور في المفرد غير حاصل في المركب ؛ لأن إفادة الألفاظ المفردة لمعانيها إفادة وضعية

أما التركيبات فعقلية فلا جرم عند سماع تلك المفردات يعتبر العقل تركيباتها ثم يتوصل بتلك التركيبات العقلية إلى العلم بتلك المركبات فظهر الفرق .

المسألة الخامسة والثلاثون : للألفاظ دلالات على ما في الأذهان لا على ما في الأعيان ولهذا السبب يقال : الألفاظ تدل على المعاني لأن المعاني هي التي عناها العاني وهي أمور ذهنية والدليل على ما ذكرناه من وجهين :

 الأول : أنا إذا رأينا جسما من البعد وظنناه صخرة قلنا إنه صخرة فإذا قربنا منه وشاهدنا حركته وظنناه طيرا قلنا إنه طير فإذا ازداد القرب علمنا أنه إنسان فقلنا إنه إنسان فاختلاف الأسماء عند اختلاف التصورات الذهنية يدل على أن مدلول الألفاظ هو الصور الذهنية لا الأعيان

الخارجية الثاني : أن اللفظ لو دل على الموجود الخارجي لكان إذا قال إنسان العالم قديم وقال آخر العالم حادث لزم كون العالم قديما حادثا معا وهو محال

أما إذا قلنا أنها دالة على المعاني الذهنية كان هذان القولان دالين على حصول هذين الحكمين من هذين الإنسانين وذلك لا يتناقض .

المسألة السادسة والثلاثون : لا يمكن أن تكون جميع الماهيات مسميات بالألفاظ لأن الماهيات غير متناهية وما لا نهاية له لا يكون مشعورا به على التفصيل وما لا يكون مشعورا به امتنع وضع الاسم بإزائه .

المسألة السابعة والثلاثون : كل معنى كانت الحاجة إلى التعبير عنه أهم كان وضع اللفظ بإزائه أولى مثل صيغ الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والدليل عليه أن الحاجة إلى التعبير عنها ماسة فيكون الداعي إلى ذلك الوضع كاملا والمانع زائلا وإذا كان الداعي قويا والمانع زائلا كان الفعل به واجب الحصول .

المسألة الثامنة والثلاثون : المعنى الذي يكون خفيا عند الجمهور يمتنع كونه مسمى باللفظ المشهور مثاله لفظة الحركة لفظة مشهورة وكون الجسم منتقلا من جانب إلى جانب أمر معلوم لكل أحد

أما الذي يقول به بعض المتكلمين - وهو المعنى الذي يوجب ذلك الانتقال - فهو أمر خفي لا يتصورة إلا الخواص من الناس وإذا كان كذلك وجب أن يقال : الحركة اسم لنفس هذا الانتقال لا للمعنى الذي يوجب الانتقال وكذلك يجب أن يكون العلم اسما لنفس العالمية والقدرة اسما للقادرية لا للمعنى الموجب للعالمية والقادرية .

المسألة التاسعة والثلاثون في المعنى : المعنى اسم للصورة الذهنية لا للموجودات الخارجية لأن المعنى عبارة عن الشيء الذي عناه العاني وقصده القاصد وذاك بالذات هو الأمور الذهنية وبالعرض الأشياء الخارجية فإذا قيل : إن القائل أراد بهذا اللفظ هذا المعنى فالمراد أنه قصد بذكر ذلك اللفظ تعريف ذلك الأمر المتصور .

المسألة الأربعون : قد يقال في بعض المعاني : إنه لا يمكن تعريفها بالألفاظ مثل أنا ندرك بالضرورة تفرقة بين الحلاوة المدركة من النبات والحلاوة المدركة من الطبرزذ فيقال : إنه لا سبيل إلى تعريف هذه التفرقة بحسب اللفظ وأيضا ربما اتفق حصول أحوال في نفس بعض الناس ولا يمكنه تعريف تلك الحالة بحسب التعريفات اللفظية إذا عرفت هذا فنقول :

أما القسم الأول فالسبب فيه أن ما به يمتاز حلاوة النبات من حلاوة الطبرزذ ما وضعوا له في اللغة لفظة معينة بل لا يمكن ذكرها إلا على سبيل الإضافة مثل أن يقال حلاوة النبات وحلاوة الطبرزذ فلما لم توضع لتلك التفرقة لفظة مخصوصة لا جرم لا يمكن تعريفها باللفظ ولو أنهم وضعوا لها لفظة لقد كان يمكن تعريفها باللفظ على ذلك التقدير

وأما القسم الثاني : وهو أن الإنسان إذا أدرك من نفسه حالة مخصوصة وسائر الناس ما أدركوا تلك الحالة المخصوصة استحال لهذا المدرك وضع لفظ لتعريفة لأن السامع ما لم يعرف المسمى أولا لم يمكنه أن يفهم كون هذا اللفظ موضوعا له فلما لم يحصل تصور تلك المعاني عند السامعين امتنع منهم أن يتصوروا كون هذه الألفاظ موضوعة لها فلا جرم امتنع تعريفها أما لو فرضنا أن جماعة تصوروا تلك المعاني ثم وضعوا لها ألفاظا مخصوصة فعلى هذا التقدير كان يمكن تعريف تلك الأحوال بالبيانات اللفظية - فهكذا يجب أن يتصور معنى ما يقال إن كثيرا من المعاني لا يمكن تعريفها بالألفاظ .

المسألة الحادية والأربعون في الحكمة في وضع الألفاظ للمعاني : وهي أن الإنسان خلق بحيث لا يستقل بتحصيل جميع مهماته فاحتاج إلى أن يعرف غيره ما في ضميره ليمكنه التوسل به إلى الاستعانة بالغير ولا بد لذلك التعريف من طريق والطرق كثيرة مثل الكتابة والإشارة والتصفيق باليد والحركة بسائر الأعضاء إلا أن أسهلها وأحسنها هو تعريف ما في القلوب والضمائر بهذه الألفاظ ويدل عليه وجوه :

 أحدها : أن النفس عند الإخراج سبب لحدوث الصوت والأصوات عند تقطيعاتها أسباب لحدوث الحروف المختلفة وهذه المعاني تحصل من غير كلفة ومعونة بخلاف الكتابة والإشارة وغيرهما

والثاني : أن هذه الأصوات كما توجد تفنى عقيبه في الحال فعند الاحتياج إليه تحصل وعند زوال الحاجة تفنى وتنقضي

والثالث : أن الأصوات بحسب التقطيعات الكثيرة في مخارج الحروف تتولد منها الحروف الكثيرة وتلك الحروف الكثيرة بحسب تركيباتها الكثيرة يتولد منها كلمات تكاد أن تصير غير متناهية فإذا جعلنا لكل واحد من المعاني واحدا من تلك الكلمات توزعت الألفاظ على المعاني من غير التباس واشتباه ومثل هذا لا يوجد في الإشارة والتصفيق فلهذه الأسباب الثلاثة قضت العقول السليمة بان أحسن التعريفات لما في القلوب هو الألفاظ .

المسألة الثانية والأربعون : كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وجوهر النفس في أصل الخلقة عار عن هذين الكمالين ولا يمكنها اكتساب هذه الكمالات إلا بواسطة هذا البدن فصار تخليق هذا البدن مطلوبا لهذه الحكمة ثم إن مصالح هذا البدن ما كانت تتم إلا إذا كان القلب ينبوعا للحرارة الغريزية ولما كانت هذه الحرارة قوية احتاجت إلى الترويح لأجل التعديل فدبر الخالق الرحيم الحكيم هذا المقصود بأن جعل للقلب قوة انبساط بها يجذب الهواء البارد من خارج البدن إلى نفسه ثم إذا بقي ذلك الهواء في القلب لحظة تسخن واحتد وقويت حرارته فاحتاج القلب إلى دفعة مرة أخرى وذلك هو الانقباض فإن القلب إذا انقبض انعصر ما فيه من الهواء وخرج إلى الخارج فهذا هو الحكمة في جعل الحيوان متنفسا

والمقصود بالقصد الأول هو تكميل جوهر النفس بالعلم والعمل فوقع تخليق البدن

في المرتبة الثانية من المطلوبية ووقع تخليق القلب وجعله منبعا للحرارة الغريزية

في المرتبة الثالثة ووقع إقدار القلب على الانبساط الموجب لانجذاب الهواء الطيب من الخارج لأجل الترويح

في المرتبة الرابعة ووقع إقدار القلب على الانقباض الموجب لخروج ذلك الهواء المحترق

في المرتبة الخامسة ووقع صرف ذلك الهواء الخارج عند انقباض القلب إلى مادة الصوت

في المرتبة السادسة ثم إن المقدر الحكيم والمدبر الرحيم جعل هذا الأمر المطلوب على سبيل الغرض الواقع

في المرتبة السابعة مادة للصوت وخلق محابس ومقاطع للصوت في الحلق واللسان والأسنان والشفتين وحينئذ يحدث بذلك السبب هذه الحروف المختلفة ويحدث من تركيباتها الكلمات التي لا نهاية لها ثم أودع في هذا النطق والكلام حكما عالية وأسرارا باهرة عجزت عقول الأولين والآخرين عن الإحاطة بقطرة من بحرها وشعلة من شمسها فسبحان الخالق المدبر بالحكمة الباهرة والقدرة الغير متناهية .

المسألة الثالثة والأربعون : ظهر بما قلناه أنه لا معنى للكلام اللساني إلا الاصطلاح من الناس على جعل هذه الأصوات المقطعة والحروف المركبة معرفات لما في الضمائر ولو قدرنا أنهم كانوا قد تواضعوا على جعل أشياء غيرها معرفات لما في الضمائر لكانت تلك الأشياء كلاما أيضا وإذا كان كذلك لم يكن الكلام صفة حقيقية مثل العلم والقدرة والإرادة بل أمرا وضعيا اصطلاحيا والتحقيق في هذا الباب : أن الكلام عبارة عن فعل مخصوص يفعله الحي القادر لأجل أن يعرف غيره ما في ضميره من الإرادات والاعتقادات وعند هذا يظهر أن المراد من كون الإنسان متكلما بهذه الحروف مجرد كونه فاعلا لها لهذا الغرض المخصوص

وأما الكلام الذي هو صفة قائمة بالنفس فهي صفة حقيقية كالعلوم والقدر والإرادات .

المسألة الرابعة والأربعون : لما ثبت أن الألفاظ دلائل على ما في الضمائر والقلوب والمدلول عليه بهذه الألفاظ هو الإرادات والاعتقادات أو نوع آخر قالت المعتزلة : صيغة افعل لفظة موضوعة لإرادة الفعل وصيغة الخبر لفظة موضوعة لتعريف أن ذلك القائل يعتقد أن الأمر الفلاني كذا وكذا وقال أصحابنا : الطلب النفساني مغاير للإرادة والحكم الذهني أمر مغاير للاعتقاد

أما بيان أن الطلب النفساني مغاير للإرادة فالدليل عليه أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان وهذا متفق عليه ولكن لم يرد منه الإيمان ولو أراده لوقع ويدل عليه وجهان :

 الأول : أن قدرة الكافر إن كانت موجبة للكفر كان خالق تلك القدرة مريدا للكفر لأن مريد العلة مريد للمعلول وإن كانت صالحة للكفر والإيمان امتنع رجحان

أحدهما على الآخر إلا بمرجح وذلك المرجح إن كان من العبد عاد التقسيم الأول فيه وإن كان من اللّه تعالى فحينئذ يكون مجموع القدرة مع الداعية موجبا للكفر ومريد العلة مريد للمعلول فثبت أنه تعالى مريد الكفر من الكافر

والثاني : أنه تعالى عالم بأن الكافر يكفر وحصول هذا العلم ضد لحصول الإيمان والجمع بين الضدين محال والعالم بكون الشيء ممتنع الوقوع لا يكون مريدا له فثبت أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان وثبت أنه لا يريد منه الإيمان فوجب أن يكون مدلول أمر اللّه تعالى فعل شيء آخر سوى الإرادة وذلك هو المطلوب

وأما بيان أن الحكم الذهني مغاير للاعتقاد والعلم فالدليل عليه أن القائل إذا قال : العالم قديم فمدلول هذا اللفظ هو حكم هذا القائل بقدم العالم وقد يقول القائل بلسانه هذا مع أنه يعتقد أن العالم ليس بقديم فعلمنا أن الحكم الذهني حاصل والاعتقاد غير حاصل فالحكم الذهني مغاير للاعتقاد .

المسألة الخامسة والأربعون : مدلولات الألفاظ قد تكون أشياء مغايرة للألفاظ : كلفظة السماء والأرض وقد تكون مدلولاتها أيضا ألفاظا كقولنا : اسم وفعل وحرف وعام وخاص ومجمل ومبين فإن هذه الألفاظ أسماء ومسمياتها أيضا ألفاظ .

المسألة السادسة والأربعون : طريق معرفة اللغات

أما العقل وحده وهو محال

وأما النقل المتواتر أو الآحاد وهو صحيح

وأما ما يتركب عنهما كما إذا قيل : ثبت بالنقل جواز إدخال الاستثناء على صيغة من وثبت بالنقل أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فيه فيلزم من مجموعهما بحكم العقل كون تلك الصيغة موضوعة للعموم وعلى هذا الطريق تعويل الأكثرين في إثبات أكثر اللغات وهو ضعيف لأن هذا الاستدلال إنما يصح لو قلنا إن واضع تينك المقدمتين وجب أن يكون معترفا بهذه الملازمة وإلا لزم التناقض لكن الواضع للغات لو ثبت أنه هو اللّه تعالى وجب تنزيهه عن المناقضة

أما لو كان هو الناس لم يجب ذلك ولما كان هذا الأصل مشكوكا كان ذلك الدليل مثله .

المسألة السابعة والأربعون : اللغات المنقولة إلينا بعضها منقول بالتواتر وبعضها منقول بالآحاد وطعن بعضهم في كونها متواترة فقال : أشهر الألفاظ هو قولنا اللّه وقد اختلفوا فيها فقيل : إنها ليست عربية بل هي عبرية

وقيل : إنها اسم علم

وقيل : إنها من الأسماء المشتقة وذكروا في اشتقاقها وجوها عشرة وبقي الأمر في هذه الاختلافات موقوفا إلى الآن وأيضا فلفظة الإيمان والكفر قد اختلفوا فيهما اختلافا شديدا وكذا صيغ الأوامر والنواهي والعموم والخصوص مع أنها أشد الألفاظ شهرة وإذا كان الحال كذلك في الأظهر الأقوى فما ظنك بما سواها ؟ والحق أن ورود هذه الألفاظ في أصول هذه الموارد معلوم بالتواتر فأما ماهياتها واعتباراتها فهي التي اختلفوا فيها وذلك لا يقدح في حصول التواتر في الأصل .

المسألة الثامنة والأربعون : منهم من سلم حصول التواتر في بعض هذه الألفاظ في هذا الوقت إلا أنه زعم أن حال الأدوار الماضية غير معلوم فلعل النقل ينتهي في بعض الأدوار الماضية إلى الآحاد وليس لقائل أن يقول : لو وقع ذلك لاشتهر وبلغ إلى حد التواتر لأن هذه المقدمة إن صحت فإنما تصح في الوقائع العظيمة

وأما التصرفات في الألفاظ فهي وقائع حقيرة والحق أن العلم الضروري حاصل بأن لفظ السماء والأرض والجدار والدار كان حالها وحال أشباهها في الأزمنة الماضية كحالها في هذا الزمان .

المسألة التاسعة والأربعون : لا شك أن أكثر اللغات منقول بالآحاد ورواية الواحد إنما تفيد الظن عند اعتبار أحوال الرواة وتصفح أحوالهم بالجرح والتعديل ثم إن الناس شرطوا هذه الشرائط في رواة الأحاديث ولم يعتبروها في رواة اللغات مع أن اللغات تجري مجرى الأصول للأحاديث ومما يؤكد هذا السؤال أن الأدباء طعن بعضهم في بعض بالتجهيل تارة وبالتفسيق أخرى والعداوة الحاصلة بين الكوفيين والبصريين مشهورة ونسبة أكثر المحدثين أكثر الأدباء إلى ما لا ينبغي مشهورة وإذا كان كذلك صارت رواياتهم غير مقبولة وبهذا الطريق تسقط أكثر اللغات عن درجات القبول والحق أن أكثر اللغات قريب من التواتر وبهذا الطريق يسقط هذا الطعن .

المسألة الخمسون : دلالة الألفاظ على معانيها ظنية لأنها موقوفة على نقل اللغات ونقل الإعرابات والتصريفات مع أن أول أحوال تلك الناقلين أنهم كانوا آحادا ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن وأيضا فتلك الدلائل موقوفة على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم النقل وعدم الإجمال وعدم التخصيص وعدم المعارض العقلي فإن بتقدير حصوله يجب صرف اللفظ إلى المجاز ولا شك أن اعتقاد هذه المقدمات ظن محض والموقوف على الظن أولى أن يكون ظنا واللّه أعلم .

الباب الثاني

في المباحث المستبنطة من الصوت والحروف وأحكامها وفيه مسائل

المسألة الأولى : ذكر الرئيس أبو علي بن سينا في تعريف الصوت أنه كيفية تحدث من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع

وأقول : أن ماهية الصوت مدركة بحس السمع وليس في الوجود شيء أظهر من المحسوس حتى يعرف المحسوس به بل هذا الذي ذكره إن كان ولا بد فهو إشارة إلى سبب حدوثه لا إلى تعريف ماهيته .

المسألة الثانية : يقال إن النظام المتكلم كان يزعم أن الصوت جسم وأبطلوه بوجوه : منها أن الأجسام مشتركة في الجسمية وغير مشتركة في الصوت ومنها أن الأجسام مبصرة وملموسة أولا وثانيا وليس الصوت كذلك ومنها أن الجسم باق والصوت ليس كذلك

وأقول : النظام كان من أذكياء الناس ويبعد أن يكون مذهبه أن الصوت نفس الجسم إلا أنه لما ذهب إلى أن سبب حدوث الصوت تموج الهواء ظن الجهال به أنه يقول إنه عين ذلك الهواء .

المسألة الثالثة : قال بعضهم : الصوت اصطكاك الأجسام الصلبة وهو باطل ؛ لأن الاصطكاك عبارة عن المماسة وهي مبصرة والصوت ليس كذلك

وقيل : الصوت نفس القرع أو القلع

وقيل أنه تموج الحركة وكل ذلك باطل ؛ لأن هذه الأحوال مبصرة والصوت غير مبصر واللّه أعلم .

المسألة الرابعة : قيل سببه القريب تموج الهواء ولا نعني بالتموج حركة انتقالية من مبدأ واحد بعينه إلى منتهى واحد بعينه بل حالة شبيهة بتموج الهواء فإنه أمر يحدث شيئا فشيئا لصدم بعد صدم وسكون بعد سكون

وأما سبب التموج فإمساس عنيف وهو القرع أو تفريق عنيف وهو القلع ويرجع في تحقيق هذا إلى كتبنا العقلية حد الحرف .

المسألة الخامسة : قال الشيخ الرئيس في حد الحرف : إنه هيئة عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله في الخفة والثقل تميزا في المسموع .

المسألة السادسة : الحروف أما مصوتة وهي التي تسمى في النحو حروف المد واللين ولا يمكن الابتداء بها أو صامتة وهي ما عداها

أما المصوتة فلا شك أنها من الهيئات العارضة للصوت

وأما الصوامت فمنها ما لا يمكن تمديده كالباء والتاء والدال والطاء وهي لا توجد إلا في الآن الذي هو آخر زمان حبس النفس وأول زمان إرساله وهي بالنسبة إلى الصوت كالنقطة بالنسبة إلى الخط والآن بالنسبة إلى الزمان وهذه الحروف ليست بأصوات ولا عوارض أصوات وإنما هي أمور تحدث في مبدأ حدوث الأصوات وتسميتها بالحروف حسنة لأن الحرف هو الطرف وهذه الحروف أطراف الأصوات ومباديها ومن الصوامت ما يمكن تمديدها بحسب الظاهر ثم هذه على قسمين : منها ما الظن الغالب أنها آنية الوجود في نفس الأمر وإن كانت زمانية بحسب الحس مثل الحاء والخاء فإن الظن أن هذه جاءت آنية متوالية كل واحد منها آني الوجود في نفس الأمر لكن الحس لا يشعر بامتياز بعضها عن بعض فيظنها حرفا واحدا زمانيا ومنها ما الظن الغالب كونها زمانية في الحقيقة كالسين والشين فإنها هيئات عارضة للصوت مستمرة باستمراره .

المسألة السابعة : الحرف لا بد وأن يكون

أما ساكنا أو متحركا ولا نريد به حلول الحركة والسكون فيه لأنهما من صفات الأجسام بل المراد أنه يوجد عقيب الصامت بصوت مخصوص .

المسألة الثامنة : الحركات أبعاض المصوتات والدليل عليه أن هذه المصوتات قابلة للزيادة والنقصان ولا طرف في جانب النقصان إلا هذه الحركات ولأن هذه الحركات إذا مدت حدثت المصوتات وذلك يدل على قولنا .

المسألة التاسعة : الصامت سابق على المصوت الذي يسمى بالحركة بدليل أن التكلم بهذه الحركات موقوف على التكلم بالصامت فلو كانت هذه الحركات سابقة على هذه الصوامت لزم الدور وهو محال .

المسألة العاشرة : الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديما لوجهين :

 الأول : أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية فالسابق المنقضي محدث لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لا شك أنه حادث

والثاني : أن الحروف التي منها تألفت الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة فلو حصلت الحروف معا لم يكن وقوعها على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة واحتج القائلون بقدم الحروف بالعقل والنقل :

أما العقل فهو أن لكل واحد من هذه الحروف ماهية مخصوصة باعتبارها تمتاز عما سواها والماهيات لا تقبل الزوال ولا العدم فكانت قديمة

وأما النقل فهو أن كلام اللّه قديم وكلام اللّه ليس إلا هذه الحروف فوجب القول بقدم هذه الحروف

أما أن كلام اللّه قديم فلأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص فلو لم يكن كلام اللّه قديما لزم أن يقال إنه تعالى كان في الأزل ناقصا ثم صار فيما لا يزال كاملا وذلك بإجماع المسلمين باطل وإنما قلنا إن كلام اللّه تعالى ليس إلا هذه الحروف لوجوه :

 أحدها قوله تعالى : " {وإن أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام اللّه} " [ التوبة : ٦ ] ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف فدل هذا على أن هذه الحروف كلام اللّه

وثانيها : أن من حلف على سماع اللّه تعالى فإنه يتعلق البر والحنث بسماع هذه الحروف

وثالثها : أنه نقل بالتواتر إلينا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول إن هذا القرآن المسموع المتلو هو كلام اللّه فمنكره منكر لما عرف بالتواتر من دين محمد عليه الصلاة والسلام فيلزمه الكفر .

والجواب عن الأول أن ما ذكرتم غير مختص بماهية دون ماهي فيلزمكم قدم الكل وعن الثاني أن ما ذكرتم من الاستدلال خفي في مقابلة البديهيات فيكون باطلا .

المسألة الحادية عشرة : إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام اللّه تعالى كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات اللّه تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز

وأما حديث الحنث والبر فذلك لأن مبنى الإيمان على العرف

وإذا قلنا : كلام اللّه قديم لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات

وإذا قلنا : كلام اللّه معجزة لمحمد صلى اللّه عليه وسلم عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة فإن القديم كان موجودا قبل محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يكون معجزة له ؟

وإذا قلنا : كلام اللّه سور وآيات عنينا به هذه الحروف

وإذا قلنا : كلام اللّه فصيح عنينا به هذه الألفاظ وإذا شرعنا في تفسير كلام اللّه تعالى عنينا به أيضا هذه الألفاظ .

المسألة الثانية عشرة : زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام اللّه تعالى وهذا باطل لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته فلو قلنا بأنها عين كلام اللّه تعالى لزمنا القول بان الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات اللّه تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد بالضرورة وأيضا فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح وزعموا انها حالة في ناسوت عيسى عليه السلام ومع ذلك فهي صفة للّه تعالى وغير زائلة عنه وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام اللّه تعالى حال في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات اللّه تعالى ولا فرق بين القولين إلا أن النصارى قالوا بهذا القول في حق عيسى وحده وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب .

المسألة الثالثة عشرة : قالت الكرامية : الكلام اسم للقدرة على القول بدليل أن القادر على النطق يقال إنه متكلم وإن لم يكن في الحال مشتغلا بالقول وأيضا فضد الكلام هو الخرس لكن الخرس عبارة عن العجز عن القول فوجب أن يكون الكلام عبارة عن القدرة على القول وإذا ثبت هذا فهم يقولون : إن كلام اللّه تعالى قديم بمعنى أن قدرته على القول قديمة

أما القول فإنه حادث هذا تفصيل قولهم وقد أبطلناه .

المسألة الرابعة عشرة : قالت الحشوية للأشعرية : إن كان مرادكم من قولكم إن القرآن قديم هو أن هذا القرآن دال على صفة قديمة متعلقة بجميع المأمورات والمحرمات وجب أن يكون كل كتاب صنف في الدنيا قديما لأن ذلك الكتاب له مدلول ومفهوم وكلام اللّه سبحانه وتعالى لما كان عام التعلق بجميع المتعلقات كان خبرا عن مدلولات ذلك الكتاب فعلى هذا التقدير لا فرق بين القرآن وبين سائر كتب الفحش والهجو في كونه قديما بهذا التفسير وأن المراد من كونه قديما وجها آخر سوى ذلك فلا بد من بيانه والجواب أنا لا نلتزم كون كلامه تعالى متعلقا بجميع المخبرات وعلى هذا التقدير فيسقط هذا السؤال .

واعلم أنا لا نقول : إن كلامه لا يتعلق بجميع المخبرات لكونها كذبا والكذب في كلام اللّه محال لأنه تعالى لما أخبر أن أقواما أخبروا عن تلك الأكاذيب والفحشيات فهذا لا يكون كذبا وإنما يمنع منه لأمر يرجع إلى تنزيه اللّه تعالى عن النقائص والإخبار عن هذه الفحشيات والسخفيات يجري مجرى النقص وهو على اللّه محال واعلم أن مباحث الحرف والصوت وتشريح العضلات الفاعلات للحروف وذكر الإشكالات المذكورة في قدم القرآن أمور صعبة دقيقة فالأولى الاكتفاء بما ذكرناه واللّه أعلم بالصواب .

الباب الثالث

في المباحث المتعلقة بالاسم والفعل والحرف وفيه مسائل

المسألة الأولى : اعلم أن تقسيم الكلمة إلى هذه الأنواع الثلاثة يمكن إيراده من وجهين

الأول : أن الكلمة أما أن يصح الإخبار عنها وبها وهي الاسم

وأما أن لا يصح الإخبار عنها لكن يصح الإخبار بها وهي الفعل

وأما أن لا يصح الإخبار عنها ولا بها وهو الحرف واعلم أن هذا التقسيم مبني على أن الحرف والفعل لا يصح الإخبار عنهما وعلى أن الاسم يصح الإخبار عنه فلنذكر البحثين في مسألتين :

المسألة الثانية : اتفق النحويون على أن الفعل والحرف لا يصح الإخبار عنهما قالوا : لأنه لا يجوز أن يقال : ضرب قتل ولقائل أن يقول المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام وأيضا فإنه لا يصح أن يقال : جدار سماء ولم يدل ذلك على أن الاسم لا يصح الإخبار عنه وبه لأجل أن المثال الواحد لا يكفي في إثبات الحكم العام فكذا ههنا ثم قيل : الذي يدل على صحة الإخبار عن الفعل والحرف وجوه :

 الأول : أنا إذا أخبرنا عن ضرب يضرب أضرب بأنها أفعال فالمخبر عنه في هذا الخبر

أما أن يكون اسما أو فعلا أو حرفا فإن كان الأول كان هذا الخبر كذبا وليس كذلك وإن كان الثاني كان الفعل من حيث أنه فعل مخبرا عنه

فإن قالوا : المخبر عنه بهذا الخبر هو هو هذه الصيغ وهي أسماء

قلنا : هذا السؤال ركيك لأنه على هذا التقدير يكون المخبر عنه بأنه فعل اسما فرجع حاصل هذا السؤال إلى القسم الأول من القسمين المذكورين في أول هذا الإشكال وقد أبطلناه الثاني : إذا أخبرنا عن الفعل والحرف بأنه ليس باسم فالتقدير عين ما تقدم الثالث : أن قولنا : الفعل لا يخبر عنه إخبار عنه بأنه لا يخبر عنه وذلك متناقض

فإن قالوا : المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه هو هذا اللفظ

فنقول : قد أجبنا على هذا السؤال فإنا نقول : المخبر عنه بأنه لا يخبر عنه إن كان اسما فهو باطل لأن كل اسم مخبر عنه وأقل درجاته أن يخبر عنه بأنه اسم وإن كان فعلا فقد صار الفعل مخبرا عنه .

الرابع : الفعل من حيث هو فعل والحرف من حيث هو حرف ماهية معلومة متميزة عما عداها وكل ما كان كذلك صح الإخبار عنه بكونه ممتازا عن غيره فإذا أخبرنا عن الفعل من حيث هو فعل بأنه ماهية ممتازة عن الاسم فقد أخبرنا عنه بهذا الامتياز .

الخامس : الفعل أما أن يكون عبارة عن الصيغة الدالة على المعنى المخصوص

وأما أن يكون عبارة عن ذلك المعنى المخصوص الذي هو مدلول لهذه الصيغة فإن كان الأول فقد أخبرنا عنه بكونه دليلا على المعنى وإن كان الثاني فقد أخبرنا عنه بكونه مدلولا لتلك الصيغة فهذه سؤالات صبعة في هذا المقام .

المسألة الثالثة : طعن قوم في قولهم الاسم ما يصح الإخبار عنه بأن قالوا : لفظة أين وكيف وإذا أسماء مع أنه لا يصح الإخبار عنها وأجاب عبد القاهر النحوي عنه بأنا إذا قلنا الاسم ما جاز الأخبار عنه أردنا به ما جاز الإخبار عن معناه ويصح الإخبار عن معنى إذا لأنك إذا قلت آتيك إذا طلعت الشمس كان المعنى آتيك وقت طلوع الشمس والوقت يصح الإخبار عنه بدليل أنك تقول : طاب الوقت وأقول وهذا العذر ضعيف لأن إذا ليس معناه الوقت فقط بل معناه الوقت حال ما تجعله ظرفا لشيء آخر والوقت حال ما جعل ظرفا لحادث آخر فإنه لا يمكن الإخبار عنه البتة

فإن قالوا لما كان أحد أجزاء ماهيته اسما وجب كونه اسما

فنقول : هذا باطل لأنه إن كفى هذا القدر في كونه اسما وجب أن يكون الفعل اسما لأن الفعل أحد أجزاء ماهيته المصدر وهو اسم ولما كان هذا باطلا فكذا ما قالوه .

المسألة الرابعة : في تقرير النوع الثاني من تقسيم الكلمة أن تقول :

الكلمة أما أن يكون معناها مستقلا بالمعلومية أو لا يكون والثاني هو الحرف

أما الأول : فأما أن يدل ذلك اللفظ على الزمان المعين لمعناه وهو الفعل أو لا يدل وهو الاسم وفي هذا القسم سؤالات نذكرها في حد الاسم والفعل .

المسألة الخامسة : في تعريف الاسم : الناس ذكروا فيه وجوها :

التعريف الأول : أن الاسم هو الذي يصح الإخبار عن معناه واعلم أن صحة الإخبار عن ماهية الشيء حكم يحصل له بعد تمام ماهيته فيكون هذا التعريف من باب الرسوم لا من باب الحدود والإشكال عليه من وجهين

الأول : أن الفعل والحرف يصح الإخبار عنهما

والثاني : أن إذا وكيف وأين لا يصح الإخبار عنها وقد سبق تقرير هذين السؤالين .

التعريف الثاني : أن الاسم هو الذي يصح أن يأتي فاعلا أو مفعولا أو مضافا واعلم أن حاصله يرجع إلى أن الاسم هو الذي يصح الإخبار عنه .

التعريف الثالث : أن الاسم كلمة تستحق الإعراب في أول الوضع وهذا أيضا رسم لأن صحة الإعراب حالة طارئة على الاسم بعد تمام الماهية وقولنا في أول الوضع احتراز عن شيئين :

 أحدهما المبنيات فإنها لا تقبل الإعراب بسبب مناسبة بينها وبين الحروف ولولا هذه المناسبة لقبلت الإعراب

والثاني : أن المضارع معرب لكن لا لذاته بل بسبب كونه مشابها للاسم وهذا التعريف أيضا ضعيف .

التعريف الرابع : قال الزمخشري في المفصل : الاسم ما دل على معنى في نفسه دلالة مجردة عن الاقتران .

واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه :

 الأول : أنه قال في تعريف الكلمة أنها اللفظ الدال على معنى مفرد بالوضع ثم ذكر فيما كتب من حواشي المفصل أنه إنما وجب ذكر اللفظ لأنا لو قلنا الكلمة هي الدالة على المعنى لانتقض بالعقد والخط والإشارة كذلك مع أنها ليست أسماء .

والثاني : أن الضمير في قوله في نفسه

أما أن يكون عائدا إلى الدال أو إلى المدلول أو إلى شيء ثالث فإن عاد إلى الدال صار التقدير الاسم ما دل على معنى حصل في الاسم فيصير المعنى الاسم ما دل على معنى هو مدلوله وهذا عبث ثم مع ذلك فينتقض بالحرف والفعل فإنه لفظ يدل على مدلوله وإن عاد إلى المدلول صار التقدير الاسم ما دل على معنى حاصل في نفس ذلك المعنى وذلك يقتضي كون الشيء حاصلا في نفسه وهو محال

فإن قالوا معنى كونه حاصلا في نفسه أنه ليس حاصلا في غيره

فنقول : فعلى هذا التفسير ينتقض الحد بأسماء الصفات والنسب فإن تلك المسميات حاصلة في غيرها .

التعريف الخامس : أن يقال : الاسم كلمة دالة على معنى مستقل بالمعلومية من غير أن يدل على الزمان المعين الذي وقع فيه ذلك المعنى وإنما ذكرنا الكلمة ليخرج الخط والعقد والإشارة

فإن قالوا : لم لم يقولوا لفظة دالة على كذا وكذا ؟

قلنا : لأنا جعلنا اللفظ جنسا للكلمة والكلمة جنس للاسم والمذكور في الحد هو الجنس القريب لا البعيد

وأما شرط الاستقلال بالمعلومية فقيل : إنه باطل طردا وعكسا

أما الطرد فمن وجوه .

الأول : أن كل ما كان معلوما فإنه لا بد وأن يكون مستقلا بالمعلومية لأن الشيء ما لم تتصور ماهيته امتنع أن يتصور مع غيره وإذا كان تصوره في نفسه متقدما على تصورة مع غيره كان مستقلا بالمعلومية

الثاني : أن مفهوم الحرف يستقل بأن يعلم كونه غير مستقل بالمعلومية وذلك استقلال .

الثالث : أن النحويين اتفقوا على أن الباء تفيد الإلصاق ومن تفيد التبعيض فمعنى الإلصاق إن كان مستقلا بالمعلومية وجب أن يكون المفهوم من الباء مستقلا بالمعلومية فيصير الحرف اسما وإن كان غير مستقل بالمعلومية كان المفهوم من الإلصاق غير مستقل بالمعلومية فيصير الاسم حرفا

وأما العكس فهو أن قولنا كم وكيف ومتى وإذا وما الاستفهامية والشرطية كلها أسام مع أن مفهوماتها غير مستقلة وكذلك الموصولات .

الثالث : أن قولنا : من غير دلالة على زمان ذلك المعنى يشكل بلفظ الزمان وبالغد وباليوم وبالاصطباح وبالاغتباق

والجواب عن السؤال الأول أنا ندرك تفرقة بين قولنا الإلصاق وبين حرف الباء في قولنا كتبت بالقلم فنريد بالاستقلال هذا القدر .

فأما لفظ الزمان واليوم والغد فجوابه أن مسمى هذه الألفاظ نفس الزمان ولا دلالة منها على زمان آخر لمسماه .

وأما الاصطباح والاغتباق فجزؤه الزمان والفعل هو الذي يدل على زمان خارج عن المسمى والذي يدل على ما تقدم قولهم : اغتبق يغتبق فأدخلوا الماضي والمستقبل على الاصطباح والاغتباق .

المسألة السادسة : علامات الاسم أما أن تكون لفظية أو معنوية فاللفظية

أما أن تحصل في أول الاسم وهو حرف تعريف أو حرف جر أو في حشوه كياء التصغير وحرف التكسير أو في آخره كحرفي التثنية والجمع .

وأما المعنوية فهي كونه موصوفا وصفة وفاعلا ومفعولا ومضافا إليه ومخبرا عنه ومستحقا للإعراب بأصل الوضع .

المسألة السابعة : ذكروا للفعل تعريفات :

التعريف الأول : قال سيبويه أنها أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وينتقض بلفظ الفاعل والمفعول .

التعريف الثاني : أنه الذي أسند إلى شيء ولا يستند إليه شيء وينتقض بإذا وكيف فإن هذه الأسماء يجب إسنادها إلى شيء آخر ويمتنع استناد شيء آخر إليها .

التعريف الثالث : قال الزمخشري : الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان وهو ضعيف لوجهين :

 الأول : أنه يجب أن يقال كلمة دالة على اقتران حدث بزمان وإنما يجب ذكر الكلمة لوجوه :

 أحدها : أنا لو لم نقل بذلك لانتقض بقولنا اقتران حدث بزمان فإن مجموع هذه الألفاظ دال على اقتران حدث بزمان مع أن هذا المجموع ليس بفعل

أما إذا قيدناه بالكلمة اندفع هذا السؤال لأن مجموع هذه الألفاظ ليس كلمة واحدة .

وثانيها أنا لو لم نذكر ذلك لانتقض بالخط والعقد والإشارة

وثالثها أن الكلمة لما كانت كالجنس القريب لهذه الثلاثة فالجنس القريب واجب الذكر في الحد .

الوجه الثاني ما نذكره بعد ذلك .

التعريف الرابع : الفعل كلمة دالة على ثبوت المصدر لشيء غير معين في زمان معين وإنما قلنا كلمة لأنها هي الجنس القريب وإنما قلنا دالة على ثبوت المصدر ولم نقل دالة على ثبوت شيء لأن المصدر قد يكون أمرا ثابتا كقولنا ضرب وقتل وقد يكون عدميا مثل فني وعدم فإن مصدرهما الفناء والعدم وإنما قلنا بشيء غير معين لأنا سنقيم الدليل على أن هذا المقدار معتبر وإنما قلنا في زمان معين احترازا عن الأسماء .

واعلم أن في هذه القيود مباحثات :

القيد الأول هو قولنا يدل على ثبوت المصدر لشيء فيه إشكالات :

 الأول : أنا إذا قلنا خلق اللّه العالم فقولنا خلق

أما أن يدل على ثبوت الخلق للّه سبحانه وتعالى أو لا يدل فإن لم يدل بطل ذلك القيد وإن دل فذلك الخلق يجب أن يكون مغايرا للمخلوق وهو إن كان محدثا افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل وإن كان قديما لزم قدم المخلوق .

والثاني : أنا إذا قلنا وجد الشيء فهل دل ذلك على حصول الوجود لشيء أو لم يدل ؟ فإن لم يدل بطل هذا القيد وإن دل لزم أن يكون الوجود حاصلا لشيء غيره وذلك الغير يجب أن يكون حاصلا في نفسه لأن ما لا حصول له في نفسه امتنع حصول غيره له .

فيلزم أن يكون حصول الوجود له مسبوقا بحصول آخر إلى غير النهاية وهو محال .

والثالث : إذا قلنا عدم الشيء وفني فهذا يقتضي حصول العدم وحصول الفناء لتلك الماهية وذلك محال لأن العدم والفناء نفي محض فكيف يعقل حصولهما لغيرهما .

والرابع : أن على تقدير أن يكون الوجود زائدا على الماهية فإنه يصدق قولنا أنه حصل الوجود لهذه الماهية فيلزم حصول وجود آخر لذلك الوجود إلى غير نهاية وهو محال

وأما على تقدير أن يكون الوجود نفس الماهية فإن قولنا حدث الشيء وحصل فإنه لا يقتضي حصول وجود لذلك الشيء وإلا لزم أن يكون الوجود زائدا على الماهية ونحن الآن إنما نتكلم على تقدير أن الوجود نفس الماهية .

وأما القيد الثاني : وهو قولنا في زمان معين ففيه سؤالات :

 أحدها : أنا إذا قلنا وجد الزمان أو قلنا فني الزمان فهذا يقتضي حصول الزمان في زمان آخر ولزم التسلسل

فإن قالوا : يكفي في صحة هذا الحد كون الزمان واقعا في زمان آخر بحسب الوهم الكاذب

قلنا : الناس أجمعوا على أن قولنا حدث الزمان وحصل بعد أن كان معدوما كلام حق ليس فيه باطل ولا كذب ولو كان الأمر كما قلتم لزم كونه باطلا وكذبا

وثانيها : أنا إذا قلنا : كان العالم معدوما في الأزل فقولنا : كان فعل فلو أشعر ذلك بحصول الزمان لزم حصول الزمان في الأزل وهو محال

فإن قالوا : ذلك الزمان مقدر لا محقق

قلنا التقدير الذهني إن طابق الخارج عاد السؤال وإن لم يطابق كان كذبا ولزم فساد الحد

وثالثها : أنا إذا قلنا : كان اللّه موجودا في الأزل فهذا يقتضي كون اللّه زمانيا وهو محال

ورابعها أنه ينتقض بالأفعال الناقصة فإن كان الناقصة

أما أن تدل على وقوع حدث في زمان أو لا تدل .

فإن دلت كان تاما لا ناقصا لأنه متى دل اللفظ على حصول حدث في زمان معين كان هذا كلاما تاما لا ناقصا وإن لم يدل وجب أن لا يكون فعلا

وخامسها : أنه يبطل بأسماء الأفعال فإنها تدل على ألفاظ دالة على الزمان المعين والدال على الدال على الشيء دال على ذلك الشيء فهذه الأسماء دالة على الزمان المعين

وسادسها : أن اسم الفاعل يتناول أما الحال

وأما الاستقبال ولا يتناول الماضي البتة فهو دال على الزمان المعين .

والجواب أما السؤالات الأربعة المذكورة على قولنا الفعل يدل على ثبوت المصدر لشيء والثلاثة المذكورة على قولنا الفعل يدل الزمان فجوابها أن اللغوي يكفي في علمه تصور المفهوم سواء كان حقا أو باطلا

وأما قوله يشكل هذا الحد بالأفعال الناقصة

قلنا : الذي أقول به وأذهب إليه أن لفظة كان تامة مطلقا إلا أن الاسم الذي يستند إليه لفظ كان قد يكون ماهية مفردة مستقلة بنفسها مثل قولنا : كان الشيء بمعنى حدث وحصل وقد تكون تلك الماهية عبارة عن موصوفية شيء لشيء آخر مثل قولنا : كان زيد منطلقا فإن معناه حدوث موصوفية زيد بالانطلاق فلفظ كان ههنا معناه أيضا الحدوث والوقوع إلا أن هذه الماهية لما كانت من باب النسب والنسبة يمتنع ذكرها إلا بعد ذكر المنتسبين لا جرم وجب ذكرهما ههنا فكما أن قولنا : كان زيد معناه انه حصل ووجد فكذا قولنا كان زيد منطلقا معناه أنه حصلت موصوفية زيد بالانطلاق ؛ وهذا بحث عميق دقيق غفل الأولون عنه

وقوله خامسا يبطل ما ذكرتم بأسماء الأفعال قلنا المعتبر في كون اللفظ فعلا دلالته على الزمان ابتداء لا بواسطة وقوله سادسا اسم الفاعل مختص بالحال والاستقبال قلنا : لا نسلم بدليل أنهم قالوا : إذا كان بمعنى الماضي لم يعمل عمل الفعل وإذا كان بمعنى الحال فإنه يعمل عمل الفعل .

المسألة الثامنة : الكلمة أما أن يكون معناها مستقلا بالمعلومية أو لا يكون وهذا الأخير هو الحرف فامتياز الحرف عن الاسم والفعل بقيد عدمي ثم نقول : والمستقل بالمعلومية أما أن يدل على الزمان المعين لذلك المسمى أو لا يدل والذي لا يدل هو الاسم فامتاز الاسم عن الفعل بقيد عدمي

وأما الفعل فإن ماهيته متركبة من القيود الوجودية .

المسألة التاسعة : إذا قلنا : ضرب فهو يدل على صدور الضرب عن شيء ما إلا أن ذلك الشيء غير مذكور على التعيين بحسب هذا اللفظ

فإن قالوا : هذا محال ويدل عليه وجهان :

 الأول : أنه لو كان كذلك لكانت صيغة الفعل وحدها محتملة للتصديق والتكذيب

الثاني : أنها لو دلت على استناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر وجب أن يمتنع إسناده إلى شيء معين وإلا لزم التناقض ولو دلت على استناد الضرب إلى شيء معين فهو باطل لأنا نعلم بالضرورة أن مجرد قولنا ضرب ما وضع لاستناد الضرب إلى زيد بعينه أو عمرو بعينه

والجواب عن هذين السؤالين بجواب واحد وهو أن ضرب صيغة غير موضوعة لأسناد الضرب إلى شيء مبهم في نفس الأمر بل وضعت لإسناده إلى شيء معين يذكره ذلك القائل فقبل أن يذكره القائل لا يكون الكلام تاما ولا محتملا للتصديق والتكذيب وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل .

المسألة العاشرة : قالوا الحرف ما جاء المعنى في غيره وهذا لفظ مبهم لأنهم إن أرادوا معنى الحرف أن الحرف ما دل على معنى يكون المعنى حاصلا في غيره وحالا في غيره لزمهم إن تكون أسماء الأعراض والصفات كلها حروفا وإن أرادوا به أنه الذي دل على معنى يكون مدلول ذلك اللفظ غير ذلك المعنى فهذا ظاهر الفساد وإن أرادوا به معنى ثالثا فلا بد من بيانه .

المسألة الحادية عشرة : التركيبات الممكنة من هذه الثلاثة ستة : الاسم مع الاسم وهو الجملة الحاصلة من المبتدأ والخبر والاسم مع الفعل وهو الجملة الحاصلة من الفعل والفاعل وهاتان الجملتان مفيدتان بالاتفاق

وأما الثالث - وهو الاسم مع الحرف - فقيل : إنه يفيد في صورتين

الصورة الأولى : قولك يا زيد فقيل : ذلك إنما أفاد لأن قولنا يا زيد في تقدير أنادي واحتجوا على صحة قولهم بوجهين :

 الأول : أن لفظ يا تدخله الإمالة ودخول الإمالة لا يكون إلا في الاسم أو الفاعل

والثاني : أن لام الجر تتعلق بها فيقال يالزيد فإن هذه اللام لام الاستغاثة وهي حرف جر ولو لم يكن قولنا يا قائمة مقام الفعل وإلا لما جاز أن يتعلق بها حرف الجر لأن الحرف لا يدخل على الحرف ومنهم من أنكر أن يكون يا بمعنى أنادي واحتج عليه بوجوه :

 الأول : أن قوله أنادي إخبار عن النداء والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه فوجب أن يكون قولنا أنادي زيدا مغايرا لقولنا يا زيد

الثاني : أن قولنا أنادي زيدا كلام محتمل للتصديق والتكذيب

وقولنا يا زيد لا يحتملها

الثالث : أن قولنا يا زيد ليس خطابا إلا مع المنادى

وقولنا أنادي زيدا غير مختص بالمنادى

الرابع : أن قولنا يا زيد يدل على حصول النداء في الحال

وقولنا أنادي زيدا لا يدل على اختصاصه بالحال

الخامس : أنه يصح أن يقال أنادي زيدا قائما ولا يصح أن يقال يا زيد قائما فدلت هذه الوجوه الخمسة على حصول التفرقة بين هذين اللفظين

الصورة الثانية : قولنا زيد في الدار فقولنا زيد مبتدأ والخبر هو ما دل عليه قولنا في إلا أن المفهوم من معنى الظرفية قد يكون في الدار أو في المسجد فأضيفت هذه الظرفية إلى الدار لتتميز هذه الظرفية عن سائر أنواعها

فإن قالوا : هذا الكلام إنما أفاد لأن التقدير زيد استقر في الدار وزيد مستقر في الدار

فنقول : هذا باطل لأن قولنا استقر معناه حصل في الاستقرار فكان قولنا فيه يفيد حصولا آخر ؛ وهو أنه حصل فيه حصول ذلك الاستقرار وذلك يفضي إلى التسلسل وهو محال فثبت أن قولنا زيد في الدار كلام تام ولا يمكن تعليقه بفعل مقدر مضمر

المسألة الثانية عشرة : الجملة المركبة

أما أن تكون مركبة تركيبا أوليا أو ثانويا أما المركبة تركيبا أوليا فهي الجملة الاسمية أو الفعلية والأشبه أن الجملة الاسمية أقدم في المرتبة من الجملة الفعلية لأن الاسم بسيط والفعل مركب والبسيط مقدم على المركب فالجملة الاسمية يجب أن تكون أقدم من الجملة الفعلية ويمكن أن يقال : بل الفعلية أقدم ؛ لأن الاسم غير أصيل في أن يسند إلى غيره فكانت الجملة الفعلية أقدم من الجملة الاسمية

وأما المركبة تركيبا ثانويا فهي الجملة الشرطية كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لأن قولك الشمس طالعة جملة وقولك النهار موجود جملة أخرى ثم أدخلت حرف الشرط في إحدى الجملتين وحرف الجزاء في الجملة الأخرى فحصل من مجموعها جملة واحدة واللّه سبحانه وتعالى أعلم

الباب الرابع

في تقسيمات الاسم إلى أنواعه وهي من وجوه

التقسيم الأول : أما أن يكون نفس تصور معناه مانعا من الشركة أو لا يكون فإن كان الأول فأما أن يكون مظهرا وهو العلم

وأما أن يكون مضمرا وهو معلوم

وأما إذا لم يكن مانعا من الشركة فالمفهوم منه :

أما أن يكون ماهية معينة وهو أسماء الأجناس

وأما أن يكون مفهومة أنه شيء ما موصوف بالصفة الفلانية وهو المشتق كقولنا أسود فإن مفهومه أنه شيء ما له سواد فثبت بما ذكرناه أن الاسم جنس تحته أنواع ثلاثة : أسماء الأعلام وأسماء الأجناس والأسماء المشتقة فلنذكر أحكام هذه الأقسام

النوع الأول : أحكام الأعلام وهي كثيرة :

الحكم الأول : قال المتكلمون : اسم العلم لا يفيد فائدة أصلا

وأقول : حق أن العلم لا يفيد صفة في المسمى

وأما ليس بحق أنه لا يفيد شيئا وكيف وهو يفيد تعريف تلك الذات المخصوصة ؟

الحكم الثاني : اتفقوا على أن الأجناس لها أعلام فقولنا أسد اسم جنس لهذه الحقيقة ؛

وقولنا ثعالة اسم علم لها

وأقول : الفرق ين اسمالجنس وبين علم الجنس من وجهين :

 الأول : أن اسم العلم هو الذي يفيد الشخص المعين من حيث إنه المعين فإذا سمينا أشخاصا كثيرين باسم زيد فليس ذلك لأجل أن قولنا زيد موضوع لإفادة القدر المشترك بين تلك الأشخاص بل لأجل أن لفظ زيد وضع لتعريف هذه الذات من حيث أنها هذه ولتعرف تلك من حيث إنها تلك على سبيل الاشتراك إذا عرفت هذا

فنقول : إذا قال الواضع : وضعت لفظ أسامة لإفادة ذات كل واحد من أشخاص الأسد بعينها من حيث هي هي على سبيل الاشتراك اللفظي كان ذلك علم الجنس وإذا قال : وضعت لفظ الأسد لإفادة الماهية التي هي القدر المشترك بين هذه الأشخاص فقط من غير أن يكون فيها دلالة على الشخص المعين كان هذا اسم الجنس فقد ظهر الفرق بين اسم الجنس وبين علم الجنس

الثاني : أنهم وجدوا أسامة اسما غير منصرف وقد تقرر عندهم أنه ما لم يحصل في الاسم شيئان لم يخرج عن الصرف ثم وجدوا في هذا اللفظ التأنيث ولم يجدوا شيئا آخر سوى العلمية فاعتقدوا كونه علما لهذا المعنى .

الحكم الثالث : اعلم أن الحكمة الداعية إلى وضع الأعلام أنه ربما اختص نوع بحكم واحتيج إلى الاخبار عنه بذلك الحكم الخاص ومعلوم أن ذلك الإخبار على سبيل التخصيص غير ممكن إلا بعد ذكر المخبر عنه على سبيل الخصوص فاحتيج إلى وضع الأعلام لهذه الحكمة

الحكم الرابع أنه لما كانت الحاجات المختلفة تثبت لأشخاص الناس فوق ثبوتها لسائر الحيوانات لا جرم كان وضع الأعلام للأشخاص الإنسانية أكثر من وضعها لسائر الذوات العلم اسم ولقب وكنية .

الحكم الخامس : في تقسيمات الأعلام وهي من وجوه :

 الأول : العلم

أما أن يكون اسما كإبراهيم وموسى وعيسى أو لقبا كإسرائيل أو كنية كأبي لهب .

واعلم أن هذا التقسيم يتفرع عليه أحكام

الحكم الأول : الشيء

أما أن يكون له الاسم فقط أو اللقب فقط أو الكنية فقط أو الاسم مع اللقب أو الاسم مع الكنية أو اللقب مع الكنية واعلم أن سيبويه أفرد أمثلة الأقسام المذكورة من تركيب الكنية والاسم وهي ثلاثة :

 أحدها : الذي له الاسم والكنية كالضبع فإن اسمها حضاجر وكنيتها أم عامر وكذلك يقال للأسد أسامة وأبو الحارث وللثعلب ثعالة وأبو الحصين وللعقرب شبوة وأم عريط

وثانيها أن يحصل له الاسم دون الكنية كقولنا قثم لذكر الضبع ولا كنية له

وثالثها الذي حصلت له الكنية ولا اسم له كقولنا للحيوان المعين أبو براقش

الحكم الثاني و الثالث : الكنية قد تكون بالإضافات إلى الآباء وإلى الأمهات وإلى البنين وإلى البنات فالكنى بالآباء كما يقال للذئب أبو جعدة للأبيض وأبو الجون

وأما الأمهات فكما يقال للداهية أم حبو كرى وللخمر أم ليلى

وأما البنون فكما يقال للغراب ابن دأية وللرجل الذي يكون حاله منكشفا ابن جلا

وأما البنات فكما يقال للصدى ابنة الجبل وللحصاة بنت الأرض .

والحكم الرابع : الإضافة في الكنية قد تكون مجهولة النسب نحو ابن عرس وحمار قبان وقد تكون معلومة النسب نحو ابن لبون وبنت لبون وابن مخاض وبنت مخاض لأن الناقة إذا ولدت ولدا ثم حمل عليها بعد ولادتها فإنها لا تصير مخاضا إلا بعد سنة والمخاض الحامل المقرب فولدها إن كان ذكرا فهو ابن مخاض وإن كان أنثى فهي بنت مخاض ثم إذا ولدت وصار لها لبن صارت لبونا فأضيف الولد إليها بإضافة معلومة .

الحكم الخامس : إذا اجتمع الاسم واللقب : فالاسم

أما أن يكون مضافا أو لا فإن لم يكن مضافا أضيف الاسم إلى اللقب يقال هذا سعيد كرز وقيس بطة لأنه يصير المجموع بمنزلة الاسم الواحد

وأما إن كان الاسم مضافا فهم يفردون اللقب فيقولون هذا عبد اللّه بطة .

الحكم السادس : المقتضي لحصول الكنية أمور :

 أحدها الاخبار عن نفس الأمر كقولنا أبو طالب فإنه كني بابنه طالب

وثانيها : التفاؤل والرجا كقولهم أبو عمرو لمن يرجو ولدا يطول عمره وأبو الفضل لمن يرجو ولدا جامعا للفضائل

وثالثها : الإيماء إلى الضد كأبي يحيى للموت

ورابعها أن يكون الرجل إنسانا مشهورا وله أب مشهور فيتقارضان الكنية فإن يوسف كنيته أبو يعقوب ويعقوب كنيته أبو يوسف

وخامسها : اشتهار الرجل بخصلة فيكنى بها

أما بسبب اتصافه بها أو انتسابه إليها بوجه قريب أو بعيد .

التقسيم الثاني للأعلام : العلم أما أن يكون مفردا كزيد أو مركبا من كلمتين لا علاقة بينهما كبعلبك أو بينهما علاقة وهي :

أما علاقة الإضافة كعبد اللّه وأبي زيد أو علاقة الإسناد وهي

أما جملة اسمية أو فعليه ومن فروع هذا الباب أنك إذا جعلت جملة اسم علم لم تغيرها البتة بل تتركها بحالها مثل تأبط شرا وبرق نحوه .

التقسيم الثالث : العلم أما أن يكون منقولا أو مرتجلا

أما المنقول فأما أن يكون منقولا عن لفظ مفيد أو غير مفيد والمنقول من المفيد

أما أن يكون منقولا عن الاسم أو الفعل أو الحرف أو ما يتركب منها

أما المنقول عن الاسم فأما أن يكون عن اسم عين : كأسد وثور أو عن اسم معنى : كفضل ونصر أو صفة حقيقية : كالحسن أو عن صفة إضافية كالمذكور والمردود والمنقول عن الفعل

أما أن يكون منقولا عن صيغة الماضي كشمر أو عن صيغة المضارع كيحيى أو عن الأمر كاطرقا والمنقول عن الحرف كرجل سميته بصيغة من صيغ الحروف

وأما المنقول عن المركب من هذه الثلاثة فإن كان المركب مفيدا فهو المذكور في التقسيم الثاني وإن كان غير مفيد فهو يفيد

وأما المنقول عن صوت فهو مثل تسمية بعض العلوية بطباطبا

وأما المرتجل فقد يكون قياسا مثل عمران وحمدان فإنهما من أسماء الأجناس مثل سرحان وندمان وقد يكون شاذا قلما يوجد له نظير مثل محبب وموهب .

التقسيم الرابع : الأعلام

أما أن تكون للذوات أو المعاني وعلى التقديرين فأما أن يكون العلم علم الشخص أو علم الجنس فههنا أقسام أربعة وقبل الخوض في شرح هذه الأقسام فيجب أن تعلم أن وضع الأعلام للذوات أكثر من وضعها للمعاني لأن أشخاص الذوات هي التي يتعلق الغرض بالإخبار عن أحوالها على سبيل التعيين أما أشخاص الصفات فليست كذلك في الأغلب .

ولنرجع إلى أحكام الأقسام الأربعة

فالقسم الأول العلم للذوات والشرط فيه أن يكون المسمى مألوفا للواضع والأصل في المألوفات الإنسان لأن مستعمل أسماء الأعلام هو الإنسان وإلف الشيء بنوعه أتم من إلفه بغير نوعه وبعد الإنسان الأشياء التي يكثر احتياج الإنسان إليها وتكثر مشاهدته لها ولهذا السبب وضعوا أعوج ولاحقا علمين لفرسين وشذقما وعليا لفحلين وضمران لكلب وكساب لكلبة

وأما الأشياء التي لا يألفها الإنسان فقلما يضعون الأعلام لأشخاصها

أما القسم الثاني فهو علم الجنس للذوات وهو مثل أسامة للأسد وثعالة للثعلب

وأما القسم الثالث فهو وضع الأعلام للأفراد المعينة من الصفات ؛ وهو مفقود لعدم الفائدة

وأما القسم الرابع فهو علم الجنس للمعاني والضابط فيه أنا إذا رأينا حصول سبب واحد من الأسباب التسعة المانعة من الصرف ثم منعوه الصرف علمنا أنهم جعلوه علما لما ثبت أن المنع من الصرف لا يحصل إلا عند اجتماع سببين وذكر ابن جني أمثلة لهذا الباب وهي تسميتهم التسبيح بسبحان والغدو بكيسان لأنهما غير منصرفين فالسبب الواحد - وهو الألف والنون - حاصل .

ولا بد من حصول العلمية ليتم السببان .

التقسيم الخامس للأعلام : اعلم أن اسم الجنس قد ينقلب اسم علم كما إذا كان المفهوم من اللفظ أمرا كليا صالحا لأن يشترك فيه كثيرون ثم إنه في العرف يختص بشخص بعينه مثل النجم فإنه في الأصل اسم لكل نجم ثم اختص في العرف بالثريا وكذلك السماك اسم مشتق من الارتفاع ثم اختص بكوكب معين .

الباب الخامس

في أحكام أسماء الأجناس والأسماء المشتقة وهي كثيرة

أما أحكام أسماء الأجناس فهي أمور :

الحكم الأول : الماهية قد تكون مركبة وقد تكون بسيطة وقد ثبت في العقليات أن المركب قبل البسيط في الجنس وأن البسيط قبل المركب في الفصل وثبت بحسب الاستقراء أن قوة الجنس سابقة على قوة الفصل في الشدة والقوة فوجب أن تكون أسماء الماهيات المركبة سابقة على أسماء الماهيات البسيطة .

الحكم الثاني : أسماء الأجناس سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقة لأن الاسم المشتق متفرع على الاسم المشتق منه فلو كان اسمه أيضا مشتقا لزم

أما التسلسل أو الدور وهما محالان فيجب الانتهاء في الاشتقاقات إلى أسماء موضوعة جامدة فالموضوع غني عن المشتق والمشتق محتاج إلى الموضوع فوجب كون الموضوع سابقا بالرتبة على المشتق ويظهر بهذا أن هذا الذي يعتاده اللغويون والنحويون من السعي البليغ في أن يجعلوا كل لفظ مشتقا من شيء آخر سعي باطل وعمل ضائع .

الحكم الثالث : الموجود أما واجب

وأما ممكن والممكن أما متحيز أو حال في المتحيز ؛ أو لا متحيز ولا حال في المتحيز

أما هذا القسم الثالث فالشعور به قليل وإنما يحصل الشعور بالقسمين الأولين ثم إنه ثبت بالدليل أن المتحيزات متساوية في تمام ذواتها وأن الاختلاف بينها إنما يقع بسبب الصفات القائمة بها فالأسماء الواقعة على كل واحد من أنواع الأجسام يكون المسمى بها مجموع الذات مع الصفات المخصوصة القائمة بها هذا هو الحكم في الأكثر الأغلب .

وأما أحكام الأسماء المشتقة فهي أربعة :

الحكم الأول : ليس من شرط الاسم المشتق أن تكون الذات موصوفة بالمشتق منه بدليل أن المعلوم مشتق من العلم مع أن العلم غير قائم بالمعلوم .

وكذا القول في المذكور والمرئي والمسموع وكذا القول في اللائق والرامي

الحكم الثاني : شرط صدق المشتق حصول المشتق منه في الحال بدليل أن من كان كافرا ثم أسلم فإنه يصدق عليه أنه ليس بكافر .

وذلك يدل على أن بقاء المشتق منه شرط في صدق الاسم المشتق .

الحكم الثالث : المشتق منه إن كان ماهية مركبة لا يمكن حصول أجزائها على الاجتماع مثل الكلام والقول والصلاة فإن الاسم المشتق إنما يصدق على سبيل الحقيقة عند حصول الجزء الأخير من تلك الأجزاء .

الحكم الرابع : المفهوم من الضارب أنه شيء ما له ضرب فأما أن ذلك الشيء جسم أو غيره فذلك خارج عن المفهوم لا يعرف إلا بدلالة الالتزام .

الباب السادس

في تقسيم الاسم إلى المعرب والمبني وذكر الأحكام المفرعة على هذين القسمين وفيه مسائل

المسألة الأولى : في لفظ الإعراب وجهان :

 أحدهما أن يكون مأخوذا من قولهم أعرب عن نفسه إذا بين ما في ضميره فإن الإعراب إيضاح المعنى

والثاني : أن يكون أعرب منقولا من قولهم عربت معدة الرجل إذا فسدت فكان المراد من الإعراب إزالة الفساد ورفع الإبهام مثل أعجمت الكتاب بمعنى أزلت عجمته .

المسألة الثانية : إذا وضع لفظ الماهية وكانت تلك الماهية موردا لأحوال مختلفة وجب أن يكون اللفظ موردا لأحوال مختلفة لتكون الأحوال المختلفة اللفظية دالة على الأحوال المختلفة المعنوية كما أن جوهر اللفظ لما كان دالا على أصل الماهية كان اختلاف أحواله دالا على اختلاف الأحوال المعنوية فتلك الأحوال المختلفة اللفظية الدالة على الأحوال المختلفة المعنوية هي الإعراب .

المسألة الثالثة : الأفعال والحروف أحوال عارضة للماهيات والعوارض لا تعرض لها عوارض أخرى هذا هو الحكم الأكثري وإنما الذي يعرض لها الأحوال المختلفة هي الذوات والألفاظ الدالة عليها هي الأسماء فالمستحق للإعراب بالوضع الأول هو الأسماء .

المسألة الرابعة : إنما اختص الإعراب بالحرف الأخير من الكلمة لوجهين :

 الأول أن الأحوال العارضة للذات لا توجد إلا بعد وجود الذات واللفظ لا يوجد إلا بعد وجود الحرف الأخير منه فوجب أن تكون العلامات الدالة على الأحوال المختلفة المعنوية لا تحصل إلا بعد تمام الكلمة .

الثاني : أن اختلاف حال الحرف الأول والثاني من الكلمة للدلالة على اختلاف أوزان الكلمة فلم يبق لقبول الأحوال الإعرابية إلا الحرف الأخير من الكلمة .

المسألة الخامسة : الإعراب ليس عبارة عن الحركات والسكنات الموجودة في أواخر الكلمات بدليل أنها موجودة في المبينات والإعراب غير موجود فيها بل الإعراب عبارة عن استحقاقها لهذه الحركات بسبب العوامل المحسوسة وذلك الاستحقاق معقول لا محسوس والإعراب حاجة معقولة لا محسوسة .

المسألة السادسة : إذا قلنا في الحرف : إنه متحرك أو ساكن فهو مجاز لأن الحركة والسكون من صفات الأجسام والحرف ليس بجسم بل المراد من حركة الحرف صوت مخصوص يوجد عقيب التلفظ بالحرف والسكون عبارة عن أن يوجد الحرف من غير أن يعقبه ذلك الصوت المخصوص المسمى بالحركة .

المسألة السابعة : الحركات أما صريحة أو مختلسة والصريحة

أما مفردة أو غير مفردة فالمفردة ثلاثة وهي : الفتحة والكسرة والضمة وغير المفردة ما كان بين بين وهي ستة لكل واحدة قسمان فللفتحة ما بينها وبين الكسرة أو ما بينها وبين الضمة أو ما بينها وبين الفتحة والضمة على هذا القياس فالمجموع تسعة وهي

أما مشبعة أو غير مشبعة فهي ثمانية عشر والتاسعة عشرة المختلسة وهي ما تكون حركة وإن لم يتميز في الحس لها مبدأ وتسمى الحركة المجهولة وبها قرأ أبو عمرو : " {فتوبوا إلى بارئكم} " [ البقرة : ٥٤ ] مختلسة الحركة من بارئكم وغير ظاهرة بها .

المسألة الثامنة : لما كان المرجع بالحركة والسكون في هذا الباب إلى أصوات مخصوصة لم يجب القطع بانحصار الحركات في العدد المذكور قال ابن جني اسم المفتاح بالفارسية - وهو كليد - لا يعرف أن أوله متحرك أو ساكن قال : وحدثني أبو علي قال : دخلت بلدة فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل فتعجبت منها وأقمت هناك أياما فتكلمت أيضا بها فلما فارقت تلك البلدة نسيتها .

المسألة التاسعة : الحركة الإعرابية متأخرة عن الحرف تأخرا بالزمان ويدل عليه وجهان :

 الأول أن الحروف الصلبة كالباء والتاء والدال وأمثالها إنما تحدث في آخر زمان حبس النفس وأول إرساله وذلك أن فاصل ما بين الزمانين غير منقسم والحركة صوت يحدث عند إرسال النفس ومعلوم أن ذلك الآن متقدم على ذلك الزمان فالحرف متقدم على الحركة .

الثاني : أن الحروف الصلبة لا تقبل التمديد والحركة قابلة للتمديد فالحرف والحركة لا يوجدان معا لكن الحركة لا تتقدم على الحرف فبقي أن يكون الحرف متقدما على الحركة .

المسألة العاشرة : الحركات أبعاض من حروف المد واللين ويدل عليه وجوه

الأول : أن حروف المد واللين قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فله طرفان ولا طرف لها في النقصان إلا هذه الحركات

الثاني : أن هذه الحركات إذا مددناها ظهرت حروف المد واللين فعلمنا أن هذه الحركات ليست إلا أوائل تلك الحروف

الثالث : لو لم تكن الحركات أبعاضا لهذه الحروف لما جاز الاكتفاء بها لأنها إذا كانت مخالفة لها لم تسد مسدها فلم يصح الاكتفاء بها منها بدليل استقراء القرآن والنثر والنظم وبالجملة فهب أن إبدال الشيء من مخالفه القريب منه جائز إلا أن إبدال الشيء من بعضه أولى فوجب حمل الكلام عليه .

المسألة الحادية عشرة : الابتداء بالحرف الساكن محال عند قوم وجائز عند آخرين لأن الحركة عبارة عن الصوت الذي يحصل التلفظ به بعد التلفظ بالحرف وتوقيف الشيء على ما يحصل بعده محال .

المسألة الثانية عشرة : أثقل الحركات الضمة لأنها لا تتم إلا بضم الشفتين ولا يتم ذلك إلا بعمل العضلتين الصلبتين الواصلتين إلى طرفي الشفة

وأما الكسرة فإنه يكفي في تحصيلها العضلة الواحدة الجارية ثم الفتحة يكفي فيها عمل ضعيف لتلك العضلة وكما دلت هذه المعالم التشريحية على ما ذكرناه فالتجربة تظهره أيضا .

واعلم أن الحال فيما ذكرناه يختلف بحسب أمزجة البلدان فإن أهل أذربيجان يغلب على جميع ألفاظهم إشمام الضمة وكثير من البلاد يغلب على لغاتهم إشمام الكسرة واللّه أعلم .

المسألة الثالثة عشرة : الحركات الثلاثة مع السكون إن كانت إعرابية سميت بالرفع والنصب والجر أو الخفض والجزم وإن كانت بنائية سميت بالفتح والضم والكسر والوقف .

المسألة الرابعة عشرة : ذهب قطرب إلى أن الحركات البنائية مثل الإعرابية والباقون خالفوه وهذا الخلاف لفظي فإن المراد من التماثل إن كان هو التماثل في الماهية فالحس يشهد بأن الأمر كذلك وإن كان المراد حصول التماثل في كونها مستحقة بحسب العوامل المختلفة فالعقل يشهد أنه ليس كذلك .

المسألة الخامسة عشرة : من أراد أن يتلفظ بالضمة فإنه لا بد له من ضم شفتيه أولا ثم رفعهما ثانيا ومن أراد التلفظ بالفتحة فإنه لا بد له من فتح الفم بحيث تنتصب الشفة العليا عند ذلك الفتح ومن أراد التلفظ بالكسرة فإنه لا بد له من فتح الفم فتحا قويا والفتح القوي لا يحصل إلا بانجرار اللحي الأسفل وانخفاضة فلا جرم يسمى ذلك جرا وخفضا وكسرا لأن انجرار القوى يوجب الكسر

وأما الجزم فهو القطع

وأما أنه لم سمي وقفا وسكونا فعلته ظاهرة .

المسألة السادسة عشرة : منهم من زعم أن الفتح والضم والكسر والوقف أسماء للأحوال البنائية كما أن الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية ومنهم من جعل الأربعة

الأول أسماء تلك الأحوال سواء كانت بنائية أو إعرابية وجعل الأربعة الثانية أسماء للأحوال الإعرابية فتكون الأربعة الأولى بالنسبة إلى الأربعة الثانية كالجنس بالنسبة إلى النوع .

المسألة السابعة عشرة : أن سيبويه يسميها بالمجاري ويقول : هي ثمانية وفيه سؤالان :

 الأول : لم سمي الحركات بالمجاري فإن الحركة نفسها الجري والمجرى موضع الجري فالحركة لا تكون مجرى ؟ وجوابه أنا بينا أن الذي يسمى ههنا بالحركة فهو في نفسه ليس بحركة إنما هو صوت يتلفظ به بعد التلفظ بالحرف الأول فالمتكلم لما انتقل من الحرف الصامت إلى هذا الحرف فهذا الحرف المصوت إنما حدث لجريان نفسه وامتداده فلهذا السبب صحت تسميته بالمجرى .

السؤال الثاني : قال المازني : غلط سيبويه في تسميته الحركات البنائية بالمجاري لأن الجري إنما يكون لما يوجد تارة ويعدم تارة .

والمبني لا يزول عن حاله فلم يجز تسميته بالمجاري - بل كان الواجب أن يقال : المجاري أربعة وهي الأحوال الإعرابية .

والجواب أن المبنيات قد تحرك عند الدرج ولا تحرك عند الوقف فلم تكن تلك الأحوال لازمة لها مطلقا .

المسألة الثامنة عشرة : الإعراب اختلاف آخر الكلمة باختلاف العوامل : بحركة أو حرف تحقيقا أو تقديرا أما الاختلاف فهو عبارة عن موصوفية آخر تلك الكلمة بحركة أو سكون بعد أن كان موصوفا بغيرها .

ولا شك أن تلك الموصوفية حالة معقولة لا محسوسة فلهذا المعنى قال عبد القاهر النحوي : الإعراب حالة معقولة لا محسوسة

وأما قوله باختلاف العوامل فاعلم أن اللفظ الذي تلزمه حالة واحدة أبدا هو المبني

وأما الذي يختلف آخره فقسمان

أحدهما : أن لا يكون معناه قابلا للأحوال المختلفة كقولك أخذت المال من زيد فتكون من ساكنة ثم تقول أخذت المال من الرجل فتفتح النون ثم تقول أخذت المال من ابنك فتكون مكسورة فههنا اختلف آخر هذه الكلمة إلا أنه ليس بإعراب لأن المفهوم من كلمة من لا يقبل الأحوال المختلفة في المعنى

وأما القسم الثاني وهو الذي يختلف آخر الكلمة عند اختلاف أحوال معناها - فذلك هو الإعراب .

المسألة التاسعة عشرة : أقسام الإعراب ثلاثة :

 الأول : الإعراب بالحركة وهي في أمور ثلاثة :

 أحدها : الاسم الذي لا يكون آخره حرفا من حروف العلة سواء كان أوله أو وسطه معتلا أو لم يكن نحو رجل ووعد وثوب

وثانيها أن يكون آخر الكلمة واوا أو ياء ويكون ما قبله ساكنا فهذا كالصحيح في تعاقب الحركات عليه تقول : هذا ظبي وغزو ومن هذا الباب المدغم فيهما كقولك : كرسي وعدو لأن المدغم يكون ساكنا فسكون الياء من كرسي والواو من عدو كسكون الباء من ظبي والزاي من غزو

وثالثها : أن تكون الحركة المتقدمة على الحرف الأخير من الكلمة كسرة وحينئذ يكون الحرف الأخير ياء وإذا كان آخر الكلمة ياء قبلها كسرة كان في الرفع والجر على صورة واحدة وهي السكون

وأما في النصب فإن الياء تحرك بالفتحة قال اللّه تعالى : " {أجيبوا داعي اللّه} " [ الأحقاف : ٣١ ] .

القسم الثاني من الإعراب : ما يكون بالحرف وهو في أمور ثلاثة :

 أحدها في الأسماء الستة مضافة وذلك جاءني أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو مال ورأيت أباه ومررت بأبيه وكذا في البواقي

وثانيها كلا مضافا إلى مضمر تقول جاءني كلاهما ومررت بكليهما ورأيت كليهما

وثالثها التثنية والجمع تقول : جاءني مسلمان ومسلمون ورأيت مسلمين ومسلمين ومررت بمسلمين . ومسلمين

والقسم الثالث : الإعراب التقديري وهو في الكلمة التي يكون آخرها ألفا وتكون الحركة التي قبلها فتحة فإعراب هذه الكلمة في الأحوال الثلاثة على صورة واحدة تقول : هذه رحا ورأيت رحا ومررت برحا .

المسألة العشرون : أصل الإعراب أن يكون بالحركة لأنا ذكرنا أن الأصل في الإعراب أن يجعل الأحوال العارضة للفظ دلائل على الأحوال العارضة للمعنى والعارض للحرف هو الحركة لا الحرف الثاني

وأما الصور التي جاء إعرابها بالحروف فذلك للتنبيه على أن هذه الحروف من جنس تلك الحركات .

المسألة الحادية والعشرون : الاسم المعرب ويقال له المتمكن نوعان :

 أحدهما : ما يستوفي حركات الإعراب والتنوين وهو المنصرف والأمكن

والثاني ما لا يكون كذلك بل يحذف عنه الجر والتنوين ويحرك بالفتح في موضع الجر إلا إذا أضيف أو دخله لام التعريف ويسمى غير المنصرف والأسباب المانعة من الصرف تسعة فمتى حصل في الاسم اثنان منها أو تكرر سبب واحد فيه امتنع من الصرف وهي : العلمية والتأنيث اللازم لفظا ومعنى ووزن الفعل الخاص به أو الغالب عليه والوصفية والعدل والجمع الذي ليس على زنة واحدة والتركيب والعجمة في الأعلام خاصة والألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث سبب منع الصرف .

المسألة الثانية والعشرون : إنما صار اجتماع اثنين من هذه التسعة مانعا من الصرف لأن كل واحد منها فرع والفعل فرع عن الاسم فإذا حصل في الاسم سببان من هذه التسعة صار ذلك الاسم شبيها بالفعل في الفرعية وتلك المشابهة تقتضي منع الصرف فهذه مقدمات أربع :

المقدمة الأولى : في بيان أن كل واحد من هذه التسعة فرع

أما بيان أن العلمية فرع فلأن وضع الاسم للشيء لا يمكن إلا بعد صيرورته معلوما والشيء في الأصل لا يكون معلوما ثم يصير معلوما

وأما أن التأنيث فرع فبيانه تارة بحسب اللفظ وأخرى بحسب المعنى .

أما بحسب اللفظ فلأن كل لفظة وضعت لماهية فإنها تقع على الذكر من تلك الماهية بلا زيادة وعلى الأنثى بزيادة علامة التأنيث

وأما بحسب المعنى فلأن الذكر أكمل من الأنثى والكامل مقصود بالذات والناقص مقصود بالعرض

وأما أن الوزن الخاص بالفعل أو الغالب عليه فرع فلأن وزن الفعل فرع للفعل والفعل فرع للاسم وفرع الفرع فرع

وأما أن الوصف فرع فلأن الوصف فرع عن الموصوف

وأما أن العدل فرع فلأن العدول عن الشيء إلى غيره مسبوق بوجود ذلك الأصل وفرع عليه

وأما أن الجمع الذي ليس على زنته واحد فرع فلأن ذلك الوزن فرع على وجود الجمع لأنه لا يوجد إلا فيه والجمع فرع على الواحد لأن الكثرة فرع على الوحدة وفرع الفرع فرع وبهذا الطريق يظهر أن التركيب فرع

وأما أن المعجمة فرع فلأن تكلم كل طائفة بلغة أنفسهم أصل وبلغة غيرهم فرع

وأما أن الألف والنون في سكران وأمثاله يفيدان الفرعية فلأن الألف والنون زائدان على جوهر الكلمة والزائد فرع فثبت بما ذكرنا أن هذه الأسباب التسعة توجب الفرعية .

المقدمة الثانية : في بيان أن الفعل فرع والدليل عليه أن الفعل عبارة عن اللفظ الدال على وقوع المصدر في زمان معين فوجب كونه فرعا على المصدر .

المقدمة الثالثة : أنه لما ثبت ما ذكرناه ثبت أن الاسم الموصوف بأمرين من تلك الأمور التسعة يكون مشابها للفعل في الفرعية ومخالفا له في كونه اسما في ذاته والأصل في الفعل عدم الإعراب كما ذكرنا فوجب أن يحصل في مثل هذا الاسم أثران بحسب كل واحد من الاعتبارين المذكورين وطريقة أن يبقى إعرابها من أكثر الوجوه ويمنع من إعرابها من بعض الوجوه ليتوفر على كل واحد من الاعتبارين ما يليق به .

المسألة الثالثة والعشرون : إنما ظهر هذا الأثر في منع التنوين والجر لأجل أن التنوين يدل على كمال الاسم فإذا ضعف الاسم بحسب حصول هذه الفرعية أزيل عنه ما دل على كمال حاله

وأما الجر فلأن الفعل يحصل فيه الرفع والنصب

وأما الجر فغير حاصل فيه فلما صارت الأسماء مشابهة للفعل لا جرم سلب عنها الجر الذي هو من خواص الأسماء .

المسألة الرابعة والعشرون : هذه الأسماء بعد أن سلب عنها الجر

أما أن تترك ساكنة في حال الجر أو تحرك والتحريك أولى تنبيها على أن المانع من هذه الحركة عرضي لا ذاتي ثم النصب أول الحركات لأنا رأينا أن النصب حمل على الجر في التثنية والجمع السالم فلزم هنا حمل الجر على النصب تحقيقا للمعارضة .

المسألة الخامسة والعشرون : اتفقوا على أنه إذا دخل على ما لا ينصرف الألف واللام أو أضيف انصرف كقوله : مررت بالأحمر والمساجد وعمركم ثم قيل : السبب فيه أن الفعل لا تدخل عليه الألف واللام والإضافة فعند دخولهما على الاسم خرج الاسم عن مشابهة الفعل قال عبد القاهر : هذا ضعيف ؛ لأن هذه الأسماء إنما شابهت الأفعال لما حصل فيها من الوصفية ووزن الفعل وهذه المعاني باقية عند دخول الألف واللام والإضافة فيها فبطل قولهم : إنه زالت المشابهة .

وأيضا فحروف الجر والفاعلية والمفعولية من خواص الأسماء ثم إنها تدخل على الأسماء مع أنها تبقى غير منصرفة

والجواب عن الأول : أن الإضافة ولام التعريف من خواص الأسماء فإذا حصلتا في هذه الأسماء فهي وإن ضعفت في الاسمية بسبب كونها مشابهة للفعل إلا أنها قويت بسبب حصول خواص الأسماء فيها إذا عرفت هذا

فنقول : أصل الاسمية يقتضي قبول الإعراب من كل الوجوه إلا أن المشابهة للفعل صارت معارضة للمقتضى فإذا صار هذا المعارض معارضا بشيء آخر ضعف المعارض فعاد المقتضى عاملا عمله

وأما السؤال الثاني فجوابه : أن لام التعريف والإضافة أقوى من الفاعلية والمفعولية لأن لام التعريف والإضافة يضادان التنوين والضدان متساويان في القوة فلما كان التنوين دليلا على كمال القوة فكذلك الإضافة وحرف التعريف .

المسألة السادسة والعشرون : لو سميت رجلا بأحمر لم تصرفه بالاتفاق لاجتماع العلمية ووزن الفعل

أما إذا نكرته فقال سيبويه : لا أصرفه وقال الأخفش : أصرفه .

واعلم أن الجمهور يقولون في تقرير مذهب سيبويه على ما يحكى أن المازني قال :

 قلت للأخفش : كيف قلت مررت بنسوة أربع فصرفت مع وجود الصفة ووزن الفعل ؟ قال : لأن أصله الاسمية فقلت: فكذا لا تصرف أحمر اسم رجل إذا نكرته لأن أصله الوصفية قال المازني : فلم يأت الأخفش بمقنع

وأقول : كلام المازني ضعيف لأن الصرف ثبت على وفق الأصل في قوله : مررت بنسوة أربع لأنه يكفي عود الشيء إلى حكم الأصل أدنى سبب بخلاف المنع من الصرف ؛ فإنه على خلاف الأصل فلا يكفي فيه إلا السبب القوي

وأقول : الدليل على صحة مذهب سيبويه أنه حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير منصرف

أما المقدمة الأولى فهي إنما تتم بتقرير ثلاثة أشياء :

 الأول : ثبوت وزن الفعل وهو ظاهر

والثاني الوصفية والدليل عليه أن العلم إذا نكر صار معناه الشيء الذي يسمى بذلك الاسم فإذا قيل رب زيد رأيته كان معناه رب شخص مسمى باسم زيد رأيته ومعلوم أن كون الشخص مسمى بذلك الاسم صفة لا ذات

والثالث : أن الوصفية أصلية والدليل عليه أن لفظ الأحمر حين كان وصفا معناه الاتصاف بالحمرة فإذا جعل علما ثم نكر كان معناه كونه مسمى بهذا الاسم وكونه كذلك صفة إضافية عارضة له ف المفهومان اشتركا في كون كل واحد منهما صفة إلا أن الأول يفيد صفة حقيقية والثاني يفيد صفة إضافية والقدر المشترك بينهما كونه صفة فثبت بما ذكرنا أنه حصل فيه وزن الفعل والوصفية الأصلية فوجب كونه غير منصرف لما ذكرناه .

فإن قيل : يشكل ما ذكرتم بالعلم الذي ما كان وصفا فإنه عند التنكير ينصرف مع أنه عند التنكير يفيد الوصفية بالبيان الذي ذكرتم .

قلنا : إنه وإن صار عند التنكير وصفا إلا أن وصفيته ليست أصلية ؛ لأنها ما كانت صفة قبل ذلك بخلاف الأحمر ؛ فإنه كان صفة قبل ذلك والشيء الذي يكون في الحال صفة مع أنه كان قبل ذلك صفة كان أقوى في الوصفية مما لا يكون كذلك ؛ فظهر الفرق .

واحتج الأخفش بأن المقتضي للصرف قائم وهو الاسمية والعارض الموجود لا يصح معارضا ؛ لأنه علم منكر والعلم المنكر موصوف بوصف كونه منكرا والموصوف باق عند وجود الصفة فالعلمية قائمة في هذه الحالة والعلمية تنافي الوصفية فقد زالت الوصفية فلم يبق سوى وزن الفعل والسبب الواحد لا يمنع من الصرف

والجواب : أنا بينا بالدليل العقلي إن العلم إذا جعل منكرا صار وصفا في الحقيقة فسقط هذا الكلام .

المسألة السابعة والعشرون : قال سيبويه : السبب الواحد لا يمنع الصرف خلافا للكوفيين حجة سيبويه أن المقتضي للصرف قائم وهو الاسمية والسببان أقوى من الواحد فعند حصول السبب الواحد وجب البقاء على الأصل .

وحجة الكوفيين قولهم المقدم وقد قيل أيضا :

( وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع )

وجوابه أن الرواية الصحيحة في هذا البيت : يفوقان شيخي في مجمع .

المسألة الثامنة والعشرون : قال سيبويه : ما لا ينصرف يكون في موضع الجر مفتوحا واعترضوا عليه بأن الفتح من باب البناء وما لا ينصرف غير مبني وجوابه أن الفتح اسم لذات الحركة من غير بيان أنها إعرابية أو بنائية.

المسألة التاسعة والعشرون : إعراب الأسماء ثلاثة : الرفع والنصب والجر وكل واحد منها علامة على معنى فالرفع علم الفاعلية والنصب علم المفعولية والجر علم الإضافة

وأما التوابع فإنها في حركاتها مساوية للمتبرعات .

المسألة الثلاثون : السبب في كون الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا والمضاف إليه مجرورا وجوه :

 الأول : أن الفاعل واحد والمفعول أشياء كثيرة لأن الفعل قد يتعدى إلى مفعول واحد وإلى مفعولين وإلى ثلاثة ثم يتعدى أيضا إلى المفعول له وإلى الظرفين وإلى المصدر والحال فلما كثرت المفاعيل اختير لها أخف الحركات وهو النصب ولما قل الفاعل اختير له أثقل الحركات وهو الرفع حتى تقع الزيادة في العدد مقابلة للزيادة في المقدار فيحصل الاعتدال .

الثاني : أن مراتب الموجودات ثلاثة : مؤثر لا يتأثر وهو الأقوى وهو درجة الفاعل ومتأثر لا يؤثر وهو الأضعف وهو درجة المفعول وثالث يؤثر باعتبار ويتأثر باعتبار وهو المتوسط وهو درجة المضاف إليه والحركات أيضا ثلاثة : أقواها الضمة وأضعفها الفتحة وأوسطها الكسرة فألحقوا كل نوع بشبيهه فجعلوا الرفع الذي هو أقوى الحركات للفاعل الذي هو أقوى الأقسام والفتح الذي هو أضعف الحركات للمفعول الذي هو أضعف الأقسام والجر الذي هو المتوسط للمضاف إليه الذي هو المتوسط من الأقسام .

الثالث : الفاعل مقدم على المفعول ؛ لأن الفعل لا يستغني عن الفاعل وقد يستغني عن المفعول فالتلفظ بالفاعل يوجد والنفس قوية فلا جرم أعطوه أثقل الحركات عند قوة النفس وجعلوا أخف الحركات لما يتلفظ به بعد ذلك .

المسألة الحادية والثلاثون : المرفوعات سبعة : الفاعل والمبتدأ وخبره واسم كان واسم ما ولا المشبهتين بليس وخبر إن وخبر لا النافية للجنس ثم قال الخليل الأصل في الرفع الفاعل والبواقي مشبهة به وقال سيبويه : الأصل هو المبتدأ والبواقي مشبهة به وقال الأخفش : كل واحد منهما أصل بنفسه واحتج الخليل بان جعل الرفع إعرابا للفاعل أولى من جعله أعرابا للمبتدأ والأولوية تقتضي الأولية .

بيان الأول : أنك إذا قلت ضرب زيد بكر بإسكان المهملتين لم يعرف أن الضارب من هو والمضروب من هو

أما إذا قلت زيد قائم بإسكانهما عرفت من نفس اللفظتين أن المبتدأ أيهما والخبر أيهما فثبت أن افتقار الفاعل إلى الإعراب أشد فوجب أن يكون الأصل هو .

وبيان الثاني أن الرفعية حالة مشتركة بين المبتدأ والخبر فلا يكون فيها دلالة على خصوص كونه مبتدأ ولا على خصوص كونه خبرا أما لا شك أنه في الفاعل يدل على خصوص كونه فاعلا فثبت أن الرفع حق الفاعل إلا أن المبتدأ لما أشبه الفاعل في كونه مسندا إليه جعل مرفوعا رعاية لحق هذه المشابهة وحجة سيبويه : أنا بينا أن الجملة الاسمية مقدمة على الجمل الفعلية فإعراب الجملة الاسمية يجب أن يكون مقدما على إعراب الجملة الفعلية

والجواب : أن الفعل أصل في الإسناد إلى الغير فكانت الجملة الفعلية مقدمة .

وحينئذ يصير هذا الكلام دليلا للخليل .

المسألة الثانية والثلاثون : المفاعيل خمسة لأن الفاعل لا بد له من فعل وهو المصدر ولا بد لذلك الفعل من زمان ولذلك الفاعل من عرض ثم قد يقع ذلك الفعل في شيء آخر وهو المفعول به وفي مكان ومع شيء آخر فهذا ضبط القول في هذه المفاعيل .

وفيه مباحث عقلية :

أحدها : أن المصدر قد يكون هو نفس المفعول به كقولنا خلق اللّه العالم فإن خلق العالم لو كان مغايرا للعالم لكان ذلك المغاير له إن كان قديما لزم من قدمه قدم العالم وذلك ينافي كونه مخلوقا وإن كان حادثا افتقر خلقه إلى خلق آخر ولزم التسلسل :

وثانيها : أن فعل اللّه يستغني عن الزمان لأنه لو افتقر إلى زمان وجب أن يفتقر حدوث ذلك الزمان إلى زمان آخر ولزم التسلسل :

وثالثها : أن فعل اللّه يستغني عن العرض ؛ لأن ذلك العرض إن كان قديما لزم قدم الفعل وإن كان حادثا لزم التسلسل وهو محال .

المسألة الثالثة والثلاثون : اختلفوا في العامل في نصب المفعول على أربعة أقوال :

 الأول : وهو قول البصريين - أن الفعل وحده يقتضي رفع الفاعل ونصب المفعول

والثاني : وهو قول الكوفيين - أن مجموع الفعل والفاعل يقتضي نصب المفعول

والثالث : وهو قول هشام بن معاوية من الكوفيين - أن العامل هو الفاعل فقط

والرابع : وهو قول خلف الأحمر من الكوفيين - أن العامل في الفاعل الفاعلية وفي المفعول معنى المفعولية .

حجة البصريين أن العامل لا بد وأن يكون له تعلق بالمعمول وأحد الاسمين لا تعلق له بالآخر فلا يكون له فيه عمل البتة وإذا سقط لم يبق العمل إلا للفعل .

حجة المخالف أن العامل الواحد لا يصدر عنه أثران لما ثبت أن الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد .

قلنا : ذاك في الموجبات أما في المعرفات فممنوع .

واحتج خلف بأن الفاعلية صفة قائمة بالفاعل والمفعولية صفة قائمة بالمفعول ولفظ الفعل مباين لهما وتعليل الحكم بما يكون حاصلا في محل الحكم أولى من تعليله بما يكون مباينا له وأجيب عنه بأنه معارض بوجه آخر : وهو أن الفعل أمر ظاهر وصفة الفاعلية والمفعولية أمر خفي وتعليل الحكم الظاهر بالمعنى الظاهر أولى من تعليله بالصفة الخفية واللّه أعلم .

الباب السابع

في إعراب الفعل

اعلم أن قوله : " {أعوذ} " يقتضي إسناد الفعل إلى الفاعل فوجب علينا أن نبحث عن هذه المسائل .

المسألة الأولى : إذا قلنا في النحو فعل وفاعل فلا نريد به ما يذكره علماء الأصول لأنا نقول : مات زيد وهو لم يفعل ونقول من طريق النحو : مات فعل وزيد فاعله بل المراد أن الفعل لفظة مفردة دالة على حصول المصدر لشيء غير معين في زمان غير معين فإذا صرحنا بذلك الشيء الذي حصل المصدر له فذاك هو الفاعل ومعلوم أن قولنا حصل المصدر له أعم من قولنا بإيجاده واختياره كقولنا قام أو لا باختياره كقولنا مات

فإن قالوا : الفعل كما يحصل في الفاعل فقد يحصل في المفعول

قلنا : إن صيغة الفعل من حيث هي تقتضي حصول ذلك المصدر لشيء ما هو الفاعل ولا تقتضي حصوله للمفعول بدليل أن الأفعال اللازمة غنية عن المفعول .

المسألة الثانية : الفعل يجب تقديمه على الفاعل لأن الفعل إثباتا كان أو نفيا يقتضي أمرا ما يكون هو مسندا إليه فحصول ماهية الفعل في الذهن يستلزم حصول شيء يسند الذهن ذلك الفعل إليه والمنتقل إليه متأخر بالرتبة عن المنتقل عنه فلما وجوب كون الفعل مقدما على الفاعل في الذهن وجب تقدمه عليه في الذكر

فإن قالوا : لا نجد في العقل فرقا بين قولنا ضرب زيد وبين قولنا زيد ضرب

قلنا : الفرق ظاهر لأنا إذا قلنا زيد لم يلزم من وقوف الذهن على معنى هذا اللفظ أن يحكم بإسناد معنى آخر إليه

أما إذا فهمنا معنى لفظ ضرب لزم منه حكم الذهن بإسناد هذا المفهوم إلى شيء ما إذا عرفت هذا فنقول : إذا قلنا ضرب زيد فقد حكم الذهن بإسناد مفهوم ضرب إلى شيء ثم يحكم الذهن بأن ذلك الشيء هو زيد الذي تقدم ذكره فحينئذ قد أخبر عن زيد بأنه هو ذلك الشيء الذي أسند الذهن مفهوم ضرب إليه وحينئذ يصير قولنا : زيد مخبرا عنه وقولنا ضرب جملة من فعل وفاعل وقعت خبرا عن ذلك المبتدأ .

المسألة الثالثة : قالوا : الفاعل كالجزء من الفعل والمفعول ليس كذلك وفي تقريره وجوه :

 الأول : أنهم قالوا ضربت فأسكنوا لام الفعل لئلا يجتمع أربع متحركات وهم يحتجزون عن تواليها في كلمة واحدة

وأما بقرة فإنما احتملوا ذلك فيها لأن التاء زائدة واحتملوا ذلك في المفعول كقولهم ضربك وذلك يدل على أنهم اعتقدوا أن الفاعل جزء من الفعل وأن المفعول منفصل عنه

الثاني : أنك تقول : الزيدان قاما أظهرت الضمير للفاعل وكذلك إذا قلت زيد ضرب وجب أن يكون الفعل مسند إلى الضمير المستكن طردا للباب

والثالث : وهو الوجه العقلي - أن مفهوم قولك ضرب هو أنه حصل الضرب لشيء ما في زمان مضى فذلك الشيء الذي حصل له الضرب جزء من مفهوم قولك ضرب فثبت أن الفاعل جزء من الفعل .

المسألة الرابعة : الإضمار قبل الذكر على وجوه :

 أحدها : أن يحصل صورة ومعنى كقولك ضرب غلامه زيدا والمشهور أنه لا يجوز لأنك رفعت غلامه بضرب فكان واقعا موقعة والشيء إذا وقع موقعه لم تجز إزالته عنه وإذا كان كذلك كانت الهاء في قولك غلامه ضميرا قبل الذكر

وأما قول النابغة : ( جزى ربه عني عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات وقد فعل ) فجوابه : أن الهاء عائدة إلى مذكور متقدم وقال ابن جني : وأنا أجيز أن تكون الهاء في قوله ربه عائدة على عدي خلافا للجماعة ثم ذكر كلاما طويلا غير ملخص

وأقول : الأولى في تقريره أن يقال : الفعل من حيث أنه فعل كان غنيا عن المفعول لكن الفعل المتعدي لا يستغني عن المفعول وذلك لأن الفاعل هو المؤثر والمفعول هو القابل والفعل مفتقر إليهما ولا تقدم لأحدهما على الآخر أقصى ما في الباب أن يقال أن الفاعل مؤثر والمؤثر أشرف من القابل فالفاعل متقدم على المفعول من هذا الوجه لأنا بينا أن الفعل المتعدي مفتقر إلى المؤثر وإلى القابل معا وإذا ثبت هذا فكما جاز تقديم الفاعل على المفعول وجب أيضا جواز تقديم المفعول على الفاعل .

القسم الثاني : وهو أن يتقدم المفعول على الفاعل في الصورة لا في المعنى ؛ وهو كقولك ضرب غلامه زيد : فغلامه مفعول وزيد فاعل ومرتبة المفعول بعد مرتبة الفاعل إلا أنه وإن تقدم في اللفظ لكنه متأخر في المعنى .

والقسم الثالث : وهو أن يقع في المعنى لا في الصورة كقوله تعالى " {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} " [ البقرة : ١٢٤ ] فههنا الإضمار قبل الذكر غير حاصل في الصورة لكنه حاصل في المعنى لأن الفاعل مقدم في المعنى ومتى صرح بتقديمه لزم الإضمار قبل الذكر .

المسألة الخامسة : الفاعل قد يكون مظهرا كقولك : ضرب زيد وقد يكون مضمرا بارزا كقولك : ضربت وضربنا ومضمرا مستكنا كقولك : زيد ضرب فتنوي في ضرب فاعلا وتجعل الجملة خبرا عن زيد ومن إضمار الفاعل قولك : إذا كان غدا فأتني أي : إذا كان ما نحن عليه غدا .

المسألة السادسة : الفعل قد يكون مضمرا يقال : من فعل ؟ فتقول : زيد والتقدير فعل زيد ومنه : قوله تعالى : " {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللّه} " [ التوبة : ٦ ] والتقدير : وإن استجارك أحد من المشركين .

المسألة السابعة : إذا جاء فعلان معطوفا أحدهما على الآخر وجاء بعدهما اسم صالح ؛ لأن يكون معمولا لهما ؛ فهذا على قسمين ؛ لأن الفعلين :

أما أن يقتضيا عملين متشابهين أو مختلفين وعلى التقديرين

فأما أن يكون الاسم المذكور بعدهما واحدا أو أكثر فهذه أقسام أربعة :

القسم الأول : أن يذكر فعلان يقتضيان عملا واحدا ويكون المذكور بعدهما اسما واحدا كقولك : قام وقعد زيد فزعم الفراء أن الفعلين جميعا عاملان في زيد والمشهور أنه لا يجوز ؛ لأنه يلزم تعليل الحكم الواحد بعلتين ممتنع في المؤثرات

أما في المعرفات ؛ فجائز وأجيب عنه بأن المعرف يوجب المعرفة فيعود الأمر إلى اجتماع المؤثرين في الأثر الواحد .

القسم الثاني : إذا كان الاسم غير مفرد وهو كقولك : قام وقعد أخواك فههنا :

أما أن ترفعه بالفعل الأول أو بالفعل الثاني فإن رفعته بالأول

قلت: قام وقعدا أخواك ؛ لأن التقدير : قام أخواك وقعدا

أما إذا أعملت الثاني جعلت في الفعل الأول ضمير الفاعل ؛ لأن الفعل لا يخلو من فاعل مضمر أو مظهر تقول : قاما وقعد أخواك وعند البصريين إعمال الثاني أولى وعند الكوفيين إعمال الأول أولى حجة البصريين أن إعمالهما معا ممتنع فلا بد من إعمال أحدهما والقرب مرجح فإعمال الأقرب أولى وحجة الكوفيين إذا أعملنا الأقرب وجب إسناد الفعل المتقدم إلى الضمير ويلزم حصول الإضمار قبل الذكر وذلك أولى بوجوب الاحتراز عنه .

القسم الثالث : ما إذا اقتضى الفعلان تأثيرين متناقضين وكان الاسم المذكور بعدهما مفردا فيقول البصريون : إن إعمال الأقرب أولى خلافا للكوفيين حجة البصريين وجوه ؛

الأول : قوله - تعالى - " {آتوني أفرغ عليه قطرا} " [ الكهف : ٩٦ ] فحصل ههنا فعلان كل واحد منهما يقتضي مفعولا :

فأما أن يكون الناصب لقوله قطرا هو قوله آتوني أو أفرغ والأول باطل وإلا صار التقدير : آتوني قطرا وحينئذ كان يجب أن يقال : أفرغه عليه ولما لم يكن كذلك علمنا أن الناصب لقولك : قطرا هو قوله : أفرغ ؛

الثاني : قوله تعالى : " {هاؤم اقرؤا كتابيه} " [ الحاقة : ١٩ ] فلو كان العامل هو الأبعد لقيل : هاؤم اقرؤه وأجاب الكوفيون عن هذين الدليلين بأنهما يدلان على جواز إعمال الأقرب وذلك لا نزاع فيه وإنما النزاع في أنا نجوز إعمال الأبعد وأنتم تمنعونه وليس في الآية ما يدل على المنع

الحجة الثالثة للبصريين أنه يقال : ما جاءني من أحد فالفعل رافع والحرف جار ثم يرجح الجار لأنه هو الأقرب .

الحجة الرابعة : أن اهمالهما وإعمالهما لا يجوز ولا بد من الترجيح والقرب مرجح فأعمال الأقرب أولى .

واحتج الكوفيون بوجوه :

 الأول أنا بينا أن الاسم المذكور بعد الفعلين إذا كان مثنى أو مجموعا فإعمال الثاني يوجب في الأول الإضمار قبل الذكر وأنه لا يجوز فوجب القول بإعمال الأول هناك فإذا كان الاسم مفردا وجب أن يكون الأمر كذلك طردا للباب .

الثاني : أن الفعل الأول وجد معمولا خاليا عن العائق لأن الفعل لا بد له من مفعول والفعل الثاني وجد المعمول بعد أن عمل الأول فيه وعمل الأول فيه عائق عن عمل الثاني فيه ومعلوم أن إعمال الخالي عن العائق أولى من إعمال العامل المقرون بالعائق .

القسم الرابع : إذا كان الاسم المذكور بعد الفعلين مثنى أو مجموعا فإن أعملت الفعل الثاني قلت ضربت وضربني الزيدان وضربت وضربني الزيدون وإن أعملت الأول قلت ضربت وضرباني الزيدين وضربت وضربوني الزيدين .

المسألة الثامنة : قول امرئ القيس :

( فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال )

( ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي )

فقوله كفاني ولم أطلب ليسا متوجهين إلى شيء واحد لأن قوله كفاني موجه إلى قليل من المال وقوله ولم أطلب غير موجه إلى قليل من المال وإلا لصار التقدير فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة لم أطلب قليلا من المال وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيلزم حينئذ أنه ما سعى لأدنى معيشة ومع ذلك فقد طلب قليلا من المال وهذا متناقض فثبت أن المعنى ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب الملك وعلى هذا التقدير فالفعلان غير موجهين إلى شيء واحد .

ولنكتف بهذا القدر من علم العربية قبل الخوض في التفسير .

القسم الثاني

من هذا الكتاب المشتمل على تفسير

( أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم )

في المباحث النقلية والعقلية

وفيه أبواب :

الباب الأول

في المسائل الفقهية المستنبطة من قولنا ( أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم )

المسألة الأولى : اتفق الأكثرون على أن وقت قراءة الاستعاذ قبل قراءة الفاتحة وعن النخعي أنه بعدها وهو قول داود الأصفهاني وإحدى الروايتين عن ابن سيرين وهؤلاء قالوا : الرجل إذا قرأ سورة الفاتحة بتمامها وقال ( آمين ) فبعد ذلك يقول : أعوذ باللّه والأولون احتجوا بما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال : اللّه أكبر كبيرا ثلاث مرات والحمد للّه كثيرا ثلاث مرات وسبحان اللّه بكرة وأصيلا ثلاث مرات ثم قال : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه .

واحتج المخالف على صحة قوله بقوله سبحانه : " {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم} " [ النحل : ٩٨ ] دلت هذه الآية على أن قراءة القرآن شرط وذكر الاستعاذة جزاء والجزاء متأخر عن الشرط فوجب أن تكون الاستعاذة متأخره عن قراءة القرآن ثم قالوا : وهذا موافق لما في العقل لأن من قرأ القرآن فقد استوجب الثواب العظيم فلو دخله العجب في آداء تلك الطاعة سقط ذلك الثواب لقوله عليه الصلاة والسلام ثلاث مهلكات وذكر منها إعجاب المرء بنفسه ؛ فلهذا السبب أمره اللّه سبحانه وتعالى بأن يستعيذ من الشيطان لئلا يحمله الشيطان بعد قراءة القرآن على عمل يحبط ثواب تلك الطاعة .

قالوا : ولا يجوز أن يقال : إن المراد من قوله تعالى : " {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه} " أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كما في قوله تعالى : " {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} " [ المائدة : ٦ ] والمعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة لأنه يقال : ترك الظاهر في موضع الدليل لا يوجب تركه في سائر المواضع لغير دليل .

أما جمهور الفقهاء فقالوا : لا شك أن قوله : " {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} " [ النحل : ٩٨ ] يحتمل أن يكون المراد منه إذا أردت وإذا ثبت الاحتمال وجب حمل اللفظ عليه توفيقا بين هذه الآية وبين الخبر الذي رويناه ومما يقوي ذلك من المناسبات العقلية أن المقصود من الاستعاذة نفي وساوس الشيطان عند القراءة قال تعالى : " {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان} " [ الحج : ٥٢ ] وإنما أمر تعالى بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذا السبب .

وأقول : ههنا قول ثالث : وهو أن يقرأ الاستعاذة قبل القراءة بمقتضى الخبر وبعدها بمقتضى القرآن جمعا بين الدليلين بقدر الإمكان .

المسألة الثانية : قال عطاء : الاستعاذة واجبة لكل قراءة سواء كانت في الصلاة أو في غيرها وقال ابن سيرين : إذا تعوذ الرجل مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب وقال الباقون : إنها غير واجبة .

حجة الجمهور أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يعلم الأعرابي الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة ولقائل أن يقول : إن ذلك الخبر غير مشتمل على بيان جملة واجبات الصلاة فلا يلزم من عدم ذكر الاستعاذة فيه عدم وجوبها .

واحتج عطاء على وجوب الاستعاذة بوجوه :

 الأول : أنه عليه السلام واظب عليه فيكون واجبا لقوله تعالى : " {واتبعوه} " [ الأعراف : ١٥٨ ] .

الثاني : أن قوله تعالى : " {فاستعذ} " أمر وهو للوجوب ثم إنه يجب القول بوجوبه عند كل القراءات لأنه تعالى قال : " {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه} " [ النحل : ٩٨ ] وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على التعليل والحكم يتكرر لأجل تكرر العلة .

الثالث : أنه تعالى أمر بالاستعاذة لدفع الشر من الشيطان الرجيم لأن قوله " {فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم} " مشعر بذلك ودفع شر الشيطان واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فوجب أن تكون الاستعاذة واجبة .

الرابع : أن طريقة الاحتياط توجب الاستعاذة فهذا ما لخصناه في هذه المسألة .

المسألة الثالثة : التعوذ مستحب قبل القراءة عند الأكثرين وقال مالك لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام شهر رمضان لنا الآية التي تلوناها والخبر الذي رويناه وكلاهما يفيد الوجوب فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندب .

المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي اللّه عنه في الأم : روي أن عبد اللّه بن عمر لما قرأ أسر بالتعوذ وعن أبي هريرة أنه جهر ثم قال : فإن جهر به جاز وإن أسر به أيضا جاز وقال في الإملاء : ويجهر بالتعوذ فإن أسر لم يضر بين أن الجهر عنده أولى

وأقول : الاستعاذة إنما تقرأ بعد الافتتاح وقبل الفاتحة فإن ألحقناها بما قبلها لزم الإسرار وإن ألحقناها بالفاتحة لزم الجهر إلا أن المشابهة بينها وبين الافتتاح أتم لكون كل واحد منهما نافلة عند الفقهاء ولأن الجهر كيفية وجودية والإخفاء عبارة عن عدم تلك الكيفية والأصل هو العدم .

المسألة الخامسة : قال الشافعي رضي اللّه عنه في الأم : قيل إنه يتعوذ في كل ركعة ثم قال : والذي أقوله إنه لا يتعوذ إلا في الركعة الأولى

وأقول : له أن يحتج عليه بأن الأصل هو العدم وما لأجله أمرنا بذكر الاستعاذة هو قوله : " {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه} " وكلمة إذا لا تفيد العموم ولقائل أن يقول : قد ذكرنا أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على العلية فيلزم أن يتكرر الحكم بتكرر العلة واللّه أعلم .

المسألة السادسة : أنه تعالى قال في سورة النحل : " {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم} " [ النحل : ٩٨ ]

وقال في سورة أخرى : " {إنه هو السميع العليم} " [ الأنفال : ٦١ ]

وفي سورة ثالثة " {إنه سميع عليم} " [ الأعراف : ٢٠٠ ]

فلهذا السبب اختلف العلماء فقال الشافعي : واجب أن يقول : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم وهو قول أبي حنيفة قالوا : لأن هذا النظم موافق لقوله تعالى : فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم وموافق أيضا لظاهر الخبر الذي رويناه عن جبير بن مطعم وقال أحمد : الأولى أن يقول أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم جمعا بين الآيتين وقال بعض أصحابنا الأولى أن يقول : أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم لأن هذا أيضا جمع بين الآيتين

وروى البيهقي في كتاب السنن عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثلاثا وقال : أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم وقال الثوري والأوزاعي : الأولى أن يقول : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم إن اللّه هو السميع العليم وروى الضحاك عن ابن عباس أن أول ما نزل جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام قال : قل يا محمد : استعيذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال : قل : " {بسم اللّه الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق} " [ العلق : ١ ] .

وبالجملة فالاستعاذة تطهر القلب عن كل ما يكون مانعا من الاستغراق في اللّه والتسمية توجه القلب إلى هيبة جلال اللّه واللّه الهادي .

المسألة السابعة : التعوذ في الصلاة لأجل القراءة أم لأجل الصلاة ؟ عند أبي حنيفة ومحمد أنه لأجل القراءة وعند أبي يوسف أنه لأجل الصلاة ويتفرع على هذا الأصل فرعان :

الفرع الأول : أن المؤتم هل يتعوذ خلف الإمام أم لا ؟ عندهما لا يتعوذ لأنه لا يقرأ وعنده يتعوذ وجه قولهما قوله تعالى : " {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشيطان الرجيم} " [ النحل : ٩٨ ] علق الاستعاذة على القراءة ولا قراءة على المقتدي فلا يتعوذ ووجه أبي يوسف أن التعوذ لو كان للقراءة لكان يتكرر بتكرر القراءة ولما لم يكن كذلك بل كرر بتكرر الصلاة دل على أنها للصلاة لا للقراءة

الفرع الثاني : إذا افتتح صلاة العيد فقال : سبحانك اللّهم وبحمدك هل يقول : أعوذ باللّه ثم يكبر أم لا ؟ عندهما أنه يكبر التكبيرات ثم يتعوذ عند القراءة وعند أبي يوسف يقدم التعوذ على التكبيرات .

وبقي من مسائل الفاتحة أشياء نذكرها ههنا :

 المسألة الثامنة : السنة أن يقرأ القرآن على الترتيل لقوله تعالى " {ورتل القرآن ترتيلا} " [ المزمل : ٤ ] والترتيل هو أن يذكر الحروف والكلمات مبينة ظاهرة والفائدة فيه أنه إذا وقعت القراءة على هذا الوجه فهم من نفسه معاني تلك الألفاظ وأفهم غيره تلك المعاني وإذا قرأها بالسرعة لم يفهم ولم يفهم فكان الترتيل أولى فقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا قال أبو سليمان الخطابي : جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة يقال للقارئ : اقرأ وارق في الدرج على عدد ما كنت تقرأ من القرآن فمن استوفى قراءة جميع آي القرآن استولى على أقصى الجنة .

المسألة التاسعة : إذا قرأ القرآن فالسنة أن يجيد في القراءة روى أبو داود عن البراء بن عازب قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زينوا القرآن بأصواتكم .

المسألة العاشرة : المختار عندنا أن اشتباه الضاد بالظاء لا يبطل الصلاة ويدل على أن المشابهة حاصلة بينهما جدا والتمييز عسر فوجب أن يسقط التكليف بالفرق بيان المشابهة من وجوه :

 الأول : أنهما من الحروف المجهورة

والثاني : أنهما من الحروف الرخوة

والثالث : أنهما من الحروف المطبقة

والرابع : أن الظاء وإن كان مخرجه من بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ومخرج الضاد من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس إلا أنه حصل في الضاد انبساط لأجل رخاوتها وبهذا السبب يقرب مخرجه من مخرج الظاء

والخامس : أن النطق بحرف الضاد مخصوص بالعرب قال عليه الصلاة والسلام : أنا أفصح من نطق بالضاد فثبت بما ذكرنا أن المشابهة بين الضاد والظاء شديدة وأن التمييز عسر وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان هذا الفرق معتبرا لوقع السؤال عنه في زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلى اللّه عليه وسلم وفي أزمنة الصحابة لا سيما عند دخول العجم في الإسلام فلما لم ينقل وقوع السؤال عن هذه المسألة البتة علمنا أن التمييز بين هذين الحرفين ليس في محل التكليف .

المسألة الحادية عشرة : اختلفوا في أن اللام المغلظة هل هي من اللغات الفصيحة أم لا ؟ وبتقدير أن يثبت كونها من اللغات الفصيحة لكنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تغليظها حال كونها مكسورة لأن الانتقال من الكسرة إلى التلفظ باللام المغلظة ثقيل على اللسان فوجب نفيه عن هذه اللغة .

المسألة الثانية عشرة : اتفقوا على أنه لا يجوز في الصلاة قراءة القرآن بالوجوه الشاذة مثل قولهم الحمد للّه بكسر الدال من الحمد أو بضم اللام من للّه لأن الدليل ينفي جواز القراءة بها مطلقا لأنها لو كانت من القرآن لوجب بلوغها في الشهرة إلى حد التواتر ولما لم يكن كذلك علمنا أنها ليست من القرآن إلا أنا عدلنا عن هذا الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع .

المسألة الثالثة عشرة : اتفق الأكثرون على أن القراءات المشهورة منقولة بالنقل المتواتر وفيه إشكال : وذلك لأنا نقول : هذه القراءات المشهورة أما أن تكون منقولة بالنقل المتواتر أو لا تكون فإن كان الأول فحينئذ قد ثبت بالنقل المتواتر أن اللّه تعالى قد خير المكلفين بين هذه القراءات وسوى بينها في الجواز وإذا كان كذلك كان ترجيح بعضها على البعض واقعا على خلاف الحكم الثابت بالتواتر فوجب أن يكون الذاهبون إلى ترجيح البعض على البعض مستوجبين للتفسيق إن لم يلزمهم التكفير لكنا نرى أن كل واحد من هؤلاء القراء يختص بنوع معين من القراءة ويحمل الناس عليها ويمنعهم من غيرها فوجب أن يلزم في حقهم ما ذكرناه

وأما إن قلنا إن هذه القراءات ما ثبتت بالتواتر بل بطريق الآحاد فحينئذ يخرج القرآن عن كونه مفيدا للجزم والقطع واليقين وذلك باطل بالإجماع ولقائل أن يجيب عنه فيقول : بعضها متواتر ولا خلاف بين الأمة فيه وتجويز القراءة بكل واحد منها وبعضها من باب الآحاد وكون بعض القراءات من باب الآحاد لا يقتضي خروج القرآن بكليته عن كونه قطعيا واللّه أعلم .

الباب الثاني

في المباحث العقلية المستنبطة من قولنا ( أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم )

اعلم أن الكلام في هذا الباب يتعلق بأركان خمسة : الاستعاذة والمستعيذ والمستعاذ به والمستعاذ منه والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة .

الركن الأول : في الاستعاذة وفيه مسائل :

 المسألة الأولى : في تفسير قولنا : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بحسب اللغة

فنقول : قوله ( أعوذ ) مشتق من العوذ وله معنيان :

 أحدهما : الالتجاء والاستجارة

والثاني : الالتصاق يقال أطيب اللحم عوذه وهو ما التصق منه بالعظم

فعلى الوجه الأول معنى قوله أعوذ باللّه أي : ألتجئ إلى رحمة اللّه تعالى وعصمته وعلى الوجه الثاني معناه ألتصق نفسي بفضل اللّه وبرحمته .

وأما الشيطان ففيه قولان :

 الأول أنه مشتق من الشطن وهو البعد يقال : شطن دارك أي بعد فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطانا لبعده من الرشاد والسداد قال اللّه تعالى : " {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن} " [ الأنعام : ١١٢ ] فجعل من الإنس شياطين وركب عمر برذونا فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال : ما حملتموني إلا على شيطان .

والقول الثاني أن الشيطان مأخوذ من قوله شاط يشيط إذا بطل ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلا لوجوه مصالح نفسه سمي شيطانا .

وأما الرجيم فمعناه المرجوم فهو فعيل بمعنى مفعول .

كقولهم : كف خضيب أي مخضوب ورجل لعين أي ملعون ثم في كونه مرجوما وجهان :

 الأول : أن كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل اللّه تعالى قال اللّه تعالى : " {اخرج منها فإنك رجيم} " [ الحجر : ٣٤ ] واللعن يسمى رجما وحكى اللّه تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له : " {لئن لم تنته لارجمنك} " [ مريم : ٤٦ ] قيل عنى به الرجم بالقول وحكى اللّه تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا " {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} " [ الشعراء : ١١٦ ] وفي سورة يس " {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم} " [ يس : ١٨ ]

والوجه الثاني أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طردا لهم من السموات ثم وصف بذلك كل شرير متمرد .

وأما قوله : " {إنه هو السميع العليم} " [ الأنفال : ٦١ ] ففيه وجهان

الأول : أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان ولا يطلع عليها أحد فكأن العبد يقول : يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع ويعلم كل سر خفي أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها وأنت القادر على دفعها عني فادفعها عني بفضلك فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار

الثاني : أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن وهو قوله تعالى : " {وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ باللّه إنه سميع عليم} " [ : ٢٠٠ ] وقال في حم السجدة : " {إنه هو السميع العليم} " [ فصلت : ٣٦ ] .

المسألة الثانية : في البحث العقلي عن ماهية الاستعاذة : اعلم أن الاستعاذة لا تتم إلا بعلم وحال وعمل

أما العلم فهو كون العبد عالما بكونه عاجزا عن جلب المنافع الدينية والدنيوية وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية وأن اللّه تعالى قادر على إيجاد جميع المنافع الدينية والدنيوية وعلى دفع جميع المضار الدينية والدنيوية قدرة لا يقدر أحد سواه على دفعها عنه .

فإذا حصل هذا العلم في القلب تولد عن هذا العلم حصول حالة في القلب وهي انكسار وتواضع ويعبر عن تلك الحالة بالتضرع إلى اللّه تعالى والخضوع له ثم إن حصول تلك الحالة في القلب يوجب حصول صفة أخرى في القلب وصفة في اللسان

أما الصفة الحاصلة في القلب فهي أن يصير العبد مريدا لأن يصونه تعالى عن الآفات ويخصه بإفاضة الخيرات والحسنات

وأما الصفة التي في اللسان فهي أن يصير العبد طالبا لهذا المعنى بلسانه من اللّه تعالى وذلك الطلب هو الاستعاذة وهو قوله ( أعوذ باللّه ) إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك أن الركن الأعظم في الاستعاذة هو علمه باللّه وعلمه بنفسه

وأما علمه باللّه فهو أن يعلم كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع المعلومات فإنه لو لم يكن الأمر كذلك لجاز أن لا يكون اللّه عالما به ولا بأحواله فعلى هذا التقدير تكون الاستعاذة به عبثا ولا بد أن يعلم كونه قادرا على جميع الممكنات وإلا فربما كان عاجزا عن تحصيل مراد البعد ولا بد أن يعلم أيضا كونه جوادا مطلقا إذ لو كان البخل عليه جائزا لما كان في الاستعاذة فائدة ولا بد أيضا وأن يعلم أنه لا يقدر أحد سوى اللّه تعالى على أن يعينه على مقاصده إذ لو جاز أن يكون غير اللّه يعينه على مقاصده لم تكن الرغبة قوية في الاستعاذة باللّه وذلك لا يتم إلا بالتوحيد المطلق وأعني بالتوحيد المطلق أن يعلم أن مدبر العالم واحد وأن يعلم أيضا أن العبد غير مستقل بأفعال نفسه إذ لو كان مستقلا بأفعال نفسه لم يكن في الاستعاذة بالغير فائدة فثبت بما ذكرنا أن العبد ما لم يعرف عزة الربوبية وذلة العبودية لا يصح منه أن يقول : ( أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ) ومن الناس من يقول : لا حاجة في هذا الذكر إلى العلم بهذه المقدمات بل الإنسان إذا جوز كون الأمر كذلك حسن منه أن يقول : أعوذ باللّه على سبيل الإجمال وهذا ضعيف جدا لأن إبراهيم عليه السلام عاب أباه في قوله : " {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} " [ مريم : ٤٢ ] فبتقدير أن لا يكون الإله عالما بكل المعلومات قادرا على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالا لمن لا يسمع ولا يبصر وكان داخلا تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيبا على أبيه .

وأما علم العبد بحال نفسه فلا بد وان يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام وأن يعلم أيضا أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها .

إذا عرفت هذا فنقول : إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهدا لها متيقنا فيها وجب أن يحصل في قلبه تلك الحالة المسماة بالانكسار والخضوع وحينئذ يحصل في قلبه الطلب وفي لسانه اللفظ الدال على ذلك الطلب وذلك هو قوله : ( أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ) والذي يدل على كون الإنسان عاجزا عن تحصيل مصالح نفسه في الدنيا والآخرة أن الصادر عن الإنسان أما العمل

وأما العلم وهو في كلا البابين في الحقيقة في غاية العجز

أما العلم فما أشد الحاجة في تحصيله إلى الاستعاذة باللّه وفي الاحتراز عن حصول ضده إلى الاستعاذة باللّه ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : أنا كم رأينا من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة طول عمرهم ولم يعرفوا الجواب عنها بل أصروا عليها وظنوها علما يقينيا وبرهانا جليا ثم بعد انقضاء أعمارهم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها وأظهر للناس وجه فسادها وإذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله ولولا هذا السبب لما وقع بين أهل العلم اختلاف في الأديان والمذاهب وإذا كان الأمر كذلك فلولا إعانة اللّه وفضله وإرشاده وإلا فمن ذا الذي يتخلص بسفينة فكره من أمواج الضلالات ودياجي الظلمات ؟

الحجة الثانية : أن كل أحد إنما يقصد أن يحصل له الدين الحق والاعتقاد الصحيح وإن أحدا لا يرضى لنفسه بالجهل والكفر فلو كان الأمر بحسب سعيه وإرادته لوجب كون الكل محقين صادقين وحيث لم يكن الأمر كذلك بل نجد المحقين في جنب المبطلين كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود علمنا أنه لا خلاص من ظلمات الضلالات إلا بإعانة إله الأرض والسموات .

الحجة الثالثة : أن القضية التي توقف الإنسان في صحتها وفسادها فإنه لا سبيل له إلى الجزم بها إلا إذا دخل فيما بينهما الحد الأوسط

فنقول : ذلك الحد الأوسط إن كان حاضرا في عقله كان القياس منعقدا والنتيجة لازمة .

فحينئذ لا يكون العقل متوقفا في تلك القضية بل يكون جازما بها وقد فرضناه متوقفا فيها هذا خلف

وأما إن قلنا إن ذلك الحد الأوسط غير حاضر في عقله فهل يمكنه طلبه أو لا يمكنه طلبه ؟

والأول باطل لأنه إن كان لا يعرفه بعينه فكيف يطلبه ؟ لأن طلب الشيء بعينه إنما يمكن بعد الشعور به وإن كان يعرفه بعينه فالعلم به حاضر في ذهنه فكيف يطلب تحصيل الحاصل ؟

 وأما إن كان لا يمكنه طلبه فحينئذ يكون عاجزا عن تحصيل الطريق الذي يتخلص به من ذلك التوقف ويخرج من ظلمة تلك الحيرة وهذا يدل على كون العبد في غاية الحيرة والدهشة .

الحجة الرابعة : أنه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام " {وقل رب أعوذ بك من هم زات الشياطين} " [ المؤمنون : ٩٧ ] فهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة فهذا بيان كمال عجز العبد عن تحصيل العقائد والعلوم

وأما عجز العبد عن الأعمال الظاهرة التي يجر بها النفع إلى نفسه ويدفع بها الضرر عن نفسه فهذا أيضا كذلك ويدل عليه وجوه :

 الأول : أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن هذا البدن يشبه الجحيم وانكشف لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعا من الزبانية وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة والشهوة والغضب والقوى الطبيعية السبع وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد واعتبر ذلك بالقوة الباصرة فإن الأشياء التي تقوى القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض عالم الجسمانيات وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة اللّه تعالى وإغاثته ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ولا نهاية لكمال رحمة اللّه وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة باللّه واجبة في كل الأوقات فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول : " {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} " .

الحجة الخامسة : أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان :

أحدهما : اللذات الحسية

والثاني : اللذات الخيالية وهي لذة الرياسة وفي كل واحد من هذين القسمين الإنسان إذا لم يمكن أن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها وإذا كان عديم الشعور بها كان قليل الرغبة فيها ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها وإذا حصل الالتذاذ بها قويت رغبته فيها وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزا بالمطالب كان أعظم حرصا وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال : " {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} " .

الحجة السادسة : في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى " {إياك نعبد وإياك نستعين} "

وقوله : " {واستعينوا بالصبر والصلاة} [ البقرة : ٤٥ ]

وقول موسى لقومه : " {استعينوا باللّه واصبروا إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} " [ الأعراف : ١٢٨ ]

وفي بعض الكتب الإلهية أن اللّه تعالى يقول : وعزتي وجلالي لأقطعن امل كل مؤمل غيري باليأس ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس ولأخيبنه من قربي ولأبعدنه من وصلي ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني .

المسألة الثالثة : في أن الاستعاذة كيف تصح على مذهب أهل الجبر ومذهب القدرية قالت المعتزلة : قوله : ( أعوذ باللّه ) يبطل القول بالجبر من وجوه :

 الأول : أن قوله : {أعوذ باللّه} اعتراف بكون العبد فاعلا لتلك الاستعاذة ولو كان خالق الأعمال هو اللّه تعالى لامتنع كون العبد فاعلا لأن تحصيل الحاصل محال وأيضا فإذا خلقه اللّه في العبد امتنع دفعه وإذا لم يخلقه اللّه فيه امتنع تحصيله فثبت أن قوله : ( أعوذ باللّه ) اعتراف بكون العبد موجدا لأفعال نفسه .

والثاني : أن الاستعاذة إنما تحسن من اللّه تعالى إذا لم يكن اللّه تعالى خالقا للأمور التي منها يستعاذ

أما إذا كان الفاعل لها هو اللّه تعالى امتنع أن يستعاذ باللّه منها لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ باللّه من اللّه في عين ما يفعله اللّه .

والثالث : أن الاستعاذة باللّه من المعاصي تدل على أن العبد غير راض بها ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق اللّه تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضيا بها ؛ لما ثبت بالإجماع أن الرضا بقضاء اللّه واجب .

والرابع : أن الاستعاذة باللّه من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان

أما إذا كانت فعلا للّه ولم يكن للشيطان في وجودها أثر البتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر اللّه تعالى لأنه لا شر إلا من قبله .

الخامس : أن الشيطان يقول : إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها علي ولا قدر لي على مخالفة حكمك ثم قلت: " {لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

وقلت: " {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} " [ البقرة : ١٨٥ ]

وقلت: " {وما جعل عليكم في الدين من حرج} " [ الحج : ٧٨ ] فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني ؟

السادس : جعلتني مرجوما ملعونا بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني ؟ فإن كان الأول ؛ فقد بطل الجبر وإن كان الثاني ؛ فهذا محض الظلم وأنت قلت: {وما اللّه يريد ظلما للعباد} [ غافر : ٣١ ] فكيف يليق هذا بك ؟

فإن قال قائل : هذه الإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر وأنا لا أقول بالجبر ولا بالقدر ؛ بل أقول : الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر وهو الكسب .

فنقول : هذا ضعيف ؛ لأنه

 أما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون فإن كان الأول ؛ فهو تمام القول بالاعتزال وإن كان الثاني فهو الجبر المحض والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول فكيف يعقل حصول الواسطة .

قال أهل السنة والجماعة :

أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا ؛ فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين :

 الأول : أن قدرة العبد

أما أن تكون معينة لأحد الطرفين أو كانت صالحة للطرفين معا فإن كان الأول فالجبر لازم وإن كان الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر أما أن يتوقف على المرجح أو لا يتوقف فإن كان الأول ؛ ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه وإن كان هو اللّه تعالى فعندما يفعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع وحينئذ يلزمكم كل ما ذكرتموه

وأما الثاني : وهو أن يقال : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح ؛ فهذا باطل ؛ لوجهين :

 الأول : أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح

والثاني : أن على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق ولا يكون صادرا عن العبد وإذا كان الأمر كذلك ؛ فقد عاد الجبر المحض فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا ؛ فهو وارد عليكم .

الوجه الثاني : في السؤال : أنكم سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ووقوع الشيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازما عليكم في العلم لزوما لا جواب عنه .

ثم قال أهل السنة والجماعة : قوله : " {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} " يبطل القول بالقدر من وجوه :

الأول : أن المطلوب من قولك : " {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} " أما أن يكون هو أن يمنع اللّه الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير أو على سبيل القهر والجبر

أما الأول فقد فعله ولما فعله كان طلبه من اللّه محالا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال

وأما الثاني فهو غير جائز ؛ لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين وقد ثبت كونهم مكلفين أجابت المعتزلة عنه فقالوا : المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح لا يقال : فتلك الألطاف فعل اللّه بأسرها فما الفائدة في الطلب ؛ لأنا نقول : إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله أجاب أهل السنة عن هذا السؤال : بأن فعل تلك الألطاف

 أما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك أو لا أثر فيه فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم وهو جمع بين النقيضين وهو محال فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب وذلك يبطل القول بالاعتزال

وأما إن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها البتة أثر فيكون فعلها عبثا محضا وذلك في حق اللّه تعالى محال .

الوجه الثاني : أن يقال : إن اللّه تعالى

أما أن يكون مريدا لصلاح حال العبد أو لا يكون فإن كان الحق هو الأول فالشيطان

أما أن يتوقع منه إفساد العبد أو لا يتوقع فإن توقع منه إفساد العبد مع أن اللّه تعالى مريد إصلاح حال العبد فلم خلقه ولم سلطه على العبد ؟

 وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه ؟

 وأما إذا قيل : إن اللّه تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة باللّه كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان .

الوجه الثالث : أن الشيطان أما أن يكون مجبورا على فعل الشر أو يكون قادرا على فعل الشر والخير معا فإن كان الأول فقد أجبره اللّه على الشر وذلك يقدح في قولهم : إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير وإن كان الثاني - وهو أنه قادر على فعل الشر والخير - ؛ فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح وذلك المرجح يكون من اللّه تعالى وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة ؟

 الوجه الرابع : هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان فالشيطان كيف وقع في المعاصي ؟

فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل

وإن قلنا : وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر ؟ وعلى هذا التقدير ؛ فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان

وإن قلنا : إنه تعالى سلط الشيطان على البشر ولم يسلط على الشيطان شيطانا آخر ؛ فهذا حيف على البشر وتخصيص له بمزيد الثقل والإضرار وذلك ينافي كون الإله ريحما ناصرا لعباده .

الوجه الخامس : أن الفعل المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع ؛ فهو واجب الوقوع فلا فائدة في الاستعاذة منه وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع ؛ فلا فائدة في الاستعاذة منه .

واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله : {أعوذ باللّه} إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من اللّه وباللّه وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول صلى اللّه عليه وسلم : أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك .

الركن الثاني : المستعاذ به : واعلم أن هذا ورد في القرآن والأخبار على وجهين :

 أحدهما أن يقال : " {أعوذ باللّه} "

والثاني أن يقال أعوذ بكلمات اللّه

أما قوله أعوذ باللّه فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة اللّه وسيأتي ذلك في تفسير بسم اللّه

وأما قوله : أعوذ بكلمات اللّه التامات ؛ فاعلم أن المراد بكلمات اللّه هو قوله تعالى : " {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} " [ النحل : ٤٠ ]

والمراد من قوله : {كن} نفاذ قدرته في الممكنات وسريان مشيئته في الكائنات بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة باللّه إلا لكونه موصوفا بتلك القدرة القاهرة والمشيئة النافذة وأيضا فالجسمانيات لا يكون حدوثها إلا على سبيل الحركة والخروج من القوة إلى الفعل يسيرا يسيرا

وأما الروحانيات ؛ فإنما يحصل تكونها الآن الذي لا ينقسم فلهذه المشابهة سميت نفاذ قدرته بالكلمة وأيضا ثبت في علم المعقولات أن عالم الأرواح مستول على عالم الأجسام وإنما هي المدبرات لأمور هذا العالم كما قال تعالى : " {فالمدبرات أمرا} " [ النازعات : ٥ ] فقوله : أعوذ بكلمات اللّه التامات استعاذة من الأرواح البشرية بالأرواح العالية المقدسة الطاهرة الطيبة في دفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية الكدرة فالمراد بكلمات اللّه التامات تلك الأرواح العالية الطاهرة .

ثم ههنا دقيقة وهي أن قوله : أعوذ بكلمات اللّه التامات إنما يحسن ذكره إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى غير اللّه

وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد وتوغل في قعر الحقائق وصار بحيث لا يرى في الوجود أحدا إلا اللّه تعالى ؛ لم يستعذ إلا باللّه ولم يلتجئ إلا إلى اللّه ولم يعول إلا على اللّه فلا جرم يقول : أعوذ باللّه و أعوذ من اللّه باللّه كما قال عليه السلام وأعوذ بك منك واعلم أن في هذا المقام يكون العبد مشتغلا أيضا بغير اللّه لأن الاستعاذة لا بد وأن تكون لطلب أو لهرب وذلك اشتغال بغير اللّه تعالى فإذا ترقى العبد عن هذا المقام وفني عن نفسه وفني أيضا عن فنائه عن نفسه فههنا يترقى عن مقام قوله أعوذ باللّه ويصير مستغرقا في نور قوله {بسم اللّه} ألا ترى أنه عليه السلام لما قال وأعوذ بك منك ترقى عن هذا المقام فقال أنت كما أثنيت على نفسك .

الركن الثالث من أركان هذا الباب : المستعيذ : واعلم أن قوله {أعوذ باللّه} أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك وهذا غير مختص بشخص معين فهو أمر على سبيل العموم ؛ لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا باللّه

فالأول : أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال : " {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} " [ هود : ٤٧ ]

فعند هذا أعطاه اللّه خلعتين : السلام والبركات وهو قوله تعالى : " {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك} " [ هود : ٤٨ ]

والثاني : حكى عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال " {معاذ اللّه إنه ربي أحسن مثواي} " [ يوسف : ٢٣ ]

فأعطاه اللّه تعالى خلعتين صرف السوء والفحشاء حيث قال : " {لنصرف عنه السوء والفحشاء} " [ يوسف : ٢٤ ]

والثالث : " {فخذ أحدنا مكانه} " [ يوسف : ٧٨ ] فقال : " {معاذ اللّه أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} " [ يوسف : ٧٩ ]

فأكرمه اللّه تعالى بقوله : " {ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا} " [ يوسف : ١٠٠ ]

الرابع : حكى اللّه عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرة قال قومه : " {أتتخذنا هزوا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين} " [ البقرة : ٦٧ ]

فأعطاه اللّه خلعتين إزالة التهمة وإحياء القتيل فقال : " {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى اللّه الموتى ويريكم آياته} " [ البقرة : ٧٣ ]

الخامس : أن القوم لما خوفوه بالقتل قال : " {وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون} " [ الدخان : ٢٠ ]

وقال في آية أخرى : " {إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} " [ غافر : ٢٧ ]

فأعطاه اللّه تعالى مراده فأفنى عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم

والسادس : أن أم مريم قالت : " {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} " [ آل عمران : ٣٦ ]

فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله " {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا} " [ آل عمران : ٣٧ ]

والسابع : أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة " {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} " [ مريم : ١٨ ] فوجدت نعمتين ولدا من غير أب وتنزيه اللّه إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله : " {إني عبد اللّه} " [ مريم : ٣٠ ]

الثامن : أن اللّه تعالى أمر محمدا عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال : " {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون} " [ المؤمنون : ٩٧ ]

وقال : " {قل أعوذ برب الفلق} " [ الفلق : ١ ]

و " {قل أعوذ برب الناس} " [ الناس : ١ ]

والتاسع: قال في سورة الأعراف : " {خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ باللّه إنه سميع عليم} " [ الأعراف : ١٩٩ ]

وقال في حم السجدة " {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} " [ فصلت : ٣٤ ] إلى أن قال " {وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ باللّه إنه هو السميع العليم} " [ فصلت : ٣٦ ]

فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبدا في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن .

وأما الأخبار فكثيرة :

الخبر الأول : عن معاذ بن جبل قال : استب رجلان عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وأغرقا فيه : فقال عليه السلام : إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك وهي قوله " {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} "

وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه :

 الأول : أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جدا وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل وعند الغضب يزول العقل فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعا له عن الاقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال وحاملا له على أن يرجع إلى اللّه تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات فلا جرم يقول أعوذ باللّه .

الثاني : أن الإنسان غير عالم قطعا بأن الحق من جانبه ولا من جانب خصمه فإذا علم ذلك يقول : أفوض هذه الواقعة إلى اللّه تعالى فإذا كان الحق من جانبي فاللّه يستوفيه من خصمي وإن كان الحق من جانب خصمي فالأولى أن لا أظلمه وعند هذا يفوض تلك الحكومة إلى اللّه ويقول أعوذ باللّه .

الثالث : أن الإنسان إنما يغضب إذا أحس من نفسه بفرط قوة وشدة بواسطتها يقوى على قهر الخصم فإذا استحضر في عقله أن إله العالم أقوى وأقدر مني ثم إني عصيته مرات وكرات وأنه بفضله تجاوز عني فالأولى لي أن أتجاوز عن هذا المغضوب عليه فإذا أحضر في عقله هذا المعنى ترك الخصومة والمنازعة وقال أعوذ باللّه وكل هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى : " {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} " [ الأعراف : ٢٠١ ] والمعنى أنه إذا تذكر هذه الأسرار والمعاني أبصر طريق الرشد فترك النزاع والدفاع ورضي بقضاء اللّه تعالى .

والخبر الثاني : روى معقل بن يسار رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ؛ وكل اللّه به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة .

قلت: وتقريره من جانب العقل أن قوله : {أعوذ باللّه} مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال اللّه وجلاله وعظمته وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين .

الخبر الثالث : روى أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل اللّه تعالى به ملكا يذود عنه الشيطان .

قلت: والسبب فيه أنه لما قال {أعوذ باللّه} وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها والشيطان الأكبر هو النفس فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان .

والخبر الرابع : عن خولة بنت حكيم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات اللّه التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل .

قلت: والسبب فيه أنه ثبت في العلوم العقلية أن كثرة الأشخاص الروحانية فوق كثرة الأشخاص الجسمانية وأن السموات مملوءة من الأرواح الطاهرة كما قال عليه الصلاة والسلام أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو قاعد وكذلك الأثير والهواء مملوءة من الأرواح وبعضها طاهرة مشرقة خيرة وبعضها كدرة مؤذية شريرة فإذا قال الرجل أعوذ بكلمات اللّه التامات فقد استعاذ بتلك الأرواح الطاهرة من شر تلك الأرواح الخبيثة وأيضا كلمات اللّه هي قوله كن وهي عبارة عن القدرة النافذة ومن استعاذ بقدرة اللّه لم يضره شيء .

والخبر الخامس : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : إذا فزع أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات اللّه التامة من غضبه و عقابه وشر عباده ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضر وكان عبد اللّه بن عمر يعلمها من بلغ من عبيده ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه .

والخبر السادس : عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : أنه كان يعوذ الحسن والحسين رضي اللّه عنهما ويقول : أعيذكما بكلمات اللّه التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ويقول : كان أبي إبراهيم عليه السلام يعوذ بها اسمعيل وإسحق عليهما السلام .

الخبر السابع : أنه عليه الصلاة والسلام كان يعظم أمر الاستعاذة حتى أنه لما تزوج امرأة ودخل بها فقالت أعوذ باللّه منك فقال عليه الصلاة والسلام : عذت بمعاذ فالحقي بأهلك .

واعلم أن الرجل المستبصر بنور اللّه لا التفات له إلى القائل وإنما التفاته إلى القول فلما ذكرت تلك المرأة كلمة أعوذ باللّه بقي قلب الرسول صلى اللّه عليه وسلم مشتغلا بتلك الكلمة ولم يلتفت إلى أنها قالت تلك الكلمة عن قصد أم لا .

والخبر الثامن : روى الحسن قال : بينما رجل يضرب مملوكا له فجعل المملوك يقول {أعوذ باللّه} إذ جاء نبي اللّه فقال : أعوذ برسول اللّه فأمسك عنه فقال عليه السلام : عائذ اللّه أحق أن يمسك عنك فقال : فإني أشهدك يا رسول اللّه أنه حر لوجه اللّه فقال عليه الصلاة والسلام :

أما والذي نفسي بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار .

والخبر التاسع: قال سويد : سمعت أبا بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه يقول على المنبر : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم وقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتعوذ باللّه من الشيطان الرجيم فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت .

والخبر العاشر : قوله عليه الصلاة والسلام أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك .

الركن الرابع من أركان هذا الباب : الكلام في المستعاذ منه وهو الشيطان والمقصود من الاستعاذة دفع شر الشيطان واعلم أن شر الشيطان أما أن يكون بالوسوسة أو بغيرها كما ذكره في قول اللّه تعالى : " {كما يقول الذي يتخبطه الشيطان من المس} " [ البقرة : ٢٧٥ ] وفي هذا الباب مسائل غامضة دقيقة من العقليات ومن علوم المكاشفات .

المسألة الأولى : اختلف الثاني في وجود الجن والشياطين فمن الناس من أنكر الجن والشياطين واعلم أنه لا بد أولا من البحث عن ماهية الجن والشياطين

فنقول : أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم بل القول المحصل فيه قولان :

 الأول أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ولها عقول وأفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة

والقول الثاني : أن كثيرا من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام بالكلية وهي الملائكة المقربون كما قال اللّه تعالى : " {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} " [ الأنبياء : ١٩ ]

ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام وأشرفها حملة العرش كما قال تعالى : " {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} " [ الحاقة : ١٧ ]

والمرتبة الثانية الحافون حول العرش كما قال تعالى : " {وترى الملائكة حافين من حول العرش} " [ الزمر : ٧٥ ]

والمرتبة الثالثة ملائكة الكرسي

والمرتبة الرابعة ملائكة السموات طبقة طبقة

والمرتبة الخامسة ملائكة كرة الأثير

والمرتبة السادسة ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم

والمرتبة السابعة ملائكة كرة الزمهرير

والمرتبة الثامنة مرتبة الأرواح المتعلقة بالبحار

والمرتبة التاسعة مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال

والمرتبة العاشرة مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذا العالم .

واعلم أنه على كلا القولين فهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة وهي المسماة بالصالحين من الجن وقد تكون كدرة سفلية شريرة شقية وهي المسماة بالشياطين .

واحتج المنكرون لوجود الجن والشياطين بوجوه :

الحجة الأولى : أن الشيطان لو كان موجودا لكان

أما أن يكون جسما كثيفا أو لطيفا والقسمان باطلان فيبطل القول بوجوده وإنما قلنا أنه يمتنع أن يكون جسما كثيفا لأنه لو كان كذلك لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس إذ لو جاز أن يكون بحضرتنا أجسام كثيفة ونحن لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة ورعود وبروق مع أنا لا نشاهد شيئا منها ومن جوز ذلك كان خارجا عن العقل وإنما قلنا إنه لا يجوز كونها أجساما لطيفة وذلك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تتمزق أو تتفرق عند هبوب الرياح العاصفة القوية وأيضا يلزم أن لا يكون لها قوة وقدرة على الأعمال الشاقة ومثبتو الجن ينسبون إليها الأعمال الشاقة ولما بطل القسمان ثبت فساد القول بالجن .

الحجة الثانية : أن هذه الأشخاص المسماة بالجن إذا كانوا حاضرين في هذا العالم مخالطين للبشر فالظاهر الغالب أن يصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة

أما صداقة وأما عداوة فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضار بسبب تلك العداوة إلا أنا لا نرى أثرا لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة وهؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثرا من هذا الجن وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء وسمعت واحدا ممن تاب على تلك الصنعة قال إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم إني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثرا ولا خبرا .

الحجة الثالثة : أن الطريق إلى معرفة الأشياء

أما الحس وأما الخبر وأما الدليل :

أما الحس فلم يدل على وجود هذه الأشياء ؛ لأن وجودها

أما بالصورة أو الصوت فإذا كنا لا نرى صورة ولا سمعنا صوتا فكيف يمكننا أن ندعي الإحساس بها والذين يقولون إنا أبصرناها أو سمعنا أصواتها فهم طائفتان : المجانين الذين يتخيلون أشياء بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوا والكذابون المخرفون

وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة إخبار الأنبياء والرسل فباطل لأن هذه الأشياء لو ثبتت لبطلت نبوة الأنبياء فإن على تقدير ثبوتها يجوز أن يقال إن كل ما تأتي به الأنبياء من المعجزات إنما حصل بإعانة الجن والشياطين وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل كان باطلا مثاله إذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال : إن حنين الجذع إنما كان لأجل أن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين ولم لا يجوز أن يقال إن الناقة إنما تكلمت مع الرسول عليه السلام لأن الشيطان دخل في بطنها وتكلم ولم لا يجوز أن يقال إن الشجرة إنما انقلعت من أصلها لأن الشيطان اقتلعها فثبت أن القول بإثبات الجن والشياطين يوجب القول ببطلان نبوة الأنبياء عليهم السلام

وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة الدليل والنظر فهو متعذر لأنا لا نعرف دليلا عقليا يدل على وجود الجن والشياطين فثبت أنه لا سبيل لنا إلى العلم بوجود هذه الأشياء فوجب أن يكون القول بوجود هذه لأشياء باطلا فهذه جملة شبه منكري الجن والشياطين .

والجواب عن الأولى : بأنا نقول : إن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسما فلم لا يجوز أن يقال أنه جوهر مجرد عن الجسمية .

واعلم أن القائلين بهذا القول فرق :

الأولى الذين قالوا : النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد تكون خيرة وقد تكون شريرة فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفوس المفارقة وتعلق بذلك البدن نفس شديدة المشابهة لتلك النفس المفارقة فحينئذ يحدث لتلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها فإن كان النفسان من النفوس الطاهرة المشرفة الخيرة كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاما وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة فهذا هو الكلام في الإلهام والوسوسة على قول هؤلاء .

الفريق الثاني : الذين قالوا : الجن والشياطين جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها وجنسها مخالف لجنس النفوس الناطقة البشرية ثم إن ذلك الجنس يندرج فيه أنواع أيضا فإن كانت طاهرة نورانية فهي الملائكة الأرضية وهم المسمون بصالحي الجن وإن كانت خبيثة شريرة فهي الشياطين المؤذية إذا عرفت هذا فنقول : الجنسية علة الضم فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضم إليها تلك الأرواح الطاهرة النورانية وتعينها على أعمالها التي هي من أبواب الخير والبر والتقوى والنفوس البشرية الخبيثة الكدرة تنضم إليها تلك الأرواح الخبيثة الشريرة وتعينها على أعمالها التي هي من باب الشر والإثم والعدوان .

الفريق الثالث : وهم الذين ينكرون وجود الأرواح السفلية ولكنهم أثبتوا وجود الأرواح المجردة الفلكية وزعموا أن تلك الأرواح أرواح عالية قاهرة قوية وهي مختلفة بجواهرها وماهياتها فكما أن لكل روح من الأرواح البشرية بدنا معينا فكذلك لكل روح من الأرواح الفلكية بدن معين وهو ذلك الفلك المعين وكما أن الروح البشرية تتعلق أولا بالقلب ثم بواسطته يتعدى أثر ذلك الروح إلى كل البدن فكذلك الروح الفلكي يتعلق أولا بالكواكب ثم بواسطة ذلك التعلق يتعدى أثر ذلك الروح إلى كلية ذلك الفلك وإلى كلية العالم وكما أنه يتولد في القلب والدماغ أرواح لطيفة وتلك الأرواح تتأدى في الشرايين والأعصاب إلى أجزاء البدن ويصل بهذا الطريق قوة الحياة والحس والحركة إلى كل جزء من أجزاء الأعضاء فكذلك ينبعث من جرم الكواكب خطوط شعاعية تتصل بجوانب العالم وتتادى قوة تلك الكواكب بواسطة تلك الخطوط الشعاعية إلى أجزاء هذا العالم وكما أن بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كل جزء من اجزاء ذلك البدن قوى مختلفة وهي الغاذية والنامية والمولدة والحساسة - فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النفس المدبرة لكلية البدن فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعية المنبثة من الكواكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم تحدث في تلك الأجزاء نفوس مخصوصة مثل نفس زيد ونفس عمرو وهذا النفوس كالأولاد لتلك النفوس الفلكية ولما كانت النفوس الفلكية مختلفة في جواهرها وماهياتها فكذلك النفوس المتولدة من نفس فلك زحل مثلا طائفة والنفوس المتولدة من نفس فلك المشتري طائفة أخرى فتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل متجانسة متشاركة ويحصل بينها محبة ومودة وتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل مخالفة بالطبع والماهية للنفوس المنتسبة إلى روح المشتري وإذا عرفت هذا

فنقول : قالوا : إن العلة تكون أقوى من المعلول فلكل طائفة من النفوس البشرية طبيعة خاصة وهي تكون معلولة لروح من تلك الأرواح الفلكية وتلك الطبيعة تكون في الروح الفلكي أقوى وأعلى بكثير منها في هذه الأرواح البشرية وتلك الأرواح الفلكية بالنسبة إلى تلك الطائفة من الأرواح البشرية كالأب المشفق والسلطان الرحيم فلهذا السبب تلك الأرواح الفلكية تعين أولادها على مصالحها وتهديها تارة في النوم على سبيل الرؤيا وأخرى في اليقظة على سبيل الإلهام ثم إذا اتفق لبعض هذه النفوس البشرية قوة قوية من جنس تلك الخاصية وقوي اتصاله بالروح الفلكي الذي هو أصله ومعدنه ظهرت عليه أفعال عجيبة وأعمال خارقة للعادات فهذا تفصيل مذاهب من يثبت الجن والشياطين ويزعم أنها موجودات ليست أجساما ولا جسمانية .

واعلم أن قوما من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية .

واعلم أن هذا باطل لوجهين :

 الأول : أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي وهو النفس فيلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس .

الثاني : هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية فلم لا يجوز أن يقال : إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذاهب .

وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا : الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار وهذان المعنيان أعراض فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم فلم لا يجوز أن يقال : الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار ؟ وإذا ثبت هذا

فنقول : لم لا يجوز أن يقال : أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها وهي غير قابلة للتفرق والتمزق ؟ وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها والأجسام الكثيفة لا تفرقها أليس أن الفلاسفة قالوا : إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر ؟ فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها وإنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة والدليل لم يقم على إبطالها فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها .

وأما الجواب عن الشبهة الثانية : أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه أما حال غيره فإنه لا يعلمها فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال .

وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول : لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات .

المسألة الثانية : اعلم أن القرآن والإخبار يدلان على وجود الجن والشياطين

أما القرآن فآيات :

الآية الأولى قوله تعالى : " {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} " [ الأحقاف : ٢٩ ]

وهذا نص على وجودهم وعلى أنهم سمعوا القرآن وعلى أنهم أنذروا قومهم

والآية الثانية قوله تعالى : " {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} " [ البقرة : ١٠٢ ]

والآية الثالثة قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام : " {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا} " [ سبأ : ١٣ ]

وقال تعالى : " {والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد} " [ ص : ]

وقال تعالى : " {ولسليمان الريح} " إلى قوله تعالى : " {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه} " [ سبأ : ١٢ ]

والآية الرابعة قوله تعالى : " {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض} " [ الرحمن : ٣٣ ]

والآية الخامسة قوله تعالى : " {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد} " [ الصافات : ٦ ]

وأما الأخبار فكثيرة :

الخبر الأول : روى مالك في الموطأ عن صيفي بن أفلح عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري قال : فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته قال : فسمعت تحريكا تحت سريره في بيته فإذا هي حية فقمت لأقتلها فأشار أبو سعيد أن اجلس فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار فقال : ترى هذا البيت ؟

فقلت: نعم فقال إنه كان فيه فتى حديث عهد بعرس وساق الحديث إلى أن قال : فرأى امرأته واقفة بين الناس فأدركته غيرة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها بسبب الغيرة فقالت : لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك فدخل فإذا هو بحية مطوقة على فراشه فركز فيها رمحه فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتا فما ندري أيهما كان أسرع موتا الفتى أم الحية فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : إن بالمدينة جنا قد أسلموا فمن بدا لكم منهم فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان .

الخبر الثاني : روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد : قال : لما أسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه فقال جبريل عليه السلام : ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه قل : أعوذ بوجه اللّه الكريم وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما نزل إلى الأرض وشر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن .

والخبر الثالث : روى مالك أيضا في الموطأ أن كعب الأحبار كان يقول : أعوذ بوجه اللّه العظيم الذي ليس شيء أعظم منه وبكلمات اللّه التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسمائه كلها ما قد علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ .

والخبر الرابع : روى أيضا مالك أن خالد بن الوليد قال : يا رسول اللّه إني أروع في منامي فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قل : أعوذ بكلمات اللّه التامات من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وان يحضرون .

والخبر الخامس : ما اشتهر وبلغ مبلغ التواتر من خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم ليلة الجن وقراءته عليهم ودعوته إياهم إلى الإسلام .

والخبر السادس : روى القاضي أبو بكر في الهداية أن عيسى ابن مريم عليهما السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم فأراه ذلك فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على قلبه فإذا ذكر اللّه تعالى خنس وإذا لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه .

والخبر السابع : قوله عليه السلام : إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم وقال ما منكم أحد إلا وله شيطان قيل : ولا أنت يا رسول اللّه ؟ قال : ولا أنا إلا أن اللّه تعالى أعانني عليه فأسلم والأحاديث في ذلك كثيرة والقدر الذي ذكرناه كاف .

المسألة الثالثة : في بيان أن الجن مخلوق من النار : والدليل عليه قوله تعالى : " {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} " [ الحجر : ٢٧ ] وقال تعالى حاكيا عن إبليس لعنه اللّه أنه قال " {خلقتني من نار وخلقته من طين} " واعلم أن حصول الحياة في النار غير مستبعد ألا ترى أن الأطباء قالوا المتعلق الأول للنفس هو القلب والروح وهما في غاية السخونة وقال جالينوس : إني بقرت مرة بطن قرد فأدخلت يدي في بطنه وأدخلت أصبعي في قلبه فوجدته في غاية السخونة بل تزيد ونقول : أطبق الأطباء على أن الحياة لا تحصل إلا بسبب الحرارة الغريزية وقال بعضهم : الأغلب على الظن أن كرة النار تكون مملوءة من الروحانيات .

المسألة الرابعة : ذكروا قولين في أنهم لما سموا بالجن الأول : أن لفظ الجن مأخوذ من الاستتار ومنه الجنة لاستتار أرضها بالأشجار ومنه الجنة لكونها ساترة للإنسان ومنه الجن لاستتارهم عن العيون ومنه المجنون لاستتار عقله ومنه الجنين لاستتاره في البطن ومنه قوله تعالى : " {اتخذوا أيمانهم جنة} " [ المنافقون : ٢ ] أي وقاية وسترا واعلم أن على هذا القول يلزم أن تكون الملائكة من الجن لاستتارهم عن العيون إلا أن يقال : إن هذا من باب تقييد المطلق بسبب العرف .

والقول الثاني : أنهم سموا بهذا الاسم لأنهم كانوا في أول أمرهم خزان الجنة والقول الأول أقوى .

المسألة الخامسة : اعلم أن طوائف المكلفين أربعة : الملائكة والإنس والجن والشياطين واختلفوا في الجن والشياطين فقيل : الشياطين جنس والجن جنس آخر كما أن الإنسان جنس والفرس جنس آخر

وقيل : الجن منهم أخيار ومنهم أشرار والشياطين اسم لأشرار الجن .

المسألة السادسة : المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر وأنكر أكثر المعتزلة ذلك

أما المثبتون فقد احتجوا بوجوه :

 الأول : أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ولا جسماني فحينئذ يكون معنى كونه قادرا على النفوذ في باطنه أنه يقدر على التصرف في باطنه وذلك غير مستبعد وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه كان نفاذه في باطن بني آدم أيضا غير ممتنع قياسا على النفس وغيره .

الثاني : قوله تعالى : " {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} " [ البقرة : ٢٧٥ ] .

الثالث : قوله عليه السلام إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم .

أما المنكرون فقد احتجوا بأمور :

 الأول : قوله تعالى حكاية عن إبليس : " {لعنه اللّه وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} " [ إبراهيم : ٢٢ ] صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان إلا من الوجه الواحد وهو إلقاء الوسوسة والدعوة إلى الباطل .

الثاني : لا شك أن الأنبياء والعلماء المحققين يدعون الناس إلى لعن الشيطان والبراءة منه فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم أعظم أنواع العداوة فلو كانوا قادرين على النفوذ في بواطن البشر وعلى إيصال البلاء والشر إليهم لوجب أن يكون تضرر الأنبياء والعلماء منهم أشد من تضرر كل أحد ولما لم يكن كذلك علمنا أنه باطل .

المسألة السابعة : اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون يسبحون الليل والنهار لا يفترون

وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون ويشربون قال عليه السلام في الروث والعظم إنه زاد إخوانكم من الجن وأيضا فإنهم يتوالدون قال تعالى : " {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} " [ الكهف : ٥٠ ] .

المسألة الثامنة : في كيفية الوسوسة بناء على ما ورد في الآثار : ذكروا أنه يغوص في باطن الإنسان ويضع رأسه على حبة قلبه ويلقي إليه الوسوسة واحتجوا عليه بما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ألا فضيقوا مجاريه بالجوع وقال عليه السلام لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات .

ومن الناس من قال : هذه الأخبار لا بد من تأويلها لأنه يمتنع حملها على ظواهرها واحتج عليه بوجوه :

 الأول : أن نفوذ الشياطين في بواطن الناس محال ؛ لأنه يلزم

أما اتساع تلك المجاري أو تداخل تلك الأجسام .

الثاني : ما ذكرنا أن العداوة الشديدة حاصلة بينه وبين أهل الدين فلو قدر على هذا النفوذ فلم لا يخصهم بمزيد الضرر ؟

الثالث : أن الشيطان مخلوق من النار فلو دخل في داخل البدن لصار كأنه نفذ النار في داخل البدن ومعلوم أنه لا يحس بذلك .

الرابع : أن الشياطين يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق ثم إنا نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثرا ولا فائدة وبالجملة فلا نرى لا من عداوتهم ضررا ولا من صداقتهم نفعا .

وأجاب مثبتو الشياطين عن السؤال الأول بان على القول بأنها نفوس مجردة فالسؤال زائل وعلى القول بأنها أجسام لطيفة كالضوء والهواء فالسؤال أيضا زائل وعن الثاني لا يبعد أن يقال : إن اللّه وملائكته يمنعونهم عن إيذاء علماء البشر وعن الثالث أنه لما جاز أن يقول اللّه تعالى لنار إبراهيم : " {يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} " [ الأنبياء : ٦٩ ] فلم لا يجوز مثله ههنا وعن الرابع أن الشياطين مختارون ولعلهم يفعلون بعض القبائح دون بعض .

المسألة التاسعة : في تحقيق الكلام في الوسوسة على الوجه الذي قرره الشيخ الغزالي في كتاب الإحياء قال : القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب أو مثل هدف ترمي إليه السهام من كل جانب أو مثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص فتتراءى فيها صورة بعد صورة أو مثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة واعلم أن مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ساعة فساعة

أما من الظاهر كالحواس الخمس

وأما من البواطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة في مزاج الإنسان فإنه إذا أدرك بالحواس شيئا حصل منه أثر في القلب وكذا إذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الأحوال آثار في القلب

وأما إذا منع الإنسان عن الإدراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال فالقلب دائما في التغير والتأثر من هذه الأسباب وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار وأعني بها إدراكات وعلوما

أما على سبيل التجدد

وأما على سبيل التذكر ونما تسمي خواطر من حيث أنها تخطر بالخيال بعد أن كان القلب غافلا عنها فالخواطر هي المحركات للإرادات والإرادات محركة للأعضاء ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الإرادات تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة - وإلى ما ينفع - أعني ما ينفع في العاقبة - فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين فالخاطر المحمود يسمى إلهاما والمذموم يسمى وسواسا ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر أحوال حادثة فلا بد لها من سبب والتسلسل محال فلا بد من انتهاء الكل إلى واجب الوجود وهذا ملخص كلام الشيخ الغزالي بعد حذف التطويلات منه .

المسألة العاشرة : في تحقيق الكلام فيما ذكره الغزالي : اعلم أن هذا الرجل دار حول المقصود إلا أنه لا يحصل الغرض إلا من بعد مزيد التنقيح

فنقول : لا بد قبل الخوض في المقصود من تقديم مقدمات .

المقدمة الأولى : لا شك أن ههنا مطلوبا ومهروبا .

وكل مطلوب فأما أن يكون مطلوبا لذاته أو لغيره ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوبا لغيره .

وأن يكون كل مهروب مهروبا عنه لغيره وإلا لزم أما الدور

وأما التسلسل وهما محالان فثبت أنه لا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوبا لذاته وبوجود شيء يكون مهروبا عنه لذاته .

المقدمة الثانية :

إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما .

المقدمة الثالثة : إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس .

المقدمة الرابعة : القوة الباصرة إذا أدركت موجودا في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذا أو مؤلما خاليا عنهما فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله وإن حصل العلم بكونه مؤلما ترتب على هذا العلم والاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلما ولا بكونه لذيذا لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله .

المقدمة الخامسة : إن العلم بكونه لذيذا إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خاليا عن المعارض والمعاوق

فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء مثاله إذا رأينا طعاما لذيذا فعلمنا بكونه لذيذا إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد

أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان ومثال آخر لهذا المعنى : أن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم يتخلص عن مؤلم أعظم منه أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالا منها فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذا أو مؤلما إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض .

المقدمة السادسة : في بيان أن التقرير الذي بيناه على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيبا ذاتيا لزوميا عقليا وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك فامتنع صيرورتها مصدرا للفعل بدلا عن الترك وللترك بدلا عن الفعل إلا بضميمة تنضم إليها وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه ولزم

أما الدور

وأما التسلسل وهما محالان

وأما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة وهي أما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن اللّه تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان .

إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا : ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذا أو مؤلما وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بد وأن يكون بخلق اللّه تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبل أمر لازم لزوما ذاتيا واجبا فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائما مال طبعه إليه وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة فلو قدرنا شيطانا من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر ؛ لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل وإن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل بل الحق أن نقول : إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال .

والجواب : أن كل ما ذكرتموه حق وصدق إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلا عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره ثم عند التذكر يترتب الميل عليه ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكيا عن إبليس أنه قال " {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} " [ إبراهيم : ٢٢ ] إلا أنه بقي لقائل أن يقول : فالإنسان إنما أقدم على المعصية بتذكير الشيطان فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر يثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه ولا بد لذلك الاعتقاد الحادث من سبب وما ذاك إلا اللّه سبحانه وتعالى وعند هذا يظهر أن الكل من اللّه تعالى فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله أعوذ بك منك واللّه أعلم .

المسألة الحادية عشرة : اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في داخل قلبه ودماغه أصواتا خفية وحروفا خفية فكأن متكلما يتكلم معه ومخاطبا يخاطبه فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن تلك الأشياء ليست حروفا ولا أصواتا وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات وتخيل الشيء عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال وهذا كما أنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورها وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك فهذا قول جمهور الفلاسفة ولقائل أن يقول : هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساو للحرف والكلمة في الماهية أو لا ؟ فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء وإن كان الحق هو الثاني - وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات - فحينئذ يعود السؤال وهو : أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمة والعبارات وجدانا لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة عل الذهن فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقة .

واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا : فاعل هذه الحروف والأصوات أما ذلك الإنسان أو إنسان آخر

وأما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك

وأما أن يقال : خالق تلك الحروف والأصوات هو اللّه تعالى .

أما القسم الأول - وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان - فهذا قول باطل لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادرا على تركه فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره

وأما القسم الثاني - وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر - فهو ظاهر الفساد ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث - وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل اللّه تعالى .

أما الذين قالوا إن اللّه تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا إن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل اللّه تعالى فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين

وأما الذين قالوا إنه لا يقبح من اللّه شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى اللّه تعالى .

واعلم أن الثنوية يقولون : للعالم إلهان

أحدهما خير وعسكره الملائكة

والثاني شرير وعسكره الشياطين وهما يتنازعان أبدا كل شيء في هذا العالم فلكل واحد منهما تعلق به والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر اللّه والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان واعلم أن القول بإثبات الإلهين قول باطل فاسد على ما ثبت فساده بالدلائل فهذا منتهى القول في هذا الباب

المسألة الثانية عشرة : من الناس من أثبت لهذه الشياطين قدرة على الإحياء وعلى الإماتة وعلى خلق الأجسام وعلى تغيير الأشخاص عن صورتها الأصلية وخلقتها الأولية ومنهم من أنكر هذه الأحوال وقال : أنه لا قدرة لها على شيء من هذه الأحوال .

أما أصحابنا قد أقاموا الدلالة على أن القدرة على الإيجاد والتكوين والإحداث ليست إلا للّه فبطلت هذه المذاهب بالكلية .

وأما المعتزلة فقد سلموا أن الإنسان قادر على إيجاد بعض الحوادث فلا جرم صاروا محتاجين إلى بيان أن هذه الشياطين لا قدرة لها على خلق الأجسام والحياة ودليلهم أن قالوا الشيطان جسم وكل جسم فإنه قادر بالقدرة والقدرة لا تصلح لإيجاد الأجسام فهذه مقدمات ثلاث :

المقدمة الأولى أن الشيطان جسم وقد بنوا هذه المقدمة على أن ما سوى اللّه تعالى

أما متحيز وأما حال في المتحيز وليس لهم في إثبات هذه المقدمة شبهة فضلا عن حجة

وأما المقدمة الثانية - وهي قولهم الجسم إنما يكون قادرا بالقدرة - فقد بنوا هذا على أن الأجسام مما تستلزم مماثلة فلو كان شيء منها قادرا لذاته لكان الكل قادرا لذاته وبناء هذه المقدمة على تماثل الأجسام

وأما المقدمة الثالثة - وهي قولهم هذه القدرة التي لنا لا تصلح لخلق الأجسام فوجب أن لا تصلح القدرة الحادثة لخلق الأجسام - وهذا أيضا ضعيف لأنه يقال لهم لم لا يجوز حصول قدرة مخالفة لهذه القدرة الحاصلة لنا وتكون تلك القدرة صالحة لخلق الأجسام فإنه لا يلزم من عدم وجود الشيء في الحال امتناع وجوده ؟ فهذا إتمام الكلام في هذه المسألة .

المسألة الثالثة عشرة : اختلفوا في أن الجن هل يعلمون الغيب ؟ وقد بين اللّه تعالى في كتابه أنهم بقوا في قيد سليمان عليه السلام وفي حبسه بعد موته مدة وهم ما كانوا يعلمون موته وذلك يدل على أنهم لا يعلمون الغيب ومن الناس من يقول أنهم يعلمون الغيب ثم اختلفوا فقال بعضهم أن فيهم من يصعد إلى السموات أو يقرب منها ويخبر ببعض الغيوب على ألسنة الملائكة ومنهم من قال : لهم طرق أخرى في معرفة الغيوب لا يعلمها إلا اللّه واعلم أن فتح الباب في أمثال هذه المباحث لا يفيد إلا الظنون والحسبانات والعالم بحقائقها هو اللّه تعالى .

الركن الخامس من أركان مباحث الاستعاذة المطالب التي لأجلها يستعاذ : اعلم أنا قد بينا أن حاجات العبد غير متناهية فلا خير من الخيرات إلا وهو محتاج إلى تحصيله ولا شر من الشرور إلا وهو محتاج إلى دفعه وإبطاله فقوله ( أعوذ باللّه ) يتناول دفع جميع الشرور الروحانية والجسمانية وكلها أمور غير متناهية ونحن ننبه على معاقدها

فنقول : الشرور

أما أن تكون من باب الاعتقادات الحاصلة في القلوب

وأما أن تكون من باب الأعمال الموجودة في الأبدان

أما القسم الأول فيدخل فيه جميع العقائد الباطلة .

واعلم أن أقسام المعلومات غير متناهية كل واحد منها يمكن أن يعتقد اعتقادا صوابا صحيحا ويمكن أن يعتقد اعتقادا فاسدا خطأ ويدخل في هذه الجملة مذاهب فرق الضلال في العالم وهي اثنتان وسبعون فرقة من هذه الأمة وسبعامائة أو أكثر خارج عن هذه الأمة فقوله ( أعوذ باللّه ) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها

وأما ما يتعلق بالأعمال البدنية فهي على قسمين : منها ما يفيد المضار الدينية ومنها ما يفيد المضار الدنيوية

فأما المضار الدينية فكل ما نهى اللّه عنه في جميع أقسام التكاليف وضبطها كالمعتذر وقوله ( أعوذ باللّه ) يتناول كلها

وأما ما يتعلق بالمضار الدنيوية فهو جميع الآلام والأسقام والحرق والغرق والفقر والزمانة والعمى وأنواعها تقرب أن تكون غير متناهية فقوله ( أعوذ باللّه ) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها .

والحاصل أن قوله ( أعوذ باللّه ) يتناول ثلاثة أقسام وكل واحد منها يجري مجرى ما لا نهاية له

أولها الجهل ولما كانت أقسام المعلومات غير متناهية كانت أنواع الجهالات غير متناهية فالعبد يستعذ باللّه منها ويدخل في هذه الجملة مذاهب أهل الكفر وأهل البدعة على كثرتها

وثانيها الفسق ولما كانت أنواع التكاليف كثيرة جدا وكتب الأحلام محتوية عليها كان قوله : ( أعوذ باللّه ) متناولا لكلها

وثالثها المكروهات والآفات والمخافات ولما كانت أقسامها وأنواعها غير متناهية كان قوله ( أعوذ باللّه ) متناولا لكلها ومن أراد أن يحيط بها فليطالع كتب الطب حتى يعرف في ذلك لكل واحد من الأعضاء أنواعا من الآلام والأسقام ويجب على العاقل أنه إذا أراد أن يقول ( أعوذ باللّه ) فإنه يستحضر في ذهنه هذه الأجناس الثلاثة وتقسيم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواعها وأنواع أنواعها ويبالغ في ذلك التقسيم والتفصيل ثم إذا استحضر تلك الأنواع التي لا حد لها ولا عد لها في خياله ثم عرف أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفع هذه الأقسام على كثرتها فحينئذ يحمله طبعه وعقله على أن يلتجئ إلى القادر على دفع ما لا نهاية له من المقدورات فيقول عند ذلك أعوذ باللّه القادر على كل المقدورات من جميع أقسام الآفات والمخافات ولنقتصر على هذا القدر من المباحث في هذا الباب واللّه الهادي .

الباب الثالث

في اللطائف المستنبطة من قولنا أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم

النكتة الأولى : في قوله {أعوذ باللّه} عروج من الخلق إلى الخالق ومن الممكن إلى الواجب : وهذا هو الطريق المتعين في أول الأمر لأن في أول الأمر لا طريق إلى معرفته إلا بأن يستدل باحتياج الخلق على وجود الحق الغني القادر فقوله {أعوذ} إشارة إلى الحاجة التامة فإنه لولا الاحتياج لما كان في الاستعاذة فائدة وقوله {باللّه} إشارة إلى الغنى التام للحق فقول العبد {أعوذ} إقرار على نفسه بالفقر والحاجة وقوله {باللّه} إقرار بأمرين

أحدهما بان الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات

والثاني أن غيره غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو ولا معطي للخيرات إلا هو فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذا الفرار سر قوله : " {ففروا إلى اللّه} " [ الذاريات : ٥٠ ] وهذه الحالة تحصل عند قوله {أعوذ} ثم إذا وصل إلى غيبة الحق وصار غريقا في نور جلال الحق شاهد قوله : قل اللّه ثم ذرهم فعند ذلك يقول {أعوذ باللّه} .

النكتة الثانية : أن قوله {أعوذ باللّه} اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة اللّه إلا بالعجز والانكسار ثم من الكلمات النبوية قوله عليه الصلاة والسلام من عرف نفسه فقد عرف ربه والمعنى من عرف نفسه بالضعف والقصور عرف ربه بأنه هو القادر على كل مقدور ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالفضل والعدل ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالكمال والجلال .

النكتة الثالثة : أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان وذلك هو الاستعاذة باللّه إلا أن هذه الاستعاذة نوع من أنواع الطاعة فإن كان الإقدام على الطاعة يوجب تقديم الاستعاذة عليها افتقرت الاستعاذة إلى تقديم استعاذة أخرى ولزم التسلسل وإن كان الإقدام على الطاعة لا يحوج إلى تقديم الاستعاذة عليها لم يكن في الاستعاذة فائدة فكأنه قيل له : الإقدام على الطاعة لا يتم إلا بتقديم الاستعاذة عليها وذلك يوجب الإتيان بما لا نهاية له وذلك ليس في وسعك إلا أنك إذا عرفت هذه الحالة فقد شاهدت عجزك واعترفت بقصورك فأنا أعينك على الطاعة وأعلمك كيفية الخوض فيها فقل {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} .

النكتة الرابعة : أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك ثم إن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته عن المحرمات ؛ فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات فلا جرم كان سعي الشيطان في الصد عنه أبلغ وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة .

النكتة الخامسة : الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالى : " {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} " [ فاطر : ٦ ] والرحمن مولى الإنسان وخالقة ومصلح مهماته ثم إن الإنسان عند شروعه في الطاعات والعبادات خاف العدو فاجتهد في أن يتحرى مرضاة مالكه ليخلصه من زحمة ذلك العدو فلما وصل الحضرة وشاهد أنواع البهجة والكرامة نسي العدو وأقبل بالكلية على خدمة الحبيب فالمقام الأول هو الفرار وهو قوله : {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} والمقام الثاني هو الاستقرار في حضرة الملك الجبار فهو قوله {بسم اللّه الرحمن الرحيم} .

النكتة السادسة : قال تعالى " {لا يمسه إلا المطهرون} " فالقلب لما تعلق بغير اللّه واللسان لما جرى بذكر غير اللّه حصل فيه نوع من اللوث فلا بد من استعمال الطهور فلما قال {أعوذ باللّه} حصل الطهور فعند ذلك يستعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر اللّه تعالى فقال {بسم اللّه} .

النكتة السابعة : قال أرباب الإشارات : لك عدوان

أحدهما ظاهر

والآخر باطن وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر : " {قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه} " [ التوبة : ٢٩ ]

وقال في العدو الباطن " {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [ فاطر : ٦ ]

فكأنه تعالى قال : إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك كما قال تعالى : " {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} " [ آل عمران : ١٢٥ ]

وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك كما قال تعالى : " {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} " [ الإسراء : ٦٥ ]

وأيضا فمحاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر ؛ لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين وأيضا فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين وأيضا فمن قتله العدو الظاهر كان شهيدا ومن قتله العدو الباطن كان طريدا فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} .

النكتة الثامنة : أن قلب المؤمن أشرف البقاع فلا تجد ديارا طيبة ولا بساتين عامرة ولا رياضا ناضرة إلا وقلب المؤمن أشرف منها بل قلب المؤمن كالمرآة في الصفاء بل فوق المرآة لأن المرآة إن عرض عليها حجاب لم ير فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السموات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى : " {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} " [ فاطر : ١٠ ] بل القلب مع جميع هذه الحجب يطالع جلال الربوبية ويحيط علما بالصفات الصمدية ومما يدل على أن القلب أشرف البقاع وجوه :

 الأول : أنه عليه الصلاة والسلام قال القبر روضة من رياض الجنة وما ذاك إلا أنه صار مكان عبد صالح ميت فإذا كان القلب سريرا لمعرفة اللّه وعرشا لإلهيته وجب أن يكون القلب أشرف البقاع

الثاني : كأن اللّه تعالى يقول : يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل علي ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه فكيف أبخل ببستاني عليك وكيف أمنعك منه ؟

الثالث : أنه تعالى حكى كيفية نزول العبد في بستان الجنة فقال : " {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} " [ القمر : ٥٥ ] ولم يقل عند المليك فقط كأنه قال : أنا في ذلك اليوم أكون مليكا مقتدرا وعبيدي يكونون ملوكا إلا أنهم يكونون تحت قدرتي .

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : كأنه تعالى يقول : يا عبدي إني جعلت جنتي لك وأنت جعلت جنتك لي لكنك ما انصفتني فهل رأيت جنتي الآن وهل دخلتها ؟ فيقول العبد : لا يا رب فيقول تعالى : وهل دخلت جنتك ؟ فلا بد وأن يقول العبد : نعم يا رب فيقول تعالى : إنك بعد ما دخلت جنتي ولكن لما قرب دخولك أخرجت الشيطان من جنتي لأجل نزولك وقلت له اخرج منها مذؤوما مدحورا فأخرجت عدوك قبل نزولك

وأما أنت فبعد نزولي في بستانك سبعين سنة كيف يليق بك أن لا تخرج عدوي ولا تطرده فعند ذلك يجيب العبد ويقول : إلهي أنت قادر على إخراجه من جنتك

وأما أنا فعاجز ضعيف ولا أقدر على إخراجه فيقول اللّه تعالى : العاجز إذا دخل في حماية الملك القاهر صار قويا فادخل في حمايتي حتى تقدر على إخراج العدو من جنة قلبك فقل {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} .

فإن قيل : فإذا كان القلب بستان اللّه فلماذا لا يخرج الشيطان منه ؟

 قلنا قال أهل الإشارة : كانه تعالى يقول للعبد أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك ومن أراد أن ينزل سلطانا في حجرة نفسه وجب عليه أن يكنس تلك الحجرة وأن ينظفها ولا يجب على السلطان تلك الأعمال فنظف أنت حجرة قلبك من لوث الوسوسة فقل {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} .

النكتة التاسعة : كأنه تعالى يقول يا عبدي ما أنصفتني أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان ؛ إنه كان يعبدني مثل عباده الملائكة وكان في الظاهر مقرا بإلهيتي وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع فلما تكبر نفيته عن خدمتي وهو في الحقيقة ما عادى أباك إنما امتنع من خدمتي ثم إنه يعاديك منذ سبعين سنة وأنت تحبه وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات فاترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل : {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} .

النكتة العاشرة : أما إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من الناصحين ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة

وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال : " {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} " [ ص : ٨٢ ] فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه .

النكتة الحادية عشرة : إنما قال : {أعوذ باللّه} ولم يذكر اسما آخر بل ذكر قوله : {اللّه} لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجرا عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادرا عليما حكيما فقوله : {أعوذ باللّه} جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم وهذه الصفات هي النهاية في الزجر وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادرا إلا أنه غير عالم فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر بل لا بد معها من العلم وأيضا فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر لأن الملك إذا رأى منكرا إلا أنه لا ينهي عن المنكر لم يكن حضوره مانعا منه

أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فههنا يحصل الزجر الكامل ؛ فإذا قال العبد {أعوذ باللّه} فكأنه قال أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام .

النكتة الثانية عشرة : لما قال العبد {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاص وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى .

النكتة الثالثة عشرة : الشيطان اسم والرجيم صفة ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفا من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا ؟ ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه

وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} .

النكتة الرابعة عشرة : لقائل أن يقول : لم لم يقل أعوذ بالملائكة مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان ؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر اللّه تعالى ؟ وجوابه كأنه تعالى يقول : عبدي إنه يراك وأنت لا تراه بدليل قوله تعالى : " {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} " [ الأعراف : ٢٧ ] وإنما نفذ كيده لأنه يراكم وأنتم لا ترونه فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان وهو اللّه سبحانه وتعالى فقولوا {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} .

النكتة الخامسة عشرة : أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفا للجنس ؛ لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية بل المرئي ربما كان أشد حكي عن بعض المذكرين أنه قال في مجلسه : إن الرجل إذا أراد أن يتصدق فإنه يأتيه سبعون شيطانا فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه ويمنعونه من الصدقة فلما سمع بعض القوم ذلك فقال : إني أقاتل هؤلاء السبعين وخرج من المسجد وأتى المنزل وملأ ذيله من الحنطة وأراد أن يخرج ويتصدق به فوثبت زوجته وجعلت تنازعه وتحاربه حتى أخرجت ذلك من ذيله فرجع الرجل خائبا إلى المسجد فقال المذكر : ماذا عملت ؟ فقال : هزمت السبعين فجاءت أمهم فهزمتني .

وأما إن جعلنا الألف واللام للعهد فهو أيضا جائز لأن جميع المعاصي برضى هذا الشيطان والراضي يجري مجرى الفاعل له وإذا استبعدت ذلك فاعرفه بالمسألة الشرعية فإن عند أبي حنيفة قراءة الإمام قراءة للمقتدي من حيث رضي بها وسكت خلفه .

النكتة السادسة عشرة : الشيطان مأخوذ من شطن إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيدا

وأما المطيع فقريب قال اللّه تعالى : " {واسجد واقترب} [ العلق : ١٩ ] واللّه قريب منك قال اللّه تعالى " {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} " [ البقرة : ١٨٦ ]

وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرميا بسهم اللعن والشقاوة

وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال اللّه تعالى : " {وألزمهم كلمة التقوى} " [ الفتح : ٢٦ ] فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيدا مرجوما وجعلك قريبا موصولا ثم إنه تعالى أخبر إنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريبا لأنه تعالى قال : " {ولن تجد لسنة اللّه تحويلا} " [ فاطر : ٤٣ ] فاعرف أنه لما جعلك قريبا فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته .

النكتة السابعة عشرة : قال جعفر الصادق : إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ

وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة فأمر اللّه تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهرا فيقرأ بلسان طاهر كلاما أنزل من رب طيب طاهر .

النكتة الثامنة عشرة : كأنه تعالى يقول : إنه شيطان رجيم وأنا رحمن رحيم فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم .

النكتة التاسعة عشرة : الشيطان عدوك وأنت عنه غافل غائب قال تعالى : " {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} " [ الأعراف : ٢٧ ]

فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب لقوله تعالى : " {واللّه غالب على أمره} " [ يوسف : ٢١ ]

فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب واللّه سبحانه وتعالى أعلم بمراده .

الباب الرابع

في المسائل الملتحقة بقوله ( أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم )

المسألة الأولى : فرق بين أن يقال أعوذ باللّه وبين أن يقال باللّه أعوذ

فإن الأول لا يفيد الحصر

والثاني يفيده فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني مع أنا بينا أن الثاني أكمل وأيضا جاء قوله الحمد للّه وجاء قوله للّه الحمد

وأما هنا فقد جاء أعوذ باللّه وما جاء قوله باللّه أعوذ فما الفرق ؟

المسألة الثانية : قوله {أعوذ باللّه} لفظه الخبر ومعناه الدعاء والتقدير : اللّهم أعذني ألا ترى أنه قال : " {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} " [ آل عمران : ٣٦ ] كقوله أستغفر اللّه أي اللّهم اغفر لي والدليل عليه أن قوله {أعوذ باللّه} إخبار عن فعله وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه اللّه فما السبب في أنه قال أعوذ باللّه ولم يقل أعذني ؟

 والجواب أن بين الرب وبين العبد عهدا كما قال تعالى : " {وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم} " [ النحل : ٩١ ] وقال " {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} " [ البقرة : ٤٠ ] فكأن العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث

قلت: أعوذ باللّه فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول : إني أعيذك من الشيطان الرجيم .

المسألة ج : أعوذ فعل مضارع وهو يصلح للحال والاستقبال فهل هو حقيقة فيهما ؟ والحق أنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال وإنما يختص به بحرف السين وسوف .

( د ) لم وقع الاشتراك بين الحاضر والمستقبل ولم يقع بين الحاضر والماضي ؟ ( ه ) كيف المشابهة بين المضارع وبين الاسم .

( و ) كيف العامل فيه ولا شك أنه معمول فما هو .

( ز ) قوله {أعوذ} يدل على أن العبد مستعيذ في الحال وفي كل المستقبل وهو الكمال فهل يدل على أن هذه الاستعاذة باقية في الجنة .

( ح ) قوله {أعوذ} حكاية عن النفس ولا بد من الأربعة المذكورة في قوله " {آتين} " [ الأحزاب : ٣٣ ] .

أما المباحث العقلية المتعلقة بالباء في قوله أعوذ باللّه فهي كثيرة ( أ ) الباء في قوله باللّه باء الإلصاق وفيه مسائل :

المسألة الأولى :

البصريون يسمونه باء الألصاق والكوفيون يسمونه باء الآلة ويسميه قوم باء التضمين واعلم أن حاصل الكلام أن هذه الباء متعلقة بفعل لا محالة ؛ والفائدة فيه أنه لا يمكن إلصاق ذلك الفعل بنفسه إلا بواسطة الشيء الذي دخل عليه هذا الباء فهو باء الإلصاق لكونه سببا للإلصاق وباء الآلة لكونه داخلا على الشيء الذي هو آلة .

المسألة الثانية : اتفقوا على أنه لا بد فيه من إضمار فعل فإنك إذا قلت بالقلم لم يكن ذلك كلاما مفيدا بل لا بد وأن تقول كتبت بالقلم وذلك يدل على أن هذه الحرف متعلق بمضمر ونظيره قوله باللّه لأفعلن ومعناه أحلف باللّه لأفعلن فحذف أحلف لدلالة الكلام عليه فكذا ههنا ويقول الرجل لمن يستأذنه في سفره : على اسم اللّه أي سر على اسم اللّه .

المسألة الثالثة : لما ثبت أنه لا بد من الإضمار فنقول : الحذف في هذا المقام أفصح والسبب فيه أنه لو وقع التصريح بذلك المضمر لاختص قوله أعوذ باللّه بذلك الحكم المعين

أما عند الحذف فإنه يذهب الوهم كل مذهب ويقع في الخاطر أن جميع المهمات لا تتم إلا بواسطة الاستعاذة باللّه وإلا عند الابتداء باسم اللّه ونظيره أنه قال اللّه أكبر ولم يقل فإنه أكبر من الشيء الفلاني لأجل ما ذكرناه من إفادة العموم فكذا هنا .

المسألة الرابعة : قال سيبويه لم يكن لهذه الباء عمل إلا الكسر فكسرت لهذا السبب

فإن قيل : كاف التشبيه ليس لها عمل إلا الكسر ثم إنها ليست مكسورة بل مفتوحة

قلنا : كاف التشبيه قائم مقام الاسم وهو في العمل ضعيف

أما الحرف فلا وجود له إلا بحسب هذا الأثر فكان فيه كلاما قويا .

المسألة الخامسة : الباء قد تكون أصلية كقوله تعالى : " {قل ما كنت بدعا من الرسل} " [ الأحقاف : ٩ ] وقد تكون زائدة وهي على أربعة أوجه

أحدها للإلصاق وهي كقوله {أعوذ باللّه} وقوله {بسم اللّه}

وثانيها للتبعيض عند الشافعي رضي اللّه عنه

وثالثها لتأكيد النفي كقوله تعالى " {وما ربك بظلام للعبيد} " [ فصلت : ٤٦ ]

ورابعها للتعدية كقوله تعالى " {ذهب اللّه بنورهم} [ البقرة : ١٧ ] أي أذهب نورهم

وخامسها الباء بمعنى في قال : ( حل بأعدائك ما حل بي ) أي : حل في أعدائك

وأما باء القسم وهو قوله باللّه فهو من جنس باء الإلصاق .

المسألة السادسة : قال بعضهم : الباء في قوله : " {وامسحوا برؤوسكم} " [ المائدة : ٦ ] زائدة والتقدير : وامسحوا رؤسكم وقال الشافعي رضي اللّه عنه إنها تفيد التبعيض حجة الشافعي رضي اللّه عنه وجوه

الأول أن هذه الباء

أما أن تكون لغوا أو مفيدا والأول باطل ؛ لأن الحكم بأن كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لغو في غاية البعد وذلك لأن المقصود من الكلام إظهار الفائدة فحمله على اللغو على خلاف الأصل فثبت أنه يفيد فائدة زائدة وكل من قال بذلك قال إن تلك الفائدة هي التبعيض

الثاني أن الفرق بين قوله مسحت بيدي المنديل وبين قوله مسحت يدي بالمنديل يكفي في صحة صدقه ما إذا مسح يده بجزء من أجزاء المنديل .

الثالث : أن بعض أهل اللغة قال : الباء قد تكون للتبعيض وأنكره بعضهم لكن رواية الإثبات راجحة فثبت أن الباء تفيد التبعيض ومقدار ذلك البعض غير مذكور فوجب أن تفيد أي مقدار يسمى بعضا فوجب الاكتفاء بمسح أقل جزء من الرأس وهذا هو قول الشافعي والإشكال عليه أنه تعالى قال : " {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} " [ النساء : ٤٣ ] فوجب أن يكون مسح أقل جزء من أجزاء الوجه واليد كافيا في التيمم وعند الشافعي لا بد فيه من الإتمام وله أن يجيب فيقول : مقتضى هذا النص الاكتفاء في التيمم بأقل جزء من الأجزاء إلا أن عند الشافعي الزيادة على النص ليست نسخا فأوجبنا الإتمام لسائر الدلائل وفي مسح الرأس لم يوجد دليل يدل على وجوب الإتمام فاكتفينا بالقدر المذكور في هذا النص .

المسألة السابعة : فرع أصحاب أبي حنيفة على باء الإلصاق مسائل :

إحداها قال محمد في الزيادات : إذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق بمشيئة اللّه تعالى لا يقع الطلاق وهو كقوله : أنت طالق إن شاء اللّه ولو قال : لمشيئة اللّه يقع لأنه أخرجه مخرج التعليل وكذلك أنت طالق بإرادة اللّه لا يقع الطلاق ولو قال لإرادة اللّه يقع

أما إذا قال : أنت طالق بعلم اللّه أو لعلم اللّه فإنه يقع الطلاق في الوجهين ولا بد من الفرق

وثانيها قال في كتاب الأيمان لو قال لامرأته : إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت طالق فإنها تحتاج في كل مرة إلى إذنه ولو قال : إن خرجت إلا أن آذن لك فأذن لها مرة كفى ولا بد من الفرق

وثالثها لو قال لامرأته : طلقي نفسك ثلاثا بألف فطلقت نفسها واحدة وقعت بثلث الألف وذلك أن الباء ههنا تدل على البدلية فيوزع البدل على المبدل فصار بإزاء كل طلقة ثلث الألف ولو قال : طلقي نفسك ثلاثا على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء عند أبي حنيفة لأن لفظة على كلمة شرط ولم يوجد الشرط وعند صاحبيه تقع واحدة بثلث الألف .

قلت: وههنا مسائل كثيرة متعلقة بالباء .

( أ ) قال أبو حنيفة : الثمن إنما يتميز عن المثمن بدخول حرف الباء عليه فإذا قال : بعت كذا بكذا فالذي دخل عليه الباء هو الثمن فقط وعلى هذا الفرق بنى مسألة البيع الفاسد فإنه قال : إذا قال : بعت هذا الكرباس بمن من الخمر صح البيع وانعقد فاسدا وإذا قال بعت هذا الخمر بهذا الكرباس لم يصح والفرق أن في الصورة الأولى الخمر ثمن وفي الصورة الثانية الخمر مثمن وجعل الخمر ثمنا جائزا

أما جعله مثمنا فإنه لا يجوز.

( ب ) قال الشافعي : إذا قال بعت منك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم وعند أبي حنيفة لا يتعين .

( ج ) قال اللّه تعالى : " {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} " [ التوبة : ١١١ ] فجعل الجنة ثمنا للنفس والمال .

ومن أصول الفقه مسائل

( أ ) الباء تدل على السببية قال اللّه تعالى " {ذلك بأنهم شاقوا اللّه} " [ الأنفال : ١٣ ] ههنا الباء دلت على السببية

وقيل : إنه لا يصح لأنه لا يجوز إدخال لفظ الباء على السبب فيقال ثبت هذا الحكم بهذا السبب .

( ب ) إذا قلنا الباء تفيد السببية فما الفرق بين باء السببية وبين لام السببية ؟ لا بد من بيانه .

( ج ) الباء في قوله سبحانك اللّهم وبحمدك لا بد من البحث عنه فإنه لا يدري أن هذه الباء بماذا تتعلق وكذلك البحث عن قوله : " {ونحن نسبح بحمدك} " [ البقرة : ٣٠ ] فإنه يجب البحث عن هذه الباء .

( د ) قيل : كل العلوم مندرج في الكتب الأربعة وعلومها في القرآن وعلوم القرآن في الفاتحة وعلوم الفاتحة في ( بسم اللّه الرحمن الرحيم ) وعلومها في الباء من بسم اللّه قلت لأن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب وهذا الباء باء الإلصاق فهو يلصق العبد بالرب فهو كمال المقصود .

النوع الثالث من مباحث هذا الباب مباحث حروف الجر : فإن هذه الكلمة اشتملت على نوعين منها

أحدهما الباء؛

وثانيهما لفظ من فنقول : في لفظ من مباحث :

( أ ) أنك تقول أخذت المال من ابنك فتكسر النون ثم تقول أخذت المال من الرجل فتفتح النون فههنا اختلف آخر هذه الكلمة وإذا اختلفت الأحوال دلت على اختصاص كل حالة بهذه الحركة فههنا اختلف آخر هذه الكلمة باختلاف العوامل فإنه لا معنى للعامل إلا الأمر الدال على استحقاق هذه الحركات فوجب كون هذه الكلمة معربة .

( ب ) كلمة من وردت على وجوه أربعة : ابتداء الغاية والتبعيض والتبيين والزيادة .

( ج ) قال المبرد : الأصل هو ابتداء الغاية والبواقي مفرعة عليه وقال آخرون : الأصل هو التبعيض والبواقي مفرعة عليه .

( د ) أنكر بعضهم كونها زائدة

وأما قوله تعالى : " {يغفر لكم من ذنوبكم} " [ آل عمران : ٣١ ] فقد بينوا أنه يفيد فائدة زائدة فكأنه قال يغفر لكم بعض ذنوبكم ومن غفر كل بعض منه فقد غفر كله .

( ه ) الفرق بين من وبين عن لا بد من ذكره قال الشيطان " {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} " [ الأعراف : ١٧ ] وفيه سؤالان :

 الأول : لم خص الأولين بلفظ من والثالث والرابع بلفظ عن .

الثاني : لما ذكر الشيطان لفظ من ولفظ عن فلم جاءت الاستعاذة بلفظ من فقال {أعوذ باللّه من الشيطان} ولم يقل عن الشيطان .

النوع الرابع : من مباحث هذا الباب :

( أ ) الشيطان مبالغة في الشيطنة كما أن الرحمن مبالغة في الرحمة والرجيم في حق الشيطان فعيل بمعنى مفعول كما أن الرحيم في حق اللّه تعالى فعيل بمعنى فاعل إذا عرفت هذا فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم وهذا يقتضي المساواة بينهما وهذا ينشأ عنه قول الثنوية الذين يقولون إن اللّه وإبليس أخوان إلا أن اللّه هو الأخ الكريم الرحيم الفاضل وإبليس هو الأخ اللئيم الخسيس المؤذي فالعاقل يفر من هذا الشرير إلى ذلك الخير .

( ب ) الإله هل هو رحيم كريم ؟ فإن كان رحيما كريما فلم خلق الشيطان الرجيم وسلطه على العباد وإن لم يكن رحيما كريما فأي فائدة في الرجوع إليه والاستعاذة به من شر الشيطان .

( ج ) الملائكة في السموات هل يقولون {أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم} فإن ذكروه فإنما يستعيذون من شرور أنفسهم لا من شرور الشيطان .

( د ) أهل الجنة في الجنة هل يقولون أعوذ باللّه .

( ه ) الأنبياء والصديقون لم يقولون {أعوذ باللّه} مع أن الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم في قوله " {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} " [ ص : ٨٢ ] .

( و ) الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم إلا في مجرد الدعوة حيث قال : " {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} " [ إبراهيم : ٢٢ ] وأما الإنسان فهو الذي ألقى نفسه في البلاء فكانت استعاذة الإنسان من شر نفسه أهم وألزم من استعاذته من شر الشيطان فلم بدأ بالجانب الأضعف وترك الجانب الأهم ؟

الكتاب الثاني

القسم الأول

في مباحث بسم اللّه الرحمن الرحيم

وفيه أبواب:

الباب الأول

في مسائل جارية مجرى المقدمات وفيه مسائل

المسألة الأولى : قد بينا أن الباء من {بسم اللّه الرحمن الرحيم} متعلقة بمضمر

فنقول : هذا المضمر يحتمل أن يكون اسما وأن يكون فعلا وعلى التقديرين فيجوز أن يكون متقدما وأن يكون متأخرا فهذه أقسام أربعة أما إذا كان متقدما وكان فعلا فكقولك : أبدأ باسم اللّه

وأما إذا كان متقدما وكان اسما فكقولك : ابتداء الكلام باسم اللّه

وأما إذا كان متأخرا وكان فعلا فكقولك : باسم اللّه أبدا

وأما إذا كان متأخرا وكان اسما فكقولك : باسم اللّه ابتدائي .

ويجب البحث ههنا عن شيئين :

 الأول : أن التقديم أولى أم التأخير ؟ فنقول كلاهما وارد في القرآن

أما التقديم فكقوله " {باسم اللّه مجراها ومرساها} "

وأما التأخير فكقوله " {اقرأ باسم ربك العلق : ١ ]

وأقول : التقديم عندي أولى ويدل عليه وجوه :

الأول : أنه تعالى قديم الوجود لذاته فيكون وجوده سابقا على غيره والسابق بالذات يستحق السبق في الذكر

الثاني : قال تعالى : " {هو الأول والآخر} " [ الحديد : ٣ ] وقال : " {للّه الأمر من قبل ومن بعد} " [ الروم : ٤ ]

الثالث : أن التقديم في الذكر أدخل في التعظيم

الرابع : أنه قال : " {إياك نعبد} " فههنا الفعل متأخر عن الاسم فوجب أن يكون في قوله {بسم اللّه} كذلك فيكون التقدير باسم اللّه أبتدئ

الخامس : سمعت الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رضي اللّه عنه يقول : سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول : حضر الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير الميهني مع الأستاذ أبي القاسم القشيري فقال الأستاذ القشيري : المحققون فإنهم ما رأوا شيئا إلا وكانوا قد رأوا اللّه قبله

قلت: وتحقيق الكلام أن الانتقال من المخلوق إلى الخالق إشارة إلى برهان الآن والنزول من الخالق إلى المخلوق برهان اللم ومعلوم أن برهان اللم أشرف وإذا ثبت هذا فمن أضمر الفعل أولا فكأنه انتقل من رؤية فعله إلى رؤية وجوب الاستعانة باسم اللّه ومن قال : باسم اللّه ثم أضمر الفعل ثانيا فكأنه رأى وجوب الاستعانة باللّه ثم نزل منه إلى أحوال نفسه .

المسألة الثانية : إضمار الفعل أولى أم إضمار الاسم قال الشيخ أبو بكر الرازي : نسق تلاوة القرآن يدل على أن المضمر هو الفعل وهو الأمر لأنه تعالى قال : " {إياك نعبد وإياك نستعين} " والتقدير : قولوا إياك نعبد وإياك نستعين فكذلك قوله : {بسم اللّه الرحمن الرحيم} التقدير : قولوا بسم اللّه

وأقول : لقائل أن يقول : بل إضمار الاسم أولى ؛ لأنا إذا قلنا : تقدير الكلام بسم اللّه ابتداء كل شيء كان هذا إخبارا عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث وخالقا لجميع الكائنات سواء قاله قائل أو لم يقله وسواء ذكره ذاكر أو لم يذكره ولا شك أن هذا الاحتمال أولى وتمام الكلام فيه يجيء في بيان أن يقال : قولوا الحمد للّه أو الأولى أن يقال : الحمد للّه ؛ لأنه إخبار عن كونه في نفسه مستحقا للحمد سواء قاله قائل أو لم يقله .

المسألة الثالثة : الجر يحصل بشيئين :

 أحدهما بالحرف كما في قوله : باسم

والثاني بالإضافة كما في اللّه من قوله : باسم اللّه

وأما الجر الحاصل في لفظ الرحمن الرحيم ؛ فإنما حصل لكون الوصف تابعا للموصوف في الإعراب فههنا أبحاث :

 أحدها أن حروف الجر لم اقتضت الجر ؟

وثانيها أن الإضافة لم اقتضت الجر

وثالثها : أن اقتضاء الحرف أقوى أو اقتضاء الإضافة

ورابعها : أن الإضافة على كم قسم تقع قالوا إضاقة الشيء إلى نفسه محال فبقي أن تقع الإضافة بين الجزء والكل أو بين الشيء والخارج عن ذات الشيء المنفصل عنه

أما القسم الأول فنحو باب حديد وخاتم ذهب ؛ لأن ذلك الباب بعض الحديد وذلك الخاتم بعض الذهب

وأما القسم الثاني ؛ فكقولك : غلام زيد ؛ فإن المضاف إليه مغاير للمضاف بالكلية

وأما أقسام النسب والإضافات ؛ فكأنها خارجة عن الضبط والتعديد ؛ فإن أنواع النسب غير متناهية .

المسألة الرابعة : كون الاسم اسما للشيء نسبة بين اللفظة المخصوصة التي هي الاسم وبين الذات المخصوصة التي هي المسمى وتلك النسبة معناها : أن الناس اصطلحوا على جعل تلك اللفظة المخصوصة معرفة لذلك الشيء المخصوص فكأنهم قالوا متى سمعتم هذه اللفظة منا فافهموا أنا أردنا بها ذلك المعنى الفلاني فلما حصلت هذه النسبة بين الاسم وبين المسمى لا جرم صحت إضافة الاسم إلى المسمى ؛ فهذا هو المراد من إضافة الاسم إلى اللّه تعالى .

المسألة الخامسة : قال أبو عبيد : ذكر الاسم في قوله : بسم اللّه صلة زائدة والتقدير : باللّه قال : وإنما ذكر لفظة الاسم أما للتبرك وأما ليكون فرقا بينه وبين القسم

وأقول : والمراد من قوله : بسم اللّه قوله : ابدءوا ببسم اللّه وكلام أبي عبيد ضعيف ؛ لأنا لما أمرنا بالابتداء ؛ فهذا الأمر إنما يتناول فعلا من أفعالنا وذلك الفعل هو لفظنا

وقولنا فوجب أن يكون المراد ابدأ بذكر اللّه والمراد : ابدأ ببسم اللّه وأيضا فالفائدة فيه أنه كما أن ذات اللّه تعالى أشرف الذوات ؛ فكذلك ذكره أشرف الأذكار واسمه أشرف الأسماء فكما أنه في الوجود سابق على كل ما سواه وجب أن يكون ذكره سابقا على كل الأذكار وأن يكون اسمه سابقا على كل الأسماء وعلى هذا التقدير ؛ فقد حصل في لفظ الاسم هذه الفوائد الجليلة .

الباب الثاني

فيما يتعلق بهذه الكلمة من القراءة والكتابة

أما المباحث المتعلقة بالقراءة فكثيرة :

 المسألة الأولى : أجمعوا على أن الوقف على قوله بسم ناقص قبيح وعلى قوله بسم اللّه أو على قوله بسم اللّه الرحمن كاف صحيح وعلى قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم تام .

واعلم أن الوقف لا بد وأن يقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة وهو أن يكون ناقصا أو كافيا أو كاملا فالوقف على كل كلام لا يفهم بنفسه ناقص والوقف على كل كلام مفهوم المعاني إلا أن ما بعده يكون متعلقا بما قبله يكون كافيا والوقف على كل كلام تام ويكون ما بعده منقطعا عنه يكون وقفا تاما .

ثم لقائل أن يقول : قوله الحمد للّه رب العالمين كلام تام إلا أن قوله الرحمن الرحيم ملك متعلق بما قبله لأنها صفات والصفات تابعة للموصوفات فإن جاز قطع الصفة عن الموصوف وجعلها وحدها آية فلم لم يقولوا بسم اللّه الرحمن آية ؟ ثم يقولوا الرحيم آية ثانية وإن لم يجز ذلك فكيف جعلوا الرحمن الرحيم آية مستقلة فهذا الإشكال لا بد من جوابه .

المسألة الثانية : أطبق القراء على ترك تغليظ اللام في قوله بسم اللّه وفي قوله الحمد للّه والسبب فيه أن الانتقال من الكسرة إلى اللام المفخمة ثقيل ؛ لأن الكسرة توجب التسفل واللام المفخمة حرف مستعل والانتقال من التسفل إلى التصعد ثقيل وإنما استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من هذه الكلمة في حال كونها مرفوعة أو منصوبة كقوله " {اللّه لطيف بعباده} " [ الشورى : ١٩ ] وقوله " {قل هو اللّه أحد} " [ الإخلاص : ١ ]

وقوله : " {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم} " [ التوبة : ١١١ ] .

المسألة الثالثة : قالوا المقصود من هذا التفخيم أمران :

 الأول : الفرق بينه وبين لفظ اللاة في الذكر

الثاني أن التفخيم مشعر بالتعظيم وهذا اللفظ يستحق المبالغة في التعظيم

الثالث أن اللام الرقيقة إنما تذكر بطرف اللسان

وأما هذه اللام المغلظة فإنما تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر فوجب أن يكون أدخل في الثواب ؛ وأيضا جاء في التوراة يا موسى أجب ربك بكل قلبك فههنا كان الإنسان يذكر ربه بكل لسانه وهو يدل على أنه يذكره بكل قلبه فلا جرم كان هذا أدخل في التعظيم .

المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء وكنسبة السين إلى الصاد فإن الدال تذكر بطرف اللسان والطاء تذكر بكل اللسان وكذلك السين تذكر بطرف اللسان والصاد تذكر بكل اللسان فثبت أن نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء وكنسبة السين إلى الصاد ثم أنا رأينا أن القوم قالوا الدال حرف والطاء حرف آخر وكذلك السين حرف والصاد حرف آخر فكان الواجب أيضا أن يقولوا : اللام الرقيقة حرف واللام الغليظة حرف آخر وأنهم ما فعلوا ذلك ولا بد من الفرق .

المسألة الخامسة : تشديد اللام من قولك اللّه للإدغام فإنه حصل هناك لامان

الأولى لام التعريف وهي ساكنة

والثانية لام الأصل وهي متحركة وإذا التقى حرفان مثلان من الحروف كلها وكان أول الحرفين ساكنا

والثاني متحركا أدغم الساكن في المتحرك ضرورة سواء كانا في كلمتين أو كلمة واحدة أما في الكلمتين فكما في قوله : " {فما ربحت تجارتهم وما بكم من نعمة ما لهم من اللّه} " [ البقرة : ١٦ ] وأما في الكلمة الواحدة فكما في هذه الكلمة.

واعلم أن الألف واللام والواو والياء إن كانت ساكنة امتنع اجتماع مثلين فامتنع الإدغام لهذا السبب وإن كانت متحركة واجتمع فيها مثلان كان الإدغام جائزا .

المسألة السادسة : لأرباب الإشارات والمجاهدات ههنا دقيقة وهي أن لام التعريف ولام الأصل من لفظة اللّه اجتمعا فأدغم أحدهما في الثاني فسقط لام المعرفة وبقي لام لفظة اللّه وهذا كالتنبيه على أن المعرفة إذا حصلت إلى حضرة المعروف سقطت المعرفة وفنيت وبطلت وبقي المعروف الأزلي كما كان من غير زيادة ولا نقصان .

المسألة السابعة : لا يجوز حذف الألف من قولنا اللّه في اللفظ وجاز ذلك في ضرورة الشعر عند الوقف عليه قال بعضهم : ( أقبل سيل جاء من عند اللّه يجود جود الجنة المغله ) انتهى ويتفرع على هذا البحث مسائل في الشريعة :

إحداها : أنه عند الحلف لو قال بله فهل ينعقد يمينه أم لا قال بعضهم : لا ؛ لأن قوله بله اسم للرطوبة فلا ينعقد اليمين وقال آخرون ينعقد اليمين به لأنه بحسب أصل اللغة جائز وقد نوى به الحلف فوجب أن تنعقد

ثانيها : لو ذكره على هذه الصفة عند الذبيحة هل يصح ذلك أم لا

وثالثها : لو ذكر قوله اللّه في قوله اللّه أكبر هل تنعقد الصلاة به أم لا ؟

المسألة الثامنة : لم يقرأ أحد اللّه بالإمالة إلا قتيبة في بعض الروايات انتهى .

المسألة التاسعة : تشديد الراء من قوله الرحمن الرحيم لأجل إدغام لام التعريف في الراء ولا خلاف بين القراء في لزوم إدغام لام التعريف في اللام وفي ثلاثة عشر حرفا سواه وهي : الصاد والضاد والسين والشين والدال والذال والراء والزاي والطاء والظاء والتاء والثاء والنون انتهى كقوله تعالى : " {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} " [ التوبة : ١١٢ ] والعلة الموجبة لجواز هذا الإدغام قرب المخرج فإن اللام وكل هذه الحروف المذكورة مخرجها من طرف اللسان وما يقرب منه فحسن الإدغام ولا خلاف بين القراء في امتناع إدغام لام التعريف فيما عدا هذه الثلاثة عشر كقوله : العابدون الحامدون الآمرون بالمعروف كلها بالإظهار وإنما لم يجز الإدغام فيها لبعد المخرج فإنه إذا بعد مخرج الحرف

الأول عن مخرج الحرف

الثاني ثقل النطق بهما دفعة فوجب تمييز كل واحد منهما عن الاخر بخلاف الحرفين اللذين يقرب مخرجاهما لأن التمييز بينهما مشكل صعب .

المسألة العاشرة : أجمعوا على أنه لا يمال لفظ الرحمن وفي جواز إمالته قولان للنحويين

أحدهما : أنه يجوز ولعله قول سيبويه وعلة جوازه انكسار النون بعد الألف

والقول الثاني وهو الأظهر عند النحويين أنه لا يجوز .

المسألة الحادية عشرة : أجمعوا على أن إعراب الرحمن الرحيم هو الجر لكونهما صفتين للمجرور الأول إلا أن الرفع والنصب جائزان فيهما بحسب النحو

أما الرفع فعلى تقدير بسم اللّه هو الرحمن الرحيم

وأما النصب فعلى تقدير بسم اللّه أعني الرحمن الرحيم .

النوع الثاني من مباحث هذا الباب ما يتعلق بالخط وفيه مسائل :

 المسألة الأولى : طولوا الباء من بسم اللّه وما طولوها في سائر المواضع وذكروا في الفرق وجهين :

 الأول : أنه لما حذفت ألف الوصل بعد الباء طولوا هذه الباء ليدل طولها على الألف المحذوفة التي بعدها ألا ترى أنهم لما كتبوا " {اقرأ باسم ربك} " [ العلق : ١ ] بالألف ردوا الباء إلى صفتها الأصلية

الثاني : قال القتيبي : إنما طولوا الباء لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب اللّه إلا بحرف معظم وكان عمر بن عبد العزيز يقول لكتابه : طولوا الباء وأظهروا السين ودوروا الميم ؛ تعظيما لكتاب اللّه .

المسألة الثانية : قال أهل الإشارة والباء حرف منخفض في الصورة فلما اتصل بكتبه لفظ اللّه ارتفعت واستعلت فنرجو أن القلب لما اتصل بخدمة اللّه عز وجل أن يرتفع حاله ويعلو شأنه .

المسألة الثالثة : حذفوا ألف اسم من قوله بسم اللّه وأثبتوه في قوله : اقرأ باسم ربك والفرق من وجهين :

 الأول : أن كلمة بسم اللّه مذكورة في أكثر الأوقات عند أكثر الأفعال فلأجل التخفيف حذفوا الألف بخلاف سائر المواضع فإن ذكرها قليل .

الثاني : قال الخليل : إنما حذفت الألف في قوله بسم اللّه لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط وإنما لم تسقط في قوله اقرأ باسم ربك لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع كما في بسم اللّه لأنه يمكن حذف الباء من اقرأ باسم ربك مع بقاء المعنى صحيحا فإنك لو قلت اقرأ اسم ربك صح المعنى أما لو حذفت الباء من بسم اللّه لم يصح المعنى فظهر الفرق .

المسألة الرابعة : كتبوا لفظة اللّه بلامين وكتبوا لفظة الذي بلام واحدة مع استوائهما في اللفظ وفي كثرة الدوران على الألسنة وفي لزوم التعريف والفرق من وجوه :

 الأول أن قولنا اللّه اسم معرب متصرف تصرف الأسماء فأبقوا كتابته على الأصل

أما قولنا الذي فهو مبني لأجل أنه ناقص ؛ لأنه لا يفيد إلا مع صلته فهو كبعض الكلمة ومعلوم أن بعض الكلمة يكون مبنيا فأدخلوا فيه النقصان لهذا السبب ألا ترى أنهم كتبوا قولهم اللذان بلامين لأن التثنية أخرجته عن مشابهة الحروف فإن الحرف لا يثنى .

الثاني : أن قولنا اللّه لو كتب بلام واحدة لالتبس بقوله إله وهذا الالتباس غير حاصل في قولنا الذي .

الثالث : أن تفخيم ذكر اللّه في اللفظ واجب فكذا في الخط والحذف ينافي التفخيم

وأما قولنا الذي فلا تفخيم له في المعنى فتركوا أيضا تفخيمه في الخط .

المسألة الخامسة : إنما حذفوا الألف قبل الهاء من قولنا اللّه في الخط لكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة بالصورة عند الكتابة وهو مثل كراهتهم اجتماع الحروف المتماثلة في اللفظ عند القراءة .

المسألة السادسة : قالوا : الأصل في قولنا اللّه الإله وهي ستة حروف فلما أبدلوه بقولهم اللّه بقيت أربعة أحرف في الخط همزة ولامان وهاء ؛ فالهمزة من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان والهاء من أقصى الحلق وهو إشارة إلى حالة عجيبة فإن أقصى الحلق مبدأ التلفظ بالحروف ثم لا يزال يترقى قليلا إلى أن يصل إلى طرف اللسان ثم يعود إلى الهاء الذي هو في داخل الحلق ومحل الروح فكذلك العبد يبتدىء من أول حالته التي هي حالة النكرة والجهالة ويترقى قليلا في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار أخذ يرجع قليلا قليلا حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد فهو إشارة إلى ما قيل : النهاية رجوع إلى البداية.

المسألة السابعة : إنما جاز حذف الألف قبل النون من الرحمن في الخط على سبيل التخفيف ولو كتب بالألف حسن ولا يجوز حذف الياء من الرحيم لأن حذف الألف من الرحم لا يخل بالكلمة ولا يحصل فيها التباس بخلاف حذف الياء من الرحيم .

الباب الثالث

من هذا الكتاب في مباحث الاسم

وهي نوعان

أحدهما : ما يتعلق من المباحث النقلية بالاسم

والثاني : ما يتعلق من المباحث العقلية بالاسم .

النوع الأول : وفيه مسائل :

 المسألة الأولى : في هذا اللفظ لغتان مشهورتان تقول العرب : هذا اسمه وسمه قال : باسم الذي في كل سورة سمه .

وقيل : فيه لغتان غيرهما سم وسم قال الكسائي : إن العرب تقول تارة إسم بكسر الألف وأخرى بضمه فإذا طرحوا الألف قال الذين لغتهم كسر الألف سم وقال الذين لغتهم ضم الألف سم وقال ثعلب : من جعل أصله من سما يسمى قال إسم وسم ومن جعل أصله من سما يسمو قال اسم وسم وقال المبرد : سمعت العرب تقول اسمه واسمه وسمه وسمه وسماه .

المسألة الثانية : أجمعوا على أن تصغير الاسم سمي وجمعه أسماء وأسامي .

المسألة الثالثة : في اشتقاقه قولان : قال البصريون : هو مشتق من سما يسمو إذا علا وظهر فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر ذلك الشيء به

وأقول : اللفظ معرف للمعنى ومعرف الشيء متقدم في المعلومية على المعرف فلا جرم كان الاسم عاليا على المعنى ومتقدما عليه وقال الكوفيون : هو مشتق من وسم يسم سمة والسمة العلامة فالاسم كالعلامة المعرفة للمسمى حجة البصريين لو كان اشتقاق الاسم من السمة لكان تصغيره وسيما وجمعه أوساما .

المسألة الرابعة : الذين قالوا اشتقاقه من السمة قالوا أصله من وسم يسم ثم حذف منه الواو ثم زيد فيه ألف الوصل عوضا عن المحذوف كالعدة والصفة والزنة أصله الوعد والوصف والوزن أسقط منها الواو وزيد فيها الهاء

وأما الذين قالوا اشتقاقه من السمو وهو العلو فلهم قولان :

 الأول : أن أصل الاسم من سما يسمو وسما يسمى والأمر فيه اسم : كقولنا ادع من دعوت أو اسم مثل ارم من رميت ثم إنهم جعلوا هذه الصيغة اسما وأدخلوا عليها وجوه الأعراب وأخرجوها عن حد الأفعال قالوا : وهذا كما سموا البعير يعملا وقال الأخفش : هذا مثل الآن فإن أصله آن يئين إذا حضر ثم ادخلوا الألف واللام على الماضي من فعله وتركوه مفتوحا

والقول الثاني : أصله سمو مثل حمو وإنما حذفت الواو من آخره استثقالا لتعاقب الحركات عليها مع كثرة الدوران وإنما أعربوا الميم لأنها صارت بسبب حذف الواو آخر الكلمة فنقل حركة الواو إليها وإنما سكنوا السين لأنه لما حذفت الواو بقي حرفان أحدهما ساكن والآخر متحرك فلما حرك الساكن وجب تسكين المتحرك ليحصل الاعتدال وإنما أدخلت الهمزة في أوله لأن الابتداء بالساكن محال فاحتاجوا إلى ذكر ما يبتدأ به وإنما خصت الهمزة بذلك لأنها من حروف الزيادة .

النوع الثاني من مباحث هذا الباب المسائل العقلية :

فنقول : أما حد الاسم وذكر أقسامه وأنواعه فقد تقدم ذكره في أول هذا الكتاب وبقي ههنا مسائل :

 المسألة الأولى : قالت الحشوية والكرامية والأشعرية : الاسم نفس المسمى وغير التسمية وقالت المعتزلة : الاسم غير المسمى ونفس التسمية والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية .

وقبل الخوض في ذكر الدلائل لا بد من التنبيه على مقدمة ؛ وهي أن قول القائل الاسم هل هو نفس المسمى أم لا يجب أن يكون مسبوقا ببيان أن الاسم ما هو وأن المسمى ما هو حتى ينظر بعد ذلك في أن الاسم هل هو نفس المسمى أم لا

فنقول : إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة وبالمسمى تلك الذوات في أنفسها وتلك الحقائق بأعيانها فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى والخوض في هذه المسألة على هذا التقدير يكون عبثا وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى وبالمسمى أيضا تلك الذات كان قولنا الاسم هو المسمى معناه أن ذات الشيء عين الشيء وهذا وإن كان حقا إلا أنه من باب إيضاح الواضحات وهو عبث فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث .

المسألة الثانية : اعلم أنا استخرجنا لقول من يقول الاسم نفس المسمى تأويلا لطيفا دقيقا وبيانه أن الاسم اسم لكل لفظ دل على معنى من غير أن يدل على زمان معين ولفظ الاسم كذلك فوجب أن يكون لفظ الاسم اسما لنفسه فيكون لفظ الاسم مسمى بلفظ الاسم ففي هذه الصورة الاسم نفس المسمى إلا أن فيه إشكالا وهو أن كون الاسم اسما للمسمى من باب الاسم المضاف وأحد المضافين لا بد وأن يكون مغايرا للآخر .

المسألة الثالثة :

في ذكر الدلائل الدالة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى

وفيه وجوه :

 الأول : أن الاسم قد يكون موجودا مع كون المسمى معدوما فإن قولنا المعدوم منفي معناه سلب لا ثبوت له والألفاظ موجودة مع أن المسمى بها عدم محض ونفي صرف وأيضا قد يكون المسمى موجودا والاسم معدوما مثل الحقائق التي ما وضعوا لها أسماء معينة وبالجملة فثبوت كل واحد منهما حال عدم الآخر معلوم مقرر وذلك يوجب المغايرة .

الثاني : أن الأسماء تكون كثيرة مع كون المسمى واحدا كالأسماء المترادفة وقد يكون الاسم واحدا والمسميات كثيرة كالأسماء المشتركة وذلك أيضا يوجب المغايرة .

الثالث : أن كون الاسم اسما للمسمى وكون المسمى بالاسم من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية وأحد المضافين مغاير للآخر ولقائل أن يقول : يشكل هذا بكون الشيء عالما بنفسه .

الرابع : الاسم أصوات مقطعة وضعت لتعريف المسميات وتلك الأصوات أعراض غير باقية والمسمى قد يكون باقيا بل يكون واجب الوجود لذاته .

الخامس : أنا إذا تلفظنا بالنار والثلج فهذان اللفظان موجودان في ألسنتنا فلو كان الاسم نفس المسمى لزم أن يحصل في ألسنتنا النار والثلج وذلك لا يقوله عاقل .

السادس : قوله تعالى : " {وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها} " [ الأعراف : ١٨٠ ] وقوله صلى اللّه عليه وسلم إن للّه تعالى تسعة وتسعين اسما فههنا الأسماء كثيرة والمسمى واحد وهو اللّه عز وجل .

السابع : أن قوله تعالى : بسم اللّه وقوله : " {تبارك اسم ربك} " [ الرحمن : ٧٨ ] ففي هذه الآيات يقتضي إضافة الاسم إلى اللّه تعالى وإضافة الشيء إلى نفسه محال .

الثامن : أنا ندرك تفرقة ضرورية بين قولنا اسم اللّه وبين قولنا اسم الاسم وبين قولنا اللّه اللّه وهذا يدل على أن الاسم غير المسمى .

التاسع: أنا نصف الأسماء بكونها عربية وفارسية فنقول : اللّه اسم عربي وخداي اسم فارسي

وأما ذات اللّه تعالى فمنزه عن كونه كذلك .

العاشر : قال اللّه تعالى " {وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها} " [ الأعراف : ١٨٠ ] أمرنا بأن ندعو اللّه بأسمائه فالاسم آلة الدعاء والمدعو هو اللّه تعالى والمغايرة بين ذات المدعو وبين اللفظ الذي يحصل به الدعاء معلوم بالضرورة .

واحتج من قال الاسم هو المسمى بالنص

والحكم أما النص فقوله تعالى : " {تبارك اسم ربك} " [ الرحمن : ٧٨ ] والمتبارك المتعالي هو اللّه تعالى لا الصوت ولا الحرف

وأما الحكم فهو أن الرجل إذا قال : زينب طالق وكان زينب اسما لامرأته وقع عليها الطلاق ولو كان الاسم غير المسمى لكان قد أوقع الطلاق على غير تلك المرأة فكان يجب أن لا يقع الطلاق عليها .

والجواب عن الأول أن يقال: لم لا يجوز أن يقال : كما أنه يجب علينا أن نعتقد كونه تعالى منزها عن النقائص والآفات فكذلك يجب علينا تنزيه الألفاظ الموضوعة لتعريف ذات اللّه تعالى وصفاته عن العبث والرفث وسوء الأدب.

وعن الثاني أن قولنا زينب طالق معناه أن الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق فلهذا السبب وقع الطلاق عليها.

المسألة الرابعة : التسمية عندنا غير الاسم والدليل عليه أن التسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته

وأما الاسم فهو عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق بينهما معلوم بالضرورة .

المسألة الخامسة : قد عرفت أن الألفاظ الدالة على تلك المعاني تستتبع ذكر الألفاظ الدالة على ارتباط بعضها بالبعض فلهذا السبب الظاهر وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف

فأما الأفعال والأسماء فأيهما أسبق ؟ الأظهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال ويدل عليه وجوه :

الأول : أن الاسم لفظ دال على الماهية والفعل لفظ دال على حصول الماهية بشيء من الأشياء في زمان معين فكان الاسم مفردا والفعل مركبا والمفرد سابق على المركب بالذات والرتبة فوجب أن يكون سابقا عليه في الذكر واللفظ .

الثاني : أن الفعل يمتنع التلفظ به إلا عند الإسناد إلى الفاعل

أما اللفظ الدال على ذلك الفاعل فقد يجوز التلفظ به من غير أن يسند إليه الفعل فعلى هذا الفاعل غني عن الفعل والفعل محتاج إلى الفاعل والغني سابق بالرتبة على المحتاج فوجب أن يكون سابقا عليه في الذكر .

الثالث : أن تركيب الاسم مع الاسم مفيد وهو الجملة المركبة من المبتدأ والخبر

أما تركيب الفعل مع الفعل فلا يفيد البتة بل ما لم يحصل في الجملة الاسم لم يفد البتة فعلمنا أن الاسم متقدم بالرتبة على الفعل فكان الأظهر تقدمه عليه بحسب الوضع .

المسألة السادسة : قد علمت أن الاسم قد يكون اسما للماهية من حيث هي هي وقد يكون اسما مشتقا وهو الاسم الدال على كون الشيء موصوفا بالصفة الفلانية كالعالم والقادر والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على المشتقات لأن الماهيات مفردات والمشتقات مركبات والمفرد قبل المركب .

المسألة السابعة : يشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها ؛ لأنا لا نعرف الذوات إلا بواسطة الصفات القائمة بها والمعرف معلوم قبل المعرف والسبق في المعرفة يناسب السبق في الذكر .

المسألة الثامنة : في أقسام الأسماء الواقعة على المسميات : اعلم أنها تسعة

فأولها الاسم الواقع على الذات

وثانيها الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزاء ذاته كما إذا قلنا للجدار إنه جسم وجوهر

وثالثها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كقولنا للشيء إنه أسود وأبيض وحار وبارد فإن السواد والبياض والحرارة والبرودة صفات حقيقية قائمة بالذات لا تعلق لها بالأشياء الخارجية

ورابعها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية فقط كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومذكور ومالك ومملوك

وخامسها الاسم الواقع على الشيء بحسب حالة سلبية كقولنا أنه أعمى وفقير وقولنا إنه سليم عن الآفات خال عن المخالفات

وسادسها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كقولنا للشيء إنه عالم وقادر فإن العلم عند الجمهور صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات والقدرة صفة حقيقية ولها إضافة إلى المقدورات

وسابعها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئا .

وثامنها الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية مع صفة سلبية مثل لفظ الأول فإنه عبارة عن مجموع أمرين

أحدهما أن يكون سابقا على غيره وهو صفة إضافية

والثاني أن لا يسبقه غيره وهو صفة سلبية ومثل القيوم فإن معناه كونه قائما بنفسه مقوما لغيره فقيامه بنفسه أنه لا يحتاج إلى غيره وتقويمه لغيره احتياج غيره إليه والأول سلب والثاني إضافة

وتاسعها الاسم الواقع على الشيء بحسب مجموع صفة حقيقية وإضافية وسلبية فهذا هو القول في تقسيم الأسماء وسواء كان الاسم اسما للّه سبحانه وتعالى أو لغيره من أقسام المحدثات فإنه لا يوجد قسم آخر من أقسام الأسماء غير ما ذكرناه .

المسألة التاسعة : في بيان أنه هل للّه تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا ؟ اعلم أن الخوض في هذه المسألة مسبوق بمقدمات عالية من المباحث الإلهية .

المقدمة الأولى : أنه تعالى مخالف لخلقه لذاته المخصوصة لا لصفة والدليل عليه أن ذاته من حيث هي هي مع قطع النظر عن سائر الصفات إن كانت مخالفة لخلقه فهو المطلوب وإن كانت مساوية لسائر الذوات فحينئذ تكون مخالفة ذاته لسائر الذوات لا بد وأن يكون لصفة زائدة فاختصاص ذاته بتلك الصفة التي لأجلها وقعت المخالفة إن لم يكن لأمر البتة فحينئذ لزم رجحان الجائز لا لمرجح وإن كان لأمر آخر لزم

أما التسلسل وأما الدور وهما محالان

فإن قيل هي قولنا فهذا يقتضي أن تكون خصوصية تلك الصفة لصفة أخرى ويلزم منه التسلسل وهو محال .

المقدمة الثانية : أنا نقول : إنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر لأن سلب الجسمية والجوهرية مفهوم سلبي وذاته المخصوصة أمر ثابت والمغايرة بين السلب والثبوت معلوم بالضرورة وأيضا فذاته المخصوصة ليست عبارة عن نفس القادرية والعالمية لأن المفهوم من القادرية والعالمية مفهومات إضافية وذاته ذات قائمة بنفسها والفرق بين الموجود القائم بالنفس وبين الاعتبارات النسبية والإضافية معلوم بالضرورة .

المقدمة الثالثة : في بيان أنا في هذا الوقت لا نعرف ذاته المخصوصة ويدل عليه وجوه :

 الأول : أنا إذا رجعنا إلى عقولنا وأفهامنا لم نجد عند عقولنا من معرفة اللّه تعالى إلا أحد أمور أربعة :

أما العلم بكونه موجودا

وأما العلم بدوام وجوده

وأما العلم بصفات الجلال وهي الاعتبارات السلبية

وأما العلم بصفات الإكرام وهي الاعتبارات الإضافية وقد ثبت بالدليل أن ذاته المخصوصة مغايرة لكل واحد من هذه الأربعة ؛ فإنه ثبت بالدليل أن حقيقته غير وجوده وإذا كان كذلك كانت حقيقته أيضا مغايرة لدوام وجوده وثبت أن حقيقته غير سلبية وغير إضافية وإذا كان لا معلوم عند الخلق إلا أحد هذه الأمور الأربعة وثبت أنها مغايرة لحقيقته المخصوصة ثبت أن حقيقته المخصوصة غير معلومة للبشر .

الثاني : أن الاستقراء التام يدل على أنا لا يمكننا أن نتصور امرا من الأمور إلا من طرق أمور أربعة :

أحدها الأشياء التي أدركناها بإحدى هذه الحواس الخمس

وثانيها الأحوال التي ندركها من أحوال أبداننا كالألم واللذة والجوع والعطش والفرح والغم

وثالثها الأحوال التي ندركها بحسب عقولنا مثل علمنا بحقيقة الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان

ورابعها الأحوال التي يدركها العقل والخيال من تلك الثلاثة فهذه الأشياء هي التي يمكننا أن نتصورها وأن ندركها من حيث هي هي فإذا ثبت هذا وثبت أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مغايرة لهذه الأقسام ثبت أن حقيقته غير معقولة للخلق .

الثالث : أن حقيقته المخصوصة علة لجميع لوازمه من الصفات الحقيقية والإضافية والسلبية والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ولو كانت حقيقته المخصوصة معلومة لكانت صفاته بأسرها معلومة بالضرورة وهذا معدوم فذاك معدوم فثبت أن حقيقة الحق غير معقولة للبشر .

المقدمة الرابعة : في بيان أنها وإن لم تكن معقولة للبشر فهل يمكن أن تصير معقولة لهم .

المقدمة الخامسة : في بيان أن البشر وإن امتنع في عقولهم إدراك تلك الحقيقة المخصوصة فهل يمكن ذلك العرفان في حق جنس الملائكة أو في حق فرد من أفرادهم ؟ الإنصاف أن هذه المباحث صعبة والعقل كالعاجز القاصر في الوفاء بها كما ينبغي وقال بعضهم : عقول المخلوقات ومعارفهم متناهية والحق تعالى غير متناه والمتناهي يمتنع وصوله إلى غير المتناهي ولأن أعظم الأشياء هو اللّه تعالى وأعظم العلوم علم اللّه سبحانه وتعالى وأعظم الأشياء لا يمكن معرفته إلا بأعظم العلوم فعلى هذا لا يعرف اللّه إلا اللّه .

المقدمة السادسة : اعلم أن معرفة الأشياء على نوعين : معرفة عرضية ومعرفة ذاتية :

أما المعرفة العرضية فكما إذا رأينا بناءا علمنا بأنه لا بد له من بان

فأما أن ذلك الباني كيف كان في ماهيته وأن حقيقته من أي أنواع الماهيات فوجود البناء لا يدل عليه

وأما المعرفة الذاتية فكما إذا عرفنا اللون المعين ببصرنا وعرفنا الحرارة بلمسنا وعرفنا الصوت بسمعنا فإنه لا حقيقة للحرارة والبرودة إلا هذه الكيفية الملموسة ولا حقيقة للسواد والبياض إلا هذه الكيفية المرئية إذا عرفت هذا

فنقول : أنا إذا علمنا احتياج المحدثات إلى محدث وخالق فقد عرفنا اللّه تعالى معرفة عرضية إنما الذي نفيناه الآن هو المعرفة الذاتية فلتكن هذه الدقيقة معلومة حتى لا تقع في الغلط .

المقدمة السابعة : اعلم أن إدراك الشيء من حيث هو هو - أعني ذلك النوع الذي سميناه بالمعرفة الذاتية - يقع في الشاهد على نوعين :

 أحدهما : العلم

والثاني : الإبصار فإنا إذا أبصرنا السواد ثم غمضنا العين فإنا نجد تفرقة بديهية بين الحالتين فعلمنا أن العلم غير وأن الإبصار غير إذا عرفت هذا

فنقول : بتقدير أنه يقال يمكن حصول المعرفة الذاتية للخلق فهل لتلك المعرفة ولذلك الإدراك طريق واحد فقط أو يمكن وقوعه على طريقين مثل ما في الشاهد من العلم والإبصار ؟ هذا أيضا مما لا سبيل للعقل إلى القضاء به والجزم فيه وبتقدير أن يكون هناك طريقان

أحدهما المعرفة

والثاني الإبصار فهل الأمر هناك مقصور على هذين الطريقين أو هناك طرق كثيرة ومراتب مختلفة ؟ كل هذه المباحث مما لا يقدر العقل على الجزم فيها البتة فهذا هو الكلام في هذه المقدمات .

المسألة العاشرة :

في أنه هل للّه تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا ؟

نقل عن قدماء الفلاسفة إنكاره قالوا : والدليل عليه أن المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمى فلو كان للّه بحسب ذاته اسم لكان المراد من وضع ذلك الاسم ذكره مع غيره لتعريف ذلك المسمى فإذا ثبت أن أحدا من الخلق لا يعرف ذاته المخصوصة البتة لم يبق في وضع الاسم لتلك الحقيقة فائدة فثبت أن هذا النوع من الاسم مفقود فعند هذا قالوا : إنه ليس لتلك الحقيقة اسم بل له لوازم معرفة وتلك اللوازم هي أنه الأزلي الذي لا يزول وأنه الواجب الذي لا يقبل العدم

وأما الذين قالوا إنه لا يمتنع في قدرة اللّه تعالى أن يشرف بعض المقربين من عباده بأن يجعله عارفا بتلك الحقيقة المخصوصة قالوا إذا كان الأمر كذلك فحينئذ لا يمتنع وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة فثبت أن هذه المسألة مبنية على تلك المقدمات السابقة .

المسألة الحادية عشرة : بتقدير أن يكون وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكنا وجب القطع بأن ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار لأن شرف العلم بشرف المعلوم وشرف الذكر بشرف المذكور فلما كان ذات اللّه تعالى أشرف المعلومات والمذكورات كان العلم به أشرف العلوم وكان ذكر اللّه أشرف الأذكار وكان ذلك الاسم أشرف الأسماء وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة وهو اسم اللّه الأعظم ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانيات والروحانيات .

المسألة الثانية عشرة : القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه :

 الأول : قول من يقول إن ذلك الاسم الأعظم هو قولنا " {ذو الجلال ولإكرام} " [ الرحمن : ٢٧ ] وورد فيه قوله عليه الصلاة والسلام ألظوا بياذا الجلال والإكرام وهذا عندي ضعيف لأن الجلال إشارة إلى الصفات السلبية والإكرام إشارة إلى الصفات الإضافية وقد عرفت أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات .

والقول الثاني : قول من يقول أنه هو الحي القيوم لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بن كعب : ما اعظم آية في كتاب اللّه تعالى ؟ فقال : " {اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} " [ البقرة : ٢٥٥ ] فقال ليهنك العلم أبا المنذر وعندي أنه ضعيف وذلك لأن الحي هو الدراك الفعال وهذا ليس فيه كثرة عظمة لأنه صفة

وأما القيوم فهو مبالغة في القيام ومعناه كونه قائما بنفسه مقوما لغيره فكونه قائما بنفسه مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره وكونه مقوما لغيره صفة إضافية فالقيوم لفظ دال على مجموع سلب وإضافة فلا يكون ذلك عبارة عن الاسم الأعظم .

القول الثالث : قول من يقول : أسماء اللّه كلها عظيمة مقدسة ولا يجوز وصف الواحد منها بأنه أعظم ؛ لأن ذلك يقتضي وصف ما عداه بالنقصان وعندي أن هذا أيضا ضعيف لأنا بينا أن الأسماء منقسمة إلى الأقسام التسعة وبينا أن الاسم الدال على الذات المخصوصة يجب أن يكون أشرف الأسماء وأعظمها وإذا ثبت هذا بالدلائل فلا سبيل فيه إلى الإنكار .

القول الرابع : أن الاسم الأعظم هو قولنا اللّه وهذا هو الأقرب عندي لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه وإذا كان كذلك كان دالا على ذاته المخصوصة .

المسألة الثالثة عشرة : أما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزاء ماهية المسمى فهذا في حق اللّه تعالى محال لأن هذا إنما يتصور في حق من كانت ماهيته مركبة من الأجزاء وذلك في حق اللّه محال لأن كل مركب فإنه محتاج إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فإنه محتاج إلى غيره وكل محتاج إلى غيره فهو ممكن ينتج أن كل مركب فهو ممكن لذاته فما لا يكون ممكنا لذاته امتنع أن يكون مركبا وما لا يكون مركبا امتنع أن يحصل له اسم بحسب جزء ماهيته .

المسألة الرابعة عشرة : اعلم أنا بينا أن الاسم الدال على الذات هل هو حاصل في حق اللّه تعالى أم لا قد ذكرنا اختلاف الناس فيه

وأما الاسم الدال بحسب جزء الماهية فقد أقمنا البرهان القاطع على امتناع حصوله في حق اللّه تعالى فبقيت الأقسام السبعة فنقول :

أما الاسم الدال على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة فتلك الصفة

أما أن تكون هي الوجود

وأما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود

وأما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات ذلك الوجود ونحن نذكر المسائل المفرعة على هذه الأقسام واللّه الهادي .

الباب الرابع

في البحث عن الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية

قد عرفت أن هذا البحث ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

 الأول : الأسماء الدالة على الوجود وفيه مسائل :

 المسألة الأولى : أطبق الأكثرون على أنه يجوز تسمية اللّه تعالى باسم الشيء ونقل عن جهم بن صفوان أن ذلك غير جائز

أما حجة الجمهور فوجوه :

الحجة الأولى : قوله تعالى " {قل أي شيء أكبر شهادة قل اللّه} " [ الأنعام : ١٩ ] وهذا يدل على أنه يجوز تسمية اللّه باسم الشيء

فإن قيل : لو كان الكلام مقصورا على قوله قل اللّه لكان دليلكم حسنا لكن ليس الأمر كذلك بل المذكور هو قوله تعالى : " {قل اللّه شهيد بيني وبينكم} " [ الأنعام : ١٩ ] وهذا كلام مستقل بنفسه ولا تعلق له بما قبله وحينئذ لا يلزم أن يكون اللّه تعالى مسمى باسم الشيء .

قلنا : لما قال أي شيء أكبر شهادة ثم قال قل اللّه شهيد بيني وبينكم وجب أن تكون هذه الجملة جارية مجرى الجواب عن قوله أي شيء أكبر شهادة وحينئذ يلزم المقصود .

الحجة الثانية : قوله تعالى : " {كل شيء هالك إلا وجهه} " [ القصص : ٨٨ ] والمراد بوجهه ذاته ولو لم تكن ذاته شيئا لما جز استثناؤه عن قوله : كل شيء هالك وذلك يدل على أن اللّه تعالى مسمى بالشيء .

الحجة الثالثة : قوله عليه السلام في خبر عمران بن الحصين كان اللّه ولم يكن شيء غيره وهذا يدل على أن اسم الشيء يقع على اللّه تعالى .

الحجة الرابعة : روى عبد اللّه الأنصاري في الكتاب الذي سماه بالفاروق عن عائشة رضي اللّه عنها أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما من شيء أغير من اللّه عز وجل .

الحجة الخامسة : أن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه وذات اللّه تعالى كذلك فيكون شيئا .

واحتج جهم بوجوه :

الحجة الأولى : قوله تعالى : " {اللّه خالق كل شيء} " [ الرعد : ١٦ ] وكذلك قوله " {وهو على كل شيء قدير} " [ المائدة : ١٢٠ ] فهذا يقتضي أن يكون كل شيء مخلوقا ومقدورا واللّه تعالى ليس بمخلوق ولا مقدور ينتج أن اللّه سبحانه وتعالى ليس بشيء .

فإن قالوا إن قوله تعالى اللّه خالق كل شيء وقوله : وهو على كل شيء قدير عام دخله التخصيص

قلنا الجواب عنه من وجهين :

 الأول أن التخصيص خلاف الأصل والدلائل اللفظية يكفي في تقريرها هذا القدر الثاني أن الأصل في جواز التخصيص هو أن أهل العرف يقيمون الأكثر مقام الكل فلهذا السبب جوزوا دخول التخصيص في العموميات إلا أن إجراء الأكثر مجرى الكل إنما يجوز في الصورة التي يكون الخارج عن الحكم حقيرا قليل القدر فيجعل وجوده كعدمه ويحكم على الباقي بحكم الكل فثبت أن التخصيص إنما يجوز في الصورة التي تكون حقيرة ساقطة الدرجة إذا عرفت هذا فنقول إن بتقدير أن يكون اللّه تعالى مسمى بالشيء كان أعظم الأشياء وأجلها هو اللّه تعالى فامتنع أن يحصل فيه جواز التخصيص فوجب القول بأن ادعاء هذا التخصيص محال .

الحجة الثانية : قوله تعالى : " {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} " [ الشورى : ١١ ] حكم اللّه تعالى بأن مثل مثله ليس بشيء ولا شك أن كل شيء مثل لمثل نفسه وثبت بهذه الآية أن مثل مثله ليس بشيء ينتج أنه تعالى غير مسمى بالشيء

فإن قالوا إن الكاف زائدة

قلنا هذا الكلام معناه أن هذا الحرف من كلام اللّه تعالى لغو وعبث وباطل ومعلوم أن هذا الكلام هو الباطل ومتى قلنا إن هذا الحرف ليس بباطل صارت الحجة التي ذكرناها في غاية القوة والكمال .

الحجة الثالثة : لفظ الشيء لا يفيد صفة من صفات الجلال والعظمة والمدح والثناء وأسماء اللّه تعالى يجب كونها كذلك ينتج أن لفظ الشيء ليس اسما للّه تعالى .

أما قولنا إن اسم الشيء لا يفيد المدح والجلال فظاهر وذلك لأن المفهوم من لفظ الشيء قدر مشترك بين الذرة الحقيرة وبين أشرف الأشياء وإذا كان كذلك كان المفهوم من لفظ الشيء حاصلا في أخس الأشياء وذلك يدل على أن اسم الشيء لا يفيد صفة المدح والجلال

وأما قولنا : أن أسماء اللّه يجب أن تكون دالة على صفة المدح والجلال فالدليل عليه قوله تعالى " {وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها وذورا الذين يلحدون في أسمائه} " [ الأعراف : ١٨٠ ]

والاستدلال بالآية أن يكون الأسماء حسنة لا معنى له إلا كونها دالة على الصفات الحسنة الرفيعة الجليلة فإذا لم يدل الاسم على هذا المعنى لم يكن الاسم حسنا ثم إنه تعالى أمرنا بان ندعوه بهذه الأسماء ثم قال بعد ذلك " {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} " [ الأعراف : ١٨٠ ]

وهذا كالتنبيه على أن من دعاه بغير تلك الأسماء الحسنة فقد ألحد في أسماء اللّه فتصير هذه الآية دالة دلالة قوية على أنه ليس للعبد أن يدعو اللّه إلا بالأسماء الحسنى الدالة على صفات الجلال والمدح وإذا ثبت هاتان المقدمتان فقد حصل المطلوب .

الحجة الرابعة : أنه لم ينقل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه خاطب اللّه تعالى بقوله يا شيء وكيف يقال ذلك وهذا اللفظ في غاية الحقارة فكيف يجوز للعبد خطاب اللّه بهذا الاسم بل نقل عنهم أنهم كانوا يقولون : يا منشئ الأشياء يا منشئ الأرض والسماء .

واعلم أن من الناس من يظن أن هذا البحث واقع في المعنى وهذا في غاية البعد فإنه لا نزاع في أن اللّه تعالى موجود وذات وحقيقة إنما النزاع في أنه هل يجوز إطلاق هذا اللفظ عليه فهذا نزاع في مجرد اللفظ لا في المعنى ولا يجري بسببه تكفير ولا تفسيق فليكن الإنسان عالما بهذه الدقيقة حتى لا يقع في الغلط .

المسألة الثانية : في بيان أنه هل يجوز إطلاق لفظ الموجود على اللّه تعالى ؟ اعلم أن هذا البحث يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة وهي أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك عن معنيين :

 أحدهما : أن يراد بالوجود الوجدان والإدراك والشعور ومتى أريد بالوجود الوجدان والإدراك فقد أريد بالموجود لا محالة المدرك والمشعور به

والثاني : أن يراد بالوجود الحصول والتحقق في نفسه واعلم أن بين الأمرين فرقا وذلك لأن كونه معلوم الحصول في الأعيان يتوقف على كونه حاصلا في نفسه ولا ينعكس لأن كونه حاصلا في نفسه لا يتوقف على كونه معلوم الحصول في الأعيان ؛ لأنه يمتنع في العقل كونه حاصلا في نفسه مع انه لا يكون معلوما لأحد بقي ههنا بحث وهو أن لفظ الوجود هل وضع أولا للإدراك والوجدان ثم نقل ثانيا إلى حصول الشيء في نفسه أو الأمر فيه بالعكس أو وضعا معا ؟

فنقول : هذا البحث لفظي والأقرب هو الأول : لأنه لولا شعور الإنسان بذلك الشيء لما عرف حصوله في نفسه فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون وضع اللفظ لمعنى الشعور والإدراك سابقا على وضعه لحصول الشيء نفسه .

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إطلاق لفظ الموجود على اللّه تعالى يكون على وجهين :

 أحدهما : كونه معلوما مشعورا به

والثاني : كونه في نفسه ثابتا متحققا

أما بحسب المعنى الأول فقد جاء في القرآن قال اللّه تعالى : " {لوجدوا اللّه} " [ النساء : ٦٤ ] ولفظ الوجود ههنا بمعنى الوجدان والعرفان

وأما بالمعنى الثاني فهو غير موجود في القرآن .

فإن قالوا : لما حصل الوجود بمعنى الوجدان لزم حصول الوجود بمعنى الثبوت والتحقق إذ لو كان عدما محضا لما كان الأمر كذلك .

فنقول : هذا ضعيف من وجهين :

 الأول : أنه لا يلزم من حصول الوجود بمعنى الوجدان والمعرفة حصول الوجود بمعنى الثبوت ؛ لما ثبت أن المعدوم قد يكون معلوما

والثاني : أنا بينا أن هذا البحث ليس إلا في اللفظ فلا يلزم من حصول الاسم بحسب معنى حصول الاسم بحسب معنى آخر ثم نقول : ثبت بإجماع المسلمين إطلاق هذا الاسم فوجب القول به .

فإن قالوا : ألستم قلتم إن أسماء اللّه تعالى يجب كونها دالة على المدح والثناء ولفظ الموجود لا يفيد ذلك ؟

قلنا عدلنا عن هذا الدليل بدلالة الإجماع وأيضا فدلالة لفظ الموجود على المدح أكثر من دلالة لفظ الشيء عليه وبيانه من وجوه :

 الأول : أنه عند قوم يقع لفظ الشيء على المعدوم كما يقع على الموجود

أما الموجود فإنه لا يقع على المعدوم البتة فكان إشعار هذا اللفظ بالمدح أولى .

الثاني : أن لفظ الموجود بمعنى المعلوم يفيد صفة المدح والثناء لأنه يفيد أن بسبب كثرة الدلائل على وجوده وإلاهيته صار كأنه معلوم لكل أحد موجود عند كل أحد واجب الإقرار به عند كل عقل فهذا اللفظ أفاد المدح والثناء من هذا الوجه فظهر الفرق بينه وبين لفظ الشيء .

المسألة الثالثة :

في الذات :

روى عبد اللّه الأنصاري الهروي في الكتاب الذي سماه بالفاروق أخبارا تدل على هذا اللفظ

أحدها عن عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : إن من اعظم الناس أجرا الوزير الصالح من أمير يطيعه في ذات اللّه

وثانيها عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن إبراهيم لم يكذب إلا في ثلاث ثنتين في ذات اللّه

وثالثها عن كعب بن عجرة عن أبيه رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا تسبوا عليا فإنه كان مخشوشا في ذات اللّه

ورابعها عن أبي ذر قال : سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي الجهاد أفضل ؟ قال إن تجاهد نفسك وهواك في ذات اللّه

وخامسها عن النعمان بن بشير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : إن للشيطان مصايد وفخوخا منها البطر بأنعم اللّه والفخر بعطاء اللّه والكبر على عباد اللّه واتباع الهوى في غير ذات اللّه .

وأقول : إن كل شيء حصل به أمر من الأمور فإن كان اللفظ الدال على ذلك الشيء مذكرا قيل إنه ذو ذلك الأمر وإن كان مؤنثا قيل إنها ذات ذلك الأمر فهذه اللفظة وضعت لإفادة هذه النسبة والدلالة على ثبوت هذه الإضافة إذا عرفت هذا فنقول : إنه من المحال أن تثبت هذه الصفة لصفة ثانية وتلك الصفة الثانية تثبت لصفة ثالثة وهكذا إلى غير النهاية بل لا بد وأن تنتهي إلى حقيقة واحدة قائمة بنفسها مستقلة بماهيتها وحينئذ يصدق على تلك الحقيقة أنها ذات تلك الصفات فقولنا : إنها ذات كذا وكذا إنما يصدق في الحقيقة على تلك الماهية القائمة بنفسها فلهذا السبب جعلوا هذه اللفظة كاللفظة المفردة الدالة على هذه الحقيقة ولما كان الحق تعالى قيوما في ذاته كان إطلاق اسم الذات عليه حقا وصدقا

وأما الأخبار التي رويناها عن الأنصاري الهروي فإن شيئا منها لا يدل على هذا المعنى ؛ لأنه ليس المراد من لفظ الذات فيها حقيقة اللّه تعالى وماهيته وإنماالمراد منه طلب رضوان اللّه ألا ترى أنه قال : لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث ثنتين في ذات اللّه أي : في طلب مرضاة اللّه وهكذا الكلام في سائر الأخبار .

المسألة الرابعة :

في لفظ النفس

وهذا اللفظ وارد في القرآن قال تعالى " {تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك} " [ المائدة : ١١٦ ] وقال : " {ويحذركم اللّه نفسه} " [ آل عمران : ٢٨ ]

وعن عائشة قالت : كنت نائمة إلى جنب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم فقدته فطلبته فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد وهو يقول : اللّهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : يقول اللّه تعالى : أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا وإن جاءني يمشي جئته أهرول

والخبر الثالث عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لما خلق اللّه الخلق كتب في كتابه على نفسه وهو مرفوع فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي

والخبر الرابع عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ليس أحد أحب إليه المدح من اللّه تعالى ومن أجل ذلك مدح نفسه وليس أحد أغير من اللّه ومن أجل ذلك حرم الفواحش وليس أحد أحب إليه العذر من اللّه ومن أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل .

الخبر الخامس عن عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم علمها هذا التسبيح : سبحان اللّه وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضا نفسه وزنة عرشه .

الخبر السادس : روى أبو ذر عن النبي عليه الصلاة والسلام عن اللّه سبحانه وتعالى أنه قال : حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا وتمام الخبر مشهور .

الخبر السابع : عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ ذات يوم على المنبر " {وما قدروا اللّه حق قدره} " [ الأنعام : ٩١ ] ثم أخذ يمجد اللّه نفسه : أنا الجبار أنا المتكبر أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنبر حتى خفنا سقوطه .

الخبر الثامن : عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسى : أنت الذي أشقيت الناس فأخرجتهم من الجنة قال آدم : أنت الذي اصطفاك اللّه برسالته واصطنعك لنفسه وأنزل عليك التوراة فهل وجدت كتبته علي قبل أن يخلقني ؟ قال : نعم قال فحج آدم موسى ثلاث مرات

الخبر التاسع: عن جابر رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يقول اللّه تعالى : هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما .

الخبر العاشر : عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يرويه عن ربه أنه قال : من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة فلا أبالي في أي واد من الدنيا أهلكه وأقذفه في جهنم وما ترددت في نفسي في قضاء شيء قضيت ترددي في قبض عبدي المؤمن ؛ يكره الموت ولا بد له منه وأكره مساءته .

الخبر الحادي عشر : عن عبد اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللّهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك - أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب اللّه همه وغمه وأبدله مكان حزنه فرحا

الخبر الثاني عشر : عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : إن اللّه تعالى بعثني رحمة للعالمين وأن أكسر المعازف والأصنام وأقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمرا ثم لم يتب إلى اللّه تعالى منه إلا سقاه اللّه تعالى من طينة الخبال فقال :

 قلت: يا رسول اللّه وما طينة الخبال ؟ قال : صديد أهل جهنم .

واعلم أن النفس عبارة عن ذات الشيء وحقيقته وهويته وليس عبارة عن الجسم المركب من الأجزاء لأن كل جسم مركب وكل مركب ممكن وكل ممكن محدث وذلك على اللّه محال فوجب حمل لفظ النفس على ما ذكرناه .

المسألة الخامسة :

في لفظ الشخص

عن سعد بن عبادة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : لا شخص أغير من اللّه ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا شخص أحب إليه العذر من اللّه ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدح من اللّه .

واعلم انه لا يمكن أن يكون المراد من الشخص الجسم الذي له تشخص وحجمية بل المراد منه الذات المخصوصة والحقيقة المعينة في نفسها تعينا باعتباره يمتاز عن غيره .

المسألة السادسة :

في أنه هل يجوز إطلاق لفظ النور على اللّه

قال اللّه تعالى " {اللّه نور السموات والأرض} " [ النور : ٣٥ ]

وأما الأخبار فروى أنه قيل لعبد اللّه بن عمر : نقل عنك أنك تقول الشقي من شقي في بطن أمه فقال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : إن اللّه خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور شيء فقد اهتدى ومن أخطأ فقد ضل فلذلك أقول : جف القلم على علم اللّه تعالى .

واعلم أن القول بان اللّه تعالى هو هذا النور أو من جنسه قول باطل ويدل عليه وجوه :

 الأول : أن النور أما أن يكون جسما أو كيفية في جسم والجسم محدث فكيفياته أيضا محدثة وجل الإله عن ان يكون محدثا .

الثاني : أن النور تضاده الظلمة والإله منزه عن أن يكون له ضد .

الثالث : أن النور يزول ويحصل له أفول واللّه منزه عن الأفول والزوال

وأما قوله تعالى : " {اللّه نور السموات والأرض} " فجوابه أن هذه الآية من المتشابهات والدليل عليه ما ذكرناه من الدلائل العقلية وأيضا فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية " {مثل نوره} " [ النور : ٣٥ ] فأضاف النور إلى نفسه إضافة الملك إلى مالكه فهذا يدل على أنه في ذاته ليس بنور بل هو خالق النور .

بقي أن يقال : فما المقتضي لحسن إطلاق لفظ النور عليه ؟ فنقول فيه وجوه :

 الأول : قرأ بعضهم للّه نور السموات والأرض وعلى هذه القراءة فالشبهة زائلة

والثاني : أنه سبحانه منور الأنوار ومبدعها وخالقها ؛ فلهذا التأويل حسن إطلاق النور عليه .

والثالث : أن بحكمته حصلت مصالح العالم وانتظمت مهمات الدنيا والآخرة ومن كان ناظما للمصالح وساعيا في الخيرات فقد يسمى بالنور يقال : فلان نور هذه البلد إذا كان موصوفا بالصفة المذكورة .

والرابع : أنه هو الذي تفضل على عباده بالإيمان والهداية والمعرفة وهذه الصفات من جنس الأنوار ويدل عليه القرآن والأخبار : أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية : " {نور على نور يهدي اللّه لنوره من يشاء} " [ النور : ٣٥ ]

وأما الأخبار فكثيرة .

الخبر الأول : ما روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه .

الخبر الثاني : عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : هل تدرون أي الناس أكيس ؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم قال : أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا قالوا : يا رسول اللّه هل لذلك من علامة ؟ قال : نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود فإذا دخل النور في القلب انفسح واتسع للاستعداد قبل نزول الموت .

الخبر الثالث : عن ابن مسعود قال : تلا النبي صلى اللّه عليه وسلم قوله تعالى : " {أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه} " [ الزمر : ٢٢ ] فقلت: يا رسول اللّه كيف يشرح اللّه صدره ؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح فقلت ما علامة ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت .

الخبر الرابع : عن أنس رضي اللّه عنه قال : بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمشي في طريق إذ لقيه حارثة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كيف أصبحت يا حارثة ؟ قال : أصبحت واللّه مؤمنا حقا فقال عليه الصلاة والسلام : انظر ما تقول فإن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاوون فيها فقال عليه الصلاة والسلام : عرفت فالزم ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل نور اللّه الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا ثم قال : يا رسول اللّه ادع لي بالشهادة فدعا له فنودي بعد ذلك : يا خيل اللّه اركبي فكان أول فارس ركب فاستشهد في سبيل اللّه .

الخبر الخامس : عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال : بينما أنا جالس عند النبي صلى اللّه عليه وسلم : إذ سمع صوتا من فوقه فرفع رأسه إلى السماء فقال : إن هذا الباب من السماء قد فتح وما فتح قط فنزل منه ملك فقال : يا محمد أبشر بنورين لم يؤتهما أحد من قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة .

الخبر السابع : عن نافع عن عبد اللّه بن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول : اللّهم بك نصبح وبك نمسي وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور اللّهم اجعلني من أفضل عبادك عندك حظا ونصيبا في كل خير تقسمه اليوم من نور تهدي به أو رحمة تنشرها أو رزق تبسطه أو ضر تكشفه أو بلاء تدفعه أو سوء ترفعه أو فتنة تصرفها .

الخبر الثامن : عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل عن أهل الجنة فقال : أهل الجنة شعث رؤسهم وسخة ثيابهم لو قسم نور أحدهم على أهل الأرض لوسعهم .

الخبر التاسع: عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : ان اهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لقولهم حاجة أحدهم تتلجلج في صدره لو قسم نوره على أهل الأرض لوسعهم .

الخبر العاشر : عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن اللّه عز وجل يقول : نوري هداي ولا إله إلا اللّه كلمتي فمن قالها أدخلته حصني ومن أدخلته حصني فقد أمن .

الخبر الحادي عشر : عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يدعو أعوذ بكلمات اللّه التامة وبنوره الذي أشرقت له الأرض وأضاءت به الظلمات من زوال نعمتك ومن تحول عافيتك ومن فجأة نقمتك ومن درك الشقاء وشر قد سبق .

الخبر الثاني عشر : عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يقول : اللّهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا والحديث مشهور .

المسألة السابعة :

في لفظ الصورة وفيه أخبار :

الخبر الأول : عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : إن اللّه خلق آدم على صورته وعن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تقبحوا الوجه فإن اللّه تعالى خلق آدم على صورة الرحمن قال إسحاق بن راهويه : صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه خلق آدم على صورة الرحمن .

الخبر الثاني : عن معاذ بن جبل قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات غدوة فقال له قائل : ما رأيتك أسفر وجهك مثل الغداة قال : وما أبالي وقد بدا لي ربي في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد ؟

 قلت: أنت أعلم أي ربي فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها فعلمت ما في السموات والأرض .

واعلم أن العلماء ذكروا في تأويل هذه الأخبار وجوها :

 ( الأول ) أن قوله إن اللّه خلق آدم على صورته الضمير عائد إلى المضروب يعني أن اللّه تعالى خلق آدم على صورة المضروب فوجب الاحتراز عن تقبيح وجه ذلك المضروب

( الثاني ) أن المراد أن اللّه خلق آدم على صورته التي كان في آخر أمره يعني أنه ما تولد عن نطفة ودم وما كان جنينا ورضيعا بل خلقه اللّه رجلا كاملا دفعة واحدة

( الثالث ) أن المراد من الصورة الصفة يقال صورة هذا الأمر كذا أي : صفته فقوله خلق اللّه آدم على صورة الرحمن أي : خلقه على صفته في كونه خليفة له في أرضه متصرفا في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم .

المسألة الثامنة : الفلاسفة قد يطلقون لفظ الجوهر على ذات اللّه تعالى وكذلك النصارى والمتكلمون يمتنعون منه

أما الفلاسفة فقالوا : المراد من الجوهر الذات المستغني عن المحل والموضوع واللّه تعالى كذلك فوجب أن يكون جوهرا فالجوهر فوعل واشتقاقه من الجهر وهو الظهور فسمي الجوهر جوهرا لكونه ظاهرا بسبب شخصيته وحجميته فكونه جوهرا عبارة عن كونه ظاهر الوجود

وأما حجميته فليست نفس الجوهر بل هي سبب لكونه جوهرا وهو ظهور وجوده والحق سبحانه وتعالى أظهر من كل ظاهر بحسب كثرة الدلائل على وجوده فكان أولى الأشياء بالجوهرية هو هو

وأما المتكلمون فقالوا : أجمع المسلمون على الامتناع من هذا اللفظ فوجب الامتناع منه .

المسألة التاسعة : أطلق أكثر الكرامية لفظ الجسم على اللّه تعالى فقالوا : لا نريد به كونه مركبا مؤلفا من الأعضاء وإنما نريد به كونه موجودا قائما بالنفس غنيا عن المحل

وأما سائر الفرق فقد أطبقوا على إنكار هذا الاسم .

ولنا مع الكرامية مقامان :

المقام الأول : أنا لا نسلم أنهم أرادوا بكونه جسما معنى غير الطول والعرض والعمق وكيف لا نقول ذلك وأنهم يقولون : أنه تعالى فوق العرش ولا يقولون إنه في الصغر مثل الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ بل يقولون : إنه أعظم من العرش وكل ما كان كذلك كانت ذاته ممتدة من أحد جانبي العرش إلى الجانب الآخر فكان طويلا عريضا عميقا فكان جسما بمعنى كونه طويلا عريضا عميقا فثبت أن قولهم إنا أردنا بكونه جسما معنى غير هذا المعنى كذب محض وتزوير صرف .

المقام الثاني : أن نقول : لفظ الجسم لفظ يوهم معنى باطلا وليس في القرآن والأحاديث ما يدل على وروده فوجب الامتناع منه لا سيما والمتكلمون قالوا : لفظ الجسم يفيد كثرة الأجزاء بحسب الطول والعرض والعمق فوجب أن يكون لفظ الجسم يفيد أصل هذا المعنى .

المسألة العاشرة : في إطلاق لفظ الإنية على اللّه تعالى : اعلم أن هذه اللفظة تستعملها الفلاسفة كثيرا وشرحه بحسب أصل اللغة أن لفظة إن في لغة العرب تفيد التأكيد والقوة في الوجود ولما كان الحق سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته وكان واجب الوجود أكمل الموجودات في تأكد الوجود وفي قوة الوجود لا جرم أطلقت الفلاسفة بهذا التأويل لفظ الإنية عليه .

المسألة الحادية عشرة : في إطلاق لفظ الماهية عليه : اعلم أن لفظ الماهية ليس لفظا مفردا بحسب أصل اللغة بل الرجل إذا أراد أن يسأل عن حقيقة من الحقائق فإنه يقول : ما تلك الحقيقة وما هي ؟ وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : أرنا الأشياء كما هي فلما كثر السؤال عن معرفة الحقائق بهذه اللفظة جعلوا مجموع قولنا ما هي كاللفظة المفردة ووضعوا هذه اللفظة بإزاء الحقيقة فقالوا ماهية الشيء أي حقيقته المخصوصة وذاته المخصوصة .

المسألة الثانية عشرة : في إطلاق لفظ الحق اعلم أن هذا اللفظ إن أطلق على ذات الشيء كان المراد كونه موجودا وجودا حقيقيا في نفسه والدليل عليه أن الحق مقابل للباطل والباطل هو المعدوم قال لبيد : ( ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل ) فلما كان مقابل الحق هو المعدوم وجب أن يكون الحق هو الموجود

وأما إن أطلق لفظ الحق على الاعتقاد كان المراد أن ذلك الاعتقاد صواب مطابق للشيء في نفسه وإنما سمي هذا الاعتقاد بالحق لأنه إذا كان صوابا مطابقا كان واجب التقرير والإبقاء

وأما إن أطلق لفظ الحق على القول والخبر كان المراد أن ذلك الإخبار صدق مطابق لأنه إذا كان كذلك كان ذلك القول واجب التقرير والإبقاء إذا ثبت هذا

فنقول : إن اللّه تعالى هو المستحق لاسم الحق

أما بحسب ذاته فلأنه هو الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله .

وأما بحسب الاعتقاد فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه هو الاعتقاد الصواب المطابق الذي لا يتغير من هذه الصفة

وأما بحسب الأخبار والذكر فلان هذا الخبر أحق الأخبار بكونه صدقا واجب التقرير فثبت أنه تعالى هو الحق بحسب جميع الاعتبارات والمفهومات واللّه الموفق الهادي .

القسم الثاني من هذا الباب الأسماء الدالة على كيفية الوجود : اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقا بمقدمات عقلية .

المقدمة الأولى : اعلم أن كونه تعالى أزليا أبديا لا يوجب القول بوجود زمان لا آخر له وذلك لأنا نقول : كون الشيء دائم الوجود في ذاته

أما أن يتوقف على حصوله في زمان أو لا يتوقف عليه فإن لم يتوقف عليه فهو المقصود لأن على هذا التقدير يكون تعالى أزليا أبديا من غير حاجة إلى القول بوجود زمان آخر

وأما إن توقف عليه فنقول : ذلك الزمان

أما أن يكون أزليا أو لا يكون ذلك الزمان أزليا فالتقدير هو أن كونه أزليا لا يتقرر إلا بسبب زمان آخر فحينئذ يلزم افتقار الزمان إلى زمان آخر فيلزم التسلسل

وأما أن قلنا أن ذلك الزمان ليس أزليا فحينئذ قد كان اللّه أزليا موجودا قبل ذلك الزمان وذلك يدل على أن الدوام لا يفتقر إلى وجود زمان آخر وهو المطلوب فثبت أن كونه تعالى أزليا لا يوجب الاعتراف بكون الزمان أزليا .

المقدمة الثانية : أن الشيء كلما كان أزليا كان باقيا لكن لا يلزم من كون الشيء باقيا كونه أزليا ولفظ الباقي ورد في القرآن قال اللّه تعالى : " {ويبقى وجه ربك} " [ الرحمن : ٢٧ ]

وأيضا قال تعالى : " {كل شيء هالك إلا وجهه} " [ القصص : ٨٨ ]

والذي لا يصير هالكا يكون باقيا لا محالة وأيضا قال تعالى : " {هو الأول والآخر} " [ الحديد : ٣ ]

فجعله أولا لكل سواه وما كان أولا لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول ؛ إذ لو كان له أول لامتنع أن يكون أولا لأول نفسه ولو كان له آخر لامتنع كونه آخرا لأول نفسه فلما كان أولا لكل ما سواه وكان آخر لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول وآخر فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى أزليا لا أول له ولا آخر له .

المقدمة الثالثة : لو كان صانع العالم محدثا لافتقر إلى صانع آخر ولزم التسلسل وهو محال فهو قديم وإذا ثبت أنه قديم وجب أن يمتنع زواله لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه .

إذا ثبتت هذه المقدمات فلنشرع في تفسير الأسماء :

الاسم الأول : القديم واعلم أن هذا اللفظ يفيد في أصل اللغة طول المدة ولا يفيد نفي الأولية يقال : دار قديم إذا طالت مدته قال اللّه تعالى " {حتى عاد كالعرجون القديم} " [ يس : ٣٩ ] وقال : " {إنك لفي ضلالك القديم} " [ يوسف : ٩٥ ] .

الاسم الثاني : الأزلي وهذا اللفظ يفيد الانتساب إلى الأزل فهذا يوهم أن الأزل شيء حصل ذات اللّه فيه وهذا باطل إذ لو كان الأمر كذلك لكانت ذات اللّه مفتقرة إلى ذلك الشيء ومحتاجة إليه وهو محال بل المراد وجود لا أول له البتة .

الاسم الثالث : قولنا لا أول له وهذا اللفظ صريح في المقصود واختلفوا في أن قولنا لا أول له صفة ثبوتية أو عدمية قال بعضهم : إن قولنا لا أول له إشارة إلى نفي العدم السابق ونفي النفي إثبات فقولنا لا أول له وإن كان بحسب اللفظ عدما إلا أنه في الحقيقة ثبوت وقال آخرون : إنه مفهوم عدمي لأنه نفي لكون الشيء مسبوقا بالعدم وفرق بين العدم وبين كونه مسبوقا بالعدم فكونه مسبوقا بالعدم كيفية ثبوتية فقولنا لا أول له سلب لتلك الكيفية الثبوتية فكان قولنا لا أول مفهوما عدميا وأجاب الأولون عنه بأن كونه مسبوقا بالعدم لو كان كيفية وجودية زائدة على ذاته لكانت تلك الكيفية الزائدة حادثة فكانت مسبوقة بالعدم فكان كونها كذلك صفة أخرى ولزم التسلسل وهو محال .

الاسم الرابع : الأبدي وهو يفيد الدوام بحسب الزمان المستقبل .

الاسم الخامس : السرمدي واشتقاق هذه اللفظة من السرد وهو التوالي والتعاقب قال عليه الصلاة والسلام في الأشهر الحرم : واحد فرد وثلاثة سرد أي : متعاقبة ولما كان الزمان إنما يبقى بسبب تعاقب أجزائه وتلاحق أبعاضه وكان ذلك التعاقب والتلاحق مسمى بالسرد أدخلوا عليه الميم الزائدة ليفيد المبالغة في ذلك المعنى .

إذا عرفت هذا فنقول : الأصل في لفظ السرمد أن لا يقع إلا على الشيء الذي تحدث أجزاؤه بعضها عقيب البعض ولما كان هذا المعنى في حق اللّه تعالى محالا كان إطلاق لفظ السرمدي عليه مجازا فإن ورد في الكتاب والسنة أطلقناه وإلا فلا .

الاسم السادس : المستمر وهذا بناء الاستفعال وأصله المرور والذهاب ولما كان بقاء الزمان بسبب مرور أجزائه بعضها عقيب البعض لا جرم أطلقوا المستمر إلا أن هذا إنما يصدق في حق الزمان أما في حق اللّه فهو محال ؛ لأنه باق بحسب ذاته المعينة لا بحسب تلاحق أبعاضه وأجزائه .

الاسم السابع : الممتد وسميت المدة مدة لأنها تمتد بحسب تلاحق أجزائها وتعاقب أبعاضها فيكون قولنا في الشيء إنه امتد وجوده إنما يصح في حق الزمان والزمانيات

أما في حق اللّه تعالى فعلى المجاز .

الاسم الثامن : لفظ الباقي قال تعالى : " {ويبقى وجه ربك} " [ الرحمن : ٢٧ ] واعلم أن كل ما كان أزليا كان باقيا ولا ينعكس فقد يكون باقيا ولا يكون أزليا ولا أبديا كما في الأجسام والأعراض الباقية ومن الناس من قال : لفظ الباقي يفيد الدوام وعلى هذا لا يصح وصف الأجسام بالباقي وليس الأمر كذلك لإطباق أهل العرف على قول بعضهم لبعض أبقاك اللّه .

الاسم التاسع: الدائم قال تعالى " {أكلها دائم} " [ الرعد : ٣٥ ] ولما كان أحق الأشياء بالدوام هو اللّه كان الدائم هو اللّه .

الاسم العاشر : قولنا واجب الوجود لذاته ومعناه أن ماهيته وحقيقته هي الموجبة لوجوده وكل ما كان كذلك فإنه يكون ممتنع العدم والفناء واعلم أن كل كان واجب الوجود لذاته وجب أن يكون قديما أزليا ولا ينعكس ؛ فليس كل ما كان قديما أزليا كان واجب الوجود لذاته لأنه لا يبعد أن يكون الشيء معللا بعلة أزلية أبدية فحينئذ يجب كونه أزليا أبديا بسبب كون علته كذلك فهذا الشيء يكون أزليا أبديا مع انه لا يكون واجب الوجود لذاته وقولهم بالفارسية خداي معناه أنه واجب الوجود لذاته لأن قولنا خداي كلمة مركبة من لفظتين في الفارسية

إحداهما : خود ومعناه ذات الشيء ونفسه وحقيقته

والثانية قولنا آي ومعناه جاء فقولنا : خداي معناه انه بنفسه جاء وهو إشاره إلى أنه بنفسه وذاته جاء إلى الوجود لا بغيره وعلى هذا الوجه فيصير تفسير قولهم خداي أنه لذاته كان موجودا .

الاسم الحادي عشر : الكائن واعلم أن هذا اللفظ كثير الورود في القرآن بحسب صفات اللّه تعالى قال اللّه تعالى : " {وكان اللّه على كل شيء مقتدرا} " [ الكهف : ٤٥ ] وقال : " {إن اللّه كان عليما حكيما} " [ النساء : ١١ ] وأما ورود هذا اللفظ بحسب ذات اللّه تعالى فهو غير وارد في القرآن لكنه وارد في بعض الأخبار روي في الأدعية المأثورة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يا كائنا قبل كل كون ويا حاضرا مع كل كون ويا باقيا بعد انقضاء كل كون أو لفظ يقرب معناه مما ذكرناه ويناسبه من بعض الوجوه واعلم أن ههنا بحثا لطيفا نحويا : وذلك أن النحويين أطبقوا على أن لفظ كان على قسمين :

 أحدهما : الذي يكون تاما وهو بمعنى حدث ووجد وحصل قال تعالى " {كنتم خير أمة} " [ آل عمران : ١١٠ ] أي حدثتم ووجدتم خير أمة .

والثاني : الذي يكون ناقصا كقولك كان اللّه عليما حكيما فإن لفظ كان بهذا التفسير لا بد له من مرفوع ومنصوب واتفقوا على أن كان على كلا التقديرين فعل إلا أنهم قالوا : أنه على الوجه الأول فعل تام وعلى الثاني فعل ناقص فقلت للقوم : لو كانت هذه اللفظة فعلا لكان دالا على حصول حدث في زمان معين ولو كان كذلك لكنا إذا أسندناه إلى اسم واحد لكان حينئذ قد دل على حصول حدث لذلك الشيء وحينئذ يتم الكلام فكان يجب أن يستغني عن ذكر المنصوب وعلى هذا التقدير يصير فعلا تاما .

فثبت أن القول بان بهذه الكلمة الناقصة فعل يوجب كونها تامة غير ناقصة وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا فكان القول بان هذه الكلمة ناقصة كلاما باطلا ولما أوردت هذا السؤال عليهم بقي الأذكياء من النحويين والفضلاء منهم متحيرين فيه زمانا طويلا وما أفلحوا في الجواب ثم لما تأملت فيه وجدت الجواب الحقيقي الذي يزيل الشبهة وتقريره أن نقول : لفظ كان لا يفيد إلا الحدوث والحصول والوجود إلا أن هذا على قسمين : منه ما يفيد حدوث الشيء في نفسه ومنه ما يفيد موصوفية شيء بشيء آخر .

أما القسم الأول : فإن لفظ كان يتم بإسناده إلى ذلك الشيء الواحد لأنه لا يفيد أن ذلك الشيء قد حدث وحصل

وأما القسم الثاني فإنه لا تتم فائدته إلا بذكر الاسمين فإنه إذا ذكر كان معناه حصول موصوفية زيد بالعلم ولا يمكن ذكر موصوفية هذا بذاك إلا عند ذكرهما جميعا فلا جرم لا يتم المقصود إلا بذكرهما فقولنا : كان زيد عالما معناه أنه حدث وحصل موصوفية زيد بالعلم فثبت بما ذكرنا أن لفظ الكون يفيد الحصول والوجود فقط إلا أنه في القسم الأول يكفيه إسناده إلى اسم واحد وفي القسم الثاني لا بد من ذكر الاسمين وهذا من اللطائف النفيسة في علم النحو إذا عرفت هذا

فنقول : فعلى هذا التقدير لا فرق بين الكائن والموجود فوجب جواز إطلاقه على اللّه تعالى .

القسم الثالث : من أقسام الصفات الحقيقية : الصفة التي تكون مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود .

اعلم أن هذا البحث مبني على أنه هل يجوز قيام هذه الصفات بذات اللّه تعالى ؟ فالمعتزلة والفلاسفة ينكرونه أشد الإنكار ويحتجون عليه بوجوه :

 الأول : أن تلك الصفة أما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها والقسمان باطلان فبطل القول بالصفات وإنما قلنا أن يمتنع كونها واجبة لذاتها لوجهين

( الأول ) أنه ثبت في الحكمة أن واجب الوجود لذاته لا يكون إلا واحدا

( الثاني ) أن الواجب لذاته هو الذي يكون غنيا عما سواه والصفة هي التي تكون مفتقرة إلى الموصوف فالجمع بين الوجوب الذاتي وبين كونه صفة للغير محال وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون ممكنا لذاته لوجهين

( الأول ) أن الممكن لذاته لا بد له من سبب وسببه لا يجوز أن يكون غير ذات اللّه لأن تلك الذات لما امتنع خلوها عن تلك الصفة وتلك الصفة مفتقرة إلى الغير لزم كون تلك الذات مفتقرة إلى الغير .

وما كان كذلك كان ممكنا لذاته فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكنا لذاته وهو محال ولا يجوز أن يكون هو ذات اللّه تعالى ؛ لأنها قابلة لتلك الصفة فلو كانت مؤثرة فيها لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا وهو محال ؛ لما ثبت أن الشيء الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد والفعل والقبول أثران مختلفان

( الثاني) أن الأثر مفتقر إلى المؤثر فافتقاره إليه أما أن يكون بعد حدوثه أو حال حدوثه أو حال عدمه والأول باطل .

وإلا لكان تأثير ذلك المؤثر في إيجاده تحصيلا للحاصل وهو محال فبقي القسمان الأخيران وذلك يقتضي أن يكون كلما كان الشيء أثرا لغيره كان حادثا فوجب أن يقال : الشيء الذي لا يكون حادثا فإنه لا يكون أثرا للغير فثبت أن القول بالصفات باطل .

الحجة الثانية : على نفي الصفات : قالوا : إن تلك الصفات أما أن تكون قديمة أو حادثة والأول باطل لأن القدم صفة ثبوتية على ما بيناه فلو كانت الصفات قديمة لكانت الذات مساوية للصفات في القدم ويكون كل واحد منهما مخالفا للآخر بخصوصية ماهيته المعينة وما به المشاركة غير ما به المخالفة فيكون كل واحد من تلك الأشياء القديمة مركبا من جزأين ثم نقول : ويجب أن يكون كل واحد من ذينك الجزأين قديما لأن جزء ماهية القديم يجب أن يكون قديما وحينئذ يكون ذانك الجزآن يتشاركان في القدم ويختلفان بالخصوصية فيلزم كون كل واحد منهما مركبا من جزأين وذلك محال لأنه يلزم أن يكون حقيقة الذات وحقيقة كل واحدة من تلك الصفات مركبة من أجزاء غير متناهية وذلك محال وإنما قلنا إنه يمتنع كون تلك الصفات حادثة لوجوه :

 ( الأول ) : أن قيام الحوادث بذات اللّه محال لأن تلك الذات إن كانت كافية في وجود تلك الصفة أو دوام عدمها لزم دوام وجود تلك الصفة أو دوام عدمها بدوام تلك الذات وإن لم تكن كافية فيه فحينئذ تكون تلك الذات واجبة الاتصاف بوجود تلك الصفة أو عدمها وذلك الوجود والعدم يكونان موقوفين على شيء منفصل والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير والموقوف على الغير ممكن لذاته ينتج أن الواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال .

( والثاني ) أن ذاته لو كانت قابلة للحوادث لكانت قابلية تلك الحوادث من لوازم ذاته فحينئذ يلزم كون تلك القابلية أزلية لأجل كون تلك الذات أزلية لكن يمتنع كون قابلية الحوادث أزلية ؛ لأن قابلية الحوادث مشروط بإمكان وجود الحوادث وإمكان وجود الحوادث في الأزل محال فكان وجود قابليتها في الأزل محالا .

( الثالث ) أن تلك الصفات لما كانت حادثة فإن الإله الموصوف بصفات الإلهية كان موجودا قبل حدوث هذه الصفات فحينئذ تكون هذه الصفات مستغنى عنها في ثبوت الإلهية فوجب نفيها فثبت أن تلك الصفات

أما أن تكون حادثة أو قديمة وثبت فسادهما فثبت امتناع وجود الصفة .

الحجة الثالثة : أن تلك الصفات

أما أن تكون بحيث تتم الإلهية بدونها أو لا تتم فإن كان الأول كان وجودها فضلا زائدا فوجب نفيها وإن كان الثاني كان الإله مفتقرا في تحصيل صفة الإلهية إلى شيء آخر .

والمحتاج لا يكون إلها .

الحجة الرابعة : ذاته تعالى

أما أن تكون كاملة في جميع الصفات المعتبرة في المدائح والكمالات

وأما أن لا تكون فإن كان الأول فلا حاجة إلى هذه الصفات وإن كان الثاني كانت تلك الذات ناقصة في ذاتها مستكملة بغيرها وهذه الذات لا يليق بها صفة الإلهية .

الحجة الخامسة : لما كان الإله هو مجموع الذات والصفات فحينئذ يكون الإله مجزأ مبعضا منقسما وذلك بعيد عن العقل ؛ لأن كل مركب ممكن لا واجب .

الحجة السادسة : أن اللّه تعالى كفر النصارى في التثليث فلا يخلو

أما أن يكون لأنهم قالوا بإثبات ذوات ثلاثة أو لأنهم قالوا بالذات مع الصفات والأول لا يقوله النصارى فيمتنع أن يقال إن اللّه كفرهم بسبب مقالة هم لا يقولون بها فبقي الثاني وذلك يوجب أن يكون القول بالصفات كفرا .

فهذه الوجوه يتمسك بها نفاة الصفات وإذا كان الأمر كذلك فعلى هذا التقدير يمتنع أن يحصل اللّه تعالى اسم بسبب قيام الصفة الحقيقية به .

المسألة الثانية في دلائل مثبتي القول بالصفات : اعلم أنه ثبت أن إله العالم يجب أن يكون عالما قادرا حيا فنقول يمتنع أن يكون علمه وقدرته نفس تلك الذات ويدل عليه وجوه

( الأول ) أنا ندرك تفرقة ضرورية بديهية بين قولنا : ذات اللّه ذات وبين قولنا : ذات اللّه عالمة قادرة وذلك يدل على أن كونه عالما قادرا ليس نفس تلك الذات

( الثاني ) أنه يمكن العلم بكونه موجودا مع الذهول عن كونه قادرا وعالما وكذلك يمكن أن يعلم كونه قادرا مع الذهول عن كونه عالما وبالعكس وذلك يدل على أنه كونه عالما قادرا ليس نفس تلك الذات

( الثالث ) أن كونه عالما عام التعلق بالنسبة إلى الواجب والممتنع والممكن وكونه قادرا ليس عام التعلق بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة : بل هو مختص بالجائز فقط ولولا الفرق بين العلم وبين القدرة وإلا لما كان كذلك

( الرابع ) أن كونه تعالى قادرا يؤثر في وجود المقدور وكونه عالما لا يؤثر ولولا المغايرة وإلا لما كان كذلك

( الخامس ) أن قولنا : موجود يناقضه قولنا : ليس بموجود ولا يناقضه قولنا : ليس بعالم وذلك يدل على أن المنفي بقولنا : ليس بموجود مغاير للمنفي بقولنا : ليس بعالم وكذا القول في كونه قادرا .

فهذه دلائل واضحة على أنه لا بد من الإقرار بوجود الصفات للّه تعالى إلا أنه بقي أن يقال : لم لا يجوز أن تكون هذه الصفات صفات نسبية وإضافية فالمعنى من كونه قادرا كونه بحيث يصح منه الإيجاد وتلك الصحة معللة بذاته وكونه عالما معناه الشعور والإدراك وذلك حالة نسبية إضافية وتلك النسبية الحاصلة معللة بذاته المخصوصة وهذا تمام الكلام في هذا الباب .

المسألة الثالثة : أنا إذا قلنا بإثبات الصفات الحقيقية

فنقول : الصفة الحقيقية أما أن تكون صفة يلزمها حصول النسبة والإضافة وهي مثل العلم والقدرة فإن العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالعلوم والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور فهذه الصفات وإن كانت حقيقية إلا أنه يلزمها لوازم من باب النسب والإضافات .

أما الصفة الحقيقية العارية عن النسبة والإضافة في حق اللّه تعالى فليست إلا صفة الحياة فلنبحث عن هذه الصفة

فنقول : قالت الفلاسفة : الحي هو الدراك الفعال ؛ إلا أن الدراكية صفة نسبية والفعالية أيضا كذلك وحينئذ لا تكون الحياة صفة مغايرة للعلم والقدرة على هذا القول وقال المتكلمون إنها صفة باعتبارها يصح أن يكون عالما قادرا واحتجوا عليه بان الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في هذه الصحة فلا بد وأن تكون تلك الذوات مختلف في قبول صفة الحياة فوجب أن تكون صحيحة لأجل صفة زائدة

فيقال لهم : قد دللنا على أن ذات اللّه تعالى مخالفة لسائر الذوات لذاته المخصوصة فسقط هذا الدليل وأيضا الذوات مختلفة في قبول صفة الحياة فوجب أن يكون صحة قبول الحياة لصفة أخرى ولزم التسلسل ولا جواب عنه إلا أن يقال : إن تلك الصحة من لوازم الذات المخصوصة فاذكروا هذا الكلام في صحة العالمية وقال قوم ثالث : معنى كونه حيا أنه لا يمتنع أن يقدر ويعلم فهذا عبارة عن نفي الامتناع ولكن الامتناع عدم فنفيه يكون عدما للعدم فيكون ثبوتا

فيقال لهم : هذا مسلم لكن لم لا يجوز أن يكون هذا الثبوت هو تلك الذات المخصوصة ؟

فإن قالوا : الدليل عليه أنا نعقل تلك الذات مع الشك في كونها حية فوجب أن يكون كونها حية مغايرا لتلك الذات

فيقال لهم : قد دللنا على أن لا نعقل ذات اللّه تعالى تعقلا ذاتيا وإنما نتعقل تلك الذات تعقلا عرضيا وعند هذا يسقط هذا الدليل فهذا تمام الكلام في هذا الباب .

المسألة الرابعة : لفظ الحي وارد في القرآن قال اللّه تبارك وتعالى : " {اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} " [ البقرة : ٢٥٥ ]

وقال : " {وعنت الوجوه للحي القيوم} " [ طه : ١١١ ]

وقال : " {هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين} " [ غافر : ٦٥ ]

فإن قيل : الحي معناه الدراك الفعال أو الذي لا يمتنع أن يعلم ويقدر وهذا القدر ليس فيه مدح عظيم فما السبب في أن ذكره اللّه تعالى في معرض المدح العظيم ؟

 فالجواب أن التمدح لم يحصل بمجرد كونه حيا بل بمجموع كونه حيا قيوما وذلك لأن القيوم هو القائم بإصلاح حال كل ما سواه وذلك لا يتم إلا بالعلم التام والقدرة التامة والحي هو الدراك الفعال فقوله الحي يعني كونه دراكا فعالا وقوله القيوم يعني كونه دراكا لجميع الممكنات فعالا لجميع المحدثات والممكنات فحصل المدح من هذا الوجه .

الباب الخامس

في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية

اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة عقلية وهي أن التكوين هل هو نفس المكون أم لا ؟ قالت المعتزلة والأشعرية : التكوين نفس المكون وقال آخرون إنه غيره واحتج النفاة بوجوه :

الحجة الأولى : أن الصفة المسماة بالتكوين

أما أن تؤثر على سبيل الصحة أو على سبيل الوجوب فإن كان الأول فتلك الصفة هي القدرة لا غير وإن كان الثاني لزم كونه تعالى موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار .

الحجة الثانية : أن تلك الصفة المسماة بالتكوين إن كانت قديمة لزم من قدمها الآثار وإن كانت محدثة افتقر تكوينها إلى تكوين آخر ولزم التسلسل .

الحجة الثالثة : أن الصفة المسماة بالقدرة

أما أن يكون لها صلاحية التأثير عند حصول سائر الشرائط من العلم والإرادة أو ليس لها هذه الصلاحية فإن كان الأول فحينئذ تكون القدرة كافية في خروج الأثر من العدم إلى الوجود وإلى هذا التقدير فلا حاجة إلى إثبات صفة أخرى وإن كان الثاني فحينئذ القدرة لا تكون لها صلاحية التأثير فوجب أن لا تكون القدرة قدرة وذلك يوجب التناقض .

واحتج مثبتو قدم الصفة بأن القادر على الفعل قد يوجده وقد لا يوجده ألا ترى أن اللّه تعالى قادر على خلق ألف شمس وقمر على هذه السماء إلا أنه ما أوجده وصحة هذا النفي والإثبات يدل على أن المعقول من كونه موجدا مغاير للمعقول من كونه قادرا ثم نقول : كونه موجدا

أما أن يكون معناه دخول الأثر في الوجود أو يكون أمرا زائدا والأول باطل لأنا نعلل دخول هذا الأثر في الوجود بكون الفاعل موجدا له ألا ترى أنه إذا قيل : لم وجد العالم ؟

قلنا : لأجل أن اللّه أوجده فلو كان كون الموجد موجدا له معناه نفس هذا الأثر لكان تعليل وجود الأثر بالموجودية يقتضي تعليل وجوده نفسه ولو كان معللا بنفسه لامتنع إسناده إلى الغير فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر يقتضي نفي الموجدية وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر كلام باطل فوجب أن يكون كون الموجد موجدا أمرا مغايرا لكون الفاعل قادرا لوجود الأثر فثبت أن التكوين غير المكون .

إذا عرفت هذا الأصل فنقول : القائلون بأن التكوين نفس المكون قالوا : معنى كونه تعالى خالقا رازقا محييا مميتا ضارا نافعا عبارة عن نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة وهي تأثير قدرة اللّه تعالى في حصول هذه الأشياء.

وأما القائلون بأن التكوين غير المكون فقالوا معنى كونه خالقا رازقا ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية .

اعلم أن الصفات الإضافية على أقسام

( أحدها ) كونه معلوما مذكورا مسبحا ممجدا فيقال : يا أيها المسبح بكل لسان يا أيها الممدوح عند كل إنسان يا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناه كانت الأسماء الممكنة للّه بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية .

وثانيها : كونه تعالى فاعلا للأفعال صفة إضافية محضة بناء على أن تكوين الأشياء ليس بصفة زائدة إذا عرفت هذا فالمخبر عنه أما أن يكون مجرد كونه موجدا أو المخبر عنه كونه موجدا للنوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية

أما القسم الأول - وهو اللفظ الدال على مجرد كونه موجدا - فههنا ألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة مثل : الموجد والمحدث والمكون والمنشئ والمبدع والمخترع والصانع والخالق والفاطر والبارئ فهذه ألفاظ عشرة متقاربة ومع ذلك فالفرق حاصل :

أما الاسم الأول - وهو الموجد - فمعناه المؤثر في الوجود

وأما المحدث فمعناه الذي جعله موجودا بعد أن كان معدوما وهذا أخص من مطلق الإيجاد

وأما المكون فيقرب من أن يكون مرادفا للموجد

وأما المنشئ فاشتقاقه من النشوء والنماء وهو الذي يكون قليلا قليلا على التدريج

وأما المبدع فهو الذي يكون دفعة واحدة وهما كنوعين تحت جنس الموجد .

والمخترع قريب من المبدع

وأما الصانع فيقرب أن يكون اسما لمن يأتي بالفعل على سبيل التكلف

وأما الخالق فهو عبارة عن التقدير وهو في حق اللّه تعالى يرجع إلى العلم

وأما الفاطر فاشتقاقه من الفطر وهو الشق ويشبه أن يكون معناه هو الأحداث دفعة

وأما البارئ فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة يقال : برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقا لغرض معين فهذا بيان هذه الألفاظ الدالة على كونه موجدا على سبيل العموم

أما الألفاظ الدالة على إيجاد شيء بعينه فتكاد أن تكون غير متناهية ويجب أن نذكر في هذا الباب أمثلة

فالمثال الأول : إنه إذا خلق النافع سمي نافعا وإذا خلق المؤلم سمي ضارا

والمثال الثاني : إذا خلق الحياة سمي محييا وإذا خلق الموت سمي مميتا

والمثال الثالث : إذا خصهم بالإكرام سمي برا لطيفا وإذا خصهم بالقهر سمي قهارا جبارا

والمثال الرابع : إذا قلل العطاء سمي قابضا وإذا أكثره سمي باسطا

والمثال الخامس : إن جارى ذوي الذنوب بالعقاب سمي منتقما وإن ترك ذلك الجزاء سمي عفوا غفورا رحيما رحمانا

المثال السادس : إن حصل المنع والإعطاء في الأموال سمي قابضا باسطا وإن حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضا رافعا .

إذا عرفت هذا فنقول : إن أقسام مقدورات اللّه تعالى بحسب الأنواع والأجناس غير متناهية فلا جرم يمكن أن يحصل للّه تعالى أسماء غير متناهية بحسب هذا الاعتبار .

وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا دقائق لا بد منها :

فالدقيقة الأولى أن مقابل الشيء تارة يكون ضده وتارة يكون عدمه فقولنا : المعز المذل

وقولنا المحيي المميت يتقابلان تقابل الضدين

وأما قولنا : القابض الباسط الخافض الرافع فيقرب من أن يكون تقابلهما تقابل العدم والوجود لأن القبض عبارة عن أن لا يعطيه المال الكثير والخفض عبارة أن لا يعطيه الجاه الكبير أما الإعزاز والإذلال فهما متضادان ؛ لأنه فرق بين أن لا يعزه وبين أن يذله .

والدقيقة الثانية أنه قد تكون الألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة ولكن التأمل التام يدل على الفرق اللطيف وله أمثله :

المثال الأول : الرؤوف الرحيم يقرب من هذا الباب إلا أن الرؤوف أميل إلى جانب إيصال النفع والرحيم أميل إلى جانب دفع الضرر

والمثال الثاني : ألفاتح والفتاح والنافع والنفاع والواهب والوهاب فالفاتح يشعر بإحداث سبب الخير والواهب يشعر بإيصال ذلك الخير إليه والنافع يشعر بإيصال ذلك النفع إليه بقصد أن ينتفع ذلك الشخص به وإذا وقفت على هذا القانون المعتبر في هذا الباب أمكنك الوقوف على حقائق هذا النوع من الأسماء .

الباب السادس

في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية

واعلم أن القرآن مملوء منه وطريق الضبط فيه أن يقال : ذلك السلب

أما أن يكون عائدا إلى الذات أو إلى الصفات أو إلى الأفعال

أما السلوب العائدة إلى الذات فهي قولنا إنه تعالى ليس كذا ولا كذا كقولنا : إنه ليس جوهرا ولا جسما ولا في المكان ولا في الحيز ولا حالا ولا محلا واعلم أنا قد دللنا على أن ذاته مخالفة لسائر الذوات والصفات لعين ذاته المخصوصة لكن أنواع الذوات والصفات المغايرة لذاته غير متناهية فلا جرم يحصل ههنا سلوب غير متناهية ومن جملتها قوله تعالى " {واللّه الغني وأنتم الفقراء} " [ محمد : ٣٨ ]

وقوله : " {وربك الغني ذو الرحمة} " [ الأنعام : ١٣٣ ] لأن كونه غنيا أنه لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية إلى شيء غيره ومنه أيضا قوله " {لم يلد ولم يولد} " [ الإخلاص : ٣ ]

وأما السلوب العائدة إلى الصفات فكل صفة تكون من صفات النقائص فإنه يجب تنزيه اللّه تعالى عنها فمنها ما يكون من باب أضداد العلم ومنها ما يكون من باب أضداد القدرة ومنها ما يكون من باب أضداد الاستغناء ومنها ما يكون من باب أضداد الوحدة ؛ ومنها ما يكون من باب أضداد العلم فأقسام

أحدها : نفي النوم قال تعالى : " {لا تأخذه سنة ولا نوم} " [ البقرة : ٢٥٥ ]

وثانيها نفي النسيان قال تعالى : " {وما كان ربك نسيا} " [ مريم : ٦٤ ]

وثالثها نفي الجهل قال تعالى : "{لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض}" [ سبأ : ٣ ]

ورابعها أن علمه ببعض المعلومات لا يمنعه عن العلم بغيره فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شان .

وأما السلوب العائدة إلى صفة القدرة فأقسام :

 أحدها : أنه منزه في أفعاله عن التعب والنصب قال تعالى " {وما مسنا من لغوب ق} " [ " : ٣٨ ]

وثانيها أن لا يحتاج في فعله إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة قال تعالى : " {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} " [ النحل : ٤٠ ]

وثالثها أنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل قال تعالى : " {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} " [ النحل : ٧٧ ]

ورابعها نفي انتهاء القدرة وحصول الفقر قال تعالى : " {لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء} " [ آل عمران : ١٨١ ]

وأما السلوب العائدة إلى صفة الاستغناء فكقوله : " {وهو يطعم ولا يطعم} " [ الأنعام : ١٤ ] " {وهو يجير ولا يجار عليه} " [ المؤمنون : ٨٨ ]

وأما السلوب العائدة إلى صفة الوحدة - وهو مثل نفي الشركاء والأضداد والأنداد فالقرآن مملوء منه

وأما السلوب العائدة إلى الأفعال وهو أنه لا يفعل كذا وكذا - فالقرآن مملوء منه أحدها أنه لا يخلق الباطل قال تعالى : " {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا} " [ ص : ٢٧ ] وقال تعالى حكاية عن المؤمنين " {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} " [ آل عمران : ١٩١]

وثانيها أنه لا يخلق اللعب قال تعالى : " {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين وما خلقناهما إلا بالحق} "

وثالثها لا يخلق العبث ؛ قال تعالى : " {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الملك الحق} " [ المؤمنون : ١١٥ ]

ورابعها أنه لا يرضى بالكفر قال تعالى : " {ولا يرضى لعباده الكفر} " [ الزمر : ٧ ]

وخامسها أنه لا يريد الظلم قال تعالى : " {وما اللّه يريد ظلما للعباد} " [ غافر : ٣١ ]

وسادسها أنه لا يحب الفساد قال تعالى : " {واللّه لا يحب الفساد} " [ البقرة : ٢٠٥ ]

وسابعها أنه لا يعاقب من غير سابقة جرم قال تعالى : " {ما يفعل اللّه بعذابكم إن شكرتم} " [ النساء : ١٤٧ ]

وثامنها أنه لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين قال تعالى : " {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} " [ الإسراء : ٧ ]

وتاسعها : أنه ليس لأحد عليه اعتراض في أفعاله وأحكامه قال تعالى : " {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} " [ الأنبياء : ٢٣ ] وقال تعالى : " {فعال لما يريد} " [ هود : ١٠٧ ]

وعاشرها : أنه لا يخلف وعده ووعيده قال تعالى : " {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} " [ ق : ٢٩ ] .

إذا عرفت هذا الأصل فنقول : أقسام السلوب بحسب الذات وبحسب الصفات وبحسب الأفعال غير متناهية فيحصل من هذا الجنس أيضا أقسام غير متناهية من الأسماء إذا عرفت هذا الأصل ؛

فلنذكر بعض الأسماء المناسبة لهذا الباب :

فمنها القدوس والسلام ويشبه أن يكون القدوس عبارة عن كون حقيقة ذاته مخالفة للماهيات التي هي نقائص في أنفسها والسلام عبارة عن كون تلك الذات غير موصوفة بشيء من صفات النقص فالقدوس سلب عائد إلى الذات والسلام سلب عائد إلى الصفات

وثانيها العزيز وهو الذي لا يوجد له نظير

وثالثها الغفار وهو الذي يسقط العقاب عن المذنبين

ورابعها الحليم وهو الذي لا يعاجل بالعقوبة ومع ذلك ؛ فإنه لا يمتنع من إيصال الرحمة

وخامسها الواحد ومعناه أنه لا يشاركه أحد في حقيقته المخصوصة ولا يشاركه أحد في نظم العالم وتدبير أحوال العرش

وسادسها الغني : ومعناه كونه منزها عن الحاجات والضرورات

وسابعها الصبور والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور هو الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه والحليم هو الذي يكون كذلك مع أنه لا يمنعه من إيصال نعمته إليه وقس عليه البواقي واللّه الهادي .

الباب السابع

في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية

وفيه فصول الفصل الأول

في الأسماء الحاصلة بسبب القدرة

والأسماء الدالة على صفة القدرة كثيرة :

 الأول القادر قال تعالى : " {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم} " [ الأنعام : ٦٥ ]

وقال في أول سورة القيامة : " {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه . بلى قادرين على أن نسوي بنانه} " [ القيامة : ٣ ]

وقال في آخر السورة : " {أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى} " [ القيامة : ٤٠ ]

الثاني : القدير قال تعالى : " {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} " [ الملك : ١ ] وهذا اللفظ يفيد المبالغة في وصفه بكونه قادرا

الثالث : المقتدر قال تعالى : " {وكان اللّه على كل شيء مقتدرا} " [ الكهف : ٤٥ ]

وقال : " {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} " [ القمر : ٥٥ ]

الرابع : عبر عن ذاته بصيغة الجمع في هذه الصفة قال تعالى : " {فقدرنا فنعم القادرون} " [ المرسلات : ٢٣ ]

واعلم أن لفظ الملك يفيد القدرة أيضا بشرط خاص ثم إن هذا اللفظ جاء في القرآن على وجوه مختلفة :

فالأول المالك قال اللّه تعالى : " {مالك يوم الدين} " [ الفاتحة : ٣ ]

الثاني : الملك قال تعالى " {فتعالى اللّه الملك الحق} " [ المؤمنون : ١١٦ ]

وقال : " {هو اللّه الذي لا إله إلا هو الملك القدوس} " [ الحشر : ٢٣ ]

وقال : " {ملك الناس} " [ الناس : ٢ ] واعلم أن ورود لفظ الملك في القرآن أكثر من ورود لفظ المالك والسبب فيه أن الملك أعلى شأنا من المالك

الثالث : مالك الملك قال تعالى : " {قل اللّهم مالك الملك} " [ الناس : ٢ ]

الرابع : المليك قال تعالى : " {عند مليك مقتدر} " [ القمر : ٥٥ ]

الخامس : لفظ الملك قال تعالى : " {الملك يومئذ الحق للرحمن} " [ الفرقان : ٢٦ ]

وقال تعالى : " {له ملك السماوات والأرض} " [ الحديد : ٢ ]

واعلم أن لفظ القوة يقرب من لفظ القدرة وقد جاء هذا اللفظ في القرآن على وجوه مختلفة :

 الأول القوي قال تعالى : " {إن اللّه لقوي عزيز} " [ الحج : ٧٤ ]

الثاني : ذو القوة قال تعالى : " {إن اللّه هو الرزاق ذو القوة المتين} " [ الذاريات : ٥٨ ] .

الفصل الثاني

في الأسماء الحاصلة بسبب العلم

وفيه ألفاظ :

 الأول : العلم وما يشتق منه وفيه وجوه

الأول : إثبات العلم للّه تعالى قال تعالى : " {ولا يحيطون بشيء من علمه} " [ البقرة : ٢٥٥ ]

وقال تعالى : " {ولا تضع إلا بعلمه} " [ فاطر : ١١ ]

وقال تعالى : " {قد أحاط بكل شيء علما} " [ الطلاق : ١٢ ]

وقال تعالى : " {إن اللّه عنده علم الساعة} " [ لقمان : ٣٤ ] الاسم

الثاني : العالم قال تعالى : " {عالم الغيب والشهادة} " [ الرعد : ٩ ]

الثالث : العليم وهو كثير في القرآن

الرابع العلام قال تعالى - حكاية عن عيسى عليه السلام - : " {إنك أنت علام الغيوب} " [ المائدة : ١١٦ ]

الخامس : الأعلم قال تعالى : " {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} " [ الأنعام : ١٢٤ ]

السادس : صيغة الماضي قال تعالى : " {علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم} " [ البقرة : ١٨٧ ]

السابع : صيغة المستقبل قال تعالى : " {وما تفعلوا من خير يعلمه اللّه} " [ البقرة : ١٩٧ ]

وقال : " {واللّه يعلم ما تسرون وما تعلنون} " [ النحل : ١٩ ]

الثامن : لفظ علم من باب التفعيل قال تعالى : " {وعلم آدم الأسماء كلها} " [ البقرة : ٣١ ]

وقال في حق الملائكة : " {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} " [ البقرة : ٣٢ ]

وقال : " {وعلمك ما لم تكن تعلم} " [ النساء : ١١٣ ]

وقال : " {الرحمن علم القرآن} " [ الرحمن : ٢ ] .

واعلم أنه لا يجوز أن يقال إن اللّه معلم مع كثرة هذه الألفاظ ؛ لأن لفظ المعلم مشعر بنوع نقيصة

التاسع لا يجوز إطلاق لفظ العلامة على اللّه تعالى ؛ لأنها وإن أفادت المبالغة لكنها تفيد أن هذه المبالغة إنما حصلت بالكد والعناء وذلك في حق اللّه تعالى محال .

اللفظ الثاني : من ألفاظ هذا الباب لفظ الخبر والخبرة وهو كالمرادف للعلم حتى قال بعضهم في حد العلم : إنه الخبر .

إذا عرفت هذا فنقول : ورد لفظ الخبير في حق اللّه تعالى في حد العلم أنه الخبر .

إذا عرفت هذا فنقول : ورد لفظ الخبير في حق اللّه تعالى كثيرا في القرآن وذلك أيضا يدل على العلم .

النوع الثالث من الألفاظ : الشهود والمشاهدة ومنه الشهيد في حق اللّه تعالى إذا فسرناه بكونه مشاهدا لها عالما بها

أما إذا فسرناه بالشهادة كان من صفة الكلام .

النوع الرابع : الحكمة وهذه اللفظة قد يراد بها العلم وقد يراد بها أيضا ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي .

النوع الخامس : اللطيف وقد يراد به العلم بالدقائق وقد يراد به إيصال المنافع إلى العباد بطريق خفية عجيبة .

الفصل الثالث

في الأسماء الحاصلة بسبب صفة الكلام وما يجري مجراه :

اللفظ الأول : الكلام وفيه وجوه :

 الأول : لفظ الكلام قال تعالى : " {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام اللّه} " [ التوبة : ٦ ]

الثاني : صيغة الماضي من هذا اللفظ قال تعالى " {وكلم اللّه موسى تكليما} " [ النساء : ١٦٤ ] وقال : " {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمة ربه} " [ الأعراف : ١٤٣ ]

الثالث : صيغة المستقبل قال تعالى : " {وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحيا} " [ الشورى : ٥١ ] .

اللفظ الثاني : القول : وفيه وجوه :

الأول : صيغة الماضي قال تعالى : " {وإذ قال ربك للملائكة} " [ البقرة : ٣٠]

ونظائره كثيرة في القرآن

الثاني : صيغة المستقبل قال تعالى " {إنه يقول إنها بقرة} " [ البقرة : ٦٨ ]

الثالث : القيل والقول قال تعالى : " {ومن أصدق من اللّه قيلا} " [ النساء : ١٢٢ ]

وقال تعالى " {ما يبدل القول لدي} " [ ق : ٢٩ ] .

اللفظ الثالث : الأمر قال تعالى : " {للّه الأمر من قبل ومن بعد} " [ الروم : ٤ ]

وقال : " {ألا له الخلق والأمر} " [ الأعراف : ٥٤ ]

وقال حكاية عن موسى عليه السلام : " {إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة} " [ البقرة : ٦٧ ] .

اللفظ الرابع : الوعد قال تعالى : " {وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن} " [ التوبة : ١١١ ]

وقال تعالى : " {وعد اللّه حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده} " [ يونس : ٤ ] .

اللفظ الخامس : الوحي قال تعالى : " {وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحيا} " [ الشورى : ٥١ ]

وقال : " {فأوحى إلى عبده ما أوحى} " [ النجم : ١٠ ] .

اللفظ السادس : كونه تعالى شاكرا لعباده قال تعالى : " {فأولئك كان سعيهم مشكورا} " [ الإسراء : ١٩ ] " {وكان اللّه شاكرا عليما} " [ النساء : ١٤٧ ] .

الفصل الرابع

في الإرادة وما يقرب منها :

فاللفظ الأول : الإرادة قال تعالى : " {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} " [ البقرة : ١٨٥ ] .

اللفظ الثاني : الرضا قال تعالى : " {وإن تشكروا يرضه لكم} " [ الزمر : ٧ ]

وقال : " {ولا يرضى لعباده الكفر} " [ الزمر : ٧ ]

وقال " {لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} " [ الفتح : ١٨ ]

وقال في صفة السابقين الأولين : " {رضي اللّه عنهم ورضوا عنه} " [ المجادلة : ٢٢ ]

وقال حكاية عن موسى : " {وعجلت إليك رب لترضى} " [ طه : ٨٤ ] .

اللفظ الثالث : المحبة قال " {يحبهم ويحبونه} " [ المائدة : ٥٤ ]

وقال : " {ويحب المتطهرين} " [ البقرة : ٢٢٢ ] .

اللفظ الرابع : الكراهة قال تعالى : " {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها} " [ الإسراء : ٣٨ ]

وقال : " {ولكن كره اللّه انبعاثهم فثبطهم} " [ التوبة : ٤٦ ]

قالت الأشعرية : الكراهة عبارة عن يريد أن لا يفعل وقالت المعتزلة : بل هي صفة أخرى سوى الإرادة واللّه أعلم .

الفصل الخامس

في السمع والبصر :

قال تعالى : " {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [ الشورى : ١١ ]

وقال تعالى : " {لنريه من آياتنا أنه هو السميع البصير} " [ الإسراء : ١ ]

وقال تعالى : " {إنني معكما أسمع وأرى} " [ طه : ٤٦ ]

وقال : " {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} " [ مريم : ٤٢ ]

وقال تعالى : " {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} " [ الأنعام : ١٠٣ ] .

الفصل السادس

في الصفات الإضافية مع السلبية

اعلم أن الأول هو الذي يكون سابقا على غيره ولا يسبقه غيره فكونه سابقا على غيره إضافة وقولنا إنه لا يسبقه غيره فهو سلب

فلفظ الأول يفيد حالة متركبة من إضافة وسلب

والآخر هو الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعده غيره والحال فيه كما تقدم

أما لفظ الظاهر فهو إضافة محضة لأن معناه كونه ظاهرا بحسب الدلائل

وأما لفظ الباطن فهو سلب محض لأن معناه كونه خفيا بحسب الماهية .

ومن الأسماء الدالة على مجموع إضافة وسلب القيوم لأن هذا اللفظ يدل على المبالغة في هذا المعنى وهذه المبالغة تحصل عند اجتماع أمرين :

 أحدهما أن لا يكون محتاجا إلى شيء سواه البتة وذلك لا يحصل إلا إذا كان واجب الوجود في ذاته وفي جملة صفاته

والثاني : أن يكون كل ما سواه محتاجا إليه في ذواتها وفي جملة صفاتها وذلك بأن يكون مبدأ لكل ما سواه فالأول سلب والثاني إضافة ومجموعهما هو القيوم .

الفصل السابع

في الأسماء الدالة على الذات والصفات الحقيقية والإضافية والسلبية

فمنها قولنا الإله وهذا الاسم يفيد الكل ؛ لأنه يدل على كونه موجودا وعلى كيفيات ذلك الوجود أعني كونه أزليا أبديا واجب الوجود لذاته وعلى الصفات السلبية الدالة على التنزيه وعلى الصفات الإضافية الدالة على الإيجاد والتكوين واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يطلق على غير اللّه تعالى ؟ أما كفار قريش فكانوا يطلقونه في حق الأصنام وهل يجوز ذلك في دين الإسلام ؟ المشهور أنه لا يجوز وقال بعضهم : إنه يجوز ؛ لأنه ورد في بعض الأذكار : يا إله الآلهة وهو بعيد

وأما قولنا : اللّه ؛ فسيأتي بيان أنه اسم علم للّه تعالى فهل يدل هذا الاسم على هذه الصفات ؟

فنقول : لا شك أن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات والمعنى : أنه تعالى لو كان بحيث يصح أن يشار إليه لكان هذا الاسم قائما ؟ مقام تلك الإشارة ثم اختلفوا في أن الإشارة إلى الذات المخصوصة : هل تتناول الصفات

فإن قالوا : الإشارة لا تتناول الصفات السلبية فوجب أن لا يدل عليها لفظ اللّه

قلنا : الإشارة في حق اللّه إشارة عقلية منزهة عن العلائق الحسية والإشارة العقلية قد تتناول السلوب .

الفصل الثامن

في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي من أسماء الذات أو من أسماء الصفات

هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه وذلك لأن أهل التشبيه يقولون : الموجود أما أن يكون متحيزا

وأما أن يكون حالا في ا لمتحيز

أما الذي لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز - فكان خارجا عن القسمين - ؛ فذاك محض العدم

وأما أهل التوحيد والتقديس ؛ فيقولون :

أما المتحيز ؛ فهو منقسم وكل منقسم ؛ فهو محتاج فكل متحيز هو محتاج ؛ فما لا يكون محتاجا امتنع أن يكون متحيزا

وأما الحال في المتحيز ؛ فهو أولى بالاحتياج فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز .

إذا عرفت هذا الأصل ؛

فنقول : ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في الحيز والمكان : فمنها العظيم ؛ وذلك لأن أهل التشبيه قالوا : معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش ومنها : الكبير وما يشتق منه وهو لفظ الأكبر ولفظ الكبرياء ولفظ المتكبر .

واعلم أني ما رأيت أحدا من المحققين بين الفرق بينهما إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه :

 الأول : أنه جاء في الأخبار الإلهية أنه تعالى يقول : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فجعل الكبرياء قائما مقام الرداء والعظمة قائمة مقام الإزار ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالا من صفة العظمة

والثاني : أن الشريعة فرقت بين الحالين ؛ فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمة الصلاة : اللّه أكبر ولم يقل أحد : اللّه أعظم ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة

الثالث : أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق اللّه تعالى ؛ كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم ؛ فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق اللّه .

واعلم أن اللّه تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى فقال : " {ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} " [ البقرة : ٢٥٥ ] وقال في آية أخرى : " {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} " [ سبأ : ٣٢ ] إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما فهذه العقدة يجب البحث عنها

فنقول - ومن اللّه الإرشاد والتعليم - : يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيرا سواء استكبره غيره أم لا وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا

وأما العظمة ؛ فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي فهذا هو الممكن في هذا المقام والعلم عند اللّه .

ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة ؛ الألفاظ المشتقة من العلو ؛ فمنها قوله تعالى " ( العلي ) " [ البقرة : ٢٥٥ ] ومنها قوله : " {سبح اسم ربك الأعلى} " [ الأعلى : ١ ] ومنها المتعالي ومنها : اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الإطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم : " {تعالى} " ؛ لقوله تعالى في أول سورة النحل : " {سبحانه وتعالى عما يشركون} " [ النحل : ١ ] إذا عرفت هذا ؛ فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا : معنى علوه وتعاليه كونه موجودا في جهة فوق ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش ومنهم من قال : إنه مباين للعرش ببعد متناه ومنهم من قال : إنه مباين للعرش ببعد غير متناه وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة

وأما أهل التنزيه والتقديس ؛ فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار :

فأحدها : أنه عظيم بحسب مدة الوجود وذلك لأنه أزلي أبدي وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام

وثانيها أنه عظيم في العلم والعمل

وثالثها : أنه عظيم في الرحمة والحكمة

ورابعها : أنه عظيم في كمال القدرة

وأما العلو ؛ فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزها عن صفات النقائص والحاجات .

إذا عرفت هذا ؛ فلفظ العظيم والكبير عند المشبهة من أسماء الذات وعند أهل التوحيد من أسماء الصفات

وأما لفظ العلي ؛ فعند الكل من أسماء الصفات إلا أنه عند المشبهة يفيد الحصول في الحيز الذي هو العلو الأعلى وعند أهل التوحيد يفيد كونه منزها عن كل ما لا يليق بالإلهية فهذا تمام البحث في هذا الباب .

الفصل التاسع

في الأسماء الحاصلة للّه تعالى من باب الأسماء المضمرة

اعلم أن الأسماء المضمرة ثلاثة : أنا وأنت وهو وأعرف الأقسام الثلاثة قولنا : أنا ؛ لأن هذا اللفظ لفظ يشير به كل أحد إلى نفسه وأعرف المعارف عند كل أحد نفسه وأوسط هذه الأقسام قولنا : أنت ؛ لأن هذا خطاب للغير بشرط كونه حاضرا فلأجل كونه خطابا للغير يكون دون قوله أنا ولأجل أن الشرط فيه كون ذلك المخاطب حاضرا يكون أعلى من قوله : هو ؛ فثبت أن أعلى الأقسام هو قوله : أنا وأوسطها : أنت وأدناها : هو وكلمة التوحيد وردت بكل واحدة من هذه الألفاظ

أما لفظ أنا ؛ فقال في أول سورة النحل : " {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا} " [ النحل : ٢ ]

وفي سورة طه : " {إنني أنا اللّه لا إله إلا أنا} " [ طه : ١٤ ]

وأما لفظ أنت فقد جاء في قوله : " {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت} " [ الأنبياء : ٨٧ ]

وأما لفظ هو ؛ فقد جاء كثيرا في القرآن

أولها في سورة البقرة في قوله : " {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} " [ البقرة : ١٦٣ ]

وآخرها في سورة المزمل وهو قوله : " {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} " [ المزمل : ٩ ]

وأما ورود هذه الكلمة مقرونا باسم آخر سوى هذه الأربعة ؛ فهو الذي حكاه اللّه تعالى عن فرعون أنه قال : " {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} " [ يونس : ٩٠ ]

ثم بين اللّه تعالى أن تلك الكلمة ما قبلت منه .

إذا عرفت هذا ؛ فلنذكر أحكام هذه الأقسام

فنقول : أما قوله : لا إله إلا أنا ؛ فهذا الكلام لا يجوز أن يتكلم به أحد إلا اللّه أو من يذكره على سبيل الحكاية عن اللّه ؛ لأن تلك الكلمة تقتضي إثبات الإلهية لذلك القائل وذلك لا يليق إلا باللّه - سبحانه - واعلم أن معرفة هذه الكلمة مشروطة بمعرفة قوله : أنا وتلك المعرفة على سبيل التمام والكمال لا تحصل إلا للحق سبحانه وتعالى ؛ لأن علم كل أحد بذاته المخصوصة أكمل من علم غيره به لا سيما في حق الحق تعالى فثبت أن قوله لا إله إلا أنا لم يحصل العلم به على سبيل الكمال إلا للحق تعالى

وأما الدرجة الثانية وهي قوله : لا إله إلا أنت ؛ فهذا يصح ذكره من العبد ؛ لكن بشرط أن يكون حاضرا لا غائبا : لكن هذه الحالة إنما اتفق حصولها ليونس عليه السلام عند غيبته عن جميع حظوظ النفس وهذا تنبيه على أن الإنسان ما لم يصر غائبا عن كل الحظوظ لا يصل إلى مقام المشاهدة

وأما الدرجة الثالثة وهي قوله : لا إله إلا هو ؛ فهذا يصح من الغائبين .

واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه وكل درجة ناقصة من درجات الحضور ؛ فهي غيبة بالنسبة إلى الدرجة الكاملة ولما كانت درجات الحضور غير متناهية كانت مراتب الكمالات والنقصانات غير متناهية فكانت درجات الحضور والغيبة غير متناهية فكل من صدق عليه أنه حاضر فباعتبار آخر يصدق عليه أنه غائب وبالعكس وعن هذا قال الشاعر :

( أيا غائبا حاضرا في الفؤاد سلام على الغائب الحاضر )

ويحكى أن الشبلي لما قربت وفاته قال بعض الحاضرين : قل لا إله إلا اللّه فقال :

( كل بيت أنت حاضره غير محتاج إلى السرج )

( وجهك المأمول حجتنا يوم تأتي الناس بالحجج )

واعلم أن لفظ هو فيه أسرار عجيبة وأحوال عالية فبعضها يمكن شرحه وتقريره وبيانه وبعضها لا يمكن قال مصنف الكتاب : وأنا بتوفيق اللّه كتبت أسرارا لطيفة إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة والسعادة عند ذكر كلمة هو أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيرا فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيرا عجيبا في القلب لا يصل البيان إليه ولا ينتهي الشرح إليه فلنكتب ما يمكن ذكره فنقول : فيه أسرار :

 الأول : أن الرجل إذا قال : يا هو فكأنه يقول : من أنا حتى أعرفك ومن أنا حتى أكون مخاطبا لك وما للتراب ورب الأرباب وأي مناسبة بين المتولد عن النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم ؟ فأنت أعلى من جميع المناسبات وأنت مقدس عن علائق العقول والخيالات فلهذا السبب خاطبه العبد بخطاب الغائبين ؛ فقال : يا هو .

والفائدة الثانية : أن هذا اللفظ كما دل على إقرار العبد على نفسه بالدناءة والعدم ؛ ففيه أيضا دلالة على أنه أقر بأن كل ما سوى اللّه تعالى ؛ فهو محض العدم ؛ لأن القائل إذا قال : يا هو فلو حصل في الوجود شيئان لكان قولنا هو صالحا لهما جميعا فلا يتعين واحد منهما بسبب قوله : هو فلما قال يا هو ؛ فقد حكم على كل ما سوى اللّه تعالى بأنه عدم محض ونفي صرف كما قال تعالى : " {كل شيء هالك إلا وجهه} " [ القصص : ٨٨ ] وهذان المقامان في الفناء عن كل ما سوى اللّه مقامان في غاية الجلال ولا يحصلان إلا عند مواظبة العبد على أن يذكر اللّه بقوله : يا هو.

والفائدة الثالثة : أن العبد متى ذكر اللّه بشيء من صفاته لم يكن مستغرقا في معرفة اللّه تعالى ؛ لأنه إذا قال : يا رحمن ؛ فحينئذ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها ؛ فيكون طالبا للحصة وكذلك إذا قال : يا كريم يا محسن يا غفار يا وهاب يا فتاح وإذا قال : يا ملك ؛ فحينئذ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئا منها وقس عليه سائر الأسماء

أما إذا قال : يا هو ؛ فإنه يعرف أنه هو وهذا الذكر لا يدل على شيء غيره البتة فحينئذ يحصل في قلبه نور ذكره ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير اللّه وهناك يحصل في قلبه النور التام والكشف الكامل .

والفائدة الرابعة : أن جميع الصفات المعلومة عند الخلق

أما صفات الجلال

وأما صفات الإكرام

أما صفات الجلال ؛ فهي قولنا ليس بجسم ولا بجوهر ولا عرض ولا في المكان ولا في المحل وهذا فيه دقيقة ؛ لأن من خاطب السلطان فقال : أنت لست أعمى ولست أصم ولست كذا ولا كذا ويعد أنواع المعايب والنقصانات ؛ فإنه يستوجب الزجر والحجر والتأديب ويقال : إن مخاطبته بنفي هذه الأشياء عنه إساءة في الأدب

وأما صفات الإكرام ؛ فهي كونه خالقا للمخلوقات مرتبا لها على النظم الأكمل وهذا أيضا فيه دقيقة من وجهين :

 الأول لا شك أن كمال الخالق أعلى وأجل من كمال المخلوق بمراتب لا نهاية لها فإذا شرحنا نعوت كمال اللّه وصفات جلاله بكونه خالقا لهذه المخلوقات ؛ فقد جعلنا كمال هذه المخلوقات كالشرح والبيان لكمال جلال الخالق وذلك يقتضي تعريف الكامل المتعالي بطريق في غاية الخسة والدناءة وذلك سوء أدب

والثاني : أن الرجل إذا أخذ يمدح السلطان القاهر بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز أو قطرة ماء ؛ فإنه يستوجب الزجر والحجر ومعلوم أن نسبة جميع عالم المخلوقات من العرش إلى آخر الخلاء الذي لا نهاية له إلى ما في خزائن قدرة اللّه أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا فإذا كان ذلك سوء أدب ؛ فهذا أولى أن يكون سوء أدب فثبت أن مدح اللّه وثناءه بالطريقين المذكورين فيه هذه الاعتراضات إلا أن ههنا سببا يرخص في ذكر هذه المدائح وهو أن النفس صارت مستغرقة في عالم الحس والخيال ؛ فالإنسان إذا أراد جذبها إلى عتبة عالم القدس احتاج إلى أن ينبهها على كمال الحضرة المقدسة ولا سبيل له إلى معرفة كمال اللّه وجلاله إلا بهذين الطريقين أعني : ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام فيواظب على هذين النوعين حتى تعرض النفس عن عالم الحس وتألف الوقوف على عتبة القدس فإذا حصلت هذه الحالة ؛ فعند ذلك يتنبه لما في ذينك النوعين من الذكر من الاعتراضات المذكورة وعند ذلك يترك تلك الأذكار ويقول : يا هو كأن العبد يقول : أجل حضرتك أن أمدحك وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك أو بإسناد كمالات المخلوقات إليك فإن كمالك أعلى وجلالك أعظم بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي ولا أخاطبك أيضا بلفظة أنت ؛ لأن تلك اللفظة تفيد التيه والكبر حيث تقول الروح : إني قد بلغت مبلغا صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود ؛ ولكني لا أزيد على قولي : هو ؛ ليكون إقرارا بأنه هو الممدوح لذاته بذاته ويكون إقرارا بأن حضرته أعلى وأجل من أن يناسبه حضور المخلوقات فهذه الكلمة الواحدة تنبه على هذه الأسرار في مقامات التجلي والمكاشفات فلا جرم كان هذا الذكر أشرف الأذكار لكن بشرط التنبيه لهذه الأسرار .

الفائدة الخامسة : في هذا الذكر : أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى اللّه والشوق إلى اللّه ألذ المقامات وأكثرها بهجة وسعادة إنما

قلنا : أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى اللّه ؛ وذلك لأن كلمة هو ضمير الغائب إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان والجهة وإنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث والإمكان ومعيوب بعيب الكون في إحاطة المكان والزمان فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة وعلم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات ؛ فعند هذا يعلم أن كل المحدثات والإبداعيات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه وتعالى وعرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان والكمال والحاجة والاستغناء فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحدثات واعتقد أن تصوره غائب عن العقل والفكر والذكر فصارت تلك الكمالات مشعورا بها من وجه دون وجه والشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها ومراتبها وإذا كان لا نهاية لتلك المراتب والدرجات ؛ فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق وكلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان أسهل ؛ كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل فثبت أن لفظ هو يفيد الشوق إلى اللّه تعالى وإنما قلنا : إن الشوق إلى اللّه أعظم المقامات ؛ وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة ؛ لأن بقدر ما يصل يلتذ وبقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم والشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ والابتهاج والسرور وذلك يدل على أن مقام الشوق إلى اللّه أعظم المقامات فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة هو تورث الشوق إلى اللّه تعالى وثبت أن الشوق إلى اللّه أعظم المقامات وأكثرها بهجة وسعادة ؛ فيلزم أن يقال : المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسنى الدرجات .

الفائدة السادسة : في شرح جلالة هذا الذكر :

واعلم أن المقصود لا يتم إلا بذكر مقدمتين :

المقدمة الأولى : أن العلم على قسمين : تصور وتصديق

أما التصور ؛ فهو أن تحصل في النفس صورة من غير أن تحكم النفس عليها بحكم البتة لا بحكم وجودي ولا بحكم عدمي

أما التصديق ؛ فهو أن يحصل في النفس صورة مخصوصة ثم إن النفس تحكم عليها

أما بوجود شيء أو عدمه إذا عرفت هذا فنقول : التصور مقام التوحيد

وأما التصديق فإنه مقام التكثير .

المقدمة الثانية : أن التصور على قسمين : تصور يتمكن العقل من التصرف فيه وتصور لا يمكنه التصرف فيه :

أما القسم الأول فهو تصور الماهيات المركبة فإنه لا يمكنه تصور الماهيات المركبة إلا بواسطة استحضار ماهيات أجزاء ذلك المركب وهذا التصرف عمل وفكر وتصرف من بعض الوجوه

وأما القسم الثاني فهو تصور الماهيات البسيطة المنزهة عن جميع جهات التركيبات فإن الإنسان لا يمكنه أن يعمل عملا يتوسل به إلى استحضار .

تلك الماهية فثبت بما ذكرنا أن التصديق يجري مجرى التكثير بالنسبة إلى التصور وأن التصور توحيد بالنسبة إلى التصديق وثبت أيضا أن تصور الماهية البسيطة هو النهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة وإذا عرفت هذا فنقول : قولنا في الحق سبحانه وتعالى يا هو هذا تصور محض خال عن التصديق ثم إن هذا التصور تصور لحقيقة منزهة عن جميع جهات التركيب والكثرة فكان قولنا يا هو نهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة وهو أعظم المقامات .

الفائدة السابعة : أن تعريف الشيء أما أن يكون بنفسه أو بالأجزاء الداخلة فيه أو بالأمور الخارجة عنه

أما القسم الأول - وهو تعريفه بنفسه - فهو محال ؛ لأن المعرف سابق على المعرف فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به وذلك محال

وأما القسم الثاني - وهو تعريفه بالأمور الداخلة فيه - فهذا في حق الحق محال ؛ لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة وذلك في حق الحق محال

وأما القسم الثالث - وهو تعريفه بالأمور الخارجة عنه - فهذا أيضا باطل محال ؛ لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئا من أحوال القديم الواجب لذاته ؛ لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة وبهويته المعينة لكل ما سواه ولما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية اللّه تعالى وحقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة وماهيته المعينة فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة وهو أن يوجه الإنسان حدقة عقله وروحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستسعد بمطالعة ذلك النور فقول الذاكر يا هو توجيه لحدقة العقل والروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة .

الفائدة الثامنة : أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب والسلطان القاهر ووقف بعقله على كمال تلك المهابة وعلى جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة وتلك السلطة فيصير غافلا عن كل ما سواه حتى إنه ربما كان جائعا فينسى جوعه وربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة وربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة ولا يعرفهما وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره فكذلك العبد إذا قال يا هو وتجلى لعقله وروحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة وعلى روحه الحيرة وعلى فكره الغفله فيصير غائبا عن كل ما سوى تلك الهوية معزولا عن الألتفات إلى شيء سواها وحينئذ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله هو وبلسانه هو فإذا قال العبد هو وواظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة فنسأل اللّه تعالى الكريم أن يسعدنا بها .

الفائدة التاسعة : من فوائد هذا الذكر العالي : روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : من جعل همومه هما واحدا كفاه اللّه هموم الدنيا والآخرة فكأن العبد يقول : همومي في الدنيا والآخرة غير متناهية والحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة غير متناهية ورحمة غير متناهية وحكمة غير متناهية فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات وعلى تحصيل تلك المهمات إلا اللّه سبحانه وتعالى فأنا أجعل همي مشغولا بذكره فقط ولساني مشغولا بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة .

الفائدة العاشرة : أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولا عن غيره فكأن العبد يقول : كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره فإذا كان هذا لازما فالأولى أن أجعل قلبي وفكري مشغولا بمعرفة أشرف المعلومات وأجعل لساني مشغولا بذكر أشرف المذكورات ؛ فلهذا السبب أواظب على قوله يا هو .

الفائدة الحادية عشرة : أن الذكر أشرف المقامات قال عليه السلام حكاية عن اللّه تعالى : إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه .

وإذا ثبت هذا فنقول : أفضل الأذكار ذكر اللّه بالثناء الخالي عن السؤال قال عليه السلام حكاية عن اللّه تعالى : من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : العبد فقير محتاج ؛ والفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب والسؤال كان ذلك محمولا على السؤال فإذا قال الفقير للغني يا كريم كان معناه أكرم وإذ قال له يا نفاع كان معناه طلب النفع وإذا قال يا رحمن كان معناه ارحم فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليا عن السؤال والطلب

أما إذا قال يا هو كان معناه خاليا عن الإشعار بالسؤال والطلب فوجب أن يكون قولنا هو أعظم الأذكار .

ولنختم هذا الفصل بذكر شريف رأيته في بعض الكتب : يا هو يا من لا هو إلا هو يا من لا إله إلا هو يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهار يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت .

ومن لطائف هذا الفصل أن الشيخ الغزالي رحمة اللّه عليه كان يقول : لا إله إلا اللّه توحيد العوام ولا إله إلا هو توحيد الخواص ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان

أما القرآن فإنه تعالى قال : " {ولا تدع مع اللّه إلها آخر لا إله إلا هو} " [ القصص : ٨٨ ] ثم قال بعده " {كل شيء هالك إلا وجهه} " [ القصص : ٨٨ ] معناه إلا هو فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة

وأما البرهان فهو أن من الناس من قال إن تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها فقلت فالوجود أيضا ماهية فوجب أن لا يكون الوجود واقعا بتأثيره فإن التزموا ذلك وقالوا الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول : تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوما مغايرا للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل وإن كانت مفهوما مغايرا فذلك المفهوم المغاير لا بد وأن يكون له ماهية وحينئذ يعود الكلام فثبت أن القول بأن المؤثر لا تأثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر وينفي الصنع والصانع بالكلية وذلك باطل فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة فبقدرته صارت الماهيات ماهيات وصارت الحقائق حقائق وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت وعند هذا يظهر صدق قولنا لا هو إلا هو أي : لا تقرر لشيء من الماهيات ولا تخصص لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتخصيصه فثبت أنه لا هو إلا هو واللّه أعلم .

الباب الثامن

في بقية المباحث عن أسماء اللّه تعالى

وفيه مسائل هل أسماؤه تعالى توقيفية

المسألة الأولى اختلف العلماء في أن أسماء اللّه تعالى توقيفية أم اصطلاحية قال بعضهم لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء والصفات على اللّه تعالى إلا إذا كان واردا في القرآن والأحاديث الصحيحة وقال آخرون : كل لفظ دل على معنى يليق بجلال اللّه وصفاته فهو جائز وإلا فلا وقال الشيخ الغزالي رحمة اللّه عليه : الاسم غير والصفة غير فاسمي محمد واسمك أبو بكر فهذا من باب الأسماء

وأما الصفات فمثل وصف هذا الإنسان بكونه طويلا فقيها كذا وكذا إذا عرفت هذا الفرق فيقال :

أما إطلاق الاسم على اللّه فلا يجوز إلا عند وروده في القرآن والخبر

وأما الصفات فإنه لا يتوقف على التوقيف .

واحتج الأولون بأن قالوا : إن العالم له أسماء كثيرة ثم إنا نصف اللّه تعالى بكونه عالما ولا نصفه بكونه طبيبا ولا فقيها ولا نصفه بكونه متيقنا ولا بكونه متبينا وذلك يدل على أنه لا بد من التوقيف وأجيب عنه فقيل :

أما الطبيب فقد ورد ؛ نقل أن أبا بكر لما مرض قيل له : نحضر الطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني

وأما الفقيه فهو عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه بعد دخول الشبهة فيه وهذا القيد ممتنع الثبوت في حق اللّه تعالى

وأما المتيقن فهو مشتق من يقن الماء في الحوض إذا اجتمع فيه فاليقين هو العلم الذي حصل بسبب تعاقب الأمارات الكثيرة وترادفها حتى بلغ المجموع إلى إفادة الجزم وذلك في حق اللّه تعالى محال

وأما التبيين فهو عبارة عن الظهور بعد الخفاء وذلك لأن التبيين مشتق من البينونة والإبانة وهي عبارة عن التفريق بين أمرين متصلين فإذا حصل في القلب اشتباه صورة بصورة ثم انفصلت إحداهما عن الأخرى فقد حصلت البينونة ؛ فلهذا السبب سمي ذلك بيانا وتبيينا ومعلوم أن ذلك في حق اللّه تعالى محال .

واحتج القائلون بأنه لا حاجة إلى التوقيف بوجوه :

 الأول : أن أسماء اللّه وصفاته مذكورة بالفارسية وبالتركية وبالهندية وأن شيئا منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها .

الثاني : أن اللّه تعالى قال : " {وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها} " [ الأعراف : ١٨٠ ] والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات المدح ونعوت الجلال فكل اسم دل على هذه المعاني كان اسما حسنا فوجب جواز إطلاقه في حق اللّه تعالى تمسكا بهذه الآية .

الثالث : أنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظة المعينة عبثا

وأما الذي قاله الشيخ الغزالي رحمة اللّه تعالى عليه فحجته أن وضع الاسم في حق الواحد منا يعد سوء أدب ففي حق اللّه أولى

أما ذكر الصفات بالألفاظ المختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع فكذلك في حق البارىء تعالى .

المسألة الثانية : اعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق اللّه تعالى ونحن نعد منها صورا

فأحدها الاستهزاء قال تعالى " {اللّه يستهزئ بهم} " [ البقرة : ١٥ ] ثم أن الاستهزاء جهل والدليل عليه أن القوم لما قالوا لموسى عليه السلام " {أتتخذنا هزوا قال أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين} " [ البقرة : ٦٧ ]

وثانيها المكر قال تعالى : " {ومكروا ومكر اللّه} " [ آل عمران : ٥٤ ]

وثالثها الغضب قال تعالى : " {وغضب اللّه عليهم} " [ الفتح : ٦ ]

ورابعها : التعجب قال تعالى : " {بل عجبت ويسخرون} " [ الصافات : ١٢ ]

فمن قرأ عجبت بضم التاء كان التعجب منسوبا إلى اللّه والتعجب عبارة عن حالة تعرض في القلب عند الجهل بسبب الشيء .

وخامسها التكبر قال تعالى : " {العزيز الجبار المتكبر} " [ الحشر : ٢٣ ] وهو صفة ذم .

وسادسها الحياء قال تعالى : " {إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما} " [ البقرة : ٢٦ ]

والحياء عبارة عن تغير يحصل في الوجه والقلب عند فعل شيء قبيح .

واعلم أن القانون الصحيح في هذه الألفاظ أن نقول : لكل واحد من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية آثار تصدر عنها في النهاية مثاله أن الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دم القلب وسخونة المزاج والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه فإذا سمعت الغضب في حق اللّه تعالى فأحمله على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض وقس الباقي عليه .

المسألة الثالثة : رأيت في بعض كتب التذكير أن للّه تعالى أربعة آلاف اسم : ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف منها في التوراة وألف في الإنجيل وألف في الزبور ويقال : ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك الألف إلى عالم البشر

وأقول : هذا غير مستبعد فإنا بينا أن أقسام صفات اللّه بحسب السلوب والإضافات غير متناهية ونبهنا على تقرير هذا الموضع وشرحناه شرحا بليغا بل نقول : كل من كان اطلاعه على آثار حكمة اللّه تعالى في تدبير العالم الأعلى وتدبير العالم الأسفل أكثر كان اطلاعه على أسماء اللّه تعالى أكثر ووقوفه على الصفات الموجبة للمدح والتعظيم أكثر فمن طالع تشريح بدن الإنسان ووقف فيه على ما يقرب من عشرة آلاف نوع من أنواع الرحمة والحكمة في تخليق بدن الإنسان فقد حصل في عقله عشرة آلاف نوع من أسماء اللّه تعالى الدالة على المدح والتعظيم ثم إن من وقف على العدد الذي ذكرناه من أقسام الرحمة والحكمة في بدن الإنسان صار ذلك منبها للعقل على أن الذي لم يعرفه من أقسام الحكمة والرحمة في تخليق هذا البدن أكثر مما عرفه وذلك [ أنه ] لما عرف أن الأرواح الدماغية من العصب سبعة عرف لكل واحد منها فائدة وحكمة ثم لما عرف أن كل واحد من هذه الأرواح ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو أربعة عرف بالجبلة الشديدة وجه الحكمة في كل واحد من تلك الأقسام .

ثم إن العقل يعلم أن كل واحد من تلك الأقسام ينقسم إلى شظايا دقيقة وكل واحدة من تلك الشظايا تنقسم إلى أقسام أخر وكل واحد من تلك الأقسام يتصل بعضو معين اتصالا معينا ويكون وصول ذلك القسم إلى ذلك العضو في ممر معين إلا أنها لما كثرت ودقت خرجت عن ضبط العقل فثبت أن تلك العشرة آلاف تنبه العقل على أن أقسام حكمة اللّه تعالى في تخليق هذا البدن خارج عن التعديد والتحديد والإحصاء والاستقصاء كما قال تعالى : " {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} " [ إبراهيم : ٣٤ ] فكل من وقف على نوع آخر من أنواع تلك الحكمة فقد وصل إلى معرفة اسم آخر من أسماء اللّه تعالى ولما كان لا نهاية لمراتب حكمة اللّه تعالى ورحمته فكذلك لا نهاية لأسمائه الحسنى ولصفاته العليا وذكر جالينوس في كتاب منافع الأعضاء أنه لما صنف ذلك الكتاب لم يكتب فيه منافع مجمع النور قال وإنما تركت كتابتها ضنة بها لشرفها فرأيت في بعض الليالي كأن ملكا نزل من السماء وقال جالينوس إن إلهك يقول : لم أخفيت حكمتي عن عبادي قال : فلما انتهيت صنفت في هذا المعنى كتابا مفردا وبالغت في شرحه .

فثبت بما ذكرنا أنه لا نهاية لأسماء اللّه الحسنى .

المسألة الرابعة : أنا نرى في كتب الطلسمات والعزائم أذكارا غير معلومة ورقي غير مفهومة وكما أن تلك الألفاظ غير معلومة فقد تكون الكتابة غير معلومة

وأقول : لا شك أن الكتابة دالة على الألفاظ ولا شك أن الألفاظ دالة على الصور الذهنية فتلك الرقي إن لم يكن فيها دلالة على شيء أصلا لم يكن فيها فائدة وإن كانت دالة على شيء فدلالتها

أما أن تكون على صفات اللّه ونعوت كبريائه

وأما أن تكون دالة على شيء آخر :

أما الثاني فإنه لا يفيد ؛ لأن ذكر غير اللّه لا يفيد لا الترغيب ولا الترهيب فبقي أن يقال : إنها دالة على ذكر اللّه وصفات المدح والثناء

فنقول : ولما كانت أقسام ذكر اللّه مضبوطة ولا يمكن الزيادة عليها كان أحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون من جنس هذه الأدعية

وأما الاختلاف الحاصل بسبب اختلاف اللغات فقليل الأثر فوجب أن تكون هذه الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات لكن لقائل أن يقول : إن نفوس أكثر الخلق ناقصة قاصرة فإذا قرؤا هذه الأذكار المعلومة وفهموا ظواهرها وليست لهم نفوس قوية مشرقة إلهية لم يقو تأثرهم عن الإلهيات ولم تتجرد نفوسهم عن هذه الجسمانيات فلا تحصل لنفوسهم قوة وقدرة على التأثير

أما إذا قرؤا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئا وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية استولى الخوف والفزع والرعب على نفوسهم فحصل لهم بهذا السبب نوع من التجرد عن عالم الجسم وتوجه إلى عالم القدس وحصل بهذا السبب لنفوسهم مزيد قوة وقدرة على التأثير فهذا ما عندي في قراءة هذه الرقي المجهولة .

المسألة الخامسة : أن بين الخلق وبين أسماء اللّه تعالى مناسبات عجيبة والعاقل لا بد وأن يعتبر تلك المناسبات حتى ينتفع بالذكر والكلام في شرح هذا الباب مبني على مقدمة عقلية وهي أنه ثبت عندنا أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالجوهر والماهية فبعضها إلهية مشرقة حرة كريمة وبعضها سفلية ظلمانية نذلة خسيسة وبعضها رحيمة عظيمة الرحمة وبعضها قاسية قاهرة وبعضها قليلة الحب لهذه الجسمانيات قليلة الميل إليها وبعضها محبة للرياسة والاستعلاء ومن اعتبر أحوال الخلق علم أن الأمر كما ذكرناه ثم إنا نرى هذه الأحوال لازمة لجواهر النفوس وأن كل من راعى أحوال نفسه علم أن له منهجا معينا وطريقا مبينا في الإرادة والكراهة والرغبة والرهبة وأن الرياضة والمجاهدة لا تقلب النفوس عن أحوالها الأصلية ومناهجها الطبيعية وإنما تأثير الرياضة في أن تضعف تلك الأخلاق ولا تستولي على الإنسان

فأما أن ينقلب من صفة أخرى فذلك محال وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وبقوله عليه الصلاة والسلام : الأرواح جنود مجندة إذا عرفت هذا

فنقول : الجنسية علة الضم فكل اسم من أسماء اللّه تعالى دال على معنى معين فكل نفس غلب عليها ذلك المعنى كانت تلك النفس شديدة المناسبة لذلك الاسم فإذا واظب على ذكر ذلك الاسم انتفع به سريعا وسمعت أن الشيخ أبا النجيب البغدادي السهروردي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يراه من المصلحة ثم كان يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق وإن رآه متأثرا عند سماع اسم خاص مزيد التأثر أمره بالمواظبة على ذلك الذكر

وأقول : هذا هو المعقول فإنه لما كانت النفوس مختلفة كان كل واحد منها مناسبا لحالة مخصوصة فإذا اشتغلت تلك النفس بتلك الحالة التي تناسبها كان خروجها من القوة إلى الفعل سهلا هينا يسيرا وليكن هذا آخر كلامنا في البحث عن مطلق الأسماء واللّه الهادي .

الباب التاسع

في المباحث المتعلقة بقولنا اللّه

وفيه مسائل لفظ الجلالة علم لا مشتق

المسألة الأولى : المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم علم للّه تعالى وأنه ليس بمشتق البتة وهو قول الخليل وسيبويه وقول أكثر الأصوليين والفقهاء ويدل عليه وجوه وحجج :

الحجة الأولى : أنه لو كان لفظا مشتقا لكان معناه معنى كليا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين فثبت أن هذا اللفظ لو كان مشتقا لم يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين ولو كان كذلك لما كان قولنا لا إله إلا اللّه توحيدا حقا مانعا من وقوع الشركة فيه بين كثيرين ؛ لأن بتقدير أن يكون اللّه لفظا مشتقا كان قولنا اللّه غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة وحينئذ لا يكون قولنا لا إله إلا اللّه موجبا للتوحيد المحض وحيث أجمع العقلاء على أن قولنا لا إله إلا اللّه يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا اللّه اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة وأنها ليست من الألفاظ المشتقة .

الحجة الثانية : أن من أراد أن يذكر ذاتا معينة ثم يذكره بالصفات فإنه يذكر اسمه أولا ثم يذكر عقيب الاسم الصفات مثل أن يقول : زيد الفقيه النحوي الأصولي إذا عرفت هذا

فنقول : إن كل من أراد أن يذكر اللّه تعالى بالصفات المقدسة فإنه يذكر أولا لفظة اللّه ثم يذكر عقيبه صفات المدائح مثل أن يقول : اللّه العالم القادر الحكيم ولا يعكسون هذا فلا يقولون : العالم القادر اللّه وذلك يدل على أن قولنا اللّه اسم علم .

فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في أول سورة إبراهيم : " {العزيز الحميد اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض} " [ إبراهيم : ١ ] ؟

 قلنا : ههنا قراءتان منهم من قرأ اللّه بالرفع وحينئذ يزول السؤال ؛ لأنه لما جعله مبتدأ فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله

وأما من قرأ بالجر فهو نظير لقولنا : هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد وليس المراد أنه جعل قوله زيد صفة للعالم الفاضل بل المعنى أنه لما قال هذه الدار ملك للعالم الفاضل بقي الاشتباه في أنه من ذلك العالم الفاضل ؟ فقيل عقيبه زيد ليصير هذا مزيلا لذلك الاشتباه ولما لم يلزم ههنا أن يقال اسم العلم صار صفة فكذلك في هذه الآية .

الحجة الثالثة : قال تعالى : " {هل تعلم له سميا} " [ مريم : ٦٥ ] وليس المراد من الاسم في هذه الآية الصفة وإلا لكذب قوله هل تعلم له سميا فوجب أن يكون المراد اسم العلم فكل من أثبت للّه اسم علم قال ليس ذاك إلا قولنا اللّه .

واحتج القائلون بأنه ليس اسم علم بوجوه وحجج :

الحجة الأولى : قوله تعالى : " {وهو اللّه في السموات} " [ الأنعام : ٣ ] وقوله : " {هو اللّه الذي لا إله إلا هو} " [ الحشر : ٢٢ ] فإن قوله اللّه لا بد وأن يكون صفة ولا يجوز أن يكون اسم علم بدليل أنه لا يجوز أن يقال : هو زيد في البلد وهو بكر ويجوز أن يقال : هو العالم الزاهد في البلد وبهذا الطريق يعترض على قول النحويين : إن الضمير لا يقع موصوفا ولا صفة وإذا ثبت كونه صفة امتنع أن يكون اسم علم .

الحجة الثانية : أن اسم العلم قائم مقام الإشارة فلما كانت الإشارة ممتنعة في حق اللّه تعالى كان اسم العلم ممتنعا في حقه .

الحجة الثالثة : أن اسم العلم إنما يصار إليه ليتميز شخص عن شخص آخر يشبهه في الحقيقة والماهية وإذا كان هذا في حق اللّه ممتنعا كان القول بإثبات الاسم العلم محالا في حقه .

والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يكون ذلك جاريا مجرى أن يقال : هذا زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد؟

والجواب عن الثاني أن الاسم العلم هو الذي وضع لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى كون ذلك المسمى مشارا إليه بالحس أم لا وهذا هو الجواب عن الحجة الثالثة .

المسألة الثانية : الذين قالوا : إنه اسم مشتق ذكروا فيه فروعا :

الفرع الأول : أن الإله هو المعبود سواء عبد بحق أو بباطل ثم غلب في عرف الشرع على المعبود بالحق وعلى هذا التفسير لا يكون إلها في الأزل .

واعلم أنه تعالى هو المستحق للعبادة وذلك لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها وذلك لأن الموجود أما واجب

وأما ممكن والواجب واحد وهو اللّه تعالى وما سواه ممكن والممكن لا يوجب إلا بالمرجح فكل الممكنات إنما وجدت بإيجاده وتكوينه أما ابتداء

وأما بواسطة فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلا من اللّه فثبت أن غاية الإنعام صادرة من اللّه والعبادة غاية التعظيم فإذا ثبت هذا

فنقول : إن غاية التعظيم لا يليق إلا لمن صدرت عنه غاية الإنعام فثبت أن المستحق للعبودية ليس إلا اللّه تعالى .

الفرع الثاني : أن من الناس من يعبد اللّه لطلب الثواب وهو جهل وسخف ويدل عليه وجوه :

 الأول : أن من عبد اللّه ليتوصل بعبادته إلى شيء آخر كان المعبود في الحقيقة هو ذلك الشيء فمن عبد اللّه لطلب الثواب كان معبوده في الحقيقة هو الثواب وكان اللّه تعالى وسيلة إلى الوصول إلى ذلك المعبود وهذا جهل عظيم .

الثاني : أنه لو قال : أصلي لطلب الثواب أو للخوف من العقاب لم تصح صلاته .

الثالث : أن من عمل عملا لغرض آخر كان بحيث لو وجد ذلك الغرض بطريق آخر لترك الواسطة فمن عبد اللّه للأجر والثواب كان بحيث لو وجد الأجر والثواب بطريق آخر لم يعبد اللّه ومن كان كذلك لم يكن محبا للّه ولم يكن راغبا في عبادة اللّه وكل ذلك جهل ومن الناس من يعبد اللّه لغرض أعلى من الأول وهو أن يتشرف بخدمة اللّه لأنه إذا شرع في الصلاة حصلت النية في القلب وتلك النية عبارة عن العلم بعزة الربوبية وذلة العبودية وحصل الذكر في اللسان وحصلت الخدمة في الجوارح والأعضاء فيتشرف كل جزء من أجزاء العبد بخدمة اللّه فمقصود العبد حصول هذا الشرف .

الفرع الثالث : من الناس من طعن في قول من يقول : الإله هو المعبود من وجوه :

 الأول : أن الأوثان عبدت مع أنها ليست آلهة .

الثاني : أنه تعالى إله الجمادات والبهائم مع أن صدور العبادة منها محال .

الثالث : أنه تعالى إله المجانين والأطفال مع أنه لا تصدر العبادة عنها .

الرابع : أن المعبود ليس له بكونه معبودا صفة ؛ لأنه لا معنى لكونه معبودا إلا أنه مذكور بذكر ذلك الإنسان ومعلوم بعلمه ومراد خدمته بإرادته وعلى هذا التقدير فلا تكون الإلهية صفة للّه تعالى .

الخامس يلزم أن يقال : إنه تعالى ما كان إلها في الأزل .

الفرع الرابع : من الناس من قال : الإله ليس عبارة عن المعبود بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبودا وهذا القول أيضا يرد عليه أن لا يكون إلها للجمادات والبهائم والأطفال والمجانين وأن لا يكون إلها في الأزل ومنهم من قال : إنه القادر على أفعال لو فعلها لاستحق العبادة ممن يصح صدور العبادة عنه واعلم أنا إن فسرنا الإله بالتفسيرين الأولين لم يكن إلها في الأزل ولو فسرناه بالتفسير الثالث كان إلها في الأزل .

التفسير الثاني : الإله مشتق من ألهت إلى فلان أي : سكنت إليه فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته وبيانه من وجوه :

 الأول : أن الكمال محبوب لذاته وما سوى الحق فهو ناقص لذاته ؛ لأن الممكن من حيث هو هو معدوم والعدم أصل النقصان والناقص بذاته لا يكمل إلا بتكميل الكامل بذاته فإذا كان الكامل محبوبا لذاته وثبت أن الحق كامل لذاته وجب كونه محبوبا لذاته .

الثاني : أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يقف عند نفسه بل يبقى متعلقا بغيره لأنه لا يوجد إلا بوجود غيره فعلى هذا كل ممكن فإنه لا يقف عند نفسه بل ما لم يتعلق بالواجب لذاته لم يوجد وإذا كان الأمر كذلك في الوجود الخارجي وجب أن يكون كذلك في الوجود العقلي فالعقول مترقبة إلى عتبة رحمته والخواطر متمسكة بذيل فضله وكرمه وهذان الوجهان عليهما التعويل في تفسير قوله تعالى : " {ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} " [ الرعد : ٢٨ ] .

التفسير الثالث : أنه مشتق من الوله وهو ذهاب العقل واعلم أن الخلق قسمان : واصلون إلى ساحل بحر معرفته ومحرومون فالمحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة فكأنهم فقدوا عقولهم وأرواحهم

وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال فتاهوا في ميادين الصمدية وبادوا في عرصة الفردانية فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته فلا جرم كان الإله الحق للخلق هو هو وبعبارة أخرى وهي أن الأرواح البشرية تسابقت في ميادين التوحيد والتمجيد فبعضها تخلفت وبعضها سبقت فالتي تخلفت بقيت في ظلمات الغبار والتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار فالأولون بادوا في أودية الظلمات والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات .

التفسير الرابع : أنه مشتق من لاه إذا ارتفع والحق سبحانه وتعالى وهو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات لأن الواجب لذاته ليس إلا هو والكامل لذاته ليس إلا هو والأحد الحق في هويته ليس إلا هو والموجد لكل ما سواه ليس إلا هو وأيضا فهو تعالى مرتفع عن أن يقال : إن ارتفاعه بحسب المكان لأن كل ارتفاع حصل بسبب المكان فهو للمكان بالذات وللمتمكن بالعرض ؛ لأجل حصوله في ذلك المكان وما بالذات أشرف مما بالغير فلو كان هذا الارتفاع بسبب المكان لكان ذلك المكان أعلى وأشرف من ذات الرحمن ولما كان ذلك باطلا علمنا أنه سبحانه وتعالى أعلى من أن يكون علوه بسبب المكان وأشرف من أن ينسب إلى شيء مما حصل في عالم الإمكان .

التفسير الخامس : من أله في الشيء إذا تحير فيه ولم يهتد إليه فالعبد إذا تفكر فيه تحير ؛ لأن كل ما يتخيله الإنسان ويتصوره فهو بخلافه فإن أنكر العقل وجوده كذبته نفسه ؛ لأن كل ما سواه فهو محتاج وحصول المحتاج بدون المحتاج إليه محال وإن أشار إلى شيء يضبطه الحس والخيال وقال إنه هو كذبته نفسه أيضا ؛ لأن كل ما يضبطه الحس والخيال فأمارات الحدوث ظاهرة فيه فلم يبق في يد العقل إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن الإدراك فههنا العجز عن درك الإدراك إدراك ولا شك أن هذا موقف عجيب تتحير العقول فيه وتضطرب الألباب في حواشيه .

التفسير السادس : من لاه يلوه إذا احتجب ومعنى كونه محتجبا من وجوه :

 الأول : أنه بكنه صمديته محتجب عن العقول .

الثاني : أن لو قدرنا أن الشمس كانت واقفة في وسط الفلك غير متحركة كانت الأنوار باقية على الجدران غير زائله عنها فحينئذ كان يخطر بالبال أن هذه الأنوار الواقعة على هذه الجدران ذاتية لها إلا لما شاهدنا أن الشمس تغيب وعند غيبتها تزول هذه الأنوار عن هذه الجدران فبهذا الطريق علمنا أن هذه الأنوار فائضة عن قرص الشمس فكذا ههنا الوجود الواصل إلى جميع عالم المخلوقات من جناب قدرة اللّه تعالى كالنور الواصل من قرص الشمس فلو قدرنا أنه كان يصح على اللّه تعالى الطلوع والغروب والغيبة والحضور لكان عند غروبه يزول ضوء الوجود عن الممكنات فحينئذ كان يظهر أن نور الوجود منه لكنه لما كان الغروب والطلوع عليه محالا لا جرم خطر ببال بعض الناقصين أن هذه الأشياء موجودة بذواتها ولذواتها فثبت أنه لا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال نوره فلهذا قال بعض المحققين : سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره .

وإذا كان كذلك ظهر أن حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول ولا يجوز أن يقال محجوبة لأن المحجوب مقهور والمقهور يليق بالعبد أما الحق فقاهر وصفة الاحتجاب صفة القهر فالحق محتجب والخلق محجوبون .

التفسير السابع : اشتقاقه من أله الفصيل إذا ولع بأمه والمعنى أن العباد مولهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال ويدل عليه أمور :

 الأول : أن الإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية فهنالك ينسى كل شيء إلا اللّه تعالى فيقول بقلبه ولسانه : يا رب يا رب فإذا تخلص عن ذلك البلاء وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء أخذ يضيف ذلك الخلاص إلى الأسباب الضعيفة والأحوال الخسيسة وهذا فعل متناقض لأنه إن كان المخلص عن الآفات والموصل إلى الخيرات غير اللّه وجب الرجوع في وقت نزول البلاء إلى غير اللّه وإن كان مصلح المهمات هو اللّه تعالى في وقت البلاء وجب أن يكون الحال كذلك في سائر الأوقات

وأما الفزع إليه عند الضرورات والإعراض عنه عند الراحات فلا يليق بأرباب الهدايات

والثاني : أن الخير والراحة مطلوب من اللّه

والثالث : أن المحسن في الظاهر

أما اللّه أو غيره فإن كان غيره فذلك الغير لا يحسن إلا إذا خلق اللّه في قلبه داعية الإحسان فالحق سبحانه وتعالى هو المحسن في الحقيقة والمحسن مرجوع إليه في كل الأوقات والخلق مشغوفون بالرجوع إليه .

شكا بعض المريدين من كثرة الوسواس فقال الأستاذ : كنت حدادا عشر سنين وقصارا عشرة أخرى وبوابا عشرة ثالثة فقالوا : ما رأيناك فعلت ذلك قال : فعلت ولكنكم ما رأيتم أما عرفتم أن القلب كالحديد ؟ فكنت كالحداد ألينه بنار الخوف عشر سنين ثم بعد ذلك شرعت في غسله عن الأوضار والأقذار عشر سنين ثم بعد هذه الأحوال جلست على باب حجرة القلب عشرة أخرى سالا سيف لا إله إلا اللّه فلم أزل حتى يخرج منه حب غير اللّه ولم أزل حتى يدخل فيه حب اللّه تعالى فلما خلت عرصة القلب عن غير اللّه تعالى وقويت فيه محبة اللّه سقطت من بحار عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر لا إله إلا اللّه .

التفسير الثامن : أن اشتقاق لفظ الإله من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو اللّه سبحانه وتعالى لقوله تعالى " {وهو يجير ولا يجار عليه} " [ المؤمنون : ٨٨ ]

ولأنه هو المنعم لقوله تعالى " {وما بكم من نعمة فمن اللّه} " [ النحل : ٥٣ ]

ولأنه هو المطعم لقوله تعالى : " {وهو يطعم ولا يطعم} " [ الأنعام : ١٤ ]

ولأنه هو الموجد لقوله تعالى : " {قل كل من عند اللّه} " [ النساء : ٧٨ ]

فهو سبحانه وتعالى قهار للعدم بالوجود والتحصيل جبار لها بالقوة والفعل والتكميل فكان في الحقيقة هو اللّه ولا شيء سواه .

وههنا لطائف وفوائد :

 الفائدة الأولى : عادة المديون أنه إذا رأى صاحب الدين من البعد فإنه يفر منه واللّه الكريم يقول : عبادي ! أنتم غرمائي بكثرة ذنوبكم ولكن لا تفروا مني بل أقول : " {ففروا إلى اللّه} " [ الذاريات : ٥٠ ] فإني أنا الذي أقضي ديونكم وأغفر ذنوبكم وأيضا الملوك يغلقون أبوابهم عن الفقراء دون الأغنياء وأنا أفعل ضد ذلك .

الفائدة الثانية : قال صلى اللّه عليه وسلم : إن للّه تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام فبها يتعاطفون ويتراحمون وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة

وأقول : إنه صلى اللّه عليه وسلم إنما ذكر هذا الكلام على سبيل التفهيم وإلا فبحار الرحمة غير متناهية فكيف يعقل تحديدها بحد معين .

الفائدة الثالثة : قال صلى اللّه عليه وسلم : إن اللّه عز وجل يقول يوم القيامة للمذنبين : هل أحببتم لقائي ؟ فيقولون : نعم يا رب فيقول اللّه تعالى : ولم ؟ فيقولون : رجونا عفوك وفضلك فيقول اللّه تعالى : إني قد أوجبت لكم مغفرتي .

الفائدة الرابعة : قال عبد اللّه بن عمر : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن اللّه عز وجل ينشر على بعض عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا كل واحد منها مثل مد البصر فيقول له : هل تنكر من هذا شيئا ؟ هل ظلمك الكرام الكاتبون ؟ فيقول : لا يا رب فيقول اللّه تعالى : فهل كان لك عذر في عمل هذه الذنوب ؟ فيقول : لا يا رب فيضع ذلك العبد قلبه على النار فيقول اللّه تعالى : إن لك عندي حسنة وإنه لا ظلم اليوم ثم يخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه فيقول العبد : يا رب كيف تقع هذه البطاقة في مقابلة هذه السجلات ؟ فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة أخرى فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع ذكر اللّه شيء .

الفائدة الخامسة : وقف صبي في بعض الغزوات ينادي عليه في من يزيد في يوم صائف شديد الحر فبصرت به امرأة فعدت إلى الصبي وأخذته وألصقته إلى بطنها ثم ألقت ظهرها على البطحاء وأجلسته على بطنها تقيه الحر وقالت : ابني ابني فبكى الناس وتركوا ما هم فيه فأقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر فقال : أعجبتم من رحمة هذه بابنها فإن اللّه تعالى أرحم بكم جميعا من هذه المرأة بابنها فتفرق المسلمون على أعظم أنواع الفرح والبشارة .

المسألة الثالثة : في كيفية اشتقاق هذه اللفظة بحسب اللغة قال بعضهم هذه اللفظة ليست عربية بل عبرانية أو سريانية فإنهم يقولون إلها رحمانا ومرحيانا فلما عرب جعل اللّه الرحمن الرحيم وهذا بعيد ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية أصلية والدليل عليه قوله تعالى : " {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن اللّه} " [ لقمان : ٢٥ ]

وقال تعالى : " {هل تعلم له سميا} " [ مريم : ٦٥ ] وأطبقوا على أن المراد منه لفظة اللّه

وأما الأكثرون فقد سلموا كونها لفظة عربية أما القائلون بأن هذا اللفظ اسم علم للّه تعالى فقد تخلصوا عن هذه المباحث وأما المنكرون لذلك فلهم قولان : قال الكوفيون : أصل هذه اللفظة إله فأدخلت الألف واللام عليها للتعظيم فصار الالاه فحذفت الهمزة استثقالا لكثرة جريانها على الألسنة فاجتمع لامان فأدغمت الأولى فقالوا اللّه وقال البصريون أصله لاه فألحقوا بها الألف واللام فقيل اللّه وأنشدوا : ( كحلفه من أبي رباح يسمعها لاهه الكبار)

فأخرجه على الأصل .

المسألة الرابعة : قال الخليل : أطبق جميع الخلق على أن قولنا اللّه مخصوص باللّه سبحانه وتعالى وكذلك قولنا الإله مخصوص به سبحانه وتعالى

وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير اللّه فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال إله كذا أو ينكرونه فيقولون إله كما قال اللّه تعالى خبرا عن قوم موسى : " {اجعل لنا يعرشون وجاوزنا ببنى إسرءيل البحر فأتوا على قوم تجهلون} " [ الأعراف : ١٣٨ ] .

المسألة الخامسة : اعلم أن هذا الاسم مختص بخواص لم توجد في سائر أسماء اللّه تعالى ونحن نشير إليها

( فالخاصة الأولى ) أنك إذا حذفت الألف من قولك اللّه بقي الباقي على صورة للّه وهو مختص به سبحانه كما في قوله : " {وللّه جنود السموات والأرض} " [ الفتح : ٤ ] " {وللّه خزائن السموات والأرض} " [ المنافقون : ٧ ]

وإن حذفت عن هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة له كما في قوله تعالى : " {له مقاليد السموات والأرض} " [ الزمر : ٦٣ ]

وقوله : " {له الملك وله الحمد} " [ التغابن : ١ ] فإن حذفت اللام الباقية كانت البقية هي قولنا هو وهو أيضا يدل عليه سبحانه كما في قوله : " {قل هو اللّه أحد} " [ الإخلاص : ١ ]

وقوله : " {هو الحي لا إله إلا هو} " [ غافر : ٦٥ ]

والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع ؛ فإنك تقول : هما هم فلا تبقى الواو فيهما فهذه الخاصية موجودة في لفظ اللّه غير موجودة في سائر الأسماء وكما حصلت هذه الخاصية بحسب اللفظ فقد حصلت أيضا بحسب المعنى فإنك إذا دعوت اللّه بالرحمن فقد وصفته بالرحمة وما وصفته بالقهر وإذا دعوته بالعليم فقد وصفته بالعلم وما وصفته بالقدرة

وأما إذا قلت يا اللّه فقد وصفته بجميع الصفات ؛ لأن الإله لا يكون إلها إلا إذا كان موصوفا بجميع هذه الصفات فثبت أن قولنا اللّه قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء .

الخاصية الثانية : أن كلمة الشهادة وهي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإسلام لم يحصل فيها إلا هذا الاسم فلو أن الكافر قال : أشهد أن لا إله إلا الرحمن أو إلا الرحيم أو إلا الملك أو إلا القدوس لم يخرج من الكفر ولم يدخل في الإسلام

أما إذا قال أشهد أن لا إله إلا اللّه فإنه يخرج من الكفر ويدخل في الإسلام وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة واللّه الهادي إلى الصواب .

الباب العاشر

في البحث المتعلق بقولنا الرحمن الرحيم

اعلم أن الأشياء على أربعة أقسام : الذي يكون نافعا وضروريا معا والذي يكون نافعا ولا يكون ضروريا والذي يكون ضروريا ولا يكون نافعا والذي لا يكون نافعا ولا يكون ضروريا .

أما القسم الأول - وهو الذي يكون نافعا وضروريا معا –

فأما أن يكون كذلك في الدنيا فقط وهو مثل النفس - فإنه لو انقطع منك لحظة واحدة حصل الموت

وأما أن يكون كذلك في الآخرة وهو معرفة اللّه تعالى فإنها إن زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب عذاب الأبد .

وأما القسم الثاني - وهو الذي يكون نافعا ولا يكون ضروريا - فهو كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة .

وأما القسم الثالث - وهو الذي يكون ضروريا ولا يكون نافعا - فكالمضار التي لا بد منها في الدنيا : كالأمراض والموت والفقر والهرم ولا نظير لهذا القسم في الآخرة فإن منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضار .

وأما القسم الرابع - وهو الذي لا يكون نافعا ولا ضروريا - فهو كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة .

إذا عرفت هذا فنقول : قد ذكرنا أن النفس في الدنيا نافع وضروري فلو انقطع عن الإنسان لحظة لمات في الحال وكذلك معرفة اللّه تعالى أمر لا بد منه في الآخرة فلو زالت عن القلب لحظة لمات القلب لا محالة لكن الموت الأول أسهل من الثاني ؛ لأنه لا يتألم في الموت الأول إلا ساعة واحدة

وأما الموت الثاني فإنه يبقى ألمه أبد الآباد وكما أن التنفس له أثران :

 أحدهما : إدخال النسيم الطيب على القلب وإبقاء اعتداله وسلامته

والثاني : إخراج الهواء الفاسد الحار المحترق عن القلب كذلك الفكر له أثران :

 أحدهما : إيصال نسيم الحجة والبرهان إلى القلب وإبقاء اعتدال الإيمان والمعرفة عليه

والثاني : إخراج الهواء الفاسد المتولد من الشبهات عن القلب وما ذاك إلا بان يعرف أن هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها منتهية بالآخرة إلى الفناء بعد وجودها فمن وقف على هذه الأحوال بقي آمنا من الآفات واصلا إلى الخيرات والمسرات وكمال هذين الأمرين ينكشف لعقلك بان تعرف أن كل ما وجدته ووصلت إليه فهو قطرة من بحار رحمة اللّه وذرة من أنوار إحسانه فعند هذا ينفتح على قلبك معرفة كون اللّه تعالى رحمانا رحيما.

فإذا أردت أن تعرف هذا المعنى على التفصيل فاعلم أنك جوهر مركب من نفس وبدن وروح وجسد .

أما نفسك فلا شك أنها كانت جاهلة في مبدأ الفطرة كما قال تعالى : " {واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} " [ النحل : ٧٨ ]

ثم تأمل في مراتب القوى الحساسة والمحركة والمدركة والعاقلة وتأمل في مراتب المعقولات وفي جهاتها واعلم أنه لا نهاية لها البتة ولو أن العاقل أخذ في اكتساب العلم بالمعقولات وسرى فيها سريان البرق الخاطف والريح العاصف وبقي في ذلك السير أبد الآبدين ودهر الداهرين لكان الحاصل له من المعارف والعلوم قدرا متناهيا ولكانت المعلومات التي ما عرفها ولم يصل إليها أيضا غير متناهية والمتناهي في جنب غير المتناهي قليل في كثير فعند هذا يظهر له أن الذي قاله اللّه تعالى في قوله : " {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} " [ الإسراء : ٨٥ ] حق وصدق .

وأما بدنك فاعلم أنه جوهر مركب من الأخلاط الأربعة فتأمل كيفية تركيبها وتشريحها وتعرف ما في كل واحد من الأعضاء والأجزاء من المنافع العالية والآثار الشريفة وحينئذ يظهر لك صدق قوله تعالى : " {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} " [ إبراهيم : ٣٤ ]

وحينئذ ينجلي لك أثر من آثار كمال رحمته في خلقك وهدايتك فتفهم شيئا قليلا من معنى قوله الرحمن الرحيم .

فإن قيل : فهل لغير اللّه رحمة أم لا ؟

 قلنا : الحق أن الرحمة ليست إلا للّه ثم بتقدير أن تكون لغير اللّه رحمة إلا أن رحمة اللّه أكمل من رحمة غيره وههنا مقامان :

المقام الأول : في بيان أنه لا رحمة إلا للّه

فنقول : الذي يدل عليه وجوه :

 الأول : أن الجود هو إفادة ما ينبغي لا لعوض فكل أحد غير اللّه فهو إنما يعطي ليأخذ عوضا إلا أن الأعواض أقسام : منها جسمانية مثل أن يعطي دينارا ليأخذ كرباسا ومنها روحانية وهي أقسام :

فأحدها أنه يعطي المال لطلب الخدمة

وثانيها يعطى المال لطلب الإعانة

وثالثها يعطي المال لطلب الثناء الجميل

ورابعها يعطي المال لطلب الثواب الجزيل

وخامسها يعطي المال ليزيل حب المال عن القلب

وسادسها يعطي المال لدفع الرقة الجنسية عن قلبه وكل هذه الأقسام أعواض روحانية وبالجملة فكل من أعطى فإنما يعطي ليفوز بواسطة ذلك العطاء بنوع من أنواع الكمال فيكون ذلك في الحقيقة معاوضة ولا يكون جودا ولا هبة ولا عطية

أما الحق سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته فيستحيل أن يعطي ليستفيد به كمالا فكان الجواد المطلق والراحم المطلق هو اللّه تعالى .

الحجة الثانية : أن كل من سوى اللّه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد واجب الوجود لذاته فكل رحمة تصدر من غير اللّه فهي إنما دخلت في الوجود بإيجاد اللّه فيكون الرحيم في الحقيقة هو اللّه تعالى .

الحجة الثالثة : أن الإنسان يمكنه الفعل والترك فيمتنع رجحان الفعل على الترك إلا عند حصول داعية جازمة في القلب فعند عدم حصول تلك الداعية يمتنع صدور تلك الرحمة منه وعند حصولها يجب صدور الرحمة منه فيكون الراحم في الحقيقة هو الذي خلق تلك الداعية في ذلك القلب وما ذاك إلا اللّه تعالى فيكون الراحم في الحقيقة هو اللّه تعالى .

الحجة الرابعة : هب أن فلانا يعطي الحنطة ولكن ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة وهب أنه وهب البستان فما لم تحصل القوة الباصرة في العين لم يحصل الانتفاع بذلك البستان بل الحق أن خالق تلك الحنطة وذلك البستان هو اللّه تعالى والممكن من الانتفاع بهما هو اللّه والحافظ له عن أنواع الآفات والمخافات حتى يحصل الانتفاع بتلك الأشياء هو اللّه تعالى فوجب أن يقال : المنعم والراحم في الحقيقة هو اللّه تعالى.

المقام الثاني : في بيان أن بتقدير أن تحصل الرحمة من غير اللّه إلا أن رحمة اللّه أكمل وأعظم .

وبيانه من وجوه :

 الأول : أن الإنعام يوجب علو حال المنعم ودناءة حال المنعم عليه بالنسبة إلى المنعم فإذا حصل التواضع بالنسبة إلى حضرة اللّه فذاك خير من حصول هذه الحالة بالنسبة إلى بعض الخلق .

الثاني : أن اللّه تعالى إذا أنعم عليك بنعمة طلب عندها منك عملا تتوصل به إلى استحقاق نعم الآخرة فكأنه تعالى يأمرك بان تكتسب لنفسك سعادة الأبد

وأما غير اللّه فإنه إذا أنعم عليك بنعمة أمرك بالاشتغال بخدمته والانصراف إلى تحصيل مقصوده ولا شك أن الحالة الأولى أفضل .

الثالث أن المنعم عليه يصير كالعبد للمنعم وعبودية اللّه أولى من عبودية غير اللّه

الرابع : أن السلطان إذا أنعم عليك فهو غير عالم بتفاصيل أحوالك فقد ينعم عليك حال ما تكون غنيا عن إنعامه وقد يقطع عنك إنعامه حال ما تكون محتاجا إلى إنعامه وأيضا فهو غير قادر على الإنعام عليك في كل الأوقات وبجميع المرادات أما الحق تعالى فإنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات فإذا ظهرت بك حاجة عرفها وإن طلبت منه شيئا قدر على تحصيله فكان ذلك أفضل .

الخامس : الإنعام يوجب المنة وقبول المنة من الحق أفضل من قبولها من الخلق .

فثبت بما ذكرنا أن الرحمن الرحيم هو اللّه تعالى وبتقدير أن يحصل رحمن آخر فرحمة اللّه تعالى أكمل وأفضل وأعلى وأجل واللّه أعلم .

الباب الحادي عشر

في بعض النكت المستخرجة من قولنا " {بسم اللّه الرحمن الرحيم} "

النكتة الأولى : مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه فشكا إلى اللّه تعالى فدله على عشب في المفازة فأكل منه فعوفي بإذن اللّه تعالى ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه فقال يا رب أكلته أولا فانتفعت به وأكلته ثانيا فازداد مرضي فقال : لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض

أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي ؟

الثانية : باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها ؛ وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب ففعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت : ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان .

الثالثة : كان بعض العارفين يرعى غنما وحضر في قطيع غنمة الذئاب وهي لا تضر أغنامه فمر عليه رجل وناداه : متى اصطلح الذئب والغنم ؟ فقال الراعي : من حين اصطلح الراعي مع اللّه تعالى .

الرابعة : قوله {بسم اللّه} معناه أبدأ باسم اللّه فأسقط منه قوله أبدأ تخفيفا فإذا قلت بسم اللّه فكأنك قلت أبدأ باسم اللّه والمقصود منه التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلا على الصفح والإحسان .

الخامسة : روي أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية بنى قصرا وأمر أن يكتب {بسم اللّه} على بابه الخارج فلما ادعى الإلهية وأرسل إليه موسى عليه السلام ودعاه فلم ير به أثر الرشد قال : إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيرا فقال تعالى : يا موسى لعلك تريد إهلاكه أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه

والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمنا من الهلاك وإن كان كافرا فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله ؟

السادسة : سمى نفسه رحمانا رحيما فكيف لا يرحم ؟

روي أن سائلا وقف على باب رفيع فسأل شيئا فأعطي قليلا فجاء في اليوم الثاني بفأس وأخذ يخرب الباب فقيل له : ولم تفعل ؟ قال : أما أن يجعل الباب لائقا بالعطية أو العطية لائقة بالباب .

إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك .

السابعة : اللّه إشارة إلى القهر والقدرة والعلو ثم ذكر عقيبه الرحمن الرحيم وذلك يدل على أن رحمته أكثر وأكمل من قهره .

الثامنة : كثيرا ما يتفق لبعض عبيد الملك أنهم إذا اشتروا شيئا من الخيل والبغال والحمير وضعوا عليها سمة الملك لئلا يطمع فيها الأعداء فكأنه تعالى يقول : إن لطاعتك عدوا وهو الشيطان فإذا شرعت في عمل فاجعل عليه سمتي وقل : بسم اللّه الرحمن الرحيم حتى لا يطمع العدو فيها .

التاسعة : اجعل نفسك قرين ذكر اللّه تعالى حتى لا تبعد عنه في الدارين روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه دفع خاتمه إلى أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه فقال : اكتب فيه لا إله إلا اللّه فدفعه إلى النقاش وقال : اكتب فيه لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه فكتب النقاش فيه ذلك فأتى أبو بكر بالخاتم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فرأى النبي فيه لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه أبو بكر الصديق فقال : يا أبا بكر ما هذه الزوائد ؟ فقال أبو بكر : يا رسول اللّه ما رضيت أن أفرق اسمك عن اسم اللّه

وأما الباقي فما قلته وخجل أبو بكر فجاء جبريل عليه السلام وقال : يا رسول اللّه

أما اسم أبي بكر فكتبته أنا لأنه ما رضي أن يفرق اسمك عن اسم اللّه فما رضي اللّه أن يفرق اسمه عن اسمك

والنكتة أن أبا بكر لما لم يرض بتفريق اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم عن اسم اللّه عز وجل وجد هذه الكرامة فكيف إذا لم يفارق المرء ذكر اللّه تعالى ؟

العاشرة : أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة قال : " {بسم اللّه مجراها ومرساها} " [ هود : ٤١ ] فوجد النجاة بنصف هذه الكلمة فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقى محروما عن النجاة ؟

وأيضا أن سليمان عليه السلام نال مملكة الدنيا والآخرة بقوله : " {إنه من سليمان وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم} " [ النمل : ٣٠ ] فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة .

الحادية عشرة : إن قال قائل لم قدم سليمان عليه السلام اسم نفسه على اسم اللّه تعالى في قوله : ( إنه من سليمان)

فالجواب من وجوه :

 الأول : أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعا على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد واقفا على طرف الجدار علمت أن ذلك الكتاب من سليمان فأخذت الكتاب وقالت : إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب ورأت بسم اللّه الرحمن الرحيم قالت : وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم فقوله : ( إنه من سليمان ) من كلام بلقيس لا كلام سليمان .

الثاني : لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب إنه من سليمان وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله {بسم اللّه الرحمن الرحيم} كما هو العادة في جميع الكتب فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه فقالت : إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب قرأت : بسم اللّه الرحمن الرحيم فقالت : وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم .

الثالث : أن بلقيس كانت كافرة فخاف سليمان أن تشتم اللّه إذا نظرت في الكتاب فقدم اسم نفسه على اسم اللّه تعالى ليكون الشتم له لا للّه تعالى .

الثانية عشرة : الباء من بسم مشتق من البر فهو البار على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدنيا والآخرة وأجل بره وكرامته أن يكرمهم يوم القيامة برؤيته .

مرض لبعضهم جار يهودي قال : فدخلت عليه للعيادة وقلت له : أسلم فقال : على ماذا ؟

 قلت: من خوف النار قال : لا أبالي بها فقلت للفوز بالجنة فقال لا أريدها قلت فماذا تريد ؟ قال : على أن يريني وجهه الكريم

قلت: أسلم على أن تجد هذا المطلوب فقال لي : اكتب بهذا خطا فكتبت له بذلك خطا فأسلم ومات من ساعته فصلينا عليه ودفناه فرأيته في النوم كأنه يتبختر فقلت له : يا شمعون ما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي وقال لي : أسلمت شوقا إلي .

وأما السين فهو مشتق من اسمه السميع يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى .

روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف فبلغا خربة فقال المنافق ندخل ههنا ونستريح فدخلا ونام زيد فأوثق المنافق زيدا وأراد قتله فقال زيد : لم تقتلني ؟ قال : لأن محمدا يحبك وأنا أبغضه فقال زيد : يا رحمن أغثني فسمع المنافق صوتا يقول : ويحك لا تقتله فخرج من الخربة ونظر فلم ير أحدا فرجع وأراد قتله فسمع صائحا أقرب من الأول يقول : لا تقتله فنظر فلم يجد أحدا فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتا قريبا يقول : لا تقتله فخرج فرأى فارسا معه رمح فضربه الفارس ضربة فقتله ودخل الخربة وحل وثاق زيد وقال له :

أما تعرفني ؟ أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة فقال اللّه عز وجل : أدرك عبدي وفي الثانية كنت في السماء الدنيا وفي الثالثة بلغت إلى المنافق .

وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه وملكه .

قال السدي : أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام فأتوه فقالوا له : يا نبي اللّه لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء فخرجوا وإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول : اللّهم إنا خلق من خلقك ولا غني لي عن فضلك قال : فصب اللّه تعالى عليهم المطر فقال لهم سليمان عليه السلام : ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم .

أما قوله اللّه فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي اللّه فإذا مت أقول اللّه وإذا سئلت في القبر أقول اللّه وإذا جئت يوم القيامة أقول اللّه وإذا أخذت الكتاب أقول اللّه وإذا وزنت أعمالي أقول اللّه وإذا جزت الصراط أقول اللّه وإذا دخلت الجنة أقول اللّه وإذا رأيت اللّه قلت اللّه .

النكتة الثالثة عشرة : الحكمة في ذكر هذه الأسماء الثلاثة أن المخاطبين في القرآن ثلاثة أصناف كما قال تعالى : " {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} " [ فاطر : ٣٢ ] فقال أنا اللّه للسابقين الرحمن للمقتصدين الرحيم للظالمين وأيضا اللّه هو معطي العطاء والرحمن هو المتجاوز عن زلات الأولياء والرحيم هو المتجاوز عن الجفاء ومن كمال رحمته كانه تعالى يقول أعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك ولو علمته المرأة لجفتك ولو علمته الأمة لأقدمت على الفرار منك ولو علمه الجار لسعى في تخريب الدار وأنا أعلم كل ذمك وأستره بكرمي لتعلم أني إله كريم .

الرابعة عشرة : اللّه يوجب ولايته قال اللّه تعالى : " {اللّه ولي الذين آمنوا} " [ البقرة : ٢٥٧ ] والرحمن يوجب محبته قال اللّه تعالى : " {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} " [ مريم : ٩٦ ] والرحيم يوجب رحمته " {وكان بالمؤمنين رحيما} " [ الأحزاب : ٤٣ ] .

الخامسة عشرة : قال عليه الصلاة والسلام : من رفع قرطاسا من الأرض فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم إجلالا له تعالى كتب عند اللّه من الصديقين وخفف عن والديه وإن كانا مشركين .

وقصة بشر الحافي في هذا الباب معروفة وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال : يا أبا هريرة إذا توضأت فقل : بسم اللّه فإن حفظتك لا تبرح أن تكتب لك الحسنات حتى تفرغ وإذا غشيت أهلك فقل : بسم اللّه فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة فإن حصل من تلك الواقعة ولد كتب لك من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد .

يا أبا هريرة ! إذا ركبت دابة ؛ فقل : بسم اللّه والحمد للّه يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة وإذا ركبت السفينة ؛ فقل : بسم اللّه والحمد للّه يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها وعن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا : بسم اللّه الرحمن الرحيم والإشارة فيه أنه إذا صار هذا الاسم حجابا بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجابا بينك وبين الزبانية في العقبى ؟

السادسة عشرة : كتب قيصر إلى عمر رضي اللّه عنه أن بي صداعا لا يسكن فابعث لي دواء فبعث إليه عمر قلنسوة فكان إذا وضعها على رأسه يسكن صداعه وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع فعجب منه ففتش القلنسوة فإذا فيها كاغد مكتوب فيه : بسم اللّه الرحمن الرحيم .

السابعة عشرة : قال صلى اللّه عليه وسلم : من توضأ ولم يذكر اسم اللّه تعالى كان طهورا لتلك الأعضاء ومن توضأ وذكر اسم اللّه تعالى كان طهورا لجميع بدنه فإذا كان الذكر على الوضوء طهورا لكل البدن فذكره عن صميم القلب أولى أن يكون طهورا للقلب عن الكفر والبدعة .

الثامنة عشرة : طلب بعضهم آية من خالد بن الوليد فقال : إنك تدعي الإسلام فأرنا آية لنسلم فقال : ائتوني بالسم القاتل فأتي بطاس من السم فأخذها بيده وقال : بسم اللّه الرحمن الرحيم وأكل الكل وقام سالما بإذن اللّه تعالى فقال المجوس : هذا دين حق .

التاسعة عشرة : مر عيسى ابن مريم عليه السلام على قبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتا فلما انصرف من حاجته مر على القبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور فتعجب من ذلك فصلى ودعا اللّه تعالى فأوحى اللّه تعالى إليه : يا عيسى كان هذا العبد عاصيا ومذ مات كان محبوسا في عذابي وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت ولدا وربته حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم بسم اللّه الرحمن الرحيم فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على وجه الأرض .

العشرون : سئلت عمرة الفرغانية - وكانت من كبار العارفات - : ما الحكمة في أن الجنب والحائض منهيان عن قراءة القرآن دون التسمية فقالت : لأن التسمية ذكر اسم الحبيب والحبيب لا يمنع من ذكر الحبيب .

الحادية والعشرون : قيل في قوله : الرحيم هو تعالى رحيم بهم في ستة مواضع : في القبر وحشراته والقيامة وظلماته والميزان ودرجاته وقراءة الكتاب وفزعاته والصراط ومخافاته والنار ودركاته

الثانية والعشرون كتب عارف بسم اللّه الرحمن الرحيم وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له أي فائدة لك فيه فقال أقول يوم القيامة إلهي بعثت كتابا وجعلت عنوانه بسم اللّه الرحمن الرحيم فعاملني بعنوان كتابك .

الثالثة والعشرون : قيل بسم اللّه الرحمن الرحيم تسعة عشر حرفا وفيه فائدتان :

إحداهما : أن الزبانية تسعة عشر فاللّه تعالى يدفع بأسهم بهذه الحروف التسعة عشر

الثانية : خلق اللّه تعالى الليل والنهار أربعة وعشرين ساعة ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فهذه الحروف التسعة عشر تقع كفارات للذنوب التي تقع في تلك الساعات التسعة عشر .

الرابعة والعشرون : لما كانت سورة التوبة مشتملة على الأمر بالقتال لم يكتب في أولها بسم اللّه الرحمن الرحيم وأيضا السنة أن يقال عند الذبح : باسم اللّه واللّه أكبر ولا يقال : بسم اللّه الرحمن الرحيم ؛ لأن وقت القتال والقتل لا يليق به ذكر الرحمن الرحيم فلما وفقك لذكر هذه الكلمة في كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والفضل والإحسان واللّه تعالى الهادي إلى الصواب .

سورة الفاتحة

الكلام في سورة الفاتحة وفي ذكر أسماء هذه السورة وفيه أبواب :

الباب الأول

اعلم أن هذه السورة لها أسماء كثيرة وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى :

فالأول : فاتحة الكتاب سميت بذلك الاسم لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة

وقيل : سميت بذلك ؛ لأن الحمد فاتحة كل كلام على ما سيأتي تقريره

وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء .

والثاني : سورة الحمد والسبب فيه أن أولها لفظ الحمد .

والثالث : أم القرآن والسبب فيه وجوه :

 الأول : أن أم الشيء أصله والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة:

الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر للّه تعالى فقوله : " {الحمد للّه رب العالمين . الرحمن الرحيم} " يدل على الإلهيات

وقوله : " {مالك يوم الدين} " يدل على المعاد

وقوله : " {إياك نعبد وإياك نستعين} " يدل على نفي الجبر والقدر وعلى إثبات أن الكل بقضاء اللّه وقدره

وقوله : " {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} " يدل أيضا على إثبات قضاء اللّه وقدره وعلى النبوات وسيأتي شرح هذه المعاني بالاستقصاء فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة وكانت هذه السورة مشتملة عليها لقبت بأم القرآن .

السبب الثاني لهذا الاسم : أن حاصل جميع الكتب الإلهية يرجع إلى أمور ثلاثة :

أما الثناء على اللّه باللسان

وأما الاشتغال بالخدمة والطاعة

وأما طلب المكاشفات والمشاهدات فقوله : " {الحمد للّه رب العالمين .

الرحمن الرحيم .

مالك يوم الدين} " كله ثناء على اللّه وقوله : " {إياك نعبد وإياك نستعين} " اشتغال بالخدمة والعبودية إلا أن الابتداء وقع بقوله " {إياك نعبد} " وهو إشارة إلى الجد والاجتهاد في العبودية ثم قال : " {وإياك نستعين} " وهو إشارة إلى اعتراف العبد بالعجز والذلة والمسكنة والرجوع إلى اللّه

وأما قوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " فهو طلب للمكاشفات والمشاهدات وأنواع الهدايات .

السبب الثالث لتسمية هذه السورة بأم الكتاب : أن المقصود من جميع العلوم :

أما معرفة عزة الربوبية أو معرفة ذلة العبودية فقوله " {الحمد للّه رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} " يدل على أنه هو الإله المستولي على كل أحوال الدنيا والآخرة ثم من قوله " {إياك نعبد وإياك نستعين} " إلى آخر السورة يدل على ذل العبودية فإنه يدل على أن العبد لا يتم له شيء من الأعمال الظاهرة ولا من المكاشفات الباطنة إلا بإعانة اللّه تعالى وهدايته .

السبب الرابع : أن العلوم البشرية

أما علم ذات اللّه وصفاته وأفعاله وهو علم الأصول

وأما علم أحكام اللّه تعالى وتكاليفه وهو علم الفروع

وأما علم تصفية الباطن وظهور الأنوار الروحانية والمكاشفات الإلهية والمقصود من القرآن بيان هذه الأنواع الثلاثة وهذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه : فقوله : " {الحمد للّه رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} " إشارة إلى علم الأصول ؛ لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته فقوله : " {رب العالمين} " يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه ربا للعالمين وقوله : " {الحمد للّه} " إشارة إلى كونه مستحقا للحمد ولا يكون مستحقا للحمد إلا إذا كان قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات ثم وصفه بنهاية الرحمة - وهو كونه رحمانا رحيما - ثم وصفه بكمال القدرة - وهو قوله مالك يوم الدين - حيث لا يهمل أمر المظلومين بل يستوفي حقوقهم من الظالمين وعند هذا تم الكلام في معرفة الذات والصفات وهو علم الأصول ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع وهو الاشتغال بالخدمة والعبودية وهو قول : " {إياك نعبد} " ثم مزجه أيضا بعلم الأصول مرة أخرى وهو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات وهي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة :

أولها : حصول هداية النور في القلب وهو المراد من قوله تعالى : " {اهدنا الصراط المستقيم} "

وثانيها : أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم اللّه عليهم بالجلايا القدسية والجواذب الإلهية حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى وهو قوله : " {صراط الذين أنعمت عليهم} "

وثالثها : أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات وهو قوله : " {غير المغضوب عليهم} " وعن أوزار الشبهات وهو قوله : " {ولا الضالين} " فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لاشتماله على جميع الحواس والمنافع .

السبب الخامس : قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب قال : سمعت أبا بكر القفال قال : سمعت أبا بكر بن دريد يقول : الأم في كلام العرب الراية التي ينصبها العسكر قال قيس بن الحطيم : ( نصبنا أمنا حتى ابذعروا وصاروا بعد ألفتهم سلالا ) فسميت هذه السورة بأم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة كما أن مفزع العسكر إلى الراية والعرب تسمي الأرض أما ؛ لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم ولأنه يقال : أم فلان فلانا إذا قصده .

الاسم الرابع : من أسماء هذه السورة السبع المثاني قال اللّه تعالى : " {ولقد آتيناك سبعاص من المثاني} " وفي سبب تسميتها بالمثاني وجوه :

 الأول : أنها مثنى : نصفها ثناء العبد للرب ونصفها عطاء الرب للعبد .

الثاني : سميت مثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة .

الثالث : سميت مثاني لأنها مستثناة من سائر الكتب قال صلى اللّه عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم .

الرابع : سميت مثاني لأنها سبع آيات كل آية تعدل قراءتها قراءة سبع من القرآن فمن قرأ الفاتحة أعطاه اللّه ثواب من قرأ كل القرآن .

الخامس : آياتها سبع وأبواب النيران سبعة فمن فتح لسانه بقراءتها غلقت عنه الأبواب السبعة والدليل عليه ما

روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم : يا محمد كنت أخشى العذاب على أمتك فلما نزلت الفاتحة أمنت قال : لم يا جبريل ؟ قال : لأن اللّه تعالى قال : " {وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} " [ الحجر : ٤٣ ] وآياتها سبع فمن قراها صارت كل آية طبقا على باب من أبواب جهنم فتمر أمتك عليها منها سالمين .

السادس : سميت مثاني لأنها تقرأ في الصلاة ثم إنها تثنى بسورة أخرى .

السابع : سميت مثاني لأنها أثنية على اللّه تعالى ومدائح له .

الثامن : سميت مثاني لأن اللّه أنزلها مرتين واعلم أنا قد بالغنا في تفسير قوله تعالى : " {سبعا من المثاني} " في سورة الحجر .

الاسم الخامس : الوافية كان سفيان بن عيينة يسميها بهذا الاسم قال الثعلبي : وتفسيرها أنها لا تقبل التنصيف ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرىء نصفها في ركعة والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز وهذا التنصيف غير جائز في هذه السورة .

الاسم السادس : الكافية : سميت بذلك لأنها تكفي عن غيرها

وأما غيرها فلا يكفي عنها روي محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضا عنها .

الاسم السابع : الأساس وفيه وجوه :

 الأول : أنها أول سورة من القرآن فهي كالأساس .

الثاني : أنها مشتملة على أشرف المطالب كما بيناه وذلك هو الأساس .

الثالث : أن أشرف العبادات بعد الإيمان هو الصلاة وهذه السورة مشتملة على كل ما لا بد منه في الإيمان والصلاة لا تتم إلا بها .

الاسم الثامن : الشفاء عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فاتحة الكتاب شفاء من كل سم .

ومر بعض الصحابة برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه فبرىء فذكروه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : هي أم القرآن وهي شفاء من كل داء .

وأقول : الأمراض منها روحانية ومنها جسمانية والدليل عليه أنه تعالى سمى الكفر مرضا فقال تعالى : " {في قلوبهم مرض} " [ البقرة : ١٠ ] وهذه السورة مشتملة على معرفة الأصول والفروع والمكاشفات فهي في الحقيقة سبب لحصول الشفاء في هذه المقامات الثلاثة .

الاسم التاسع: الصلاة قال عليه الصلاة والسلام : يقول اللّه تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين .

والمراد هذه السورة .

الاسم العاشر :

 السؤال روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكى عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال : من شغله ذكري عن سؤالي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين .

وقد فعل الخليل عليه السلام ذلك حيث قال " {الذي خلقني فهو يهدين} " [ الشعراء : ٧٨ ] إلى أن قال : " {رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين} " [ الشعراء : ٨٣ ] ففي هذه السورة أيضا وقعت البداءة بالثناء عليه سبحانه وتعالى وهو قوله : " {الحمد للّه - إلى قوله - مالك يوم الدين} " ثم ذكر العبودية وهو قوله : " {إياك نعبد وإياك نستعين} " ثم وقع الختم على طلب الهداية وهو قوله تعالى : " {اهدنا الصراط المستقيم} " وهذا يدل على أن أكمل المطالب هو الهداية في الدين وهو أيضا يدل على أن جنة المعرفة خير من جنة النعيم لأنه تعالى ختم الكلام هنا على قوله اهدنا ولم يقل ارزقنا الجنة .

الاسم الحادي عشر : سورة الشكر وذلك لأنها ثناء على اللّه بالفضل والكرم والإحسان .

الاسم الثاني عشر : سورة الدعاء لاشتمالها على قوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " فهذا تمام الكلام في شرح هذه الأسماء واللّه أعلم .

الباب الثاني

في فضائل هذه السورة

وفيه مسائل المسألة الأولى : ذكروا في كيفية نزول هذه السورة ثلاثة أقوال :

 الأول : أنها مكية روى الثعلبي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ثم قال الثعلبي: وعليه أكثر العلماء وروى أيضا بإسناده عن عمرو بن شرحبيل أنه قال : أول ما نزل من القرآن " {الحمد للّه رب العالمين} " وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسر إلى خديجة فقال لقد : خشيت أن يكون خالطني شيء فقالت : وما ذاك ؟ قال : إني إذا خلوت سمعت النداء بإقرأ ثم ذهب إلى ورقة بن نوفل وسأله عن تلك الواقعة فقال له ورقة : إذا أتاك النداء فاثبت له فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : قل : بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : بسم اللّه الرحمن الرحيم فقالت قريش : دق اللّه فاك .

والقول الثاني : أنها نزلت بالمدينة روى الثعلبي بإسناده عن مجاهد أنه قال : فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة قال الحسين بن الفضل : لكل عالم هفوة وهذه هفوة مجاهد ؛ لأن العلماء على خلافه ويدل عليه وجهان :

 الأول : أن سورة الحجر مكية بالاتفاق ومنها : قوله تعالى : " {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} " وهي : فاتحة الكتاب وهذا يدل على أنه تعالى آتاه هذه السورة فيما تقدم

الثاني : أنه يبعد أن يقال : إنه أقام بمكة بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب .

القول الثالث : قال بعض العلماء : هذه السورة نزلت بمكة مرة وبالمدينة مرة أخرى فهي مكية مدنية ؛ ولهذا السبب سماها اللّه بالمثاني ؛ لأنه ثنى إنزالها وإنما كان كذلك مبالغة في تشريفها .

المسألة الثانية : في بيان فضلها عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : فاتحة الكتاب شفاء من السم وعن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن القوم ليبعث اللّه عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم في المكتب " {الحمد للّه رب العالمين} " فيسمعه اللّه تعالى فيرفع عنهم بسببه العذاب أربعين سنة وعن الحسين قال : أنزل اللّه تعالى مائة وأربعة كتب من السماء فأودع علوم المائة في الأربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم هذه الأربعة في الفرقان ثم أودع علوم الفرقان في المفصل ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة فمن علم تفسير الفاتحة كان كمن علم تفسير جميع كتب اللّه المنزلة ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان .

قلت: والسبب فيه أن المقصود من جميع الكتب الإلهية علم الأصول والفروع والمكاشفات وقد بينا أن هذه السورة مشتملة على تمام الكلام في هذه العلوم الثلاثة فلما كانت هذه المطالب العالية الشريفة حاصلة فيها لا جرم كانت كالمشتملة على جميع المطالب الإلهية .

المسألة الثالثة : قالوا : هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف وهي الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء والسبب فيه أن هذه الحروف السبعة مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الويل والثبور قال تعالى : " {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} " [ الفرقان : ١٤ ]

والجيم أول حروف اسم جهنم قال تعالى : " {وإن جهنم لموعدهم أجمعين} " [ الحجر : ٤٣ ]

وقال تعالى : " {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} " [ الأعراف: ١٧٩ ]

وأسقط الخاء لأنه يشعر بالخزي قال تعالى : " {يوم لا يخزي اللّه النبي والذين آمنوا معه} [ التحريم : ٨ ]

وقال تعالى : " {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} " [ النحل : ٢٧ ]

وأسقط الزاي والشين لأنهما أول حروف الزفير والشهيق قال تعالى : " {لهم فيها زفير وشهيق} " [ هود : ١٠٦ ]

وأيضا الزاي تدل على الزقوم قال تعالى : " {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} " [ الدخان : ٤٣ ]

والشين تدل على الشقاوة قال تعالى : " {فأما الذين شقوا ففي النار} " [ هود : ١٠٦ ]

وأسقط الظاء لقوله : " {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللّهب} " [ المرسلات : ٣٠ ]

وأيضا يدل على لظى قال تعالى : " {كلا إنها لظى نزاعة للشوى} " [ المعارج : ١٥ ]

وأسقط الفاء ؛ لأنه يدل على الفراق قال تعالى : " {يومئذ يتفرقون} " [ الروم : ١٤ ]

وأيضا قال : " {لا تفتروا على اللّه كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} " [ طه : ٦١ ] .

فإن قالوا : لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في شيء يوجب نوعا من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة فنقول :

 الفائدة فيه أنه تعالى قال في صفة جهنم : " {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} " [ الحجر : ٤٤ ]

واللّه تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب تنبيها على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمنا من الدركات السبع في جهنم واللّه أعلم .

الباب الثالث

في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة

وفيه مسائل المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال : " {الحمد للّه} فكأن سائلا يقول : الحمد للّه منبئ عن أمرين :

 أحدهما : وجود الإله

والثاني : كونه مستحقا للحمد فما الدليل على وجود الإله وما الدليل على أنه مستحق للحمد ولما توجه هذان السؤالان لا جرم ذكر اللّه تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذين السؤالين

فأجاب عن السؤال الأول بقوله " {رب العالمين} " وأجاب عن السؤال الثاني بقوله " {الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} "

أما تقرير الجواب الأول ففيه مسائل :

 المسألة الأولى : إن علمنا بوجود الشيء

أما أن يكون ضروريا أو نظريا لا جائز أن يقال العلم بوجود الإله ضروري لأنا نعلم بالضرورة أنا لا نعرف وجود الإله بالضرورة فبقي أن يكون العلم نظريا والعلم النظري لا يمكن تحصيله إلا بالدليل ولا دليل على وجود الإله إلا أن هذا العالم المحسوس بما فيه من السموات والأرضين والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان محتاج إلى مدبر يدبره وموجود يوجده ومرب يربيه ومبق يبقيه فكان قوله : {رب العالمين} إشارة إلى الدليل الدال على وجود الإله القادر الحكيم .

ثم فيه لطائف :

اللطيفة الأولى : أن العالمين إشارة إلى كل ما سوى اللّه فقوله : {رب العالمين} إشارة إلى أن كل ما سواه فهو مفتقر إليه محتاج في وجوده إلى إيجاده وفي بقائه إلى إبقائه فكان هذا إشارة إلى أن كل جزء لا يتجزأ وكل جوهر فرد وكل واحد من آحاد الأعراض فهو برهان باهر ودليل قاطع على وجود الإله الحكيم القادر كما قال تعالى : " {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} " [ الإسراء : ٤٤ ] .

اللطيفة الثانية : أنه تعالى لم يقل الحمد للّه خالق العالمين بل قال : " {الحمد للّه رب العالمين} "

والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي أم لا ؟ فقال قوم : الشيء حال بقائه يستغني عن السبب والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه فقوله : " {رب العالمين} " تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها أمر متفق عليه أما افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف فخصه سبحانه بالذكر تنبيها على أن كل ما سوى اللّه ؛ فإنه لا يستغني عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه .

اللطيفة الثالثة : أن هذه السورة مسماة بأم القرآن فوجب كونها كالأصل والمعدن وأن يكون غيرها كالجداول المتشعبة منه فقوله : " {رب العالمين} " تنبيه على أن كل موجود سواه ؛ فإنه دليل على إلهيته .

ثم إنه تعالى افتتح سورا أربعة بعد هذه السورة بقوله : " {الحمد للّه} "

فأولها : سورة الأنعام وهو قوله : " {الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} " [ الأنعام : ١ ]

واعلم أن المذكور ههنا قسم من أقسام قوله : " {رب العالمين} " ؛ لأن لفظ العالم يتناول كل ما سوى اللّه والسموات والأرض والنور والظلمة قسم من أقسام ما سوى اللّه فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة وأيضا فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق ا لسماوات والأرض ؛ والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه ربا للعالمين وقد بينا أنه متى ثبت أن العالم محتاج حال بقائه إلى إبقاء اللّه كان القول باحتياجه حال حدوثه إلى المحدث أولى أما لا يلزم من احتياجه إلى المحدث حال حدوثه احتياجه إلى المبقي حال بقائه فثبت بهذين الوجهين أن المذكور في أول سورة الأنعام يجري مجرى قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة .

وثانيها : سورة الكهف وهو قوله : " {الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب} " والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف فإن الكتاب الذي أنزله على عبده سبب لحصول المكاشفات والمشاهدات فكان هذا إشارة إلى التربية الروحانية فقط وقوله في أول سورة الفاتحة : " {رب العالمين} " إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين ويدخل فيه التربية الروحانية للملائكة والإنس والجن والشياطين والتربية الجسمانية الحاصلة في السماوات والأرضين فكان المذكور في أول سورة الكهف نوعا من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة .

وثالثها : سورة سبأ وهو قوله : " {الحمد للّه الذي له ما في السماوات وما في الأرض} " [ سبأ : ١ ]

فبين في أول سورة الأنعام أن السماوات والأرض له وبين في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السماوات والأرض له وهذا أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : " {الحمد للّه رب العالمين} " .

ورابعها : قوله : " {الحمد للّه فاطر السماوات والأرض} " [ فاطر : ١ ]

والمذكور في أول سورة الأنعام كونه خالقا لها والخلق هو التقدير والمذكور في هذه السورة كونه فاطرا لها ومحدثا لذواتها وهذا غير الأول إلا أنه أيضا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله : " {الحمد للّه رب العالمين} " .

ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقا للسموات والأرض ذكر كونه جاعلا للظلمات والنور أما في سورة الملائكة ؛ فلما ذكر كونه فاطر السماوات والأرض ذكر كونه جاعلا الملائكة رسلا ففي سورة الأنعام ذكر بعد تخليق السماوات والأرض جعل الأنوار والظلمات وذكر في سورة الملائكة بعد كونه فاطر السماوات والأرض جعل الروحانيات وهذه أسرار عجيبة ولطائف عالية ؛ إلا أنها بأسرها تجري مجرى الأنواع الداخلة تحت البحر الأعظم المذكور في قوله : " {الحمد للّه رب العالمين} " ؛ فهذا هو التنبيه على أن قوله : " {رب العالمين} " يجري مجرى ذكر الدليل على وجود الإله القديم .

المسألة الثانية : أن هذه الكلمة كما دلت على وجود الإله ؛ فهي أيضا مشتملة على الدلالة على كونه متعاليا في ذاته عن المكان والحيز والجهة ؛ لأنا بينا أن لفظ العالمين يتناول كل موجود سوى اللّه ومن جملة ما سوى اللّه المكان والزمان فالمكان عبارة عن الفضاء والحيز والفراغ الممتد والزمان عبارة عن المدة التي يحصل بسببها القبلية والبعدية فقوله : " {رب العالمين} " يدل على كونه ربا للمكان والزمان وخالقا لهما وموجدا لهما ثم من المعلوم أن الخالق لا بد وأن يكون سابقا وجوده على وجود المخلوق ومتى كان الأمر كذلك كانت ذاته موجودة قبل حصول الفضاء والفراغ والحيز متعالية عن الجهة والحيز فلو حصلت ذاته بعد حصول الفضاء في جزء من أجزاء الفضاء لانقلبت حقيقة ذاته وذلك محال فقوله : " {رب العالمين} " يدل على تنزيه ذاته عن المكان والجهة بهذا الاعتبار .

المسألة الثالثة : هذه اللفظة تدل على أن ذاته منزهة عن الحلول في المحل كما تقول النصارى والحلولية ؛ لأنه لما كان ربا للعالمين كان خالقا لكل ما سواه والخالق سابق على المخلوق فكانت ذاته موجودة قبل كل محل فكانت ذاته غنية عن كل محل فبعد وجود المحل امتنع احتياجه إلى المحل .

المسألة الرابعة : هذه الآية تدل على أن إله العالم ليس موجبا بالذات بل هو فاعل مختار والدليل على أن الموجب بالذات لا يستحق على شيء من أفعاله الحمد والثناء والتعظيم ألا ترى أن الإنسان إذا انتفع بسخونة النار أو ببرودة الجمد فإنه لا يحمد النار ولا الجمد لما أن تأثير النار في التسخين وتأثير الجمد في التبريد ليس بالقدرة والاختيار بل بالطبع فلما حكم بكونه مستحقا للحمد والثناء ثبت أنه فاعل بالاختيار وإنما عرفنا كونه فاعلا مختارا ؛ لأنه لو كان موجبا لدامت الآثار والمعلولات بدوام المؤثر الموجب ولامتنع وقوع التغير فيها وحيث شاهدنا حصول التغيرات علمنا أن المؤثر فيها قادر بالاختيار لا موجب بالذات ولما كان الأمر كذلك لا جرم ثبت كونه مستحقا للحمد.

المسألة الخامسة : لما خلق اللّه العالم مطابقا لمصالح العباد موافقا لمنافعهم كان الإحكام والإتقان ظاهرين في العالم الأعلى والعالم الأسفل وفاعل الفعل المحكم المتقن يجب أن يكون عالما فثبت بما ذكرنا أن قوله " {الحمد للّه} " يدل على وجود الإله ويدل على كونه منزها عن الحيز والمكان ويدل على كونه منزها عن الحلول في المحل ويدل على كونه في نهاية القدرة ويدل على كونه في نهاية العلم ويدل على كونه في نهاية الحكمة .

وأما السؤال الثاني - وهو قوله : هب أنه ثبت القول بوجود الإله القادر فلم قلتم إنه يستحق الحمد والثناء ؟

والجواب هو قوله " {الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} " وتقرير هذا الجواب أن العبد لا يخلو حاله في الدنيا عن أمرين : أما أن يكون في السلامة والسعادة

وأما أن يكون في الألم والفقر والمكاره فإن كان في السلامة والكرامة فأسباب تلك السلامة وتلك الكرامة لم تحصل إلا بخلق اللّه وتكوينه وإيجاده فكان رحمانا رحيما وإن كان في المكاره والآفات فتلك المكاره والآفات

أما أن تكون من العباد أو من اللّه فإن كانت من العباد فاللّه سبحانه وتعالى وعد بأنه ينتصف للمظلومين في يوم الدين وإن كانت من اللّه فاللّه تعالى وعد بالثواب الجزيل والفضل الكثير على كل ما أنزله بعباده في الدنيا من المكروهات والمخافات وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا بد وأن يكون مستحقا للحمد الذي لا نهاية له والثناء الذي لا غاية له فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن قوله : " {الحمد للّه رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} " مرتب ترتيبا لا يمكن في العقل وجود كلام أكمل وأفضل منه .

واعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الصفات المعتبرة في الربوبية أردفه بالكلام المعتبر في العبودية واعلم أن الإنسان مركب من جسد ومن روح والمقصود من الجسد أن يكون آلة للروح في اكتساب الأشياء النافعة للروح فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتيا بأعمال تعين الروح على اكتساب السعادات الروحانية الباقية وتلك الأعمال هي أن يكون الجسد آتيا بأعمال تدل على تعظيم المعبود وخدمته وتلك الأعمال هي العبادة فأحسن أحوال العبد في هذه الدنيا أن يكون مواظبا على العبادات وهذه أول درجات سعادة الإنسان وهو المراد بقوله : {إياك نعبد} فإذا واظب على هذه الدرجة مدة فعند هذا يظهر له شيء من أنوار عالم الغيب وهو أنه وحده لا يستقل بالإتيان بهذه العبادة والطاعات بل ما لم يحصل له توفيق اللّه تعالى وإعانته وعصمته فإنه لا يمكنه الإتيان بشيء من العبادات والطاعات وهذا المقام هو الدرجة الوسطى في الكمالات وهو المراد من قوله : " {وإياك نستعين} " ثم إذا تجاوز عن هذا المقام لاح له أن الهداية لا تحصل إلا من اللّه وأنوار المكاشفات والتجلي لا تحصل إلا بهداية اللّه وهو المراد من قوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " وفيه لطائف .

اللطيفة الأولى : أن المنهج الحق في الاعتقادات وفي الأعمال هو الصراط المستقيم

أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه :

 ( الأول ) : أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان فهما طرفان معوجان والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل

( والثاني ) : أن من قال فعل العبد كله منه فقد وقع في القدر ومن قال لا فعل للعبد فقد وقع في الجبر وهما طرفان معوجان والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بان الكل بقضاء اللّه

وأما في الأعمال

فنقول : من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور ومن بالغ في تركها وقع في الجمود والصراط المستقيم هو الوسط وهو العفة وأيضا من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور ومن بالغ في تركها وقع في الجبن والصراط المستقيم هو الوسط وهو الشجاعة .

اللطيفة الثانية : أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية والآخرى سلبية

أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين

وأما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب اللّه عليهم وبخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية والمعارف اليقينية .

اللطيفة الثالثة : قال بعضهم : إنه لما قال " {اهدنا الصراط المستقيم} " لم يقتصر عليه بل قال : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق وعقولهم غير وافيه بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط فلا بد من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل ؛ فحينئذ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات .

وقد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية وعهد العبودية المذكورين في قوله تعالى " {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} " [ البقرة : ٤٠ ] .

المسألة الثانية : في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة : اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير والشر والمحبوب والمكروه وهذه المعاني ظاهرة لا شك فيها إلا أن نقول : الشر وإن كان كثيرا إلا أن الخير أكثر والمرض وإن كان كثيرا إلا أن الصحة أكثر منه والجوع وإن كان كثيرا إلا أن الشبع أكثر منه وإذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائما في التغيرات والانتقال من حال إلى حال ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة والكرامة والراحة والبهجة

أما الأحوال المكروهة فهي وإن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة والبهجة والراحة إذا عرفت هذا فنقول إن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر ولأجل أن الغالب فيها الراحة والخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم

أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بد له من سبب ولذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتا حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بد من فاعل تولى بناء ذلك البيت ولو أن إنسانا شككنا فيه لم نتشكك فإنه لا بد وأن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادرا إذ لو كان موجبا بالذات لدام الأثر بدوامه فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر

وأما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيما محسنا ؛ فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة والخير والبهجة والسلامة ومن كان غالب أفعاله راحة وخيرا وكرامة وسلامة كان رحيما محسنا ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد ولما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد وحاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد اللّه وثنائه حاضرا في عقل كل أحد ؛ فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال ( الحمد للّه ) ولما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى وأعظم من الأول وكأنه قيل : لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط بل هو إله كل العالمين وذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر والحاجة والحدوث والإمكان وهذه المعاني قائمة في كل العالمين فإنها محل الحركات والسكنات وأنواع التغيرات فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها وإذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول فهذا يقتضي كونه ربا للعالمين وإلها للسموات والأرضين ومدبرا لكل الخلائق أجمعين ولما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها ويقدر على خلق العرش والكرسي والسموات والكواكب لا بد وأن يكون قادرا على إهلاكها ولا بد وأن يكون غنيا عنها فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة والجلال وحينئذ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي وحقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه وبأي طريق أتوسل إليه فعند هذا ذكر اللّه ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض فكأنه قال : أيها العبد الضعيف أنا وإن كنت عظيم القدرة والهيبة والإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة فأنا الرحمن الرحيم وأنا مالك يوم الدين فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي وأنواع نعمتي وإذا مت فأنا مالك يوم الدين لا أضيع عملا من أعمالك فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات وإن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح والإحسان والمغفرة .

ثم لما قرر أمر الربوبية بهذا الطريق أمره بثلاثة أشياء :

أولها : مقام الشريعة وهو أن يواظب على الأعمال الظاهرة وهو قوله " {إياك نعبد} "

وثانيها : مقام الطريقة وهو أن يحاول السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فيرى عالم الشهادة كالمسخر لعالم الغيب فيعلم أنه لا يتيسر له شيء من الأعمال الظاهرة إلا بمدد يصل إليه من عالم الغيب وهو قوله " {وإياك نستعين} "

وثالثها : أنه يشاهد عالم الشهادة معزولا بالكلية ويكون الأمر كله للّه وحينئذ يقول : اهدنا الصراط المستقيم .

ثم إن ههنا دقيقة وهي أن الروح الواحد يكون أضعف قوة من الأرواح الكثيرة المجتمعة على تحصيل مطلوب واحد فحينئذ علم العبد أن روحه وحده لا يكفي في طلب هذا المقصود فعند هذا أدخل روحه في زمرة الأرواح المقدسة المطهرة المتوجهة إلى طلب المكاشفات الروحانية والأنوار الربانية حتى إذا اتصل بها وانخرط في سلكها صار الطلب أقوى والاستعداد أتم فحينئذ يفوز في تلك الجمعية بما لا يقدر على الفوز به حال الوحدة فلهذا قال : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " .

ثم لما بين أن الاتصال بالأرواح المطهرة يوجب مزيد القوة والاستعداد ؛ بين أيضا أن الاتصال بالأرواح الخبيثة يوجب الخيبة والخسران والخذلان والحرمان فلهذا قال : " {غير المغضوب عليهم} " وهم الفساق : " {ولا الضالين} " وهم الكفار .

ولما تمت هذه الدرجات الثلاث وكملت هذه المقامات الثلاثة أعني الشريعة المدلول عليها بقوله إياك نعبد والطريقة المدلول عليها بقوله وإياك نستعين والحقيقة المدلول عليها بقوله اهدنا الصراط المستقيم - ثم لما حصل الاستسعاد بالاتصال بأرباب الصفاء والاستكمال بسبب المباعدة عن أرباب الجفاء والشقاء فعند هذا كملت المعارج البشرية والكمالات الإنسانية .

المسألة الثالثة : في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة : اعلم أن الإنسان خلق محتاجا إلى جر الخيرات واللذات ودفع المكروهات والمخافات ثم إن هذا العالم عالم الأسباب فلا يمكنه تحصيل الخيرات واللذات إلا بواسطة أسباب معينة ولا يمكنه دفع الآفات والمخافات إلا بواسطة أسباب معينة ولما كان جلب النفع ودفع الضرر محبوبا بالذات وكان استقراء أحوال هذا العلم يدل على أنه لا يمكن تحصيل الخير ولا دفع الشر إلا بتلك الأسباب المعينة ثم تقرر في العقول أن ما لا يمكن الوصول إلى المحبوب إلا بواسطته فهو محبوب - صار هذا المعنى سببا لوقوع الحب الشديد لهذه الأسباب الظاهرة وإذا علم أنه لا يمكنه الوصول إلى الخيرات واللذات إلا بواسطة خدمة الأمير والوزير والأعوان والأنصار بقي الإنسان متعلق القلب بهذه الأشياء شديد الحب لها عظيم الميل والرغبة إليها ثم قد ثبت في العلوم الحكمية أن كثرة الأفعال سبب لحدوث الملكات الراسخة وثبت أيضا أن حب التشبه غالب على طباع الخلق .

أما الأول فكل من واظب على صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف مدة مديدة صارت تلك الحرفة والصناعة ملكة راسخة قوية وكلما كانت المواظبة عليها أكثر كانت الملكة أقوى وأرسخ

وأما الثاني فهو أن الإنسان إذا جالس الفساق مال طبعة إلى الفسق وما ذاك إلا لأن الأرواح جبلت على حب المحاكاة وإذا عرفت هذا

فنقول : إنا بينا أن استقراء حال الدنيا يوجب تعلق القلب بهذه الأسباب الظاهرة التي بها يمكن التوسل إلى جر المنافع ودفع المضار وبينا أنه كلما كانت مواظبة الإنسان عليها أكثر كان استحكام هذا الميل والطلب في قلبه أقوى وأثبت وأيضا فأكثر أهل الدنيا موصوفون بهذه الصفة مواظبون على هذه الحالة .

وبينا أن النفوس مجبولة على حب المحاكاة وذلك أيضا يوجب استحكام هذه الحالة .

فقد ظهر بالبينات التي ذكرناها أن الأسباب الموجبة لحب الدنيا والمرغبة في التعلق بأسبابها كثيرة قوية شديدة جدا ثم نقول : إنه إذا اتفق للإنسان هداية إلهية تهديه إلى سواء السبيل وقع في قلبه أن يتأمل في هذه الأسباب تأملا شافيا وافيا فيقول : هذا الأمير المستولي على هذا العالم استولى على الدنيا بفرط قوته وكمال حكمته أم لا ؟

الأول باطل لأن ذلك الأمير ربما كان أكثر الناس عجزا وأقلهم عقلا فعند هذا يظهر له أن تلك الإمارة والرياسة ما حصلت له بقوته وما هيئت له بسبب حكمته وإنما حصلت تلك الإمارة والرياسة لأجل قسمة قسام وقضاء حكيم علام لا دافع لحكمه ولا مرد لقضائه ثم ينضم إلى هذا النوع من الاعتبار أنواع أخرى من الاعتبارات تعاضدها وتقويها فعند حصول هذه المكاشفة ينقطع قلبه عن الأسباب الظاهرة وينتقل منها إلى الرجوع في كل المهمات والمطلوبات إلى مسبب الأسباب ومفتح الأبواب ثم إذا توالت هذه الاعتبارات وتواترت هذه المكاشفات صار الإنسان بحيث كلما وصل إليه نفع وخير قال هو النافع وكلما وصل إليه شر ومكروه قال هو الضار وعند هذا لا يحمد أحدا على فعل إلا اللّه ولا يتوجه قلبه في طلب أمر من الأمور إلا إلى اللّه فيصير الحمد كله للّه والثناء كله للّه فعند هذا يقول العبد الحمد للّه .

واعلم أن الاستقراء المذكور يدل العبد على أن أحوال هذا العالم لا تنتظم إلا بتقدير اللّه ثم يترقى من العالم الصغير إلى العالم الكبير فيعلم أنه لا تنتظم حالة من أحوال العالم الأكبر إلا بتقدير اللّه وذلك هو قوله : " {رب العالمين} " ثم إن العبد يتأمل في أحوال العالم الأعلى فيشاهد أن أحوال العالمين منظومة على الوصف الأتقن والترتيب الأقوم والكمال الأعلى والمنهج الأسنى فيرى الذرات ناطقة بالإقرار بكمال رحمته وفضله وإحسانه فعند ذلك يقول : " {الرحمن الرحيم} " فعند هذا يظهر للعبد أن جميع مصالحة في الدنيا إنما تهيأت برحمة اللّه وفضله وإحسانه ثم يبقى العبد متعلق القلب بسبب أنه كيف يكون حاله بعد الموت فكأنه يقال : مالك يوم الدين ليس إلا الذي عرفته بأنه الرحمن الرحيم فحينئذ ينشرح صدر العبد وينفسح قلبه ويعلم أن المتكفل بإصلاح مهماته في الدنيا والآخرة ليس إلا اللّه وحينئذ ينقطع التفاته عما سوى اللّه ولا يبقى متعلق القلب بغير اللّه ثم إن العبد حين كان متعلق القلب بالأمير والوزير كان مشغولا بخدمتهما وبعد الفراغ من تلك الخدمة كان يستعين في تحصيل المهمات بهما وكان يطلب الخير منهما فعند زوال ذلك التعلق يعلم أنه لما كان مشتغلا بخدمة الأمير والوزير فلأن يشتغل بخدمة المعبود كان أولى فعند هذا يقول : إياك نعبد والمعنى إني كنت قبل هذا أستعين بغيرك وأما الآن فلا أستعين بأحد سواك ولما كان يطلب المال والجاه اللذين هما على شفا حفرة الانقراض والانقضاء من الأمير والوزير فلأن يطلب الهداية والمعرفة من رب السماء والأرض أولى فيقول : اهدنا الصراط المستقيم ثم إن أهل الدنيا فريقان :

 أحدهما : الذين لا يعبدون أحدا إلا اللّه ولا يستعينون إلا باللّه ولا يطلبون الأغراض والمقاصد إلا من اللّه

والفرقة الثانية : الذين يخدمون الخلق ويستعينون بهم ويطلبون الخير منهم فلا جرم العبد يقول : إلهي اجعلني في زمرة الفرقة الأولى وهم الذين أنعمت عليهم بهذه الأنوار الربانية والجلايا النورانية ولا تجعلني في زمرة الفرقة الثانية وهم المغضوب عليهم والضالون فإن متابعة هذه الفرقة لا تفيد إلا الخسار والهلاك كما قال إبراهيم عليه السلام : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ؟ ! واللّه أعلم .

الباب الرابع

في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه السورة

المسألة الأولى : أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبة في الصلاة وعن الأصم والحسن بن صالح أنها لا تجب .

لنا أن كل دليل نذكره في بيان أن قراءة الفاتحة واجبة ؛ فهو يدل على أن أصل القراءة واجب ونزيد ههنا وجوها:

 الأول : قوله تعالى : " {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر} " [ الإسراء : ٧٨ ] والمراد بالقرآن : القراءة والتقدير : أقم قراءة الفجر وظاهر الأمر للوجوب .

الثاني : عن أبي الدرداء : أن رجلا سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : أفي الصلاة قراءة ؟ فقال : نعم فقال السائل : وجبت فأقر النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك الرجل على قوله : وجبت .

الثالث : عن ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل : أيقرأ في الصلاة ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : أتكون صلاة بغير قراءة ! وهذان الخبران نقلتهما من تعليق الشيخ أبي حامد الإسفرايني .

حجة الأصم قوله - عليه الصلاة والسلام - : صلوا كما رأيتموني أصلي جعل الصلاة من الأشياء المرئية والقراءة ليست بمرئية فوجب كونها خارجة عن الصلاة

والجواب : أن الرؤية إذا كانت متعدية إلى مفعولين كانت بمعنى العلم .

المسألة الثانية : قال الشافعي - رحمه اللّه - : قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة فإن ترك منها حرفا واحدا وهو يحسنها لم تصح صلاته وبه قال الأكثرون وقال أبو حنيفة : لا تجب قراءة الفاتحة .

لنا وجوه :

 الأول : أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة ؛ فوجب أن يجب علينا ذلك ؛ لقوله تعالى : " {واتبعوه} " [ الأعراف : ١٥٨ ] ؛ ولقوله : " {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} " [ النور : ٦٣ ] ؛ ولقوله تعالى : " {فاتبعوني يحببكم اللّه} " [ آل عمران : ٣١ ] ويا للعجب من أبي حنيفة ! أنه تمسك في وجوب مسح الناصية بخبر واحد وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على الناصية فجعل ذلك القدر من المسح شرطا لصحة الصلاة وههنا نقل أهل العلم نقلا متواترا أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ثم قال : إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها وهذا من العجائب .

الحجة الثانية : قوله تعالى : " {أقيموا الصلاة} " [ البقرة : ٤٣ ] والصلاة لفظة مفردة محلاة بالألف واللام فيكون المراد منها المعهود السابق وليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصلاة إلا الأعمال التي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتي بها : وإذا كان كذلك كان قوله : أقيموا الصلاة جاريا مجرى قوله : أقيموا الصلاة التي كان يأتي بها الرسول والتي أتى بها الرسول - عليه الصلاة والسلام - هي الصلاة المشتملة على الفاتحة فيكون قوله : أقيموا الصلاة أمرا بقراءة الفاتحة وظاهر الأمر الوجوب ثم إن هذه اللفظة تكررت في القرآن أكثر من مائة مرة ؛ فكان ذلك دليلا قاطعا على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة .

الحجة الثالثة : أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها طول عمرهم ويدل عليه أيضا ما روي في الصحيحين أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما كانوا يستفتحون القراءة بالحمد للّه رب العالمين وإذا ثبت هذا وجب أن يجب علينا ذلك ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ؛ ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر والعجب من أبي حنيفة رضي اللّه عنه أنه تمسك في مسألة طلاق الفار بأثر عثمان مع أن عبد الرحمن وعبد اللّه بن الزبير كانا يخالفانه ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرث فلم لم يتمسك بعمل كل الصحابة على سبيل الإطباق والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة مع أن هذا القول على وفق القرآن والإخبار والمعقول ؟

الحجة الرابعة : أن الأمة وإن اختلفت في أنه : هل تجب قراءة الفاتحة أم لا ؛ لكنهم اتفقوا عليه في العمل ؛ فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في المشرق والمغرب إلا ويقرأ الفاتحة في الصلاة إذا ثبت هذا ؛ فنقول : إن من صلى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركا سبيل المؤمنين فيدخل تحت قوله : " {ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} " [ النساء : ١١٥ ] ؛

فإن قالوا : إن الذين اعتقدوا أنه لا يجب قراءتها قرأوها لا على اعتقاد الوجوب بل على اعتقاد الندبية فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها فنقول : أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ونحن قد بينا إطباق الكل على الإتيان بالقراءة فمن لم يأت بالقراءة كان تاركا طريقة المؤمنين في هذا العمل فدخل تحت الوعيد وهذا القدر يكفينا في الدليل ولا حاجة بنا في تقرير هذا الدليل إلى ادعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب .

الحجة الخامسة : الحديث المشهور وهو أنه - سبحانه وتعالى - قال : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد : الحمد للّه رب العالمين ؛ يقول اللّه - تعالى - : حمدني عبدي إلى آخر الحديث وجه الاستدلال أنه تعالى حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ثم بين أن هذا التنصيف لم يحصل إلا بسبب آيات هذه السورة ؛

فنقول : الصلاة لا تنفك عن هذا التنصيف وهذا التنصيف لا يحصل إلا بسبب هذه السورة ولازم اللازم لازم فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة .

الحجة السادسة : قوله عليه الصلاة والسلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب : قالوا : حرف النفي دخل على الصلاة وذلك غير ممكن فلا بد من صرفه إلى حكم من أحكام الصلاة وليس صرفه إلى الصحة أولى من صرفه إلى الكمال

والجواب من وجوه :

 الأول : أنه جاء في بعض الروايات : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وعلى هذه الرواية فالنفي ما دخل على الصلاة وإنما دخل على حصولها للرجل وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها وخروجه عن عهدة التكليف بسببها وعلى هذا التقدير فإنه يمكن إجراء النفي على ظاهره .

الثاني : من اعتقد أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة فعند عدم قراءة الفاتحة لا توجد ماهية الصلاة لأن الماهية يمتنع حصولها حال عدم بعض أجزائها وإذا ثبت هذا فقولهم إنه لا يمكن إدخال حرف النفي على مسمى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفاتحة ليست جزءا من الصلاة وهذا هو أول المسألة فثبت أن على قولنا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره .

الثالث : هب أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره إلا أنهم أجمعوا على أنه متى تعذر العمل بالحقيقة وحصل للحقيقة مجازان

أحدهما أقرب إلى الحقيقة

والثاني أبعد فإنه يجب حمل اللفظ على المجاز الأقرب إذا ثبت هذا

فنقول : المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحا أتم من المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي يكون صحيحا لكنه لا يكون كاملا فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى .

الوجه الرابع : أن الحمل على نفي الصحة أولى لوجوه :

 أحدها : أن الأصل إبقاء ما كان على ما كان

والثاني : أن جانب الحرمة راجح

والثالث : أن هذا أحوط .

الحجة السابعة : عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : كل صلاة لم يقرا فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام قالوا : الخداج هو النقصان وذلك لا يدل على عدم الجواز

قلنا : بل هذا يدل على عدم الجواز ؛ لأن التكليف بالصلاة قائم والأصل في الثابت البقاء خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصلاة على صفة الكمال فعند الإتيان بها على سبيل النقصان وجب أن لا نخرج عن العهدة والذي يقوي هذا أن عند أبي حنيفة يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه لو صام يوم العيد قضاء عن رمضان لم يصح قال : لأن الواجب عليه هو الصوم الكامل والصوم في هذا اليوم ناقص فوجب أن لا يفيد هذا القضاء الخروج عن العهدة وإذا ثبت هذا

فنقول : فلم لم يقل بمثل هذا الكلام في هذا المقام .

الحجة الثامنة : نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه عن ابن المنذر أنه روى بإسناده عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب .

والحجة التاسعة : روى رفاعة بن مالك أن رجلا دخل المسجد وصلى فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل : علمني الصلاة يا رسول اللّه فقال عليه الصلاة والسلام : إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب.

وجه الدليل أن هذا أمر والأمر للوجوب وأيضا الرجل قال : علمني الصلاة فكل ما ذكره الرسول صلى اللّه عليه وسلم وجب أن يكون من الصلاة فلما ذكر قراءة الفاتحة وجب أن تكون قراءة الفاتحة جزءا من أجزاء الصلاة .

الحجة العاشرة : روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ألا أخبركم بسورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها قالوا : نعم قال : فما تقرأوا في صلاتكم ؟ قالوا : الحمد للّه رب العالمين فقال : هي هي وجه الدليل أنه عليه الصلاة والسلام لما قال : ما تقرأوا في صلاتكم فقالوا الحمد للّه وهذا يدل على أنه كان مشهورا عند الصحابة أنه لا يصلي أحد إلا بهذه السورة فكان هذا إجماعا معلوما عندهم .

الحجة الحادية عشرة : التمسك بقوله تعالى : " {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} " [ المزمل : ٢٠ ] وجه الدليل أن قوله فاقرؤا أمر والأمر للوجوب فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة

فنقول : المراد بما تيسر من القرآن

أما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها

والأول يقتضي أن تكون الفاتحة بعينها واجبة وهو المطلوب

والثاني يقتضي أن تكون قراءة غير الفاتحة واجبة علينا وهو باطل بالإجماع .

والثالث يقتضي أن يكون المكلف مخيرا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز .

واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل

وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون وحينئذ لا تكون متيسرة للكل .

الحجة الثانية عشرة : الأمر بالصلاة كان ثابتا والأصل في الثابت البقاء خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بها للصلاة المشتملة على قراءة الفاتحة لأن الأخبار دالة على أن سورة الفاتحة أفضل من سائر السور ولأن المسلمين أطبقوا على أن الصلاة مع قراءة هذه السورة أكمل من الصلاة الخالية عن قراءة هذه السورة فعند عدم قراءة هذه السورة وجب البقاء على الأصل .

الحجة الثالثة عشرة : قراءة الفاتحة توجب الخروج عن العهدة باليقين فكانت أحوط فوجب القول بوجوبها للنص والمعقول أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك

وأما المعقول فهو أنه يفيد دفع ضرر الخوف عن النفس ودفع الضرر عن النفس واجب ؛

فإن قالوا فلو اعتقدنا الوجوب لاحتمل كوننا مخطئين فيه فيبقى الخوف

قلت: اعتقاد الوجوب يورث الخوف المحتمل واعتقاد عدم الوجوب يورثه أيضا فيتقابل هذان الضرران

وأما في العمل فإن القراءة لا توجب الخوف

أما تركه فيفيد الخوف فثبت أن الأحوط هو العمل .

الحجة الرابعة عشرة : لو كانت الصلاة بغير الفاتحة جائزة وكانت الصلاة بالفاتحة جائزة لما كانت الصلاة بالفاتحة أولى ؛ لأن المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز لكنهم أجمعوا على أن الصلاة بهذه السورة أولى فثبت أن الصلاة بغير هذه السورة غير جائزة .

الحجة الخامسة عشرة : أجمعنا على أنه لا يجوز إبدال الركوع والسجود بغيرهما فوجب أن لا يجوز إبدال قراءة الفاتحة بغيرها والجامع رعاية الاحتياط .

الحجة السادسة عشرة : الأصل بقاء التكليف فالقول بأن الصلاة بدون قراءة الفاتحة تقتضي الخروج عن العهدة

أما أن يعرف بالنص أو القياس

أما الأول فباطل لأن النص الذي يتمسكون به هو قوله تعالى : " {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} " [ المزمل : ٢٠ ] وقد بينا أنه دليلنا

وأما القياس فباطل لأن التعبدات غالبة على الصلاة وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس .

الحجة السابعة عشرة : لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام واظب على القراءة طول عمره فحينئذ تكون قراءة غير الفاتحة ابتداعا وتركا للاتباع وذلك حرام لقوله عليه الصلاة والسلام اتبعوا ولا تبتدعوا ولقوله عليه الصلاة والسلام : وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها .

الحجة الثامنة عشرة : الصلاة مع الفاتحة وبدون الفاتحة

أما أن يتساويا في الفضيلة أو الصلاة مع الفاتحة أفضل والأول باطل بالإجماع ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام واظب على الصلاة بالفاتحة فتعين الثاني فنقول : الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير جابر ؛ فوجب أن لا يجوز المصير إليه ؛ لأنه قبيح في العرف فيكون قبيحا في الشرع .

واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى : " {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} "

وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال : أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أخرج وأنادي : لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة ا لكتاب .

والجواب عن الأول : أنا بينا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا وذلك لأن قوله : " {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} " أمر والأمر للوجوب فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة ؛

فنقول : المراد بما تيسر من القرآن :

أما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة أو المراد : التخيير بين الفاتحة وبين غيرها

والأول يقتضي أن يكون الفاتحة بعينها واجبة وهو المطلوب

والثاني يقتضي أن يكون قراءة غير الفاتحة واجبة بعينها وهو باطل بالإجماع

والثالث يقتضي أن يكون المكلف مخيرا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع ؛ لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها وسلم أب

و حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز . واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين فهي متيسرة للكل

وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون وحينئذ لا تكون متيسرة للكل ( ١ ) وعن الثاني أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وأيضا لم لا يجوز أن يقال المراد من قوله لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى وإذا ثبت التعارض فالترجيح معنا لأنه أحوط ولأنه أفضل واللّه أعلم .

المسألة الثالثة : لما كان قول أبي حنيفة وأصحابه أن قراءة الفاتحة غير واجبة لا جرم اختلفوا في مقدار القراءة فقال أبو حنيفة : إذا قرأ آية واحدة كفت مثل قوله آلم وحم والطور ومدهامتان وقال أبو يوسف ومحمد : لا بد من قراءة ثلاث آيات قصار أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين .

المسألة الرابعة : قال الشافعي رضي اللّه عنه : بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من أول سورة الفاتحة وتجب قراءتها مع الفاتحة وقال مالك والأوزاعي رضي اللّه تعالى عنهما : إنه ليس من القرآن إلا في سورة النمل ولا يقرأ لا سرا ولا جهرا إلا في قيام شهر رمضان فإنه يقرؤها

وأما أبو حنيفة فلم ينص عليه وإنما قال : يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم ويسر بها ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا قال يعلى سألت محمد بن الحسن عن بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال : ما بين الدفتين قرآن قال :

 قلت: فلم تسره ؟ قال : فلم يجبني وقال الكرخي لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة وقال بعض فقهاء الحنفية : تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة لأن الخوض في إثبات أن التسمية من القرآن أو ليست منه أمر عظيم فالأولى السكوت عنه .

واعلم أن هذه المسألة تشتمل على ثلاث مسائل :

إحداها : أن هذه المسألة هل هي مسألة اجتهادية حتى يجوز الاستدلال فيها بالظواهر وأخبار الآحاد أو ليست من المسائل الاجتهادية بل هي من المسائل القطعية .

وثانيتها : أن بتقدير أنها من المسائل الاجتهادية فما الحق فيها ؟ وثالثتها : الكلام في أنها تقرأ بالإعلان أو بالإسرار فلنتكلم في هذه المسائل الثلاث .

المسألة الخامسة : في تقرير أن هذه المسألة ليست من المسائل القطعية وزعم القاضي أبو بكر أنها من المسائل القطعية قال : والخطأ فيها إن لم يبلغ إلى حد التكفير فلا أقل من التفسيق واحتج عليه بان التسمية لو كانت من القرآن لكان طريق إثباته أما التواتر أو الآحاد

والأول باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كون التسمية من القرآن لحصل العلم الضروري بأنها من القرآن ولو كانت كذلك لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة

والثاني أيضا باطل ؛ لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ولصار ذلك ظنيا ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض في أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف وذلك يبطل الإسلام .

واعلم أن الشيخ الغزالي عارض القاضي فقال : نفي كون التسمية من القرآن إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف وإن ثبت بالآحاد فحينئذ يصير القرآن ظنيا ثم أورد على نفسه سؤالا وهو أنه لو قال قائل ليس من القرآن عدم فلا حاجة في إثبات هذا العدم إلى النقل ؛ لأن الأصل هو العدم

وأما قولنا إنه قرآن فهو ثبوت فلا بد فيه من النقل ثم أجاب عنه بان قال : هذا وإن كان عدما إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهم كونها من القرآن فههنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بدليل منفصل وحينئذ يعود التقسيم المذكور من أن الطريق

أما أن يكون تواترا أو آحادا فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه فهذا آخر ما قيل في هذا الباب .

والذي عندي فيه أن النقل المتواتر ثابت بأن بسم اللّه الرحمن الرحيم كلام أنزله اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم وبأنه مثبت في المصحف بخط القرآن وعند هذا ظهر أنه لم يبق لقولنا إنه من القرآن أو ليس من القرآن فائدة إلا أنه حصل فيها أحكام شرعية هي من خواص القرآن مثل أنه هل يجب قراءتها في الصلاة أم لا وهل يجوز للجنب قراءتها أم لا وهل يجوز للمحدث مسها أم لا ومعلوم أن هذه الأحكام اجتهادية فلما رجع حاصل قولنا إن التسمية هل هي من القرآن إلى ثبوت هذه الأحكام وعدمها وثبت أن ثبوت هذه الأحكام وعدمها أمور اجتهادية ظهر أن البحث اجتهادي لا قطعي وسقط تهويل القاضي .

المسألة السادسة : في بيان أن التسمية هل هي من القرآن وأنها آية من الفاتحة قال قراء المدينة والبصرة وفقهاء الكوفة إنها ليست من الفاتحة وقال قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إنها آية من الفاتحة وهو قول ابن المبارك والثوري ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : روى الشافعي رضي اللّه عنه عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت : قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد بسم اللّه الرحمن الرحيم آية الحمد للّه رب العالمين آية الرحمن الرحيم آية مالك يوم الدين آية إياك نعبد وإياك نستعين آية اهدنا الصراط المستقيم آية صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية وهذا نص صريح .

الحجة الثانية : روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم اللّه الرحمن الرحيم .

الحجة الثالثة : روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إلا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري فقلت بلى فقال : بأي شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة ؟

 قلت: ببسم اللّه الرحمن الرحيم قال : هي هي فهذا الحديث يدل على أن التسمية من القرآن .

الحجة الرابعة : روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللّه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له : كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة قال : أقول الحمد للّه رب العالمين قال : قل : بسم اللّه الرحمن الرحيم وروى أيضا بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين .

وروى أيضا بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم وكان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص .

وروى أيضا بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : " {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} " [ الحجر : ٨٧ ] قال : فاتحة الكتاب فقيل لابن عباس : فأين السابعة ؟ فقال : بسم اللّه الرحمن الرحيم .

وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إذا : قرأتم أم القرآن فلا تدعوا بسم اللّه الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها .

وبإسناده أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يقول اللّه تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد بسم اللّه الرحمن الرحيم قال اللّه سبحانه مجدني عبدي وإذا قال الحمد للّه رب العالمين قال اللّه تبارك وتعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال اللّه عز وجل أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال اللّه فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال اللّه تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم قال اللّه تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل .

وبإسناده عن أبي هريرة قال : كنت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد والنبي صلى اللّه عليه وسلم يحدث أصحابه إذ دخل رجل يصلي فافتتح الصلاة وتعوذ ثم قال : الحمد للّه رب العالمين فسمع النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك فقال له : يا رجل قطعت على نفسك الصلاة

أما علمت أن بسم اللّه الرحمن الرحيم من الحمد من تركها فقد ترك آية منها ومن ترك آية منها فقد قطع صلاته فإنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته .

وبإسناده عن طلحة بن عبيد اللّه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من ترك بسم اللّه الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب اللّه واعلم أني نقلت جملة هذه الأحاديث من تفسير الشيخ أبي إسحاق الثعلبي رحمه اللّه .

الحجة الخامسة : قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها بيان الأول قوله تعالى : " {اقرأ باسم ربك} " [ العلق : ١ ] ولا يجوز أن يقال : الباء صلة زائدة لأن الأصل أن يكون لكل حرف من كلام اللّه تعالى فائدة وإذا كان هذا الحرف مفيدا كان التقدير اقرأ مفتتحا باسم ربك وظاهر الأمر للوجوب ولم يثبت هذا الوجوب في غير القراءة في الصلاة فوجب إثباته في القراءة في الصلاة صونا للنص عن التعطيل .

الحجة السادسة : التسمية مكتوبة بخط القرآن وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن ألا ترى أنهم منعوا من كتابة أسامي السور في المصحف ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس والغرض من ذلك كله أن يمنعوا من أن يختلط بالقرآن ما ليس منه فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن ولما أجمعوا على كتابتها بخط القرآن علمنا أنها من القرآن .

الحجة السابعة : أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام اللّه والتسمية موجودة بين الدفتين فوجب جعلها من كلام اللّه تعالى ولهذا السبب حكينا أن يعلى لما أورد هذا الكلام على محمد بن الحسن بقي ساكتا .

واعلم أن مذهب أبي بكر الرازي أن التسمية من القرآن ولكنها ليست آية من سورة الفاتحة بل المقصود من تنزيلها إظهار الفصل بين السور وهذان الدليلان لا يبطلان قول أبي بكر الرازي .

الحجة الثامنة : أطبق الأكثرون على أن سورة الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه قال : قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم آية واحدة وقوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية واحدة

وأما أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى فإنه قال : بسم اللّه ليس بآية منها لكن قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية أخرى وسنبين في مسألة مفردة أن قول أبي حنيفة مرجوح ضعيف فحينئذ يبقى أن الآيات لا تكون سبعا إلا إذا اعتقدنا أن قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم آية منها تامة .

الحجة التاسعة : أن نقول : قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة فوجب أن تكون آية منها بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل وإذا كان كذلك فالظاهر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى : " {واتبعوه} " [ الأعراف : ١٥٨ ] وإذا ثبت وجوب قراءتها ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق .

الحجة العاشرة : قوله عليه السلام : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر أو أجذم وأعظم الأعمال بعد الإيمان باللّه الصلاة فقراءة الفاتحة فيها بدون قراءة بسم اللّه يوجب كون هذه الصلاة بتراء ولفظ الأبتر يدل على غاية النقصان والخلل بدليل أنه تعالى ذكره في معرض الذم للكافر الذي كان عدوا للرسول عليه السلام فقال : " {إن شانئك هو الأبتر} " [ الكوثر : ٣ ] فلزم أن يقال : الصلاة الخالية عن قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم تكون في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بهذا الخلل والنقصان قال بفساد هذه الصلاة وذلك يدل على أنها من الفاتحة وأنه يجب قراءتها .

الحجة الحادية عشرة : ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بن كعب : ما اعظم آية في كتاب اللّه تعالى ؟ فقال : بسم اللّه الرحمن الرحيم فصدقه النبي عليه السلام في قوله .

وجه الاستدلال أن هذا الكلام يدل على أن هذا القدر آية ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله إنه من سليمان وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم بل هذا بعض آية فلا بد وأن يكون آية تامة في غير هذا الموضع وكل من قال بذلك قال إنه آية تامة في أول سورة الفاتحة .

الحجة الثانية عشرة : إن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم القرآن ولم يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت ؟ أين بسم اللّه الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن ؟ فأعاد معاوية الصلاة وقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة رضي اللّه عنهم على أنه من القرآن ومن الفاتحة وعلى أن الأولى الجهر بقراءتها .

الحجة الثالثة عشرة : أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون بذكر بسم اللّه فوجب أن يجب على رسولنا صلى اللّه عليه وسلم ذلك وإذا ثبت هذا الوجوب في حق الرسول ثبت أيضا في حقنا وإذا ثبت الوجوب في حقنا ثبت أنه آية من سورة الفاتحة

أما المقدمة الأولى : فالدليل عليها أن نوحا عليه السلام لما أراد ركوب السفينة قال : " {اركبوا فيها بسم اللّه مجراها ومرساها} " [ هود : ٤١ ] وأن سليمان لما كتب إلى بلقيس كتب بسم اللّه الرحمن الرحيم

فإن قالوا : أليس أن قوله تعالى : " {إنه من سليمان وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم} " [ النمل : ٣٠ ] يدل على أن سليمان قدم اسم نفسه على اسم اللّه تعالى ؟

قلنا : معاذ اللّه أن يكون الأمر كذلك وذلك لأن الطير أتى بكتاب سليمان ووضعه على صدر بلقيس وكانت المرأة في بيت لا يقدر أحد على الدخول فيه لكثرة من أحاط بذلك البيت من العساكر والحفظة فعلمت بلقيس أن ذلك الطير هو الذي أتى بذلك الكتاب وكانت قد سمعت باسم سليمان فلما أخذت الكتاب قالت هي من عند نفسها : إنه من سليمان فلما فتحت الكتاب رأت التسمية مكتوبة فقالت : وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم .

فثبت أن الأنبياء عليهم السلام كلما شرعوا في عمل من أعمال الخير ابتدؤا بذكر بسم اللّه الرحمن الرحيم .

والمقدمة الثانية : أنه لما ثبت هذا في حق سائر الأنبياء وجب أن يجب على رسولنا ذلك لقوله تعالى : " {أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده} " [ الأنعام : ٩٠ ] وإذا ثبت ذلك في حق الرسول وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى: " {واتبعوه} " [ الأعراف : ١٥٨ ] وإذا ثبت وجوب قراءته علينا ثبت أنه آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق .

الحجة الرابعة عشرة : أنه تعالى متقدم بالوجود على وجود سائر الموجودات ؛ لأنه تعالى قديم وخالق وغيره محدث ومخلوق والقديم الخالق يجب أن يكون سابقا على المحدث المخلوق وإذا ثبت أنه تعالى سابق على غيره وجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقا على ذكر غيره وهذا السبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كان قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم سابقة على سائر الأذكار والقراءات وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقدم حسن في العقول وجب أن يكون معتبرا في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أيضا أنها آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق .

الحجة الخامسة عشرة : أن بسم اللّه الرحمن الرحيم لا شك أنه من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكررا بخط القرآن فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى : " {فبأي آلاء ربكما تكذبان} " من سورة الرحمن وقوله تعالى : " {ويل يومئذ للمكذبين} " من سورة المرسلات مكررا في القرآن بخط واحد وصورة واحدة قلنا : إن الكل من القرآن .

الحجة السادسة عشرة : روى أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يكتب في أول الأمر على رسم قريش باسمك اللّهم حتى نزل قوله تعالى : " {اركبوا فيها بسم اللّه مجراها ومرساها} " [ هود : ٤١ ] فكتب بسم اللّه فنزل قوله " {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن} " [ الإسراء : ١١٠ ] فكتب بسم اللّه الرحمن فلما نزل قوله تعالى : " {إنه من سليمان وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم} " [ النمل : ٣٠ ] كتب مثلها وجه الاستدلال أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن ومجموعها من القرآن ثم إنه ثبت في القرآن فوجب الجزم بأنه من القرآن إذ لو جاز إخراجه من القرآن مع هذه الموجبات الكثيرة ومع الشهرة لجاز إخراج سائر الآيات كذلك وذلك يوجب الطعن في القرآن .

الحجة السابعة عشرة : قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن اللّه تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد عليه الصلاة والسلام وكان يأمر بكتبه بخط المصحف وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل هو من القرآن فرجع إلى أحكام مخصوصة مثل أنه هل يجب قراءته وهل يجوز للجنب قراءته وللمحدث مسه ؟

فنقول : ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه لقوله عليه الصلاة والسلام : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

واحتج المخالف بأشياء :

 الأول : تعلقوا بخبر أبي هريرة وهو أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : يقول اللّه تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد للّه رب العالمين يقول اللّه تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه تعالى مجدني عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول اللّه تعالى هذا بيني وبين عبدي والاستدلال بهذا الخبر من وجهين :

 الأول : أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التسمية ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها

والثاني : أنه تعالى قال : جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد من الصلاة الفاتحة ؛ وهذا التنصيف إنما يحصل إذا قلنا إن التسمية ليست آية من الفاتحة لأن الفاتحة سبع آيات فيجب أن يكون فيها للّه ثلاث آيات ونصف وهي من قوله الحمد للّه إلى قوله إياك نعبد - وللعبد ثلاث آيات ونصف - وهي من قوله وإياك نستعين إلى آخر السورة –

أما إذا جعلنا بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من الفاتحة حصل للّه أربع آيات ونصف وللعبد آيتان ونصف وذلك يبطل التنصيف المذكور .

الحجة الثانية : روت عائشة رضي اللّه تعالى عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد للّه رب العالمين وهذا يدل على أن التسمية ليست آية من الفاتحة .

الحجة الثالثة : لو كان قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من هذه السورة : لزم التكرار في قوله الرحمن الرحيم وذلك بخلاف الدليل .

والجواب عن الحجة الأولى من وجوه :

 الأول : أنا نقلنا أن الشيخ أبا إسحق الثعلبي روى بإسناده أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث عد بسم اللّه الرحمن الرحيم آية تامة من سورة الفاتحة ولما تعارضت الروايتان فالترجيح معنا لأن رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي .

الثاني : روى أبو داود السختياني ( ١ ) عن النخعي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : وإذا قال العبد مالك يوم الدين يقول اللّه تعالى مجدني عبدي وهو بيني وبين عبدي إذا عرفت هذا

فنقول : قوله في مالك يوم الدين هذا بيني وبين عبدي يعني في القسمة وإنما يكون كذلك إذا حصلت ثلاثة قبلها وثلاثة بعدها وإنما يحصل ثلاثة قبلها لو كانت التسمية آية من الفاتحة فصار هذا الخبر حجة لنا من هذا الوجه .

الثالث : أن لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات فهو أيضا يحتمل النصف في المعنى قال عليه الصلاة والسلام : الفرائض نصف العلم وسماه بالنصف من حيث أنه بحث عن أحوال الأموات والموت والحياة قسمان وقال شريح : أصبحت ونصف الناس علي غضبان سماه نصفا من حيث أن بعضهم راضون وبعضهم ساخطون .

الرابع : أن دلائلنا في أن بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من الفاتحة صريحة وهذا الخبر الذي تمسكوا به ليس المقصود منه بيان أن بسم اللّه الرحمن الرحيم هل هي من الفاتحة أم لا لكن المقصود منه بيان شيء آخر فكانت دلائلنا أقوى وأظهر .

الخامس : أنا بينا أن قولنا أقرب إلى الاحتياط .

والجواب عن حجتهم الثانية ما قال الشافعي فقال : لعل عائشة جعلت الحمد للّه رب العالمين اسما لهذه السورة كما يقال : قرأ فلان الحمد للّه الذي خلق السموات والمراد أنه قرا هذه السورة فكذا ههنا وتمام الجواب عن خبر أنس سيأتي بعد ذلك .

والجواب عن الحجة الثالثة أن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن وتأكيد كون اللّه تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات واللّه أعلم .

المسألة السابعة : في بيان عدد آيات هذه السورة رأيت في بعض الروايات الشاذة أن الحسن البصري كان يقول : هذه السورة ثمان آيات

فأما الرواية المشهورة التي أطبق الأكثرون عليها أن هذه السورة سبع آيات وبه فسروا قوله تعالى " {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} " [ الحجر : ٨٧ ] إذا ثبت هذا فنقول : الذين قالوا إن بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من الفاتحة قالوا إن قوله صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية تامة

وأما أبو حنيفة فإنه لما أسقط التسمية من السورة لا جرم قال قوله صراط الذين أنعمت عليهم آية وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية أخرى إذا عرفت هذا فنقول : الذي قاله الشافعي أولى : ويدل عليه وجوه :

 الأول : أن مقطع قوله صراط الذين أنعمت عليهم لا يشابه مقطع الآيات المتقدمة ورعاية التشابه في المقاطع لازم ؛ لأنا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة فالمتقاربة كما في سورة ق والمتشاكلة كما في سورة القمر وقوله " {أنعمت عليهم} " ليس من القسمين فامتنع جعله من المقاطع

الثاني : أنا إذا جعلنا قوله غير المغضوب عليهم ابتداء آية فقد جعلنا أول الآية لفظ غير وهذا اللفظ

أما أن يكون صفة لما قبله أو استثناء عما قبله والصفة مع الموصوف كالشيء الواحد وكذلك الاستثناء مع المستثنى منه كالشيء الواحد وإيقاع الفصل بينهما على خلاف الدليل

أما إذا جعلنا قوله صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخر السورة آية واحدة كنا قد جعلنا الموصوف مع الصفة والمستثنى مع المستثنى منه كلاما واحدا وآية واحدة وذلك أقرب إلى الدليل

الثالث : أن المبدل منه في حكم المحذوف فيكون تقدير الآية اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لكن طلب الاهتداء بصراط من أنعم اللّه عليهم لا يجوز إلا بشرطين : أن يكون ذلك المنعم عليه غير مغضوب عليه ولا ضالا فإنا لو أسقطنا هذا الشرط لم يجز الاهتداء به والدليل عليه قوله تعالى " {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا} " [ إبراهيم : ٢٨ ] وهذا يدل على أنه قد أنعم عليهم إلا أنهم لما صاروا من زمرة المغضوب عليهم ومن زمرة الضالين لا جرم لم يجز الاهتداء بهم فثبت أنه لا يجوز فصل قوله : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " عن قوله " {غير المغضوب عليهم} " بل هذا المجموع كلام واحد فوجب القول بأنه آية واحدة

فإن قالوا : أليس أن قوله الحمد للّه رب العالمين آية واحدة وقوله الرحمن الرحيم آية ثانية ومع أن هذه الآية غير مستقلة بنفسها بل هي متعلقة بما قبلها ؟

 قلنا : الفرق أن قوله الحمد للّه رب العالمين كلام تام بدون قوله الرحمن الرحيم فلا جرم لم يمتنع أن يكون مجرد قوله الحمد للّه رب العالمين آية تامة ولا كذلك هذا لما بينا أن مجرد قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ليس كلاما تاما بل ما لم يضم إليه قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين لم يصح قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فظهر الفرق .

المسألة الثامنة : ذكر بعض أصحابنا قولين للشافعي في أن بسم اللّه الرحمن الرحيم هل هي آية من أوائل سائر السور أم لا .

أما المحققون من الأصحاب فقد اتفقوا على أن بسم اللّه قرآن من سائر السور وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من أول كل سورة أو هي وما بعدها آية وقال بعض الحنفية إن الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة لأن أحدا ممن قبله لم يقل إن بسم اللّه آية من أوائل سائر السور ودليلنا أن بسم اللّه مكتوب في أوائل السور بخط القرآن فوجب كونه قرآنا واحتج المخالف بما روى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال في سورة الملك : إنها ثلاثون آية وفي سورة الكوثر : إنها ثلاث آيات ثم أجمعوا على أن هذا العدد حاصل بدون التسمية فوجب أن لا تكون التسمية آية من هذه السور والجواب أنا إذا قلنا بسم اللّه الرحمن الرحيم مع ما بعده آية واحدة فهذا الإشكال زائل

فإن قالوا : لما اعترفتم بأنها آية تامة من أول الفاتحة فكيف يمكنكم أن تقولوا أنها بعض آية من سائر السور ؟

 قلنا : هذا غير بعيد ألا ترى أن قوله الحمد للّه رب العالمين آية تامة ثم صار مجموع قوله : " {وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ] آية واحدة ؛ فكذا ههنا .

وأيضا فقوله سورة الكوثر ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات

وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السور فسقط هذا السؤال .

المسألة التاسعة : يروى عن أحمد بن حنبل أنه قال : التسمية آية من الفاتحة إلا أنه يسر بها في كل ركعة

وأما الشافعي فإنه قال : إنها آية منها ويجهر بها وقال أبو حنيفة : ليست آية من الفاتحة إلا أنها يسر بها في كل ركعة ولا يجهر بها أيضا

فنقول الجهر بها سنة ويدل عليه وجوه وحجج .

الحجة الأولى : قد دللنا على أن التسمية آية من الفاتحة وإذا ثبت هذا

فنقول : الاستقراء دل على أن السورة الواحدة

أما أن تكون بتمامها سرية أو جهرية

فأما أن يكون بعضها سريا وبعضها جهريا فهذا مفقود في جميع السور ؛ وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعا في القراءة الجهرية .

الحجة الثانية : أن قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم لا شك أنه ثناء على اللّه وذكر له بالتعظيم فوجب أن يكون الإعلان به مشروعا لقوله تعالى : " {فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} " [ البقرة : ٢٠٠ ] ومعلوم أن الإنسان إذا كان مفتخرا بأبيه غير مستنكف منه فإنه يعلن بذكره ويبالغ في إظهاره

أما إذا أخفى ذكره أو أسره دل ذلك على كونه مستنكفا منه فإذا كان المفتخر بأبيه يبالغ في الإعلان والإظهار وجب أن يكون إعلان ذكر اللّه أولى عملا بقوله : " {فاذكروا اللّه كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا} " .

الحجة الثالثة : هي أن الجهر بذكر اللّه يدل على كونه مفتخرا بذلك الذكر غير مبال بإنكار من ينكره ولا شك أن هذا مستحسن في العقل فيكون في الشرع كذلك ؛ لقوله عليه السلام : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن ومما يقوى هذا الكلام أيضا أن الإخفاء والسر لا يليق إلا بما يكون فيه عيب ونقصان فيخفيه الرجل ويسره لئلا ينكشف ذلك العيب .

أما الذي يفيد أعظم أنواع الفخر والفضيلة والمنقبة فكيف يليق بالعقل إخفاؤه ؟ ومعلوم أنه لا منقبة للعبد أعلى وأكمل من كونه ذاكرا للّه بالتعظيم ولهذا قال عليه السلام : طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر اللّه وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين .

ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه ؟ ولهذا السبب نقل أن عليا رضي اللّه عنه كان مذهبه الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في جميع الصلوات وأقول إن هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين .

الحجة الرابعة : ما رواه الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية سرقت منا الصلاة أين بسم اللّه الرحمن الرحيم ؟ وأين التكبير عند الركوع والسجود ؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير قال الشافعي : إن معاوية كان سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار وإلا لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية .

الحجة الخامسة : روى البيهقي في السنن الكبير عن أبي هريرة قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم ثم إن الشيخ البيهقي روى الجهر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأما أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ومن اقتدى في دينه بعلى بن أبي طالب فقد اهتدى والدليل عليه قوله عليه السلام : اللّهم أدر الحق مع علي حيث دار .

الحجة السادسة : أن قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم يتعلق بفعل لا بد من إضماره والتقدير بإعانة اسم اللّه اشرعوا في الطاعات أو ما يجري مجرى هذا المضمر ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية اللّه إلا بعصمة اللّه ولا قوة على طاعة اللّه إلا بتوفيق اللّه وينبه العقل على أنه لا يتم شيء من الخيرات والبركات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر اللّه ومن المعلوم أن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول هذه المعاني في العقول فإذا كان استماع هذه الكلمة يفيد هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية دخل هذا القائل تحت قوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ؛ لأن هذا القائل بسبب إظهار هذه الكلمة أمر بما هو أحسن أنواع الأمر بالمعروف وهو الرجوع إلى اللّه بالكلية والاستعانة باللّه في كل الخيرات وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يقول إنه بدعة .

واحتج المخالف بوجوه وحجج : روى البخاري بإسناده عن أنس أنه قال صليت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد للّه رب العالمين وروى مسلم هذا الخبر في صحيحه وفيه أنهم لا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم وفي رواية أخرى ولم أسمع أحدا منهم قال بسم الرحمن الرحيم وفي رواية رابعة : فلم يجهر أحد منهم ببسم اللّه الرحمن الرحيم .

الحجة الثانية : ما روى عبد اللّه بن المغفل أنه قال : سمعني أبي وأنا أقول بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال : يا بني إياك والحدث في الإسلام فقد صليت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وعثمان فابتدؤا القراءة بالحمد للّه رب العالمين فإذا صليت فقل : الحمد للّه رب العالمين

وأقول : إن أنسا وابن المغفل خصصا عدم ذكر بسم اللّه الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة ولم يذكرا عليا وذلك يدل على إطباق الكل على أن عليا كان يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم .

الحجة الثالثة : قوله تعالى " {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} " [ الأعراف : ٥٥ ] " {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} " [ الأعراف : ٢٠٥ ] وبسم اللّه الرحمن الرحيم ذكر اللّه فوجب إخفاؤه وهذه الحجة استنبطها الفقهاء واعتمادهم على الكلامين الأولين .

والجواب عن خبر أنس من وجوه :

 الأول : قال الشيخ أبو حامد الاسفرايني : روي عن أنس في هذا الباب ست روايات

أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات :

إحداها قوله صليت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد للّه رب العالمين :

وثانيتها قوله : إنهم ما كانوا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم .

وثالثتها قوله : لم أسمع أحدا منهم قال بسم اللّه الرحمن الرحيم فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية وثلاث أخرى تناقض قولهم إحداها ما ذكرنا أن أنسا روى أن معاوية لما ترك بسم اللّه الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار وقد بينا أن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم .

وثانيتها روى أبو قلابة عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم اللّه الرحمن الرحيم .

وثالثتها أنه سئل عن الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم والإسرار به فقال : لا أدري هذه المسألة فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل وأيضا ففيها تهمة أخرى وهي أن عليا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام فلعل أنسا خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه ونحن وإن شككنا في شيء فإنا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى فهذا جواب قاطع في المسألة .

ثم نقول : هب أنه حصل التعارض بين دلائلكم ودلائلنا إلا أن الترجيح معنا وبيانه من وجوه :

 الأول : أن راوي أخباركم أنس وابن المغفل وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وهؤلاء كانوا اكثر علما وقربا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أنس وابن المغفل .

والثاني : أن مذهب أبي حنيفة أن خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم يقبل ولهذا السبب فإنه لم يقبل خبر المصراة مع أنه لفظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأن القياس يخالفه .

إذا ثبت هذا فنقول قد بينا أن صريح العقل ناطق بان إظهار هذه الكلمة أولى من إخفائها فلأي سبب رجح قول أنس وقول ابن المغفل على هذا البيان الجلي البديهي ؟

 والثالث : أن من المعلوم بالضرورة أن النبي عليه السلام كان يقدم الأكابر على الأصاغر والعلماء على غير العلماء والأشراف على الأعراب ولا شك أن عليا وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالا في العلم والشرف وعلو الدرجة من أنس وابن المغفل والغالب على الظن أن عليا وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان أنس وابن المغفل يقفان بالعبد منه وأيضا أنه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالا لقوله تعالى : " {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} " [ الإسراء : ١١٠ ] وأيضا فالإنسان أول ما يشرع في القراءة إنما يشرع فيها بصوت ضعيف ثم لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأن أنسا وابن المغفل ما سمعاه .

الرابع : قال الشافعي : لعل المراد من قول أنس كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستفتح الصلاة بالحمد للّه رب العالمين أنه كان قدم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور فقوله الحمد للّه رب العالمين المراد منه تمام هذه فجعل هذه اللفظة اسما لهذه السورة .

الخامس : لعل المراد من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت كما قال تعالى : " {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} " [ الإسراء : ١١٠ ] .

السادس : الجهر كيفية ثبوتية والإخفاء كيفية عدمية والرواية المثبتة أولى من النافية .

السابع : أن الدلائل العقلية موافقة لنا وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا ومن اتخذ عليا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه .

وأما التمسك بقوله تعالى " {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} " [ الأعراف : ٢٠٥ ]

فالجواب أنا نحمل ذلك على مجرد الذكر

أما قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم فالمراد منه قراءة كلام اللّه تعالى على سبيل العبادة والخضوع فكان الجهر به أولى .

المسألة العاشرة : في تفاريع التسمية وفيه فروع :

الفرع الأول : قالت الشيعة : السنة هي الجهر بالتسمية سواء كانت في الصلاة الجهرية أو السرية وجمهور الفقهاء يخالفونهم فيه .

الفرع الثاني : الذين قالوا التسمية ليست آية من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المصحف في أول كل سورة وفيه قولان :

الأول : أن التسمية ليست من القرآن وهؤلاء فريقان : منهم من قال إنها كتبت للفصل بين السور وهذا الفصل قد صار الآن معلوما فلا حاجة إلى إثبات التسمية فعلى هذا لو لم تكتب لجاز ومنهم من قال : إنه يجب إثباتها في المصاحف ولا يجوز تركها أبدا .

والقول الثاني أنها من القرآن وقد أنزلها اللّه تعالى ولكنها آية مستقلة بنفسها وليست آية من السورة وهؤلاء أيضا فريقان : منهم من قال : إن اللّه تعالى كان ينزلها في أول كل سورة على حدة ومنهم من قال : لا بل أنزلها مرة واحدة وأمر بإثباتها في أول كل سورة والذي يدل على أن اللّه تعالى أنزلها وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يعد بسم اللّه الرحمن الرحيم آية فاصلة وعن إبراهيم بن يزيد قال :

 قلت لعمرو بن دينار : إن الفضل الرقاشي يزعم أن بسم اللّه الرحمن الرحيم ليس من القرآن فقال : سبحان اللّه ما أجرأ هذا الرجل ! علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها وعن عبد اللّه بن المبارك أنه قال : من ترك بسم اللّه الرحمن الرحيم فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية وروي مثله عن ابن عمر وأبي هريرة .

الفرع الثالث : القائلون بأن التسمية آية من الفاتحة وأن الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة لا شك أنهم يوجبون قراءة التسمية

أما الذين لا يقولون به فقد اختلفوا فقال أبو حنيفة وأتباعه والحسن بن صالح بن جني وسفيان الثوري وابن أبي ليلى : يقرا التسمية سرا وقال مالك : لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سرا ولا جهرا

وأما في النافلة فإن شاء قرأها وإن شاء ترك .

الفرع الرابع : مذهب الشافعي يقتضي وجوب قراءتها في كل الركعات

أما أبو حنيفة فعنه روايتان روى يعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقرأها في كل ركعة قبل الفاتحة وروى أبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد ثلاثتهم جميعا عن أبي حنيفة أنه قال : إذا قرأها في أول ركعة عند ابتداء القراءة لم يكن عليه أن يقرأها في تلك الصلاة حتى يفرغ منها قال : وإن قرأها مع كل سورة فحسن .

الفرع الخامس : ظاهر قول أبي حنيفة أنه لما قرأ التسمية في أول الفاتحة فإنه لا يعيدها في أوائل سائر السور وعند الشافعي أن الأفضل إعادتها في أول كل سورة لقوله عليه السلام كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر .

الفرع السادس : اختلفوا في أنه هل يجوز للحائض والجنب قراءة بسم اللّه الرحمن الرحيم ؟ والصحيح عندنا أنه لا يجوز .

الفرع السابع : أجمع العلماء على أن تسمية اللّه على الوضوء مندوبة وعامة العلماء على أنها غير واجبة لقوله صلى اللّه عليه وسلم : توضأ كما أمرك اللّه به والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء وقال أهل الظاهر إنها واجبة فلو تركها عمدا أو سهوا لم تصح صلاته وقال إسحق إن تركها عامدا لم يجز وإن تركها ساهيا جاز .

الفرع الثامن : متروك التسمية عند التذكية هل يحل أكله أم لا ؟

 المسألة في غاية الشهرة قال اللّه تعالى : " {فاذكروا اسم اللّه عليها صواف} " [ الحج : ٣٦ ] وقال تعالى : " {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه} " [ الأنعام : ١٢١ ] .

الفرع التاسع: أجمع العلماء على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال وإلا ويقول بسم اللّه فإذا نام قال بسم اللّه وإذا قام من مقامه قال بسم اللّه وإذا قصد العبادة قال بسم اللّه وإذا دخل الدار قال بسم اللّه أو خرج منها قال بسم اللّه وإذا أكل أو شرب أو أخذ أو أعطى قال بسم اللّه ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول بسم اللّه وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل بسم اللّه وهذا آخر أحواله من الدنيا وإذا قام من القبر قال أيضا بسم اللّه وإذا حضر الموقف قال بسم اللّه فتتباعد عنه النار ببركة قوله بسم اللّه .

المسألة الحادية عشرة : ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها وقال أبو حنيفة : إنها كافية في حق القادر والعاجز وقال أبو يوسف ومحمد : إنها كافية في حق العاجز وغير كافية في حق القادر واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جدا ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه .

لنا حجج ووجوه : الحجة الأولى : أنه صلى اللّه عليه وسلم إنما صلى بالقرآن المنزل من عند اللّه تعالى باللفظ العربي وواظب عليه طول عمره فوجب أن يجب علينا مثله لقوله تعالى : " {فاتبعوه} " [ الأنعام : ١٥٣ ] والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطا في صحة الوضوء ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربي .

الحجة الثانية : أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربي فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه السلام : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ولقوله عليه السلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ .

الحجة الثالثة : أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه السلام : ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة قيل : ومن هم يا رسول اللّه ؟ قال ما أنا عليه وأصحابي .

وجه الدليل أنه عليه السلام هو وجميع أصحابه كانوا متفقين على القراءة في الصلاة بهذا القرآن العربي فوجب أن يكون القارئ بالفارسية من أهل النار .

الحجة الرابعة : أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن في الصلاة كما أنزل اللّه تعالى فمن عدل عن هذا الطريق دخل تحت قوله تعالى : " {ويتبع غير سبيل المؤمنين} " [ النساء : ١١٥ ] .

الحجة الخامسة : أن الرجل أمر بقراءة القرآن في الصلاة ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن فوجب أن لا يخرج عن العهدة إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى : " {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} " [ المزمل : ٢٠ ] ولقوله عليه السلام للأعرابي : ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه :

 الأول : قوله تعالى : " {وإنه لتنزيل رب العالمين} " [ الشعراء : ١٩٢ ] إلى قوله : " {بلسان عربي مبين} " [ الشعراء : ١٩٥ ]

الثاني : قوله تعالى : " {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} " [ إبراهيم : ٤ ]

الثالث : قوله تعالى : " {ولو جعلناه قرآنا أعجميا} " [ فصلت : ٤٤ ]

وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآنا أعجميا فيلزم أن يقال : إن كل ما كان أعجميا فهو ليس بقرآن .

الرابع : قوله تعالى : " {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} " [ الإسراء : ٨٨ ] فهذا الكلام المنظوم بالفارسية :

أما أن يقال إنه عين الكلام العربي أو مثله أو لا عينه ولا مثله

والأول معلوم البطلان بالضرورة

والثاني باطل إذ لو كان هذا النظم الفارسي مثلا لذلك الكلام العربي لكان الآتي به آتيا بمثل القرآن وذلك يوجب تكذيب اللّه سبحانه في قوله : " {لا يأتون بمثله} " [ الإسراء : ٨٨ ] ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئا للقرآن وهو المطلوب فثبت أن المكلف أمر بقراءة القرآن ولم يأت به فوجب أن يبقى في العهدة .

الحجة السادسة : ما رواه ابن المنذر عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب

فنقول : هذه الكلمات المنظومة بالفارسية

أما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن أو يقول إنها ليست بقرآن والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع وبيانه من وجوه :

 الأول : أن أحدا من العقلاء لا يجوز في عقله ودينه أن يقول إن قول القائل دوستان در بهشت قرآن .

الثاني : يلزم أن يكون القادر على ترجمة القرآن آتيا بقرآن مثل الأول وذلك باطل .

الحجة السابعة : روى عبد اللّه بن أبي أوفى أن رجلا قال : يا رسول اللّه إني لا أستطيع أن أحفظ القرآن كما يحسن في الصلاة فقال صلى اللّه عليه وسلم : قل سبحان اللّه والحمد للّه إلى آخر هذا الذكر وجه الدليل أن الرجل لما سأله عما يجزئه في الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربي أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح وذلك يبطل قول من يقول أنه يكفيه أن يقول دوستان دربهشت .

الحجة الثامنة : يقال إن أول الإنجيل هو قوله بسم إلاها رحمانا ومرحيانا وهذا هو عين ترجمة بسم اللّه الرحمن الرحيم فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى إن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآنا .

الحجة التاسعة : أنا إذا ترجمنا قوله تعالى : " {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه} " [ الكهف : ١٩ ] كان ترجمته بفرستيديكي أزشمابانقرة بشهربس بنكردكه كدام طعام بهترست يارة ازان بياورد ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظا ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به لقوله عليه الصلاة والسلام : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات لأنه لا قائل بالفرق وأيضا فهذه الحجة جارية في ترجمة قوله تعالى : " {هماز مشاء بنميم} " [ القلم : ١١ ] إلى قوله : " {عتل بعد ذلك زنيم} " [ القلم : ١٢ ] فإن ترجمتها تكون شتما من جنس كلام الناس في اللفظ والمعنى وكذلك قوله تعالى " {ادع ( ١ ) لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها} " [ البقرة : ٦١ ] فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظا ومعنى وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس والعجب من الخصوم أنهم قالوا إنه لو ذكر في آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته ثم قالوا : تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظا ومعنى .

الحجة العاشرة : قوله عليه الصلاة والسلام : أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف ولو كانت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآنا لكان قد أنزل القرآن على أكثر من سبعة أحرف لأن على مذهبهم قد حصل بحسب كل لغة قرآن على حدة وحينئذ لا يصح حصر حروف القرآن في السبعة .

الحجة الحادية عشرة : أن عند أبي حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات ولا شك أنه قد حصل في التوراة آيات كثيرة مطابقة لما في القرآن من الثناء على اللّه ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة الإنجيل والتوراة وبقراءة زيد وإنسان ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفا من القرآن بل كان مواظبا على قراءة زيد وإنسان فإنه يلقى اللّه تعالى مطيعا ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين .

الحجة الثانية عشرة : أنه لا ترجمة للفاتحة ألا نقول الثناء للّه رب العالمين ورحمان المحتاجين والقادر على يوم الدين أنت المعبود وأنت المستعان اهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب ولما كان باطلا علمنا فساد هذا القول .

الحجة الثالثة عشرة : لو كان هذا جائزا لكان قد أذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسلمان الفارسي في أن يقرأ القرآن بالفارسية ويصلي بها ولكان قد أذن لصهيب في أن يقرأ بالرومية ولبلال في أن يقرأ بالحبشية ؛ ولو كان هذا الأمر مشروعا لاشتهر جوازه في الخلق فإنه يعظم في أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق لأن ذلك يزيل عنهم إتعاب النفس في تعلم اللغة العربية ويحصل لكل قوم فخر عظيم في أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى اندراس القرآن بالكلية وذلك لا يقوله مسلم .

الحجة الرابعة عشرة : لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية وهذا جائز وذاك غير جائز بيان الملازمة أن الفارسي الذي لا يفهم من العربية شيئا لم يفهم من القرآن شيئا البتة

أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود وعرف ما فيه من الثناء على اللّه ومن الترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعاني قال تعالى : " {وأقم الصلاة لذكري} " [ طه : ١٤ ] وقال تعالى : " {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} " [ محمد : ٢٤ ] فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد العظيمة .

وقراءة القرآن باللفظ العربي تمنع من حصول هذه الفوائد فلو كانت القراءة بالفارسية قائمة مقام القراءة بالعربية في الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة والقراءة بالعربية مانعة منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة .

الحجة الخامسة عشرة : المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم والفارق ظاهر

أما المقتضى فلأن التكليف كان ثابتا والأصل في الثابت البقاء

وأما الفارق فهو أن القرآن العربي كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه وذلك من وجهين :

 الأول : أن الإعجاز في فصاحته ؛ وفصاحته في لفظه .

والثاني : أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصونا عن التحريف وذلك يوجب تحقيق ما وعد اللّه تعالى بقوله : " {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} " [ الحجر : ٩ ]

أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربي فإنه يختل هذا المقصود فثبت أن المقتضى قائم والفارق ظاهر .

واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن وقراءة الترجمة قراءة القرآن ويدل عليه وجوه :

 الأول: روي أن عبد اللّه بن مسعود كان يعلم رجلا القرآن فقال : " {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} " [ الدخان : ٤٣ ] وكان الرجل عجميا فكان يقول : طعام اليتيم ؛ فقال : قل طعام الفاجر ثم قال عبد اللّه إنه ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب .

الثاني : قوله تعالى : " {وإنه لفي زبر الأولين} " [ الشعراء : ١٩٦ ] فأخبر أن القرآن في زبر الأولين وقال تعالى : " {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} " [ الأعلى : ١٩ ] ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن في زبر الأولين بهذا اللفظ لكن كان بالعبرانية والسريانية .

الثالث : أنه تعالى قال : " {وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به} " [ الأنعام : ١٩ ] ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا إذا ذكر تلك المعاني لهم بلسانهم ثم إنه تعالى سماه قرآنا فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن .

والجواب عن الأول أن نقول : إن أحوال هؤلاء عجيبة جدا فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول : أنا مؤمن إن شاء اللّه ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة في نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن مسعود ثم إن الحنفية لا تلتفت إلى هذا بل تقول : إن القائل به شاك في دينه والشاك لا يكون مؤمنا فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم لم يقبلوا قوله في تلك المسألة ؟ وإن لم يكن حجة فلم عول عليه في هذه المسألة ؟ ولعمري هذه المناقضات عجيبة وأيضا فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين وحذف الفاتحة عن القرآن ويجب علينا إحسان الظن به ؛ وأن نقول : إنه رجع عن هذه المذاهب

وأما قوله تعالى : " {وإنه لفي زبر الأولين} " [ الشعراء : ١٩٦ ] فالمعنى أن هذه القصص موجودة في زبر الأولين وقوله تعالى : " {لأنذركم} " [ الأنعام : ١٩ ] فالمعنى لأنذركم معناه وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل القاهرة القاطعة التي ذكرناها .

المسألة الثانية عشرة : قال الشافعي في القول الجديد تجب القراءة على المقتدي ؛ سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها وقال في القديم تجب القراءة إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وابن المبارك وقال أبو حنيفة تكره القراءة خلف الإمام بكل حال ولنا وجوه :

الحجة الأولى : قوله تعالى : " {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} " [ المزمل : ٢٠ ] وهذا الأمر يتناول المنفرد والمأموم .

الحجة الثانية : أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ في الصلاة فيجب علينا ذلك لقوله تعالى " {فاتبعوه} " [ الأنعام : ١٥٣ ] إلا أن يقال : إن كونه مأموما يمنع منه إلا أنه معارضة .

الحجة الثالثة : أنا بينا أن قوله تعالى " {وأقيموا الصلاة} " [ البقرة : ٤٣ ] أمر بمجموع الأفعال التي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفعلها ومن جملة تلك الأفعال قراءة الفاتحة فكان قوله أقيموا الصلاة يدخل فيه الأمر بقراءة الفاتحة .

الحجة الرابعة : قوله عليه السلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقد ثبت تقرير وجه الدليل .

فإن قالوا : هذا الخبر مخصوص بحال الانفراد لأنه روى جابر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم : قال من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا أن يكون وراء الإمام

قلنا : هذا الحديث طعنوا فيه .

الحجة الخامسة : قوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي علمه أعمال الصلاة ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن وهذا يتناول المنفرد والمأموم .

الحجة السادسة : روى أبو عيسى الترمذي في جامعه بإسناده عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال : قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال : ما لي أراكم تقرأون خلف إمامكم

قلنا : أي واللّه قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن .

الحجة السابعة : روى مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تام قال : فقلت يا أبا هريرة إني أكون أحيانا خلف الإمام قال : اقرأ بها يا فارسي في نفسك والاستدلال بهذا الخبر من وجهين:

 الأول : أن صلاة المقتدي بدون مبرة عن الخداج عند الخصم وهو على خلاف النص .

الثاني : أن السائل أورد الصلاة خلف الإمام على أبي هريرة بوجوب القراءة عليه في هذه الحالة وذلك يؤيد المطلوب .

الحجة الثامنة : روى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : إن اللّه تعالى يقول : قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين بين أن التنصيف إنما يحصل بسبب القراءة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة من لوازم الصلاة وهذا التنصيف قائم في صلاة المنفرد وفي صلاة المقتدي .

الحجة التاسعة : روى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال : صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فلما انصرف أقبل علينا بوجهه الكريم فقال : هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة ؟ فقال بعضنا إنا لنصنع ذلك فقال : وأنا أقول مالي أنازع القرآن لا تقرؤا شيئا من القرآن إذا جهرت بقراءتي إلا أم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها .

الحجة العاشرة : أن الأحاديث الكثيرة دالة على أن قراءة القرآن توجب الثواب العظيم وهي متناولة للمنفرد والمقتدى فوجب أن تكون قراءتها في الصلاة خلف الإمام موجبة للثواب العظيم وكل من قال بذلك قال بوجوب قراءتها .

الحجة الحادية عشرة : وافق أبو حنيفة رضي اللّه عنه على أن القراءة خلف الإمام لا تبطل الصلاة

وأما عدم قراءتها فهو عندنا يبطل الصلاة فثبت أن القراءة أحوط فكانت واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

الحجة الثانية عشرة : إذا بقي المقتدي ساكتا عن القراءة مع أنه لا يسمع قراءة الإمام بقي معطلا فوجب أن يكون حال القارئ أفضل منه لقوله عليه الصلاة والسلام : أفضل الأعمال قراءة القرآن وإذا ثبت أن القراءة أفضل من السكوت في هذه الحالة ثبت القول بالوجوب لأنه لا قائل بالفرق .

الحجة الثالثة عشرة : لو كان الاقتداء مانعا من القراءة لكان الاقتداء حراما لأن قراءة القرآن عبادة عظيمة والمانع من العبادة الشريفة محرم فيلزمه أن يكون الاقتداء حراما وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الاقتداء لا يمنع من القراءة .

واحتج أبو حنيفة بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى : " {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} " [ الأعراف : ٢٠٤ ] واعلم أنا بينا في تفسير هذه الآية أنها لا تدل على قولهم وبالغنا فليطالع ذلك الموضع من هذا التفسير ؛

وأما الأخبار فقد ذكروا أخبارا كثيرة والشيخ أحمد البيهقي بين ضعفها ثم نقول : هب أنها صحيحة ولكن الأخبار لما تعارضت وكثرت فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه :

 الأول : أن قولنا : يوجب الاشتغال بقراءة القرآن وهو من أعظم الطاعات وقولهم يوجب العطلة والسكوت عن ذكر اللّه ولا شك أن قولنا أولى .

الثاني : أن قولنا أحوط .

الثالث : أن قولنا يوجب شغل جميع أجزاء الصلاة بالطاعات والأذكار الجميلة وقولهم يوجب تعطيل الوقت عن الطاعة والذكر .

المسألة الثالثة عشرة : قال الشافعي رضي اللّه عنه : قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في ركعة بطلت صلاته قال الشيخ أبو حامد الاسفرايني : وهذا القول مجمع عليه بين الصحابة قال به أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود .

واعلم أن المذاهب في هذه المسألة ستة :

 أحدها : قول الأصم وابن علية وهو أن القراءة غير واجبة أصلا .

والثاني : قول الحسن البصري والحسن بن صالح بن جني أن القراءة إنما تجب في ركعة واحدة لقوله عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب والاستثناء من النفي إثبات فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة وجب القول بصحة الصلاة بحكم الاستثناء .

والثالث : قول أبي حنيفة وهو أن القراءة في الركعتين الأولتين واجبة وهو في الأخيرتين بالخيار إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت وذكر في كتاب الاستحباب أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين .

والرابع : نقل ابن الصباغ في كتاب الشامل عن سفيان أنه قال : تجب القراءة في الركعتين الأوليين وتكره في الأخريين .

والخامس : وهو قول مالك أن القراءة واجبة في أكثر الركعات ولا تجب في جميعها فإن كانت الصلاة أربع ركعات كفت القراءة في ثلاث ركعات وإن كانت مغربا كفت في ركعتين وإن كانت صبحا وجبت القراءة فيهما معا .

والسادس : وهو قول الشافعي وهو أن القراءة واجبة في كل الركعات .

ويدل على صحته وجوه :

الحجة الأولى : أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ في كل الركعات فيجب علينا مثله لقوله تعالى " {واتبعوه} " [ الأعراف : ١٥٨ ]

الحجة الثانية : أن الأعرابي الذي علمه عليه الصلاة والسلام الصلاة أمره أن يقرأ بأم القرآن ثم قال : وكذلك فافعل في كل ركعة والأمر للوجوب

فإن قالوا قوله فافعل في كل ركعة راجع إلى الأفعال لا إلى الأقوال

قلنا القول فعل اللسان فهو داخل في الأفعال .

الحجة الثالثة : نقل الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتاب الشامل عن أبي سعيد الخدري أنه قال : أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة .

الحجة الرابعة : القراءة في الركعات أحوط فوجب القول بوجوبها .

الحجة الخامسة : أمر بالصلاة والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن العهدة عند القراءة في كل الركعات لأجل أن هذه الصلاة أكمل فعند عدم القراءة في الكل وجب أن يبقى في العهدة .

واحتج المخالف بما روي عن عائشة أنها قالت : فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر وإذا ثبت هذا

فنقول : الركعتان الأوليان أصل والآخريان تبع ومدار الأمر في التبع على التخفيف ولهذا المعنى فإنه لا يقرأ السورة الزائدة فيهما ولا يجهر بالقراءة فيهما .

والجواب أن دلائلنا أكثر وأقوى ومذهبنا أحوط فكان أرجح .

المسألة الرابعة عشرة : إذا ثبت أن قراءة الفاتحة شرط من شرائط الصلاة فله فروع :

الفرع الأول : قد بينا أنه لو ترك قراءة الفاتحة أو ترك حرفا من حروفها عمدا بطلت صلاته

أما لو تركها سهوا قال الشافعي في القديم لا تفسد صلاته واحتج بما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال : صلى بنا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه المغرب فترك القراءة فلما انقضت الصلاة قيل له : تركت القراءة قال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسنا قال : فلا بأس قال الشافعي : فلما وقعت هذه الواقعة بمحضر من الصحابة كان ذلك إجماعا ورجع الشافعي عنه في الجديد وقال : تفسد صلاته ؛ لأن الدلائل المذكورة عامة في العمد والسهو ثم أجاب عن قصة عمر من وجهين :

الأول : أن الشعبي روى أن عمر رضي اللّه عنه أعاد الصلاة .

والثاني : أنه لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة قال الشافعي هذا هو الظن بعمر .

الفرع الثاني : تجب الرعاية في ترتيب القراءة فلو قرأ النصف الأخير ثم النصف الأول يحسب له الأول دون الأخير .

الفرع الثالث : الرجل الذي لا يحسن تمام الفاتحة أما أن يحفظ بعضها

وأما أن لا يحفظ شيئا منها

أما الأول فإنه يقرأ تلك الآية ويقرأ معها ست آيات على الوجه الأقرب

وأما الثاني - وهو أن لا يحفظ شيئا من الفاتحة - فههنا إن حفظ شيئا من القرآن لزمه قراءة ذلك المحفوظ لقوله تعالى : " {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} " [ المزمل : ٢٠ ] وإن لم يحفظ شيئا من القرآن فههنا يلزمه أن يأتي بالذكر وهو التكبير والتحميد وقال أبو حنيفة لا يلزمه شيء حجة الشافعي ما روى رفاعة بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره اللّه ثم يكبر فإن كان معه شيء من القرآن فليقرأ وإن لم يكن معه شيء من القرآن فليحمد اللّه وليكبر بقي ههنا قسم واحد وهو أن لا يحفظ الفاتحة ولا يحفظ شيئا من القرآن ولا يحفظ أيضا شيئا من الأذكار العربية وعندي أنه يؤمر بذكر اللّه تعالى بأي لسان قدر عليه تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم .

المسألة الخامسة عشرة : نقل في الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة من القرآن وكان ينكر كون المعوذتين من القرآن واعلم أن هذا في غاية الصعوبة لأنا إن قلنا إن النقل المتواتر كان حاصلا في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن فحينئذ كان ابن مسعود عالما بذلك فإنكاره يوجب الكفر أو نقصان العقل

وإن قلنا إن النقل المتواتر في هذا المعنى ما كان حاصلا في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال إن نقل القرآن ليس بمتواتر في الأصل وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة يقينية والأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل كاذب باطل وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة .

وههنا آخر الكلام في المسائل الفقهية المفرعة على سورة الفاتحة واللّه الهادي للصواب .

الباب الخامس

في تفسير سورة الفاتحة

٢

وفيه فصول الفصل الأول في تفسير قوله تعالى " {الحمد للّه} " وفيه وجوه :

 الأول : ههنا ألفاظ ثلاثة : الحمد والمدح والشكر فنقول : الفرق بين الحمد والمدح من وجوه

الأول : أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ويستحيل أن يحمدها فثبت أن المدح أعم من الحمد .

الوجه الثاني في الفرق : أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده

أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان.

الوجه الثالث : في الفرق : أن المدح قد يكون منهيا عنه قال عليه الصلاة والسلام : احثوا التراب في وجوه المداحين أما الحمد فإنه مأمور به مطلقا قال صلى اللّه عليه وسلم من لم يحمد الناس لم يحمد اللّه

الوجه الرابع : أن المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصا بنوع من أنواع الفضائل

وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصا بفضيلة معينة وهي فضيلة الإنعام والإحسان فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد .

وأما الفرق بين الحمد وبين الشكر فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك

وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك .

إذا عرفت هذا فنقول : قد ذكرنا أن المدح حاصل للحي ولغير الحي وللفاعل المختار ولغيره فلو قال المدح للّه لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلا مختارا

أما لما قال الحمد للّه فهو يدل على كونه مختارا فقوله : " {الحمد للّه} " يدل على كون هذا القائل مقرا بأن إله العالم ليس موجبا بالذات كما تقول الفلاسفة بل هو فاعل مختار وأيضا فقوله الحمد للّه أولى من قوله الشكر للّه لأن قوله الحمد للّه ثناء على اللّه بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره

وأما الشكر للّه فهو ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل ولا شك أن الأول أفضل لأن التقدير كان العبد يقول : سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم

وقيل الحمد على ما دفع اللّه من البلاء والشكر على ما أعطى من النعماء .

فإن قيل : النعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء فلماذا ترك الأكثر وذكر الأقل

قلنا فيه وجوه :

 الأول : كأنه يقول أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف لأعلاهما .

الثاني : المنع غير متناه والإعطاء متناه فكان الابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى .

الثالث : أن دفع الضرر أهم من جلب النفع فلهذا قدمه .

الفائدة الثانية : أنه تعالى لم يقل أحمد اللّه ولكن قال " {الحمد للّه} " وهذه العبارة الثانية أولى لوجوه :

 أحدها : أنه لو قال أحمد اللّه أفاد ذلك كون ذلك القائل قادرا على حمده

أما لما قال " {الحمد للّه} " فقد أفاد ذلك أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا أو لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم .

وثانيها : أن قولنا الحمد للّه معناه أن الحمد والثناء حق للّه وملكه فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد فقولنا الحمد للّه معناه أن الحمد للّه حق يستحقه لذاته ولو قال أحمد اللّه لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد لذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقا للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصا واحدا حمده .

وثالثها : أنه لو قال أحمد اللّه لكان قد حمد لكن لا حمدا يليق به

وأما إذا قال الحمد للّه فكأنه قال من أنا حتى أحمده ؟ لكنه محمود بجميع حمد الحامدين مثاله ما لو سئلت : هل لفلان عليك نعمة ؟ فإن قلت نعم فقد حمدته ولكن حمدا ضعيفا ولو قلت في الجواب : بل نعمه على كل الخلائق فقد حمدته بأكمل المحامد

ورابعها : أن الحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال فإذا تلفظ الإنسان بقوله أحمد اللّه مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال اللّه كان كاذبا لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع أنه ليس كذلك

أما إذا قال الحمد للّه سواء كان غافلا أو مستحضرا لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقا لأن معناه أن الحمد حق للّه وملكه وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلا بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن فثبت أن قوله الحمد للّه أولى من قوله أحمد اللّه ونظيره قولنا لا إله إلا اللّه فإنه لا يدخله التكذيب بخلاف قولنا أشهد أن لا إله إلا اللّه لأنه قد يكون كاذبا في قوله أشهد ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين : " {واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون} " [ المنافقون : ١ ] ولهذا السر أمر في الأذان بقوله أشهد ثم وقع الختم على قوله لا إله إلا اللّه .

الفائدة الثالثة : اللام في قوله الحمد للّه يحتمل وجوها كثيرة

أحدها : الاختصاص اللائق كقولك الجل للفرس .

وثانيها : الملك كقولك الدار لزيد .

وثالثها : القدرة والاستيلاء كقولك البلد للسلطان واللام في قولك الحمد للّه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده وإن حملته على الاستيلاء والقدرة فالحق سبحانه وتعالى كذلك لأنه واجب لذاته وما سواه ممكن لذاته والواجب لذاته مستول على الممكن لذاته فالحمد للّه بمعنى أن الحمد لا يليق إلا به وبمعنى أن الحمد ملكه وملكه وبمعنى أنه هو المستولي على الكل والمستعلي على الكل .

الفائدة الرابعة : قوله الحمد للّه ثمانية أحرف وأبواب الجنة ثمانية فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة .

الفائدة الخامسة : الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف وفيه قولان

الأول : أنه إن كان مسبوقا بمعهود سابق انصرف إليه وإلا يحمل على الاستغراق صونا للكلام عن الإجمال

والقول الثاني : أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط .

إذا عرفت هذه فنقول : قوله الحمد للّه إن قلنا بالقول الأول أفاد أن كل ما كان حمدا وثناء فهو للّه وحقه وملكه وحينئذ يلزم أن يقال : إن ما سوى اللّه فإنه لا يستحق الحمد والثناء البتة وإن قلنا بالقول الثاني كان معناه أن ماهية الحمد حق للّه تعالى وملك له وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير اللّه فثبت على القولين أن قوله الحمد للّه ينفي حصول الحمد لغير اللّه .

فإن قيل : أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية وقال عليه السلام : من لم يحمد الناس لم يحمد اللّه ؟

قلنا إن كل من أنعم على غيره بإنعام فالمنعم في الحقيقة هو اللّه تعالى لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم وإلا لم يقدم على ذلك الإنعام ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النعمة فثبت أن المنعم في الحقيقة هو اللّه .

الفائدة السادسة : أن قوله الحمد للّه كما دل على أنه لا محمود إلا اللّه فكذلك العقل دل عليه وبيانه من وجوه :

الأول : أنه تعالى لو لم يخلق داعية الإنعام في قلب المنعم لم ينعم فيكون المنعم في الحقيقة هو اللّه الذي خلق تلك الداعية .

وثانيها : أن كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضا

أما ثوابا أو ثناء أو توصيل حق أو تخليصا للنفس من خلق البخل وطالب العوض لا يكون منعما فلا يكون مستحقا للحمد في الحقيقة أما اللّه سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال لأن تحصيل الحاصل محال فكانت عطاياه جودا محضا وإحسانا محضا فلا جرم كان مستحقا للحمد فثبت أنه لا يستحق الحمد إلا اللّه تعالى .

وثالثها : أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق

أما ابتداء وأما بواسطة ينتج أن كل نعمة فهي من اللّه تعالى ويؤكد ذلك بقوله تعالى : " {وما بكم من نعمة فمن اللّه} " [ النحل : ٥٣ ] والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام فلما كان لا إنعام إلا من اللّه تعالى وجب القطع بأن أحدا لا يستحق الحمد إلا اللّه تعالى .

ورابعها : النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة :

 أحدها : أن تكون منفعة والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حيا مدركا وكونه حيا مدركا لا يحصل إلا بإيجاد اللّه تعالى .

وثانيها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من اللّه تعالى .

وثالثها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع وهذا الأمر لا يحصل إلا من اللّه تعالى إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من اللّه تعالى فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا اللّه تعالى فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى الحمد للّه .

الفائدة السابعة : قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعما متفضلا وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر إذا عرفت هذا

فنقول : وجب كون الإنسان عاجزا عن حمد اللّه وشكره ويدل عليه وجوه :

 الأول : أن نعم اللّه على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها كما قال تعالى : " {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} " [ إبراهيم : ٣٤ ] وإذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها .

الثاني : أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد اللّه وشكره إذا أقدره اللّه تعالى على ذلك الحمد والشكر وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد والشكر وإذا زال عنه العوائق والحوائل فكل ذلك إنعام من اللّه تعالى فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر اللّه تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من اللّه تعالى عليه وتلك النعم أيضا توجب الشكر وعلى هذا التقدير : فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مرارا لا نهاية لها وذلك محال والموقوف على المحال محال فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد اللّه وبشكره على ما يليق به

الثالث : أن الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه الحمد للّه ؛ بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفا بصفات الكمال والجلال وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال اللّه وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتيا بحمد اللّه وشكره وبالثناء عليه .

الرابع : أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الإنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه

( أحدها ) : أن نعم اللّه كثيرة لا حد لها فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد

وثانيها : أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم اللّه تعالى فقد أشرك وهذا معنى قول الواسطي الشكر شرك

وثالثها : أن الإنسان محتاج إلى إنعام اللّه في ذاته وفي صفاته وفي أحواله واللّه تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين فكيف يمكن مقابلة نعم اللّه بهذا الشكر وبهذا الحمد فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد اللّه وبشكره فلهذه الدقيقة لم يقل احمدوا اللّه بل قال الحمد للّه لأنه لو قال أحمدوا اللّه فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به

أما لما قال الحمد للّه كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا عليه ؛ ونقل أن داود عليه السلام قال يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر ؟ فقال : يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك .

الفائدة الثامنة : عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : إذا أنعم اللّه على عبده نعمة فيقول العبد الحمد للّه فيقول اللّه تعالى : انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له وتفسيره أن اللّه إذا أنعم على العبد كان ذلك الإنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعا فأطعمه أو كان عطشانا فأرواه أو كان عريانا فكساه

أما إذا قال العبد الحمد للّه كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو للّه وكل حمد لم يأت به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو للّه وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السموات وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات اللّه عليهم وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم : " {دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ] ثم جميع هذه المحامد متناهية

وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد " {الحمد للّه رب العالمين} " فلهذا السبب قال تعالى : انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له .

أقول : ههنا دقيقة أخرى وهي أن نعم اللّه تعالى على العبد في الدنيا متناهية وقوله الحمد للّه حمد غير متناه ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناه فكأنه تعالى يقول : عبدي ! إذا قلت الحمد للّه في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعمة غير متناهية فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي فثبت أن قول العبد للّه يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها .

الفائدة التاسعة : لا شك أن الوجود خير من العدم والدليل عليه أن كل موجود حي فإنه يكره عدم نفسه ولولا أن الوجود خير من العدم وإلا لما كان كذلك وإذا ثبت هذا

فنقول وجود كل شيء ما سوى اللّه تعالى فإنه حصل بإيجاد اللّه وجوده وفضله وإحسانه وقد ثبت أن الوجود نعمة فثبت أنه لا موجود في عالم الأرواح الأجسام والعلويات والسفليات إلا وللّه عليه نعمة ورحمة وإحسان والنعمة والرحمة والإحسان موجبة للحمد والشكر فإذا قال العبد الحمد للّه فليس مراده الحمد للّه على النعم الواصلة إلي بل المراد الحمد للّه على النعم الصادرة منه وقد بينا أن إنعامه واصل إلى ما كل سواه فإذا قال العبد الحمد للّه كان معناه الحمد للّه على إنعامه على كل مخلوق خلقه وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض إلى أبد الآباد ودهر الداهرين وأنا أشهد أنها بأسرها حقك وملكك وليس لأحد معك فيها شركة ومنازعة .

الفائدة العاشرة : لقائل أن يقول : التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال سبحان اللّه والحمد للّه فما السبب ههنا في وقوع البداية بالتحميد ؟

 والجواب أن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات والتحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه محسنا إلى الخلق منعما عليهم رحيما بهم فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تاما والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام فلهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى وهذا الوجه مستفاد من القوانين الحكمية

وأما الوجه اللائق بالقوانين الأصولية فهو أن اللّه تعالى لا يكون محسنا بالعباد إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات ليعلم أصناف حاجات العباد وإلا إذا كان قادرا على كل المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه وإلا إذا كان غنيا عن كل الحاجات إذ لو لم يكن كذلك لكان اشتغاله بدفع الحاجة عن نفسه يمنعه عن دفع حاجة العبد فثبت أن كونه محسنا لا يتم إلا بعد كونه منزها عن النقائص والآفات فثبت أن الابتداء بقوله الحمد للّه أولى من الابتداء بقوله سبحان اللّه .

الفائدة الحادية عشرة : الحمد للّه له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل

أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكرا على النعم المتقدمة

وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل لقوله تعالى : " {لئن شكرتم لأزيدنكم} " [ إبراهيم : ٧ ] والعقل أيضا يدل عليه وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة والقيام بالطاعة ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم اللّه تعالى وأبواب معرفته ومحبته وذلك من أعظم النعم فلهذا المعنى كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان فتأثيره في الماضي سد أبواب الحجاب عن اللّه تعالى ؛ وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة اللّه تعالى ولما كان لا نهاية لدرجات اللّه فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة اللّه ولا مفتاح لها إلا قولنا الحمد للّه فلهذا السبب سميت سورة الحمد بسورة الفاتحة .

الفائدة الثانية عشرة : الحمد للّه كلمة شريفة جليلة لكن لا بد من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها قيل للسري السقطي : كيف يجب الإتيان بالطاعة ؟ قال : أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر اللّه عن قولي مرة واحدة الحمد للّه فقيل كيف ذلك ؟ قال : وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور فأخبروني أن دكاني لم يحترق فقلت الحمد للّه وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي الحمد للّه فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها ثم إن نعم اللّه على العبد كثيرة إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين : نعم الدنيا ونعم الدين ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا لوجوه كثيرة

وقولنا الحمد للّه كلمة جليلة شريفة فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين ثم نعم الدين قسمان : أعمال الجوارح وأعمال القلوب والقسم الثاني أشرف ثم نعم الدنيا قسمان : تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم والقسم الثاني أشرف فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا الحمد للّه موافقا لموضعه لائقا بسببه .

الفائدة الثالثة عشرة : أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد للّه وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا الحمد للّه

أما الأول فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال الحمد للّه رب العالمين

وأما الثاني فهو قوله تعالى " {وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ]

ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقرونا بهذه الكلمة فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير .

الفائدة الرابعة عشرة : من الناس من قال : تقدير الكلام قولوا الحمد للّه وهذا عندي ضعيف لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصح الكلام وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام والذي يدل عليه وجوه :

 الأول : أن قوله الحمد للّه إخبار عن كون الحمد حقا له وملكا له وهذا كلام تام في نفسه فلا حاجة إلى الإضمار.

الثاني : أن قوله الحمد للّه يدل على كونه تعالى مستحقا للحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله سواء حمدوه أو لم يحمدوه لأن ما بالذات أعلى وأجل مما بالغير .

الثالث : ذكروا مسألة في الواقعات وهي أنه لا ينبغي للوالد أن يقول لولده اعمل كذا وكذا لأنه يجوز أن لا يمتثل أمره فيأثم بل يقول إن كذا وكذا يجب أن يفعل ثم إذا كان الولد كريما فإنه يجيب ويطيعه وإن كان عاقا لم يشافهه بالرد فيكون إثمه أقل فكذلك ههنا قال اللّه تعالى الحمد للّه فمن كان مطيعا حمده ومن كان عاصيا إثمه أقل .

الفائدة الخامسة عشرة : تمسكت الجبرية والقدرية بقوله الحمد للّه ؛

أما الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه :

 الأول : أن كل من كان فعله أشرف وأكمل وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل كان استحقاقه للحمد أكثر ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان فلو كان الإيمان فعلا للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى واجل من استحقاق اللّه له ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق اللّه لا بخلق العبد

الثاني : أجمعت الأمة على قولهم الحمد للّه على نعمة الإيمان لو كان الإيمان فعلا للعبد وما كان فعلا للّه لكان قولهم الحمد للّه على نعمة الإيمان باطلا فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلا له باطن قبيح لقوله تعالى : " {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} " [ آل عمران : ١٨٨]

الثالث : أنا قد دللنا على أن قوله الحمد للّه يدل ظاهره على أن كل الحمد للّه وأنه ليس لغير اللّه حمد أصلا وإنما يكون كل الحمد للّه لو كان كل النعم من اللّه والإيمان أفضل النعم فوجب أن يكون الإيمان من اللّه

الرابع : أن قوله الحمد للّه مدح منه لنفسه ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق فلما بدأ كتابة بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق وأنه يحسن من اللّه ما يقبح من الخلق وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من اللّه تعالى وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية .

والخامس : أن عند المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن وإلا كانت عبثا وذلك في حقه محال والزائدة على الحسن

أما أن تكون واجبة

وأما أن تكون من باب التفضل :

أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين

وأما الذي يكون من باب التفضل :

أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين

وأما الذي يكون باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان

فنقول : هذا يقدح في كونه تعالى مستحقا للحمد ويبطل صحة قولنا الحمد للّه وتقريره أن نقول :

أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد فلو وجب على اللّه فعل لكان ذلك الفعل مخلصا له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد

وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد وإذا كان كذلك كان ناقصا لذاته مستكملا بغيره وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقا للحمد والمدح .

السادس : قوله الحمد للّه يدل على أنه تعالى محمود

فنقول : استحقاقه الحمد والمدح

أما أن يكون أمرا ثابتا له لذاته أو ليس ثابتا لذاته فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق المدح لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره وامتنع أيضا أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق الذم لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثواب وذلك يهدم أصول المعتزلة

وأما القسم الثاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد للّه ليس ثابتا له لذاته –

فنقول : فيلزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره وذلك على اللّه محال

أما المعتزلة فقالوا : إن قوله الحمد للّه لا يتم إلا على قولنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله ولا جور في أقضيته ولا ظلم في أحكامه وعندنا أن اللّه تعالى كذلك فكان مستحقا لأعظم المحامد والمدائح

أما على مذهب الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله ولا جور إلا وهو حكمه ولا عبث إلا وهو صنعه لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقا للحمد ؟ وأيضا فذلك الحمد الذي يستحقه اللّه تعالى بسبب الإلهية

أما أن يستحقه على العبد أو على نفسه فإن كان الأول وجب كون العبد قادرا على الفعل وذلك يبطل القول بالجبر وإن كان الثاني كان معناه أن اللّه يجب عليه أن يحمد نفسه وذلك باطل قالوا : فثبت أن القول بالحمد للّه لا يصح إلا على قولنا .

الفائدة السادسة عشرة : اختلفوا في أن وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع ؛ من الناس من قال : إنه ثابت بالسمع لقوله تعالى : " {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} " [ الإسراء : ١٥ ]

ولقوله تعالى : " {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل} " [ النساء : ١٦٥ ] ومنهم من قال إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق والدليل عليه قوله تعالى : " {الحمد للّه} " وبيانه من وجوه :

 الأول : أن قوله الحمد للّه يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع .

الثاني : أنه تعالى قال : " {الحمد للّه رب العالمين} " وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا أثبت الحمد لنفسه ووصف نفسه بكونه تعالى ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمرهم في القيامة فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربيا لهم رحمانا رحيما بهم وإذا كان كذلك ثبت أن اسحقاق الحمد ثابت للّه تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده .

الفائدة السابعة عشرة : يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته

فنقول : تحميد اللّه تعالى ليس عبارة عن قولنا الحمد للّه لأن قولنا الحمد للّه إخبار عن حصول الحمد والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه فوجب أن يكون تحميد اللّه مغايرا لقولنا الحمد للّه

فنقول : حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما .

وذلك الفعل

أما أن يكون فعل القلب أو فعل اللسان أو فعل الجوارح

أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفا بصفات الكمال والإجلال

وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظا دالة على كونه موصوفا بصفات الكمال

وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفا بصفات الكمال والإجلال فهذا هو المراد من الحمد واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام فريقين :

الفريق الأول : الذين قالوا إنه لا يجوز أن يأمر اللّه عبيده بأن يحمدوه واحتجوا عليه بوجوه :

 الأول : أن ذلك التحميد أما أن يكون بناء على إنعام وصل إليهم أولا وبناء عليه

فالأول باطل لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة وذلك يقدح في كمال الكرم فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة

وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء وذلك يوجب الظلم .

الثاني : قالوا الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود لأنه كامل لذاته والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر فوجب أن لا يكون مشروعا .

الثالث : أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب فإيجاب حمد اللّه تعالى معناه أنه قال لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك وهذا الحمد لا نفع له في حق اللّه فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد وهذا لا يليق بالحكم الكريم .

الفريق الثاني : قالوا الاشتغال بحمد اللّه سوء أدب من وجوه :

 الأول : أنه يجري مجرى مقابلة إحسان اللّه بذلك الشكر القليل

والثاني : أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم .

الثالث : أن الثناء على اللّه تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس وذلك مقام نازل واللّه أعلم .

الفصل الثاني في تفسير قوله رب العالمين وفيه فوائد

الفائدة الأولى : اعلم أن الموجود أما أن يكون واجبا لذاته

وأما أن يكون ممكنا لذاته أما الواجب لذاته فهو اللّه تعالى فقط

وأما الممكن لذاته فهو كل ما سوى اللّه تعالى وهو العالم لأن المتكلمين قالوا : العالم كل موجود سوى اللّه وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى اللّه يدل على وجود اللّه تعالى فلهذا السبب سمي كل موجود سوى اللّه بأنه عالم .

إذا عرفت هذا فنقول : كل ما سوى اللّه تعالى

أما أن يكون متحيزا

وأما أن يكون صفة للمتحيز

وأما أن لا يكون متحيزا ولا صفة للمتحيز فهذه أقسام ثلاثة :

القسم الأول المتحيز : وهو أما أن يكون قابلا للقسمة أو لا يكون فإن كان قابلا للقسمة فهو الجسم وإن لم يكن كذلك فهو الجوهر الفرد ؛

أما الجسم فأما أن يكون من الأجسام العلوية أو من الأجسام السفلية ؛

أما الأجسام العلوية فهي الأفلاك والكواكب وقد ثبت بالشرع أشياء أخر سوى هذين القسمين مثل العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة

وأما الأجسام السفلية فهي

أما بسيطة أو مركبة : أما البسيطة فهي العناصر الأربعة :

وأحدها : كرة الأرض بما فيها من المفاوز والجبال والبلاد المعمورة

وثانيها : كرة الماء وهي البحر المحيط وهذه الأبحر الكبيرة الموجودة في هذا الربع المعمور وما فيه من الأودية العظيمة التي لا يعلم عددها إلا اللّه تعالى

وثالثها : كرة الهواء

ورابعها : كرة النار .

وأما الأجسام المركبة فهي النبات والمعادن والحيوان على كثرة أقسامها وتباين أنواعها

وأما القسم الثاني - وهو الممكن الذي يكون صفة للمتحيزات - فهي الأعراض والمتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنسا من أجناس الأعراض .

أما الثالث - وهو الممكن الذي لا يكون متحيزا ولا صفة للمتجيز – فهو الأرواح وهي

أما سفلية وأما علوية : أما السفلية فهي أما خيرة وهم صالحو الجن

وأما شريرة خبيثة وهي مردة الشياطين .

والأرواح العلوية أما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية

وأما غير متعلقة بالأجسام وهي الأرواح المطهرة المقدسة فهذا هو الإشارة إلى تقسيم موجودات العالم ولو أن الإنسان كتب ألف ألف مجلد في شرح هذه الأقسام لما وصل إلى أقل مرتبة من مراتب هذه الأقسام إلا أنه لما ثبت أن واجب الوجود لذاته واحد ثبت أن كل ما سواه ممكن لذاته فيكون محتاجا في وجوده إلى إيجاد الواجب لذاته وأيضا ثبت أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المتبقي واللّه تعالى إله العالمين من حيث إنه هو الذي أخرجها من العدم إلى الوجود وهو رب العالمين من حيث إنه هو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها وإذا عرفت ذلك ظهر عندك شيء قليل من تفسير قوله الحمد للّه رب العالمين وكل من كان أكثر إحاطة بأحوال هذه الأقسام الثلاثة كان أكثر وقوفا على تفسير قوله رب العالمين .

الفائدة الثانية : المربي على قسمين

أحدهما : أن يربي شيئا ليربح عليه المربي

والثاني : أن يربيه ليربح المربي وتربية كل الخلق على القسم الأول لأنهم إنما يربون غيرهم ليربحوا عليه

أما ثوابا أو ثناء والقسم الثاني هو الحق سبحانه كما قال : خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم فهو تعالى يربي ويحسن وهو بخلاف سائر المربين وبخلاف سائر المحسنين .

واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره وبيانه من وجوه :

 الأول : ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم

الثاني : أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعال عن النقصان والضرر كما قال تعالى : " {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} " [ الحجر : ٢١ ] .

الثالث : أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه والحق تعالى بخلاف ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام : إن اللّه تعالى يحب الملحين في الدعاء .

الرابع : أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط

أما الحق تعالى فأنه يعطي قبل السؤال ترى أنه رباك حال ما كنت جنينا في رحم الأم وحال ما كنت جاهلا غير عاقل لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية .

الخامس أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه

أما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة

السادس : أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم

أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال " {ورحمتي وسعت كل شيء} " [ الأعراف : ١٥٦ ] فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين فلهذا قال تعالى في حق نفسه الحمد للّه رب العالمين .

الفائدة الثالثة : أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة :

أما لكونه كاملا في ذاته وفي صفاته منزها عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك

وأما لكونه محسنا إليك ومنعما عليك

وأما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان

وأما لأجل انك تكون خائفا من قهره وقدرته وكمال سطوته فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى يقول : إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين وهو المراد من قوله الحمد للّه وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فأنا الرحمن الرحيم وإن كنتم تعظمون للخوف فأنا مالك يوم الدين .

الفائدة الرابعة : وجوه تربية اللّه للعبد كثيرة غير متناهية ونحن نذكر منها أمثلة :

المثال الأول : لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولا ثم مضغة ثانيا ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين ثم اتصل البعض بالبعض ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى فحصلت القوة الباصرة في العين والسامعة في الأذن والناطقة في اللسان فسبحان من أسمع بعظم وبصر بشحم وأنطق بلحم .

واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور وكل ذلك يدل على تربية اللّه تعالى للعبد .

المثال الثاني : أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب :

أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة ؛

وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض وهو عروق الشجرة

فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولا ثم الثمار ثانيا ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان

وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ؛ وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة وأودع اللّه فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية كما قال تعالى : " {إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا} " [ عبس : ٢٥ ] الآيات .

المثال الثالث : أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابا لحصول مصالح العباد فخلق الليل ليكون سببا للراحة والسكون وخلق النهار ليكون سببا للمعاش والحركة " {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} " [ يونس : ٥ ] ما خلق اللّه ذلك إلا بالحق " {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} " [ الأنعام : ٩٧ ]

واقرأ قوله : " {ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا - إلى آخر الآية} " [ النبأ : ٦ ]

واعلم انك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية اللّه كثيرة ودلائل رحمته لائحة ظاهرة وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله الحمد للّه رب العالمين .

الفائدة الخامسة : أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد للّه ثم أضاف نفسه إلى العالمين والتقدير : إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكا ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني ربا للعالمين ومن عرف ذاتا بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها وذلك يدل على أن كونه ربا للعالمين أكمل الصفات والأمر كذلك ؛ لأن أكمل المراتب أن يكون تاما وفوق التمام فقولنا اللّه يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام وقوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام .

الفائدة السادسة : أنه يملك عبادا غيرك كما قال " {وما يعلم جنود ربك إلا هو} " [ المدثر : ٣١ ] وأنت ليس لك رب سواه ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كان لك ربا غيره فما أحسن هذه التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض وبالليل عن المخافات من غير عوض ؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات ؟

أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات ويصونه من المخافات ؛ بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات فما أكبر هذه التربية وما أحسنها أليس من التربية أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب ؛ فلهذا المعنى قال تعالى " {قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن} " [ الأنبياء : ٤٢ ] ما ذاك إلا الملك الجبار والواحد القهار ومقلب القلوب والأبصار والمطلع على الضمائر والأسرار .

الفائدة السابعة : قالت القدرية : إنما يكون تعالى ربا للعالمين ومربيا لهم لو كان محسنا إليهم دافعا للمضار عنهم

أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ؛ ويأمر بالإيمان ثم يمنعه منه ؛ لم يكن ربا ولا مربيا بل كان ضارا ومؤذيا وقالت الجبرية : إنما سيكون ربا ومربيا لو كانت النعمة صادرة منه والألطاف فائضة من رحمته ولما كان الإيمان أعظم النعم وأجلها وجب أن يكون حصولها من اللّه تعالى ليكون ربا للعالمين إليهم محسنا بخلق الإيمان فيهم.

الفائدة الثامنة : قولنا اللّه أشرف من قولنا رب على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء اللّه تعالى ثم إن الداعي في أكثر الأمر يقول : يا رب يا رب والسبب فيه النكت والوجوه المذكورة في تفسير أسماء اللّه تعالى فلا نعيدها.

٣

الفصل الثالث في تفسير قوله الرحمن الرحيم وفيه فوائد

الفائدة الأولى : الرحمن : هو المنعم بما لا يتصور صدور جنسه من العباد والرحيم : هو المنعم بما يتصور جنسه من العباد حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال كنت ضيفا لبعض القوم فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفا فاتبعته تعجبا فنزل في بعض التلال وإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه .

وروي عن ذي النون أنه قال : كنت في البيت إذ وقعت ولولة في قلبي وصرت بحيث ما ملكت نفسي فخرجت من البيت وانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقربا قويا يعدو فتبعته فوصل إلى طرف النيل فرأيت ضفدعا واقفا على طرف الوادي فوثب العقرب على ظهر الضفدع واخذ الضفدع يسبح ويذهب فركبت السفينة وتبعته فوصل الضفدع إلى الطرف الآخر من النيل ونزل العقرب من ظهره واخذ يعدو فتبعته فرأيت شابا نائما تحت شجرة ورأيت أفعى يقصده فلما قربت الأفعى من ذلك الشاب وصل العقرب إلى الأفعى فوثب العقرب على الأفعى فلدغه والأفعى أيضا لدغ العقرب فماتا معا وسلم الإنسان منهما .

ويحكى أن ولد الغراب كما يخرج من قشر البيضة يخرج من غير ريش فيكون كأنه قطعة لحم أحمر والغراب يفر منه ولا يقوم بتربيته ثم إن البعوض يجتمع عليه لأنه يشبه قطعة لحم ميت فإذا وصلت البعوض إليه التقم تلك البعوض واغتذى بها ولا يزال على هذه الحال إلى أن يقوى وينبت ريشه ويخفى لحمه تحت ريشه فعند ذلك تعود أمه إليه ولهذا السبب جاء في أدعية العرب : يا رزاق النعاب في عشه فظهر بهذه الأمثلة أن فضل اللّه عام وإحسانه شامل ورحمته واسعة .

واعلم أن الحوادث على قسمين : منه ما يظن أنه رحمة مع أنه لا يكون كذلك بل يكون في الحقيقة عذابا ونقمة ومنه ما يظن في الظاهر أنه عذاب ونقمة مع أنه يكون في الحقيقة فضلا وإحسانا ورحمة .

أما القسم الأول : فالوالد إذا أهمل ولده حتى يفعل ما يشاء ولا يؤدبه ولا يحمله على التعلم فهذا في الظاهر رحمة وفي الباطن نقمة .

وأما القسم الثاني كالوالد إذا حبس ولده في المكتب وحمله على التعلم فهذا في الظاهر نقمة وفي الحقيقة رحمة وكذلك الإنسان إذا وقع في يده الآكلة فإذا قطعت تلك اليد فهذا في الظاهر عذاب وفي الباطن راحة ورحمة فالأبله يغتر بالظواهر والعاقل ينظر في السرائر .

إذا عرفت هذا فكل ما في العالم من محنة وبلية وألم ومشقة فهو وإن كان عذابا وألما في الظاهر إلا أنه حكمة ورحمة في الحقيقة وتحقيقه ما قيل في الحكمة : إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالمقصود من التكاليف تطهير الأرواح عن العلائق الجسدانية كما قال تعالى " {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} " [ الإسراء : ٧ ] والمقصود من خلق النار صرف الأشرار إلى أعمال الأبرار وجذبها من دار الفرار إلى دار القرار كما قال تعالى : " {ففروا إلى اللّه} " [ الذاريات : ٥٠ ] وأقرب مثال لهذا الباب قصة موسى والخضر عليهما السلام فإن موسى كان يبني الحكم عن ظواهر الأمور فاستنكر تخريق السفينة وقتل الغلام وعمارة الجدار المائل

وأما الخضر فإنه كان يبني أحكامه على الحقائق والأسرار فقال : " {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ؛ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك} " [ الكهف : ٧٩ ] فظهر بهذه القصة أن الحكيم المحقق هو الذي يبني أمره على الحقائق لا على الظاهر فإذا رأيت ما يكرهه طبعك وينفر عنه عقلك فاعلم أن تحته أسرارا خفية وحكما بالغة وأن حكمته ورحمته اقتضت ذلك وعند ذلك يظهر لك أثر من بحار أسرار قوله الرحمن الرحيم .

الفائدة الثانية : الرحمن : اسم خاص باللّه والرحيم : ينطلق عليه وعلى غيره .

فإن قيل : فعلى هذا الرحمن أعظم فلم ذكر الأدنى بعد ذكر الأعلى ؟

والجواب : لأن الكبير العظيم لا يطلب منه الشيء الحقير اليسير حكي أن بعضهم ذهب إلى بعض الأكابر فقال : جئتك لمهم يسير فقال : اطلب للمهم اليسير رجلا يسيرا كأنه تعالى يقول : لو اقتصرت على ذكر الرحمن لاحتشمت عني ولتعذر عليك سؤال الأمور اليسيرة ولكن كما علمتني رحمانا تطلب مني الأمور العظيمة فأنا أيضا رحيم ؛ فاطلب مني شراك نعلك وملح قدرك كما قال تعالى لموسى : يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك .

الفائدة الثالثة : وصف نفسه بكونه رحمانا رحيما ثم إنه أعطى مريم عليها السلام رحمة واحدة حيث قال " {ورحمة منا وكان أمرا مقضيا} " [ مريم : ٢١ ] فتلك الرحمة صارت سببا لنجاتها من توبيخ الكفار الفجار ثم إنا نصفه كل يوم أربعة وثلاثين مرة أنه رحمن وأنه رحيم وذلك لأن الصلوات سبع عشرة ركعة ويقرأ لفظ الرحمن الرحيم في كل ركعة مرتين مرة في بسم اللّه الرحمن الرحيم ومرة في قوله " {الحمد للّه رب العالمين الرحمن الرحيم} " فلما صار ذكر الرحمة مرة واحدة سببا لخلاص مريم عليها السلام عن المكروهات أفلا يصير ذكر الرحمة هذه المرات الكثيرة طول العمر سببا لنجاة المسلمين من النار والعار والدمار ؟

الفائدة الرابعة : أنه تعالى رحمن لأنه يخلق ما لا يقدر العبد عليه رحيم لأنه يفعل ما لا يقدر العبد على جنسه فكأنه تعالى يقول : أنا رحمن لأنك تسلم إلي نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة كما قال تعالى : " {وصوركم فأحسن صوركم} " [ غافر : ٦٤ ] وأنا رحيم لأنك تسلم إلي طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة .

الفائدة الخامسة : روي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا اللّه فأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبروه به فقام ودخل عليه وجعل يعرض عليه الشهادة وهو يتحرك ويضطرب ولا يعمل لسانه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم :

أما كان يصلي ؟ أما كان يصوم ؟

أما كان يزكي ؟ فقالوا : بلى فقال هل عق والديه ؟ فقالوا بلى فقال عليه السلام : هاتوا بأمه فجاءت وهي عجوز عوراء فقال عليه السلام : هلا عفوت عنه فقالت : لا أعفو لأنه لطمني ففقأ عيني فقال عليه السلام : هاتوا بالحطب والنار فقالت وما تصنع بالنار ؟ فقال عليه السلام : أحرقه بالنار بين يديك جزاء لما عمل بك فقالت عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر ؟ أللنار أرضعته سنتين ؟ فأين رحمة الأم ؟ فعند ذلك انطلق لسانه وذكر أشهد أن لا إله إلا اللّه

والنكتة أنها كانت رحيمة وما كانت رحمانة فلأجل ذلك القدر القليل من الرحمة ما جوزت الإحراق بالنار فالرحمن الرحيم الذي لم يتضرر بجنايات عبيده مع عنايته بعباده كيف يستجيز أن يحرق المؤمن الذي واظب على شهادة أن لا إله إلا اللّه سبعين سنة بالنار ؟

الفائدة السادسة : لقد اشتهر أن النبي عليه السلام لما كسرت رباعيته قال : اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فظهر أنه يوم القيامة يقول : أمتي أمتي فهذا كرم عظيم منه في الدنيا وفي الآخرة وإنما حصل فيه هذا الكرم وهذا الإحسان لكونه رحمة كما قال تعالى : " {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} " [ الأنبياء : ١٠٧ ] فإن كان أثر الرحمة والواحدة هذا المبلغ فكيف كرم من هو رحمن رحيم ؟ وأيضا روي أنه عليه السلام قال : اللّهم اجعل حساب أمتي على يدي ثم إنه امتنع عن الصلاة على الميت لأجل أنه كان مديونا بدرهمين وأخرج عائشة عن البيت بسبب الإفك فكأنه تعالى قال له إن لك رحمة واحدة وهي قوله " {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} " [ الأنبياء : ١٠٧ ] والرحمة الواحدة لا تكفي في إصلاح المخلوقات فذرني وعبيدي واتركني وأمتك فإني أنا الرحمن الرحيم فرحمتي لا نهاية لها ومعصيتهم متناهية والمتناهي في جنب غير المتناهي يصير فانيا فلا جرم معاصي جميع الخلق تفنى في بحار رحمتي لأني أنا الرحمن الرحيم .

الفائدة السابعة : قالت القدرية : كيف يكون رحمانا رحيما من خلق الخلق للنار ولعذاب الأبد ؟ وكيف يكون رحمانا رحيما من يخلق الكفر في الكافر ويعذبه عليه ؟ وكيف يكون رحمانا رحيما من أمر بالإيمان ثم صد ومنع عنه ؟ وقالت الجبرية : أعظم أنواع النعمة والرحمة هو الإيمان فلو لم يكن الإيمان من اللّه بل كان من العبد لكان اسم الرحمن الرحيم بالعبد أولى منه باللّه واللّه أعلم .

٤

الفصل الرابع في تفسير قوله مالك يوم الدين وفيه فوائد

الفائدة الأولى : قوله مالك يوم الدين أي مالك يوم البعث والجزاء وتقريره أنه لا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمطيع والعاصي والموافق والمخالف وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى " {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} " [ النجم : ٣١ ]

وقال تعالى : " {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} " [ ص : ٨ ]

وقال " {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى} " [ طه : ١٥ ]

واعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك

أما للعجز أو للجهل أو لكونه راضيا بذلك الظلم وهذه الصفات الثلاث على اللّه تعالى محال فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا وذلك هو المراد بقوله : " {مالك يوم الدين} " وبقوله : " {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره - الآية} " [ الزلزلة : ٧ ]

روي أنه يجاء برجل يوم القيامة فينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة البتة فيأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك فيقول : إلهي ماذا عملت ؟ فيقول اللّه تعالى ألست لما كنت نائما تقلبت من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك اللّه ثم غلبك النوم في الحال فنسيت ذلك

أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم فما نسيت ذلك وأيضا يؤتى برجل وتوزن حسناته وسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة أن لا إله إلا اللّه فلا يثقل مع ذكر اللّه غيره .

واعلم أن الواجبات على قسمين : حقوق اللّه تعالى وحقوق العباد .

أما حقوق اللّه تعالى فمبناها على المسامحة لأنه تعالى غني عن العالمين

وأما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها .

روي أن أبا حنيفة رضي اللّه عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة وقال : إن تركتها كان ذلك سببا لقبح جدار هذا المجوسي وإن حككتها انحدر التراب من الحائط فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها : قولي لمولاك أن أبا حنيفة بالباب فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال فأخذ يعتذر فقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه : ههنا ما هو أولى وذكر قصة الجدار وأنه كيف السبيل إلى تطهيره فقال المجوسي : فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال

والنكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند اللّه تعالى .

الفائدة الثانية : اختلف القراء في هذه الكلمة فمنهم من قرأ مالك يوم الدين ومنهم من قرأ ملك يوم الدين .

حجة من قرأ مالك وجوه :

 الأول : أن فيه حرفا زائدا فكانت قراءته أكثر ثوابا .

الثاني أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون .

أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا اللّه

الثالث : المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون كما أن الملك قد يكون مالكا وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى .

الرابع : أن الملك ملك للرعية والمالك مالك للعبيد والعبد أدون حالا من الرعية فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية فوجب أن يكون المالك أعلى حالا من الملك

الخامس : أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم

أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكا لذلك المالك باختيار نفسه فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية .

السادس : أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية قال عليه الصلاة والسلام : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ولا يجب على الرعية خدمة الملك .

أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافرا وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيما ؛ فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك .

وحجة من قال إن الملك أولى من المالك وجوه :

 الأول : أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكا

أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك .

الثاني : أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى : " {قل أعوذ برب الناس ملك الناس} " [ الناس : ١ ] لفظ الملك فيه متعين ولولا أن الملك أعلى حالا من المالك وإلا لم يتعين

الثالث : الملك أولى لأنه أقصر والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها بخلاف المالك فإنها أطول فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة هكذا نقل عن أبي عمرو وأجاب الكسائي بأن قال : إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلا للأمل

أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه لا يجزيه ؛ لأنه وإن كان ذلك تطويلا للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس ويجوز أن يموت في تلك الليلة فيقول : إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم كذا ههنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازما على الإتمام وهو المراد .

ثم نقول : إنه يتفرع على كونه ملكا أحكام وعلى كونه مالكا أحكام أخر .

أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكا فوجوه :

 الأول : أن السياسات على أربعة أقسام : سياسة الملاك وسياسة الملوك وسياسة الملائكة وسياسة ملك الملوك فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك ؛ لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكا واحدا ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس

وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك ؛ لأن عالما من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد

وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة ألا ترى إلى قوله تعالى " {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا لمن أذن له الرحمن وقال صوابا} " [ النبأ : ٣٨ ]

وقوله تعالى : " {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} " [ البقرة : ٢٥٥ ]

وقال في صفة الملائكة : " {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} " [ الأنبياء : ٢٨ ]

فيا أيها الملوك لا تغتروا بمالكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين .

الحكم الثاني من أحكام كونه تعالى ملكا : أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء انتقص ملكهم وقلت خزائنهم ؛

أما الحق سبحانه وتعالى فملكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان بل يزداد بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولدا واحدا لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد

أما لو أعطاك عشرة من الأولاد كان حكمه وتكليفه لازما على الكل فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكا .

الحكم الثالث من أحكام كونه ملكا : كمال الرحمة والدليل عليه آيات :

إحداها : ما ذكر في هذه السورة من كونه ربا رحمانا رحيما

وثانيها : قوله تعالى " {هو اللّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} " [ الحشر : ٢٢ ] ثم قال بعده " {هو اللّه الذي لا إله إلا هو الملك} " [ الحشر : ٢٣ ]

ثم ذكر بعده كونه قدوسا عن الظلم والجور ثم ذكر بعده كونه سلاما وهو الذي سلم عباده من ظلمه وجوره ثم ذكر بعده كونه مؤمنا وهو الذي يؤمن عبيده عن جوره وظلمه فثبت أن كونه ملكا لا يتم إلا مع كمال الرحمة .

وثالثها : قوله تعالى : " {الملك يومئذ الحق للرحمن} " [ الفرقان : ٢٦ ] لما أثبت لنفسه الملك أردفه بان وصف نفسه بكونه رحمانا يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر فكونه رحمانا يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة .

ورابعها : قوله تعالى : " {قل أعوذ برب الناس ملك الناس} " [ الناس : ١ ] فذكر أولا كونه ربا للناس ثم أردفه بكونه ملكا للناس وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة فيا أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات وارحموا هؤلاء المساكين ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك اللّه تعالى .

الحكم الرابع للملك : أنه يجب على الرعية طاعته فإن خالفوه ولم يطيعوه وقع الهرج والمرج في العالم وحصل الاضطراب والتشويش ودعا ذلك إلى تخريب العالم وفناء الخلق فلما شاهدتم أن مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم وفناء الخلق فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح وحصول المفاسد ؟ وتمام تقريره أنه تعالى بين أن الكفر سبب لخراب العالم قال تعالى " {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} " [ مريم : ٩٠ ]

وبين أن طاعته سبب للمصالح قال تعالى : " {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} " [ طه : ١٣٢ ]

فيا أيها الرعية كونوا مطيعين لملوككم ويا أيها الملوك كونوا مطيعين لملك الملوك حتى تنتظم مصالح العالم .

الحكم الخامس : أنه لما وصف نفسه بكونه ملكا ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال " {وما ربك بظلام للعبيد} " [ فصلت : ٤٦ ]

ثم بين كيفية العدل فقال : " {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا} " [ الأنبياء : ٤٧ ]

فظهر بهذا أن كونه ملكا حقا ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل فإن كان الملك المجازي عادلا كان ملكا حقا وإلا كان ملكا باطلا فإن كان ملكا عادلا حقا حصل من بركة عدله الخير والراحة في العالم وإن كان ملكا ظالما ارتفع الخير من العالم .

يروى أن أنوشروان خرج إلى الصيد يوما وأوغل في الركض وانقطع عن عسكره واستولى العطش عليه ووصل إلى بستان فلما دخل ذلك البستان رأى أشجار الرمان فقال لصبي حضر في ذلك البستان : أعطني رمانة واحدة فأعطاه رمانة فشقها وأخرج حبها وعصرها فخرج منه ماء كثير فشربه وأعجبه ذلك الرمان فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه ثم قال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصا مؤذيا فقال : أيها الصبي لم صار الرمان هكذا ؟ فقال الصبي : لعل ملك البلد عزم على الظلم فلأجل شؤم ظلمه صار الرمان هكذا فتاب أنوشروان في قلبه عن ذلك الظلم وقال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى فأعطاه فعصرها فوجدها أطيب من الرمانة الأولى فقال للصبي : لم بدلت هذه الحالة ؟ فقال الصبي : لعل ملك البلد تاب عن ظلمه فلما سمع أنوشروان هذه القصة من ذلك الصبي وكانت مطابقة لأحوال قلبه تاب بالكلية عن الظلم فلا جرم بقي اسمه مخلدا في الدنيا بالعدل حتى إن من الناس من يروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : ولدت في زمن الملك العادل .

أما الأحكام المفرعة على كونه مالكا فهي أربعة :

الحكم الأول : قراءة المالك أرجى من قراءة الملك ؛ لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأسا برأس

أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول : أنا مالككم فعلي طعامكم وثوابكم وجنتكم .

الحكم الثاني : الملك وإن كان أغنى من المالك غير ان الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل فلهذا السبب قال الكسائي : اقرأ مالك يوم الدين ؛ لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة .

الحكم الثالث : أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج أما من كان مريضا فإنه يرده ولا يعطيه شيئا من الواجب

أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين .

الحكم الرابع : الملك له هيبة وسياسة والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة .

الفائدة الثالثة : الملك عبارة عن القدرة فكونه مالكا وملكا عبارة عن القدرة ههنا بحث : وهو أنه تعالى أما أن يكون ملكا للموجودات أو للمعدومات

والأول باطل لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة للّه على الموجودات إلا بالإعدام وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم

والثاني باطل أيضا ؛ لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال : إنه ليس للّه في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد .

والجواب أن اللّه تعالى مالك الموجودات وملكها بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة وهذه القدرة ليست إلا للّه تعالى فالملك الحق هو اللّه سبحانه وتعالى إذا عرفت أنه الملك الحق

فنقول : إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا للّه والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا للّه فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا اللّه وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر .

فإن قيل : إن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان المملوك موجودا والقيامة غير موجودة في الحال فلا يكون اللّه مالكا ليوم الدين بل الواجب أن يقال : مالك يوم الدين بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد فهذا إقرار ولو قال أنا قاتل زيدا بالتنوين كان تهديدا ووعيدا .

قلنا : الحق ما ذكرتم إلا أن قيام القيامة لما كان أمرا حقا لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال .

الفائدة الرابعة : أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة : اللّه والرب والرحمن والرحيم والمالك .

والسبب فيه كأنه يقول : خلقتك أولا فأنا إله ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم ثم لا بد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين .

فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة وفي السورة مرة ثانية فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة ؟

 قلنا : التقدير كأنه قيل : اذكر أني إله ورب مرة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى " {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول} " [ غافر : ٣ ] .

الفائدة الخامسة : قالت القدرية : إن كان خالق أعمال العباد هو اللّه امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء ؛ لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يعمله ظلم وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكا ليوم الدين وقالت الجبرية : لو لم تكن أعمال العباد بتقدير اللّه وترجيحه لم يكن مالكا لها ولما أجمع المسلمون على كونه مالكا للعباد ولأعمالهم ؛ علمنا أنه خالق لها مقدر لها واللّه أعلم .

٥

الفصل الخامس في تفسير قوله إياك نعبد وإياك نستعين وفيه فوائد

الفائدة الأولى : العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتي به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم : طريق معبد أي مذلل واعلم أن قولك إياك نعبد معناه لا أعبد أحد سواك والذي يدل على هذا الحصر وجوه :

 الأول : أن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام واعظم وجوه الإنعام الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع وخلق المنتفع به

فالمرتبة الأولى - وهي الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع - وإليها الإشارة بقوله تعالى : " {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} " [ مريم : ٩ ] وقوله " {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم - الآية} " [ البقرة : ٢٨ ]

والمرتبة الثانية - وهي خلق المنتفع به - وإليها الإشارة بقوله تعالى " {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} " [ البقرة : ٢٩ ]

ولما كانت المصالح الحاصلة في هذا العالم السفلي إنما تنتظم بالحركات الفلكية على سبيل إجراء العادة لا جرم أتبعه بقوله : " {ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم} " [ البقرة : ٢٩ ]

فثبت بما ذكرنا أن كل النعم حاصل بإيجاد اللّه تعالى فوجب أن لا تحسن العبادة إلا للّه تعالى فلهذا المعنى قال إياك نعبد فإن قوله إياك نعبد يفيد الحصر .

الوجه الثاني : في دلائل هذا الحصر والتعيين : وذلك لأنه تعالى سمى نفسه ههنا بخمسة أسماء : اللّه والرب والرحمن والرحيم ومالك يوم الدين وللعبد أحوال ثلاثة :

الماضي والحاضر والمستقبل ؛

أما الماضي فقد كان معدوما محضا كما قال تعالى : " {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} " [ البقرة : ٢٩ ]

وكان ميتا فاحياه اللّه تعالى كما قال : " {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم} " [ البقرة : ٢٨ ] وكان جاهلا فعلمه اللّه كما قال : " {واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} " [ النحل : ٧٨ ]

والعبد إنما انتقل من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة ومن العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى العلم لأجل أن اللّه تعالى كان قديما أزليا فبقدرته الأزلية وعلمه الأزلي أحدثه ونقله من العدم إلى الوجود فهو إله لهذا المعنى

وأما الحال الحاضرة للعبد فحاجته شديدة لأنه كلما كان معدوما كان محتاجا إلى الرب الرحمن الرحيم

أما لما دخل في الوجوه انفتحت عليه أبواب الحاجات وحصلت عنده أسباب الضرورات فقال اللّه تعالى : أنا إله لأجل أني أخرجتك من العدم إلى الوجود .

أما بعد أن أصرت موجودا فقد كثرت حاجاتك إلي فأنا رب رحمن رحيم

وأما الحال المستقبلة للعبد فهي حال ما بعد الموت والصفة المتعلقة بتلك الحالة هي قوله مالك يوم الدين فصارت هذه الصفات الخمس من صفات اللّه تعالى متعلقة بهذه الأحوال الثلاثة للعبد فظهر أن جميع مصالح العبد في الماضي والحاضر والمستقبل لا يتم ولا يكتمل إلا باللّه وفضله وإحسانه فلما كان الأمر كذلك وجب أن لا يشتغل العبد بعبادة شيء إلا بعبادة اللّه تعالى فلا جرم قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين على سبيل الحصر .

الوجه الثالث : في دليل هذا الحصر وهو أنه قد دل الدليل القاطع على وجوب كونه تعالى قادرا عالما محسنا جوادا كريما حليما

وأما كون غيره كذلك فمشكوك فيه ؛ لأنه لا أثر يضاف إلى الطبع والفلك والكواكب والعقل والنفس إلا ويحتمل إضافته إلى قدرة اللّه تعالى ومع هذا الاحتمال صار ذلك الانتساب مشكوكا فيه فثبت أن العلم بكون الإله تعالى معبودا للخلق أمر يقيني

وأما كون غيره معبودا للخلق فهو أمر مشكوك فيه والأخذ باليقين أولى من الأخذ بالشك فوجب طرح المشكوك والأخذ بالمعلوم وعلى هذا لا معبود إلا اللّه تعالى فلهذا المعنى قال إياك نعبد وإياك نستعين .

الوجه الرابع : أن العبودية ذلة ومهانة إلا أنه كلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية به أهنأ وأمرأ ولما كان اللّه تعالى أشرف الموجودات وأعلاها فكانت عبوديته أولى من عبودية غيره وأيضا قدرة اللّه تعالى أعلى من قدرة غيره وعلمه أكمل من علم غيره وجوده أفضل من جود غيره فوجب القطع بأن عبوديته أولى من عبودية غيره فلهذا السبب قال إياك نعبد وإياك نستعين .

الوجه الخامس : أن كل ما سوى الواجب لذاته يكون ممكنا لذاته وكل ما كان ممكنا لذاته كان محتاجا فقيرا والمحتاج مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه القيام بدفع الحاجة عن الغير والشيء ما لم يكن في ذاته لم يقدر على دفع الحاجة عن غيره والغني لذاته هو اللّه تعالى فدافع الحاجات هو اللّه تعالى فمستحق العبادات هو اللّه تعالى فلهذا السبب قال إياك نعبد وإياك نستعين .

الوجه السادس : استحقاق العبادة يستدعي قدرة اللّه تعالى بأن يمسك سماء بلا علاقة وأرضا بلا دعامة ويسير الشمس والقمر ويسكن القطبين ويخرج من السحاب تارة النار وهو البرق وتارة الهواء وهي الريح وتارة الماء وهو المطر

وأما في الأرض فتارة يخرج الماء من الحجر وهو ظاهر وتارة يخرج الحجر من الماء وهو الجمد ثم جعل في الأرض أجساما مقيمة لا تسافر وهي الجبال ؛ وأجساما مسافرة لا تقيم وهي الأنهار وخسف بقارون فجعل الأرض فوقه ورفع محمدا عليه الصلاة والسلام فجعل قاب قوسين تحته وجعل الماء نارا على قوم فرعون أغرقوا فأدخلوا نارا وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ورفع موسى فوق الطور وقال له " اخلع ( ١ ) كذا في الأصل واللفظ في الآية ١٢ من سورة طه " {فاخلع نعليك} " نعليك " ورفع الطور على موسى وقومه " {ورفعنا فوقكم الطور} " [ النساء : ١٥٤ ]

وغرق الدنيا من التنور اليابسة لقوله : " {وفار التنور} " [ هود : ٤٠ ] وجعل البحر يبسا لموسى عليه السلام فمن كانت قدرته هكذا كيف يسوى في العبادة بينه وبين غيره من الجمادات أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الفلك أو الملك فإن التسوية بين الناقص والكامل والخسيس والنفيس تدل على الجهل والسفه .

الفائدة الثانية : قوله إياك نعبد يدل على أنه لا معبود إلا اللّه ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا اللّه فقوله : " {إياك نعبد وإياك نستعين} " يدل على التوحيد المحض .

واعلم أن المشركين طوائف وذلك لأن كل من اتخذ شريكا للّه فذلك الشريك

أما أن يكون جسما وأما أن لا يكون

أما الذين اتخذوا شريكا جسمانيا فذلك الشريك

أما أن يكون من الأجسام السفلية أو من الأجسام العلوية

أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام السفلية فذلك الجسم

أما أن يكون مركبا أو بسيطا

أما المركب فأما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان أو من الإنسان

أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام المعدنية فهم الذين يتخذون الأصنام

أما من الأحجار أو من الذهب أو من الفضة ويعبدونها

وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام النباتية فهم الذين اتخذوا شجرة معينة معبودا لأنفسهم

وأما الذين اتخذوا الشركاء من الحيوان فهم الذين اتخذوا العجل معبودا لأنفسهم

وأما الذين اتخذوا الشركاء من الناس فهم الذين قالوا عزير ابن اللّه والمسيح ابن اللّه

وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام البسيطة فهم الذين يعبدون النار وهم المجوس

وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام العلوية فهم الذين يعبدون الشمس والقمر وسائر الكواكب ويضيفون السعادة والنحوسة إليها وهم الصابئة وأكثر المنجمين

وأما الذين اتخذوا الشركاء للّه من غير الأجسام فهم أيضا طوائف :

الطائفة الأولى : الذين قالوا مدبر العالم هو النور والظلمة وهؤلاء هم المانوية والثنوية

والطائفة الثانية : هم الذين قالوا الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ولكل نوع من أنواع هذا العالم روح فلكي يدبره ويتخذون لتلك الأرواح صورا وتماثيل ويعبدونها هؤلاء عبدة الملائكة

والطائفة الثالثة : الذين قالوا للعالم إلهان :

 أحدهما خير والآخر شر وقالوا : مدبر هذا العالم هو اللّه تعالى وإبليس وهما أخوان فكل ما في العالم من الخيرات فهو من اللّه وكل ما فيه من الشر فهو من إبليس .

إذا عرفت هذا التفصيل

فنقول : كل من اتخذ للّه شريكا فإنه لا بد وأن يكون مقدما على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه أما طلبا لنفعه أو هربا من ضرره

وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا اللّه ولم يلتفتوا إلى غير اللّه فكان رجاؤهم من اللّه وخوفهم من اللّه ورغبتهم في اللّه ورهبتهم من اللّه فلا جرم لم يعبدوا إلا اللّه ولم يستعينوا إلا باللّه ؛ فلهذا قالوا إياك نعبد وإياك نستعين فكان قوله إياك نعبد وإياك نستعين قائما مقام قوله لا إله إلا اللّه .

واعلم أن الذكر المشهور هو أن تقول سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم وقد دللنا على أن قولنا الحمد للّه يدخل فيه معنى قولنا سبحان اللّه لأن قوله سبحان اللّه يدل على كونه كاملا تاما في ذاته

وقوله الحمد للّه يدل على كونه مكملا متمما لغيره والشيء لا يكون مكملا متمما لغيره إلا إذا كان قبل ذلك تاما كاملا في ذاته فثبت أن قولنا الحمد للّه دخل فيه معنى قولنا سبحان اللّه ولما قال الحمد للّه فأثبت جميع أنواع الحمد ذكر ما يجري مجرى العلة لإثبات جميع أنواع الحمد للّه فوصفه بالصفات الخمس وهي التي لأجلها تتم مصالح العبد في الأوقات الثلاثة على ما بيناه ولما بين ذلك ثبت صحة قولنا سبحان اللّه والحمد للّه ثم ذكر بعده قوله إياك نعبد وقد دللنا على أنه قائم مقام لا إله إلا اللّه ثم ذكر قوله وإياك نستعين ومعناه أن اللّه تعالى أعلى وأجل وأكبر من أن يتم مقصود من المقاصد وغرض من الأغراض إلا بإعانته وتوفيقه وإحسانه وهذا هو المراد من قولنا ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم فثبت أن سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها منطبقة على ذلك الذكر وآيات هذه السورة جارية مجرى الشرح والتفصيل للمراتب الخمس المذكورة في ذلك الذكر .

الفائدة الثالثة : قال إياك نعبد فقدم قوله إياك على قوله نعبد ولم يقل نعبدك وفيه وجوه :

 أحدها : أنه تعالى قدم ذكر نفسه ليتنبه العابد على أن المعبود هو اللّه الحق فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينا وشمالا ؛ يحكى أن واحدا من المصارعين الأستاذين صارع رستاقيا جلفا فصرع الرستاقي ذلك الأستاذ مرارا فقيل للرستاقي : إنه فلان الأستاذ فانصرع في الحال منه وما ذاك إلا لاحتشامه منه فكذا ههنا : عرفه ذاته أولا حتى تحصل العبادة مع الحشمة فلا تمتزج بالغفلة .

وثانيها : أنه إن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من القيام والركوع والسجود فاذكر أولا قوله إياك نعبد لتذكرني وتحضر في قلبك معرفتي فإذا ذكرت جلالي وعظمتي وعزتي وعلمت أني مولاك وأنك عبدي سهلت عليك تلك العبادات ومثاله أن من أراد حمل الجسم الثقيل تناول قبل ذلك ما يزيده قوة وشدة فالعبد لما أراد حمل التكاليف الشاقة الشديدة تناول أولا معجون معرفة الربوبية من بستوقة قوله إياك حتى يقوى على حمل ثقل العبودية ومثال آخر وهو أن العاشق الذي يضرب لأجل معشوقه في حضرة معشوقه يسهل عليه ذلك الضرب فكذا ههنا : إذا شاهد جمال إياك سهل عليه تحمل ثقل العبودية

وثالثها : قال اللّه تعالى : " {إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} " [ الأعراف : ٢٠١ ] فالنفس إذا مسها طائف من الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة تذكروا حضرة جلال اللّه من مشرق قوله إياك نعبد فيصيرون مبصرين مستعدين لأداء العبادات والطاعات.

ورابعها : أنك إذا قلت نعبدك فبدأت أولا بذكر عبادة نفسك ولم تذكر أن تلك العبادة لمن فيحتمل أن إبليس يقول هذه العبادة للأصنام أو للأجسام أو للشمس أو القمر

أما إذا غيرت هذا الترتيب وقلت أولا إياك ثم قلت ثانيا نعبد كان قولك أولا إياك صريحا بأن المقصود والمعبود هو اللّه تعالى فكان هذا أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك .

وخامسها : وهو أن القديم الواجب لذاته متقدم في الوجود على المحدث الممكن لذاته فوجب أن يكون ذكره متقدما على جميع الأذكار ؛ فلهذا السبب قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون ذكر الحق متقدما على ذكر الخلق .

وسادسها : قال بعض المحققين : من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى النعمة كان نظره في وقت البلاء إلى المبتلي لا إلى البلاء وحينئذ يكون غرقا في كل الأحوال في معرفة الحق سبحانه وكل من كان كذلك كان أبدا في أعلى مراتب السعادات أما من كان نظره في وقت النعمة إلى النعمة لا إلى المنعم كان نظره في وقت البلاء إلى البلاء لا إلى المبتلي فكان غرقا في كل الأوقات في الاشتغال بغير اللّه فكان أبدا في الشقاوة لأن في وقت وجدان النعمة يكون خائفا من زوالها فكان في العذاب وفي وقت فوات النعمة كان مبتلى بالخزي والنكال فكان في محض السلاسل والأغلال ولهذا التحقيق قال لأمة موسى : اذكروا نعمتي وقال لأمة محمد عليه السلام : اذكروني أذكركم إذا عرفت هذا

فنقول : إنما قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون مستغرقا في مشاهدة نور جلال إياك ومتى كان الأمر كذلك كان في وقت أداء العبادة مستقرا في عين الفردوس كما قال تعالى : لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا .

وسابعها : لو قيل نعبدك لم يفد نفي عبادتهم لغيره لأنه لا امتناع في أن يعبدوا اللّه ويعبدوا غير اللّه كما هو دأب المشركين

أما لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونه ولا يعبدون غير اللّه .

وثامنها : أن هذه النون نون العظمة فكأنه قيل له متى كنت خارج الصلاة فلا تقل نحن ولو كنت في ألف ألف من العبيد أما لما اشتغلت بالصلاة وأظهرت العبودية لنا فقل نعبد ليظهر للكل أن كل من كان عبدا لنا كان ملك الدنيا والآخرة .

وتاسعها : لو قال إياك أعبد لكان ذلك تكبرا ومعناه أني أنا العابد

أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك

فالأول تكبر

والثاني تواضع ومن تواضع للّه رفعه اللّه ومن تكبر وضعه اللّه .

فإن قال قائل : جميع ما ذكرتم قائم في قوله الحمد للّه مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر اللّه .

فالجواب أن قوله الحمد يحتمل أن يكون للّه ولغير اللّه فإذا قلت للّه فقد تقيد الحمد بأن يكون للّه

أما لو قدم قوله نعبد احتمل أن يكون للّه واحتمل أن يكون لغير اللّه وذلك كفر ؛

والنكتة أن الحمد لما جاز لغير اللّه في ظاهر الأمر كما جاز للّه لا جرم حسن تقدم الحمد

أما ههنا فالعبادة لما لم تجز لغير اللّه لا جرم قدم قوله إياك على نعبد فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير اللّه .

الفائدة الرابعة : لقائل أن يقول : النون في قوله نعبد

أما أن تكون نون الجمع أو نون التعظيم

والأول باطل لأن الشخص الواحد لا يكون جمعا

والثاني باطل لأن عند أداء العبادة فاللائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة .

واعلم أنه يمكن الجواب عنه من وجوه كل واحد من تلك الوجوه يدل على حكمة بالغة :

فالوجه الأول : أن المراد من هذه النون نون الجمع وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة واعلم أن فائدة الصلاة بالجماعة معلومة في موضعها ويدل عليه قوله عليه السلام : التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها ثم نقول : إن الإنسان لو أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة لئلا يتأذى منه إنسان فكأنه تعالى يقول : هذه الطاعة التي لها هذا الثواب العظيم لا يفي ثوابها بأن يتأذى واحد من المسلمين برائحة الثوم والبصل فإذا كان هذا الثواب لا يفي بذلك فكيف يفي بإيذاء المسلم وكيف يفي بالنميمة والغيبة والسعاية .

الوجه الثاني : أن الرجل إذا كان يصلي بالجماعة فيقول نعبد والمراد منه ذلك الجمع وإن كان يصلي وحده كان المراد أني أعبدك والملائكة معي في العبادة .

فكان المراد بقوله نعبد هو وجميع الملائكة الذين يعبدون اللّه .

الوجه الثالث : أن المؤمنين أخوة فلو قال إياك أعبد لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره أما لما قال إياك نعبد كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقا وغربا فكأنه سعى في إصلاح مهمات سائر المؤمنين وإذا فعل ذلك قضى اللّه مهماته لقوله عليه السلام : من قضى لمسلم حاجة قضى اللّه له جميع حاجاته .

الوجه الرابع : كأنه تعالى قال للعبد لما أثنيت علينا بقولك الحمد للّه رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وفوضت إلينا جميع محامد الدنيا والآخرة فقد عظم قدرك عندنا وتمكنت منزلتك في حضرتنا فلا تقتصر على إصلاح مهماتك وحدك ولكن أصلح حوائج جميع المسلمين فقل إياك نعبد وإياك نستعين .

الوجه الخامس : كأن العبد يقول : إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أستحق أن أذكرها وحدها ؛ لأنها ممزوجة بجهات التقصير ولكني أخلطها بعبادات جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة وأقول إياك نعبد .

وههنا مسألة شرعية وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة من العبيد فالمشتري

أما أن يقبل الكل أو لا يقبل واحدا منها وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة فكذا هنا إذا قال العبد إياك نعبد فقد عرض على حضرة اللّه جميع عبادات العابدين فلا يليق بكرمه أن يميز البعض عن البعض ويقبل البعض دون البعض فأما أن يرد الكل وهو غير جائز لأن قوله إياك نعبد دخل فيه عبادات الملائكة وعبادات الأنبياء والأولياء

وأما أن يقبل الكل وحينئذ تصير عبادة هذا القائل مقبولة ببركة قبول عبادة غيره والتقدير كأن العبد يقول : إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردني لأني لست بوحيد في هذه العبادة بل نحن كثيرون فإن لم أستحق الإجابة والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبدين فأجبني .

الفائدة الخامسة : اعلم أن من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها ؛ وثقل عليه الاشتغال بغيرها وبيانه من وجوه :

 الأول أن الكمال محبوب بالذات وأكمل أحوال الإنسان وأقواها في كونها سعادة اشتغاله بعبادة اللّه فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية ويتشرف لسانه بشرف الذكر والقراءة وتتجمل أعضاؤه بجمال خدمة اللّه وهذه الأحوال أشرف المراتب الإنسانية والدرجات البشرية فإذا كان حصول هذه الأحوال أعظم السعادات الإنسانية في الحال وهي موجبة أيضا لأكمل السعادات في الزمان المستقبل فمن وقف على هذه الأحوال زال عنه ثقل الطاعات وعظمت حلاوتها في قلبه .

الثاني : أن العبادة أمانة بدليل قوله تعالى : " {إنا عرضنا الأمانة على السموات - الآية} " [ الأحزاب : ٧٢ ]

وأداء الأمانة واجب عقلا وشرعا بدليل قوله " {إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} " [ النساء : ٥٨ ]

وأداء الأمانة صفة من صفات الكمال محبوبة بالذات ؛ ولأن أداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني قال بعض الصحابة : رأيت أعرابيا أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا فلما خرج لم يجد ناقته فقال : إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي ؟ قال الراوي فزدنا تعجبا فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه

والنكتة أنه لما حفظ أمانة اللّه حفظ اللّه أمانته وهو المراد من قوله عليه السلام لابن عباس : يا غلام احفظ اللّه في الخلوات يحفظك في الفلوات .

الثالث : أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور ومن الاشتغال بالخلق إلى حضرة الحق وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة .

يحكى عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وكان أبو حنيفة في الصلاة ولم يشعر بها .

ووقعت الآكلة في بعض أعضاء عروة بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فلما شرع في الصلاة قطعوا منه ذلك العضو فلم يشعر عروة بذلك القطع .

وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزا كأزيز المرجل ومن استبعد هذا فليقرأ قوله تعالى : " {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن} " [ يوسف : ٣١ ] فإن النسوة لما غلب على قلوبهن جمال يوسف عليه السلام وصلت تلك الغلبة حيث قطعن أيديهن وما شعرن بذلك فإذا جاز هذا في حق البشر فلأن يجوز عند استيلاء عظمة اللّه على القلب أولى ولأن من دخل على ملك مهيب فربما مر به أبواه وبنوه وهو ينظر إليهم ولا يعرفهم لأجل أن استيلاء هيبة ذلك تمنع القلب عن الشعور بهم فإذا جاز هذا في حق ملك مخلوق مجازي فلأن يجوز في حق خالق العالم أولى .

ثم قال أهل التحقيق : العبادة لها ثلاث درجات :

الدرجة الأولى : أن يعبد اللّه طمعا في الثواب أو هربا من العقاب وهذا هو المسمى بالعبادة وهذه الدرجة نازلة ساقطة جدا ؛ لأن معبوده في الحقيقة هو ذلك الثواب وقد جعل الحق وسيلة إلى نيل المطلوب ومن جعل المطلوب بالذات شيئا من أحوال الخلق وجعل الحق وسيلة إليه ؛ فهو خسيس جدا .

والدرجة الثانية : أن يعبد اللّه لأجل أن يتشرف بعبادته أو يتشرف بقبول تكاليفه أو يتشرف بالانتساب إليه وهذه الدرجة أعلى من الأولى ؛ إلا أنها أيضا ليست كاملة ؛ لأن المقصود بالذات غير اللّه .

والدرجة الثالثة : أن يعبد اللّه لكونه إلها وخالقا ولكونه عبدا له والإلهية توجب الهيبة والعزة والعبودية توجب الخضوع والذلة وهذا أعلى المقامات وأشرف الدرجات هذا هو المسمى بالعبودية وإليه الإشارة بقول المصلي في أول الصلاة : أصلي للّه ؛ فإنه لو قال أصلي لثواب اللّه أو للّهرب من عقابه ؛ فسدت صلاته .

واعلم أن العبادة والعبودية مقام عال شريف ويدل عليه آيات :

الأولى : قوله تعالى في آخر سورة الحجر : " {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} " [ ا لحجر : ٩٧ ]

والاستدلال بها من وجهين :

 أحدهما : أنه قال : " {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} " ؛ فأمر محمدا عليه الصلاة والسلام بالمواظبة على العبادة إلى أن يأتيه الموت ومعناه أنه لا يجوز الإخلال بالعبادة في شيء من الأوقات وذلك يدل على غاية جلالة أمر العبادة

وثانيهما : أنه قال : " {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} " ؛ ثم إنه تعالى أمره بأربعة أشياء : التسبيح ؛ وهو قوله فسبح ؛ والتحميد : وهو قوله : بحمد ربك ؛ والسجود : وهو قوله : وكن من الساجدين ؛ والعبادة : وهي قوله : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ؛ وهذا يدل على أن العبادة تزيل ضيق القلب وتفيد انشراح الصدر وما ذاك إلا لأن العبادة توجب الرجوع من الخلق إلى الحق وذلك يوجب زوال ضيق القلب .

الآية الثانية في شرف العبودية : قوله تعالى : " {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} " [ الإسراء : ١ ] ولولا أن العبودية أشرف المقامات وإلا لما وصفه اللّه بهذه الصفة في أعلى مقامات المعراج ومنهم من قال : العبودية أشرف من الرسالة ؛ لأن بالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق وأيضا بسبب العبودية ينعزل عن التصرفات وبسبب الرسالة يقبل على التصرفات واللائق بالعبد الانعزال عن التصرفات وأيضا العبد يتكفل المولى بإصلاح مهماته والرسول هو المتكفل بإصلاح مهمات الأمة وشتان ما بينهما .

الآية الثالثة في شرف العبودية : أن عيسى أول ما نطق قال : " {إني عبد اللّه} " [ مريم : ٣٠ ] وصار ذكره لهذه الكلمة سببا لطهارة أمه ولبراءة وجوده عن الطعن وصار مفتاحا لكل الخيرات ودافعا لكل الآفات وأيضا لما كان أول كلام عيسى ذكر العبودية كانت عاقبته الرفعة كما قال تعالى : " {ورافعك إلي} " [ آل عمران : ٥٥ ]

والنكتة أن الذي ادعى العبودية بالقول رفع إلى الجنة والذي يدعيها بالعمل سبعين سنة ؛ كيف يبقى محروما عن الجنة ؟ الآية

الرابعة : قوله تعالى لموسى عليه السلام : " {إنني أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدنى} " [ طه : ١٤ ] أمره بعد التوحيد بالعبودية ؛ لأن التوحيد أصل والعبودية فرع والتوحيد شجرة ؛ والعبودية ثمرة ولا قوام لأحدهما إلا بالآخر فهذه الآيات دالة على شرف العبودية .

وأما المعقول ؛ فظاهر ؛ وذلك لأن العبد محدث ممكن الوجود لذاته فلولا تأثير قدرة الحق فيه لبقي في ظلمة العدم وفي فناء الفناء ولم يحصل له الوجود فضلا عن كمالات الوجود فلما تعلقت قدرة الحق به وفاضت عليه آثار جوده وإيجاده حصل له الوجود وكمالات الوجود ولا معنى لكونه مقدور قدرة الحق ؛ ولكونه متعلق إيجاد الحق إلا العبودية فكل شرف وكمال وبهجة وفضيلة ومسرة ومنقبة حصلت للعبد ؛ فإنما حصلت بسبب العبودية فثبت أن العبودية مفتاح الخيرات وعنوان السعادات ومطلع الدرجات وينبوع الكرامات فلهذا السبب قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين وكان علي كرم اللّه وجهه يقول : كفى بي فخرا أن أكون لك عبدا وكفى بي شرفا أن تكون لي ربا اللّهم إني وجدتك إلها كما أردت فاجعلني عبدا كما أردت .

الفائدة السادسة : اعلم أن المقامات محصورة في مقامين : معرفة الربوبية ومعرفة العبودية وعند اجتماعهما يحصل العهد المذكور في قوله : " {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} " [ البقرة : ٤٠ ] أما معرفة الربوبية ؛ فكمالها مذكور في قوله : " {الحمد للّه رب العالمين . الرحمن ا لرحيم . مالك يوم الدين} " ؛ فكون العبد منتقلا من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلها وحصول الخيرات والسعادات للعبد حال وجوده يدل على كونه ربا رحمانا رحيما وأحوال معاد العبد تدل على كونه مالك يوم الدين وعند الإحاطة بهذه الصفات حصلت معرفة الربوبية على أقصى الغايات وبعدها جاءت معرفة العبودية ولها مبدأ وكمال وأول وآخر

أما مبدؤها وأولها ؛ فهو الاشتغال بالعبودية وهو المراد بقوله : " {إياك نعبد} "

وأما كمالها ؛ فهو أن يعرف العبد أن لا حول عن معصية اللّه إلا بعصمة اللّه ولا قوة على طاعة اللّه إلا بتوفيق اللّه فعند ذلك يستعين باللّه في تحصيل كل المطالب وذلك هو المراد بقوله وإياك نستعين ولما تم الوفاء بعهد الربوبية وبعهد العبودية ترتب عليه طلب الفائدة والثمرة وهو قوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " وهذا ترتيب شريف رفيع عال ؛ يمتنع في العقول حصول ترتيب آخر أشرف منه .

الفائدة السابعة : لقائل أن يقول : قوله الحمد للّه رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ؛ كله مذكور على لفظ الغيبة وقوله : إياك نعبد وإياك نستعين انتقال من لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فما الفائدة فيه ؟

قلنا : فيه وجوه :

 الأول : أن المصلي كان أجنبيا عند الشروع في الصلاة فلا جرم أثنى على اللّه بألفاظ المغايبة إلى قوله مالك يوم الدين ثم إنه تعالى كأنه يقول له حمدتني وأقررت بكوني إلها ربا رحمانا رحيما مالكا ليوم الدين فنعم العبد أنت قد رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل إياك نعبد .

الوجه الثاني : إن أحسن السؤال ما وقع على سبيل المشافهة ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لما سألوا ربهم شافهوه بالسؤال فقالوا : " {ربنا ظلمنا أنفسنا} " [ الأعراف : ٢٣ ] " {ربنا اغفر لنا} " [ الحشر : ١٠ ] " {رب هب لي} " [ الشعراء : ٨٣ ] " {رب أرني} " [ الأعراف : ١٤٣ ]

والسبب فيه أن الرد من الكريم على سبيل المشافهة والمخاطبة بعيد وأيضا العبادة خدمة والخدمة في الحضور أولى .

الوجه الثالث : أن من أول السورة إلى قوله إياك نعبد ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن قوله إياك نعبد .

وإياك نستعين إلى آخر السورة دعاء والدعاء في الحضور أولى .

الوجه الرابع : العبد لما شرع في الصلاة وقال نويت أن أصلي تقربا إلى اللّه فينوي حصول القربة ثم إنه ذكر بعد هذه النية أنواعا من الثناء على اللّه فاقتضى كرم اللّه إجابته في تحصيل تلك القربة فنقله من مقام الغيبة إلى مقام الحضور فقال : إياك نعبد وإياك نستعين .

الفصل السادس في قوله وإياك نستعين اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية اللّه إلا بعصمة اللّه ولا قوة على طاعة اللّه إلا بتوفيق اللّه ويدل عليه وجوه من العقل والنقل

أما العقل فمن وجوه :

الأول : أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد في الطلب فهو من اللّه تعالى فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانه اللّه .

الثاني : أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين وما ذاك المعين إلا اللّه تعالى لأن ذلك المعين لو كان بشرا أو ملكا لعاد الطلب فيه .

الثالث : أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من اللّه تعالى ولا معنى للإعانة إلا ذلك .

وأما النقل فيدل عليه آيات :

أولاها : قوله وإياك نستعين

وثانيتها : قوله " {استعينوا باللّه} " [ الأعراف : ١٢٨ ] وقد اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية :

أما الجبرية فقالوا : لو كان العبد مستقلا بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة

وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكنا من أصل الفعل فتبطل الإعانة من الغير أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة .

وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة وإزالة الداعية الصارفة .

ولنذكر ما في هذه الكلمة من اللطائف والفوائد :

 الفائدة الأولى : لقائل أن يقول : الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وههنا ذكر قوله إياك نعبد ثم ذكر عقيبه وإياك نستعين فما الحكمة فيه ؟

 الجواب من وجوه

الأول : كأن المصلي يقول : شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها .

الثاني : كأن الإنسان يقول : يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلبا يفر مني فأستعين بك في إحضاره وكيف وقد قال عليه الصلاة والسلام : قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة اللّه .

الثالث : لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا ميكائيل بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام لأنه لما قيد نمروذ رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له : هل لك من حاجة ؟ فقال :

أما إليك فلا فقال : سله فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير

وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير ويدي فلا أحركهما وعيني فلا أنظر بهما وأذني فلا أسمع بهما ولساني فلا أتكلم به وكان الخليل مشرفا على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معينا فكذلك لا أريد معينا غيرك فإياك نعبد وإياك نستعين كأنه تعالى يقول : أتيت بفعل الخليل وزدت عليه فنحن نزيد أيضا في الجزاء لأنا ثمت

قلنا : " {يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} " [ الأنبياء : ٦٩ ] وأما أنت فقد نجيناك من النار وأوصلناك إلى الجنة وزدناك سماع الكلام القديم ورؤية الموجود القديم وكما أنا قلنا لنار نمروذ يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكذلك تقول لك نار جهنم : جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي .

الرابع : إياك نستعين : أي : لا أستعين بغيرك وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك .

الوجه الخامس : قوله إياك نعبد يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة اللّه تعالى وذلك يورث العجب فأردف بقوله وإياك نستعين ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد بل إنما حصلت بإعانة اللّه فالمقصود من ذكر قوله وإياك نستعين إزالة العجب وإفناء تلك النخوة والكبر .

٦

الفصل السابع في قوله اهدنا الصراط المستقيم وفيه فوائد

الفائدة الأولى : لقائل أن يقول : المصلي لا بد وأن يكون مؤمنا وكل مؤمن مهتد فالمصلي مهتد فإذا قال اهدنا كان جاريا مجرى أن من حصلت له الهداية فإنه يطلب الهداية فكان هذا طلبا لتحصيل الحاصل وإنه محال والعلماء أجابوا عنه من وجوه :

 الأول : المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة اللّه تعالى .

يحكى أن نوحا عليه السلام كان يضرب في كل يوم كذا مرات بحيث يغشى عليه وكان يقول في كل مرة : اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .

فإن قيل : إن رسولنا عليه الصلاة والسلام ما قال ذلك إلا مرة واحدة وهو كان يقول كل يوم مرات فلزم أن يقال إن نوحا عليه السلام كان أفضل منه

والجواب لما كان المراد من قوله اهدنا الصراط المستقيم طلب تلك الأخلاق الفاضلة من اللّه تعالى والرسول عليه السلام كان يقرأ الفاتحة في كل يوم كذا مرة كان تكلم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بهذه الكلمة أكثر من تكلم نوح عليه السلام بها .

الوجه الثاني في الجواب : أن العلماء بينوا أن في كل خلق من الأخلاق طرفي تفريط وإفراط وهما مذمومان والحق هو الوسط ويتأكد ذلك بقوله تعالى : " {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} " [ البقرة : ١٤٣ ] وذلك الوسط هو العدل والصواب فالمؤمن بعد أن عرف اللّه بالدليل صار مؤمنا مهتديا أما بعد حصول هذه الحالة فلا بد من معرفة العدل الذي هو الخط المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في الأعمال الشهوانية وفي الأعمال الغضبية وفي كيفية إنفاق المال فالمؤمن يطلب من اللّه تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وعلى هذا التفسير فالسؤال زائل .

الوجه الثالث : أن المؤمن إذا عرف اللّه بدليل واحد فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلائل على وجود اللّه وعلمه وقدرته وجوده ورحمته وحكمته وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلا عن سائر الدلائل فقوله اهدنا الصراط المستقيم معناه عرفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وقدرتك وعلمك وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل .

الوجه الرابع : أنه تعالى قال : " {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض} " [ الشورى : ٥٢ - ٥٣ ]

وقال أيضا لمحمد عليه السلام : " {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} " [ الأنعام : ١٥٣ ]

وذلك الصراط المستقيم هو أن يكون الإنسان معرضا عما سوى اللّه مقبلا بكلية قلبه وفكره وذكره على اللّه فقوله اهدنا الصراط المستقيم المراد أن يهديه اللّه إلى الصراط المستقيم الموصوف بالصفة المذكورة مثاله : أن يصير بحيث لو أمر بذبح ولده لأطاع كما فعله إبراهيم عليه السلام ولو أمر بأن ينقاد ليذبحه غيره لأطاع كما فعله إسمعيل عليه السلام ؛ ولو أمر بأن يرمي نفسه في البحر لأطاع كما فعله يونس عليه السلام ولو أمر بأن يتلمذ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المنصب إلى أعلى الغايات لأطاع كما فعله موسى مع الخضر عليهما السلام ولو أمر بأن يصبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القتل والتفريق نصفين لأطاع كما فعله يحيى وزكريا عليهما السلام فالمراد بقوله : اهدنا الصراط المستقيم هو الاقتداء بأنبياء اللّه في الصبر على الشدائد والثبات عند نزول البلاء ؛ ولا شك أن هذا مقام شديد هائل ؛ لأن أكثر الخلق لا طاقة لهم به إلا أنا نقول : أيها الناس لا تخافوا ولا تحزنوا ؛ فإنه لا يضيق أمر في دين اللّه إلا اتسع ؛ لأن في هذه الآية ما يدل على اليسر والسهولة ؛ لأنه تعالى لم يقل صراط الذين ضربوا وقتلوا بل قال : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " ؛ فلتكن نيتك عند قراءة هذه الآية أن تقول : يا إلهي ! إن والدي رأيته ارتكب الكبائر كما ارتكبتها وأقدم على المعاصي كما أقدمت عليها ثم رأيته لما قرب موته تاب وأناب فحكمت له بالنجاة من النار والفوز بالجنة ؛ فهو ممن أنعمت عليه بأن وفقته للتوبة ثم أنعمت عليه بأن قبلت توبته فأنا أقول : اهدنا إلى مثل ذلك الصراط المستقيم طلبا لمرتبة التائبين فإذا وجدتها ؛ فاطلب الاقتداء بدرجات الأنبياء عليهم السلام فهذا تفسير قوله : اهدنا الصراط المستقيم .

الوجه الخامس : كأن الإنسان يقول في الطريق : كثرة الأحباب يجرونني إلى طريق والأعداء إلى طريق ثان والشيطان إلى طريق ثالث وكذا القول في الشهوة والغضب والحقد والحسد وكذا القول في التعطيل والتشبيه والجبر والقدر والإرجاء والوعيد والرفض والخروج والعقل ضعيف والعمر قصير والصناعة طويلة والتجربة خطرة والقضاء عسير وقد تحيرت في الكل ؛ فاهدني إلى طريق أخرج منه إلى الجنة والمستقيم : السوي الذي لا غلظ فيه .

يحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت اللّه فإذا أعرابي على ناقة له فقال : يا شيخ ! إلى أين ؟ فقال إبراهيم : إلى بيت اللّه قال كأنك مجنون لا أرى لك مركبا ولا زادا والسفر طويل فقال إبراهيم : إن لي مراكب كثيرة ؛ ولكنك لا تراها قال : وما هي ؟ قال : إذا نزلت علي بلية ركبت مركب الصبر وإذا نزل علي نعمة ركبت مركب الشكر وإذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضا وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى فقال الأعرابي : سر بإذن اللّه ؛ فأنت الراكب وأنا الراجل .

الوجه السادس : قال بعضهم : الصراط المستقيم : الإسلام وقال بعضهم : القرآن وهذا لا يصح ؛ لأن قوله " {صراط الذين أنعمت عليهم} " بدل من الصراط المستقيم وإذا كان كذلك كان التقدير : اهدنا صراط من أنعمت عليهم من المتقدمين ومن تقدمنا من الأمم ما كان لهم القرآن والإسلام وإذا بطل ذلك ثبت أن المراد اهدنا صراط المحقين المستحقين للجنة وإنما قال الصراط ولم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحدا ليكون لفظ الصراط مذكرا لصراط جهنم ؛ فيكون الإنسان على مزيد خوف وخشية .

القول الثاني في تفسير اهدنا : أي ثبتنا على الهداية التي وهبتها منا ونظيره قوله تعالى : " {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} " [ آل عمران : ٨ ] ؛ أي : ثبتنا على الهداية فكم من عالم وقعت له شبهة ضعيفة في خاطره فزاغ وذل وانحرف عن الدين القويم والمنهج المستقيم .

الفائدة الثانية : لقائل أن يقول : لم قال : اهدنا ولم يقل : اهدني ؟

 والجواب من وجهين :

 الأول أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب كان بعض العلماء يقول : لتلامذته : إذا قرأتم في خطبة السابق : ورضي اللّه عنك وعن جماعة المسلمين إن نويتني في قولك رضي اللّه عنك فحسن وإلا فلا حرج ولكن إياك وأن تنساني في قولك وعن جماعة المسلمين لأن قوله رضي اللّه عنك تخصيص بالدعاء فيجوز أن لا يقبل

وأما قوله وعن جماعة المسلمين فلا بد وأن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة وإذا أجاب اللّه الدعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي ولهذا السبب فإن السنة إذا أراد أن يذكر دعاء أن يصلي أولا على النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم يدعو ثم يختم الكلام بالصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم ثانيا ؛ لأن اللّه تعالى يجيب الداعي في صلاته على النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم إذا أجيب في طرفي دعائه امتنع أن يرد في وسطه .

الثاني : قال عليه الصلاة والسلام : ادعوا اللّه بألسنة ما عصيتموه بها قالوا : يا رسول اللّه ومن لنا بتلك الألسنة ؟ قال يدعو بعضكم لبعض ؛ لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك .

والثالث : كأنه يقول : أيها العبد ألست قلت في أول السورة الحمد للّه وما قلت أحمد اللّه فذكرت أولا حمد جميع الحامدين فكذلك في وقت الدعاء أشركهم فقل أهدنا .

الرابع : كأن العبد يقول : سمعت رسولك يقول : الجماعة رحمة والفرقة عذاب فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت الحمد للّه ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت إياك نعبد ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت وإياك نستعين فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت اهدنا الصراط المستقيم ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت صراط الذين أنعمت عليهم ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت غير المغضوب عليهم ولا الضالين فلما لم أفارق الأنبياء والصالحين في الدنيا فأرجو أن لا أفارقهم في القيامة قال تعالى : " {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين - الآية} " [ النساء : ٦٩ ] .

الفائدة الثالثة : اعلم أن أهل الهندسة قالوا الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجة فكأن العبد يقول : اهدنا الصراط المستقيم لوجوه :

 الأول : أنه أقرب الخطوط وأقصرها وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم .

الثاني : أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضا في الاعوجاج فيشتبه الطريق علي أما المستقيم فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان .

الثالث : الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود والمعوج لا يوصل إليه .

والرابع : المستقيم لا يتغير والمعوج يتغير فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم واللّه أعلم .

٧

الفصل الثامن في تفسير قوله صراط الذين أنعمت عليهم وفيه فوائد

الفائدة الأولى : في حد النعمة وقد اختلف فيها فمنهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة الذنب والعقاب فأي امتناع في اجتماعهما ؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر والذم بمعصية اللّه فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك .

ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور

فنقول : أما قولنا المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة

وقولنا المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا حقا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها .

إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع :

الفرع الأول : اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من اللّه تعالى على ما قال تعالى : " {وما بكم من نعمة فمن اللّه} " [ النحل : ٥٣ ] ثم إن النعمة على ثلاثة أقسام:

 أحدها : نعمة تفرد اللّه بإيجادها نحو أن خلق ورزق .

وثانيها : نعمة وصلت من جهة غير اللّه في ظاهر الأمر وفي الحقيقة فهي أيضا إنما وصلت من اللّه تعالى وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة والخالق لذلك المنعم والخالق لداعية الإنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكورا ولكن المشكور في الحقيقة هو اللّه تعالى ولهذا قال : " {أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير} " [ لقمان : ١٤ ] فبدأ بنفسه تنبيها على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام اللّه

وثالثها : نعم وصلت من اللّه إلينا بسبب طاعتنا وهي أيضا من اللّه تعالى ؛ لأنه لولا أن اللّه سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من اللّه تعالى .

الفرع الثاني : أن أول نعم اللّه على العبيد هو أن خلقهم أحياء ويدل عليه العقل والنقل

أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول الحياة فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة

وأما النقل فهو أنه تعالى قال : " {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم} " [ البقرة : ٢٨ ]

ثم قال عقيبه : {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} " [ البقرة : ٢٩ ] فبدأ بذكر الحياة وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة .

الفرع الثالث : اختلفوا في أنه هل للّه تعالى نعمة على الكافر أم لا ؟ فقال بعض أصحابنا ليس للّه تعالى على الكافر نعمة وقالت المعتزلة : للّه على الكافر نعمة دينية ونعمة دنيويه واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول : أما القرآن فآيات .

إحداها : قوله تعالى " {صراط الذين أنعمت عليهم} " وذلك لأنه لو كان للّه على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى : " {أنعمت عليهم} " ولو كان ذلك لكان قوله : " {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} " طلبا لصراط الكفار وذلك باطل فثبت بهذه الآية أنه ليس للّه نعمة على الكفار

فإن قالوا : إن قوله الصراط يدفع ذلك

قلنا : إن قوله : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " بدل من قوله " {الصراط المستقيم} " فكان التقدير اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم وحينئذ يعود المحذور المذكور .

والآية الثانية : قوله تعالى : " {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} " [ آل عمران : ١٧٨ ]

وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر ومثل هذا لا يكون نعمة بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير فكذا ههنا .

وأما الذين قالوا إن للّه على الكافر نعما كثيرة فقد احتجوا بآيات :

إحداها : قوله تعالى : " {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء} " [ البقرة ٢١ - ٢٢ ] فنبه على أنه يجب على الكل طاعة اللّه لمكان هذه النعم العظيمة .

وثانيها قوله : " {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم} " [ البقرة : ٢٨ ]

ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم .

وثالثها : قوله تعالى : " {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} " [ البقرة : ٤٠ ] .

ورابعها : قوله تعالى : " {وقليل من عبادي الشكور} " [ سبأ : ١٣ ]

وقول إبليس : " {ولا تجد أكثرهم شاكرين} " [ الأعراف : ١٧ ]

ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور ؛ لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة .

الفائدة الثانية : قوله " {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} " يدل على إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه ؛ لأنا ذكرنا أن تقدير الآية : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم واللّه تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم اللّه عليهم من هم فقال : " {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين - الآية} " [ النساء : ٦٩ ] ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه فكان معنى الآية أن اللّه أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالما لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه .

الفائدة الثالثة : قوله " {أنعمت عليهم} " يتناول كل من كان للّه عليه نعمة وهذه النعمة

أما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين

فنقول : كل نعمة دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان

وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خاليا عن سائر النعم الدينية وهذا يدل على أن المراد من قوله " {أنعمت عليهم} " هو نعمة الإيمان فرجع حاصل القول في قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان وإذا ثبت هذا الأصل

فنقول : يتفرع عليه أحكام :

الحكم الأول : أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان ولفظ الآية صريح في أن اللّه تعالى هو المنعم بهذه النعمة ؛ ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو اللّه تعالى وذلك يدل على فساد قول المعتزلة ولأن الإيمان أعظم النعم فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام اللّه ولو كان كذلك لما حسن من اللّه أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم .

الحكم الثاني : يجب أن لا يبقى المؤمن مخلدا في النار لأن قوله : " {أنعمت عليهم} " مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من اللّه تعالى ذكره في معرض التعظيم .

الحكم الثالث : دلت الآية على أنه لا يجب علىاللّه رعاية الصلاح والأصلح في الدين لأنه لو كان الإرشاد واجبا على اللّه لم يكن ذلك إنعاما ؛ لأن أداء الواجب لا يكون إنعاما وحيث سماه اللّه تعالى إنعاما علمنا أنه غير واجب .

الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن اللّه تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعللّه عنه ؛ لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار فلما خص اللّه تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الإنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه .

الفصل التاسع في قوله تعالى غير المغضوب عليهم ولا الضالين وفيه فوائد

الفائدة الأولى : المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى : " {من لعنه اللّه وغضب عليه} " [ المائدة : ٦٠ ] والضالين : هم النصارى لقوله تعالى : " {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} " [ المائدة : ٧٧ ]

وقيل : هذا ضعيف ؛ لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى فكان الاحتراز عن دينهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل ويحتمل أن يقال : المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله : " {إن الذين كفروا} " [ البقرة : ٦ ] ثم أتبعه بذكر المنافقين وهوقوله : " {ومن الناس من يقول آمنا} " [ البقرة : ٨ ] فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : " {أنعمت عليهم} " ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله : " {غير المغضوب عليهم} " ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله : " {ولا الضالين} " .

الفائدة الثانية : لما حكم اللّه عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين وإلا لزم انقلاب خبر اللّه الصدق كذبا وذلك محال والمفضي إلى المحال محال .

الفائدة الثالثة : قوله {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} يدل على أن أحدا من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم اللّه عليهم ولا على اعتقاد الذين أنعم اللّه عليهم لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق لقوله تعالى : " {فماذا بعد الحق إلا الضلال} " [ يونس : ٣٢ ] ولو كانوا ضالين لماجاز الاقتداء بهم ولا الاقتداء بطريقهم ولكانوا خارجين عن قوله : {أنعمت عليهم} ولما كان ذلك باطلا علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام .

الفائدة الرابعة : الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام واعلم أن هذا على اللّه تعالى محال لكن ههنا قاعدة كلية وهي أن جميع الأعراض النفسانية - أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والغيرة والمكر والخداع والتكبر والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه فلفظ الغضب في حق اللّه تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار وأيضا الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس وله غرض وهو ترك الفعل فلفظ الحياء في حق اللّه يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب .

الفائدة الخامسة : قالت المعتزلة : غضب اللّه عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلما من اللّه تعالى وقال أصحابنا : لما ذكر غضب اللّه عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب اللّه عليهم علة لكونهم ضالين وحينئذ تكون صفة اللّه مؤثرة في صفة العبد

أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب اللّه عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة اللّه تعالى وذلك محال.

الفائدة السادسة : أول السورة مشتمل على الحمد للّه والثناء عليه والمدح له وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على اللّه تعالى ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن اللّه تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته .

الفائدة السابعة : دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق : أهل الطاعة وإليهم الإشارة بقوله : أنعمت عليهم وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم وأهل الجهل في دين اللّه والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين .

فإن قيل : لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة ؟

 قلنا : لأن كل واحد يحترز عن الكفر أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم .

الفائدة الثامنة : في الآية سؤال وهو أن غضب اللّه إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه فهذا العلم أما أن يقال إنه قديم أو محدث فإن كان هذا العلم قديما فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه؟

 وأما إن كان ذلك العلم حادثا كان الباري تعالى محلا للحوادث ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر ويتسلسل وهو محال وجوابه يفعل اللّه ما يشاء ويحكم ما يريد .

الفائدة التاسعة : في الآية سؤال آخر وهو أن من أنعم اللّه عليه امتنع أن يكون مغضوبا عليه وأن يكون من الضالين فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه غير المغضوب عليهم ولا الضالين ؟

 والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال عليه السلام : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا فقوله صراط الذين أنعمت عليهم يوجب الرجاء الكامل وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين يوجب الخوف الكامل وحينئذ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حد الكمال .

الفائدة العاشرة : في الآية سؤال آخر ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم اللّه عليهم والمردودين فريقين : المغضوب عليهم والضالين ؟

والجواب أن أن الذين كملت نعم اللّه عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فهؤلاء هم المرادون بقوله أنعمت عليهم فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى " {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه} " [ النساء : ٩٣ ] وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى " {فماذا بعد الحق إلا الضلال} " [ يونس : ٣٢ ] وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل واللّه أعلم .

القسم الثاني

الكلام في تفسير مجموع هذه السورة وفيه فصول

الفصل الأول في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة اعلم أن عالم الدنيا عالم الكدورة وعالم الآخرة عالم الصفا فالآخرة بالنسبة إلى الدنيا كالأصل بالنسبة إلى الفرع وكالجسم بالنسبة إلى الظل فكل ما في الدنيا فلا بد له في الآخرة من أصل وإلا كان كالسراب الباطل والخيال العاطل وكل ما في الآخرة فلا بد له في الدنيا من مثال وإلا لكان كالشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل فعالم الروحانيات عالم الأضواء والأنوار والبهجة والسرور واللذة والحبور ولا شك أن الروحانيات مختلفة بالكمال والنقصان ولا بد وأن يكون منها واحد هو أشرفها وأعلاها وأكملها وأبهاها ويكون ما سواه في طاعته وتحت أمره ونهيه كما قال : " {ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} " [ التكوير : ٢١ ] وأيضا فلا بد في الدنيا من شخص واحد هو أشرف أشخاص هذا العالم وأكملها وأعلاها وأبهاها ويكون كل ما سواه في هذا العالم تحت طاعته وأمره فالمطاع

الأول هو المطاع في عالم الروحانيات والمطاع

الثاني هو المطاع في عالم الجسمانيات فذاك مطاع العالم الأعلى وهذا مطاع العالم الأسفل .

ولما ذكرنا أن عالم الجسمانيات كالظل لعالم الروحانيات وكالأثر وجب أن يكون بين هذين المطاعين ملاقاة ومقارنة ومجانسة فالمطاع في عالم الأرواح هو المصدر والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر والمصدر هو الرسول الملكي والمظهر هو الرسول البشري وبهما يتم أمر السعادات في الآخرة وفي الدنيا .

وإذا عرفت هذا فنقول : كمال حال الرسول البشري إنما يظهر في الدعوة إلى اللّه وهذه الدعوة إنما تتم بأمور سبعة ذكرها اللّه تعالى في خاتمة سورة البقرة وهي قوله : " {والمؤمنون كل آمن باللّه - الآية} " [ البقرة : ٢٨٥ ] ويندرج في أحكام الرسل قوله : " {لا نفرق بين أحد من رسله} " [ البقرة : ٢٨٥ ] فهذه الأربعة متعلقة بمعرفة المبدأ وهي معرفة الربوبية ثم ذكر بعدها ما يتعلق بمعرفة العبودية وهو مبني على أمرين :

 أحدهما المبدأ

والثاني : الكمال .

فالمبدأ هو قوله تعالى : " {وقالوا سمعنا وأطعنا} " [ البقرة : ٢٨٥ ] لأن هذا المعنى لا بد منه لمن يريد الذهاب إلى اللّه

وأما الكمال فهو التوكل على اللّه والالتجاء بالكلية إليه وهو قوله : " {غفرانك ربنا} " [ البقرة : ٢٨٥ ] وهو قطع النظر عن الأعمال البشرية والطاعات الإنسانية والالتجاء بالكلية إلى اللّه تعالى وطلب الرحمة منه وطلب المغفرة ثم إذا تمت معرفة الربوبية بسبب معرفة الأصول الأربعة المذكورة وتمت معرفة العبودية بسبب معرفة هذين الأصلين المذكورين لم يبق بعد ذلك إلا الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب والاستعداد للذهاب إلى المعاد وهو المراد من قوله : " {وإليك المصير} " [ البقرة : ٢٨٥ ] ويظهر من هذا أن المراتب ثلاثة : المبدأ والوسط والمعاد .

أما المبدأ فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمور أربعة : وهي معرفة اللّه والملائكة والكتب والرسل

وأما الوسط فإنما يكمل معرفته بمعرفة أمرين سمعنا وأطعنا نصيب عالم الأجساد وغفرانك ربنا نصيب عالم الأرواح

وأما النهاية فهي إنما تتم بأمر واحد وهو قوله : وإليك المصير فابتداء الأمر أربعة وفي الوسط صار اثنين وفي النهاية صار واحدا .

ولما ثبتت هذه المراتب السبع في المعرفة تفرع عنها سبع مراتب في الدعاء والتضرع :

فأولها : قوله : " {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

وضد النسيان هو الذكر كما قال تعالى : " {يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكرا كثيرا} " [ الأحزاب : ٤١ ]

وقوله : " {واذكر ربك إذا نسيت} " [ الكهف : ٢٤ ]

وقوله " {تذكروا فإذا هم مبصرون} " [ الأعراف : ٢٠١ ]

وقوله : " {واذكر اسم ربك} " [ المزمل : ٨ ]

وهذا الذكر إنما يحصل بقوله بسم اللّه اللّه الرحمن الرحيم .

وثانيها : قوله : " {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

ودفع الإصر - والإصر هو الثقل - يوجب الحمد وذلك إنما يحصل بقوله الحمد للّه رب العالمين .

وثالثها : قوله : " {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

وذلك إشارة إلى كمال رحمته وذلك هو قوله الرحمن الرحيم .

ورابعها : قوله : " {واعف عنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين وهو قوله مالك يوم الدين .

وخامسها : قوله تعالى " {واغفر لنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

لأنا في الدنيا عبدناك واستعنا بك في كل المهمات وهو قوله إياك نعبد وإياك نستعين .

وسادسها : قوله : " {وارحمنا} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

لأنا طلبنا الهداية منك في قولنا اهدنا الصراط المستقيم .

وسابعها : قوله : " {أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} " [ البقرة : ٢٨٦ ]

وهو المراد من قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين .

فهذه المراتب السبع المذكورة في آخر سورة البقرة ذكرها محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت هذه الأنوار في عهد محمد عليه الصلاة والسلام من المصدر إلى المظهر فلهذا السبب قال عليه السلام : الصلاة معراج المؤمن .

الفصل الثاني في مداخل الشيطان اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة : الشهوة والغضب والهوى فالشهوة بهيمية والغضب سبعية والهوى شيطانية فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه فقوله تعالى : " {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء} " [ العنكبوت : ٤٥ ] المراد آثار الشهوة وقوله : ( والمنكر ) المراد منه آثار الغضب وقوله : " {والبغي} " [ العنكبوت : ٤٥ ] المراد منه آثار الهوى فبالشهوة يصير الإنسان ظالما لنفسه وبالغضب يصير ظالما لغيره وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال اللّه تعالى ولهذا قال عليه السلام : الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى اللّه أن يتركه .

فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك باللّه والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضا والظلم الذي عسى اللّه أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى ومنشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب ومنشأ الظلم الذي عسى اللّه أن يتركه هو الشهوة ثم لها نتائج : فالحرص والبخل نتيجة الشهوة والعجب والكبر نتيجة الغضب والكفر والبدعة نتيجة الهوى فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع - وهو الحسد - وهو نهاية الأخلاق الذميمة .

كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ولهذا السبب ختم اللّه مجامع الشرور الإنسانية بالحسد وهو قوله " {ومن شر حاسد إذا حسد} " [ الفلق : ٥ ] كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله : " {يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} " [ الناس : ٦ ] فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس بل قيل : الحاسد أشر من إبليس لأن إبليس روي أنه أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون من هذا ؟ فقال إبليس : لو كنت إلها لما جهلتني فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شرا مني ومنك قال نعم الحاسد وبالحسد وقعت في هذه المحنة .

إذا عرفت هذا فنقول : أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة والأولاد والنتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل اللّه تعالى سورة الفاتحة وهي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع وأيضا أصل سورة الفاتحة هو التسمية وفيها الأسماء الثلاثة وهي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة .

فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية والآيات السبع التي هي الفاتحة في مقابلة الأخلاق السبعة ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة .

أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة

فنقول : إن من عرف اللّه وعرف أنه لا إله إلا اللّه تباعد عنه الشيطان والهوى ؛ لأن الهوى إله سوى اللّه يعبد بدليل قوله تعالى : " {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} " [ الجاثية : ٢٣ ]

وقال تعالى لموسى : يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا الهوى ومن عرف أنه رحمن لا يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن لقوله تعالى : " {الملك يومئذ الحق للرحمن} " [ الفرقان : ٢٦ ] ومن عرف أنه رحيم وجب أن يتشبه به في كونه رحيما وإذا صار رحيما لم يظلم نفسه ولم يلطخها بالأفعال البهيمية .

وأما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع وقبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى وهي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة وذكر معها اسمين آخرين : وهما الرب والمالك ؛ فالرب قريب من الرحيم لقوله : " {سلام قولا من رب رحيم} " [ يس : ٥٨ ] والمالك قريب من الرحمن لقوله تعالى " {الملك يومئذ الحق للرحمن} " [ الفرقان : ٢٦ ] فحصلت هذه الأسماء الثلاثة : الرب والملك والإله فلهذا السبب ختم اللّه آخر سورة القرآن عليها والتقدير كأنه قيل : إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل " {أعوذ برب الناس} " [ الناس : ١ ] وإن أتاك من قبل الغضب فقل " {ملك الناس} " [ الناس : ٢ ] وإن أتاك من قبل الهوى فقل " {إله الناس} " [ الناس : ٣ ] .

ولنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة

فنقول : من قال الحمد للّه فقد شكر اللّه واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد فاندفعت عنه آفة الشهوة ولذاتها ومن عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن زال غضبه ومن قال إياك نعبد وإياك نستعين زال كبره بالأول وعجبه بالثاني فاندفعت عنه آفة الغضب بولديها فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى وإذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره وشبهته وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين اندفعت عنه بدعته فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة .

الفصل الثالث في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد اعلم أن قوله الحمد للّه إشارة إلى إثبات الصانع المختار وتقريره : أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال : ربي الذي يحيي ويميت وقال في موضع آخر : الذي خلقني فهو يهدين وقال موسى عليه السلام : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وقال في موضع آخر : ربكم ورب آبائكم الأولين وقال تعالى في أول سورة البقرة : " {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} " [ البقرة : ٢١ ] وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام : " {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق} " [ العلق : ١ ] فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيرا جدا .

واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم فهذه الحالة من حيث أنها تعرف العبد وجود الإله دليل ومن حيث أنها نفع عظيم وصل من اللّه إلى العبد إنعام فلا جرم هو دليل من وجه وإنعام من وجه والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاما كان يستحق هو الحمد وحدوث بدن الإنسان أيضا كذلك وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والأشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقصودات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقا للحمد والثناء فقوله : " {الحمد للّه} " يدل على وجود الصانع وعلى علمه وقدرته ورحمته وكمال حكمته وعلى كونه مستحقا للحمد والثناء والتعظيم فكان قوله الحمد للّه دالا على جملة هذه المعاني

وأما قوله : " {رب العالمين} " ؛ فهو يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه ولا معبود غيره

وأما قوله : " {الرحمن الرحيم} " فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت

وأما قوله : " {مالك يوم الدين} " فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحمانا رحيما إذا عرفت هذا ظهر أن قوله : " {الحمد للّه} " يدل على وجود الصانع المختار وقوله : " {رب العالمين} " يدل على وحدانيته

وقوله : " {الرحمن الرحيم} " يدل على رحمته في الدنيا والآخرة

وقوله : " {مالك يوم الدين} " يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية

أما قوله : " {إياك نعبد} " إلى آخر السورة ؛ فهو إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي محصورة في نوعين : الأعمال التي يأتي بها العبد والآثار المتفرعة على تلك الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان :

 أحدهما : إتيانه بالعبادة وإليه الإشارة بقوله : " {إياك نعبد} " .

والثاني : علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة اللّه وإليه الإشارة بقوله : " {وإياك نستعين} " وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر

وأما الآثار المتفرغة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي وإليه الإشارة بقوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف :

الطائفة الأولى : الكاملون المحقون المخلصون وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به وإليهم الإشارة بقوله : " {أنعمت عليهم} "

والطائفة الثانية : الذين أخلوا بالأعمال الصالحة وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله : " {غير المغضوب عليهم} "

والطائفة الثالثة : الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة وهم أهل البدع والكفر وإليهم الإشارة بقوله : " {ولا الضالين} " .

إذا عرفت هذا ؛ فنقول : استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين :

 أحدهما : أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال

والثاني : أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه وقوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " إشارة إلى القسم الأول وقوله : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " إشارة إلى القسم الثاني ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة وهم المغضوب عليهم أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة وهم الضالون وهذا آخر السورة وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية .

الفصل الرابع قال عليه السلام حكاية عن اللّه تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد : بسم اللّه الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى ذكرني عبدي وإذا قال الحمد للّه رب العالمين يقول اللّه حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه عظمني عبدي وإذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه مجدني عبدي وفي رواية أخرى فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد يقول اللّه عبدني عبدي وإذا قال وإياك نستعين يقول اللّه تعالى توكل علي عبدي وفي رواية أخرى فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين يقول اللّه تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول اللّه هذا لعبدي ولعبدي ما سأل .

فوائد هذا الحديث :

 الفائدة الأولى : قوله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق كما قال : " {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} " [ الإسراء : ٧ ] وذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية ؛ لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد كما قال " {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} " [ الذاريات : ٥٦ ]

وقال : " {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا} " [ الإنسان : ٢ ]

وقال : " {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} " [ البقرة : ٤٠ ] ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل اللّه هذه السورة على محمد عليه السلام وجعل النصف

الأول منها في معرفة الربوبية والنصف

الثاني منها في معرفة العبودية حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد .

الفائدة الثانية : اللّه تعالى سمى الفاتحة باسم الصلاة وهذا يدل على أحكام :

الحكم الأول : أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة وذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة كما يقوله أصحابنا ويتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى :

 أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى " {فاتبعوه} " [ الأنعام : ١٥٣ ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : صلوا كما رأتيموني أصلي .

وثانيها : أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي .

وثالثها : أن جميع المسلمين شرقا وغربا لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى : " {ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم} " [ النساء : ١١٥ ]

ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب

وخامسها : قوله تعالى : " {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} " [ المزمل : ٢٠ ] وقوله فاقرؤا أمر وظاهره الوجوب فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة وقراءة غير الفاتحة ليست واجبة فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملا بظاهر الأمر

وسادسها أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها لقوله عليه السلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك

وسابعها : أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرما لقوله تعالى " {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} " [ النور : ٦٣ ]

وثامنها : أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل وأكمل من قراءة غيرها إذا ثبت هذا

فنقول : التكليف كان متوجها على العبد بإقامة الصلاة والأصل في الثابت البقاء حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة وقد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة ولا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة

وتاسعها : أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب لقوله تعالى : " {وأقم الصلاة لذكري} " [ طه : ١٤ ] وهذه السورة مع كونها مختصرة جامعة لمقامات الربوبية والعبودية والمقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف ولهذا السبب جعل اللّه هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله : " {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} " [ الحجر : ٨٧ ] فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها البتة .

وعاشرها : أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة .

الفائدة الثالثة : أنه قال : إذا قال العبد بسم اللّه الرحمن الرحيم يقول اللّه تعالى ذكرني عبدي وفيه أحكام :

 أحدها : أنه تعالى قال : " {فاذكروني أذكركم} " [ البقرة : ١٥٢ ] فههنا لما أقدم العبد على ذكر اللّه لا جرم ذكره تعالى في ملأ خير من ملئه .

وثانيها : أن هذا يدل على أن مقام الذكر مقام عال شريف في العبودية لأنه وقع الابتداء به ومما يدل على كماله أنه تعالى أمر بالذكر فقال " {اذكروني أذكركم} " [ البقرة : ١٥٢ ]

ثم قال " {يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكرا كثيرا} " [ الأحزاب : ٤١ ]

ثم قال : " {الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم} " [ آل عمران : ١٩١ ]

ثم قال " {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} " [ الأعراف : ٢٠١ ]

فلم يبالغ في تقرير شيء من مقامات العبودية مثل ما بالغ في تقرير مقام الذكر .

وثالثها : أن قوله ذكرني عبدي يدل على أن قولنا اللّه اسم علم لذاته المخصوصة إذ لو كان اسما مشتقا لكان مفهومه مفهوما كليا ولو كان كذلك لما صارت ذاته المخصوصة المعينة مذكورة بهذا اللفظ فظاهر أن لفظي الرحمن الرحيم لفظان كليان فثبت أن قوله ذكرني عبدي يدل على أن قولنا اللّه اسم علم

أما قوله وإذا قال الحمد للّه يقول اللّه تعالى حمدني عبدي فهذا يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر ويدل عليه أن أول كلام ذكر في أول خلق العالم هو الحمد بدليل قول الملائكة قبل خلق آدم : " {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} " [ البقرة : ٣٠ ] وآخر كلام يذكر بعد فناء العالم هو الحمد أيضا بدليل قوله تعالى في صفة أهل الجنة : " {وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ] والعقل أيضا يدل عليه ؛ لأن الفكر في ذات اللّه غير ممكن لقوله عليه الصلاة والسلام تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ولأن الفكر في الشيء مسبوق بسبق تصوره وتصور كنه حقيقة الحق غير ممكن فالفكر فيه غير ممكن فعلى هذا الفكر لا يمكن إلا في أفعاله ومخلوقاته ثم ثبت بالدليل أن الخير مطلوب بالذات والشر بالعرض فكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فلا جرم كان اشتغاله بالحمد والشكر أكثر فلهذا قال : الحمد للّه رب العالمين وعند هذا يقول : حمدني عبدي فشهد الحق سبحانه بوقوف العبد بعقله وفكره على وجود فضله وإحسانه في ترتيب العالم الأعلى والعالم الأسفل وعلى أن لسانه صار موافقا لعقله ومطابقا له وإن غرق في بحر الإيمان به والإقرار بكرمه بقلبه ولسانه وعقله وبيانه فما أجل هذه الحالة .

وأما قوله وإذا قال الرحمن الرحيم يقول اللّه عظمني عبدي فلقائل أن يقول : إنه لما قال بسم اللّه الرحمن الرحيم فقد ذكر الرحمن الرحيم وهناك لم يقل اللّه عظمني عبدي وههنا لما قال الرحمن الرحيم قال عظمني عبدي فما الفرق ؟ وجوابه أن قوله الحمد للّه دل على إقرار العبد بكماله في ذاته وبكونه مكملا لغيره ثم قال بعده : رب العالمين وهذا يدل على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره واحد ليس له شريك فلما قال بعده الرحمن الرحيم دل ذلك على أن الإله الكامل في ذاته المكمل لغيره المنزه عن الشريك والنظير والمثل والضد والند في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام فلهذا السبب قال اللّه تعالى ههنا : عظمني عبدي .

وأما قوله وإذا قال مالك يوم الدين يقول اللّه مجدني عبدي أي : نزهني وقدسني عما لا ينبغي - فتقريره أنا نرى في دار الدنيا كون الظالمين متسلطين على المظلومين وكون الأقوياء مستولين على الضعفاء ونرى العالم الزاهد الكامل في أضيق العيش ونرى الكافر الفاسق في أعظم أنواع الراحة والغبطة وهذا العمل لا يليق برحمة أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين فلو لم يحصل المعاد والبعث والحشر حتى ينتصف اللّه فيه للمظلومين من الظالمين ويوصل إلى أهل الطاعة الثواب وإلى أهل الكفر العقاب لكان هذه الإهمال والإمهال ظلما من اللّه على العباد أما لما حصل يوم الجزاء ويوم الدين اندفع وهم الظلم فلهذا السبب قال اللّه تعالى : " {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} " [ النجم : ٣١ ] وهذا هو المراد من قوله تعالى : مجدني عبدي الذي نزهني عن الظلم وعن شيمه .

وأما قوله : وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال اللّه هذا بيني وبين عبدي فهو إشارة إلى سر مسألة الجبر والقدر فإن قوله إياك نعبد معناه إخبار العبد عن إقدامه على عمل الطاعة والعبادة ثم جاء بحث الجبر والقدر : وهو أنه مستقل بالإتيان بذلك العمل أو غير مستقل به والحق أنه غير مستقل به وذلك لأن قدرة العبد

أما أن تكون صالحة للفعل والترك

وأما أن لا تكون كذلك : فإن كان الحق هو الأول امتنع أن تصير تلك القدرة مصدرا للفعل دون الترك إلا لمرجح وذلك المرجح إن كان من العبد عاد البحث فيه وإن لم يكن من العبد فهو من اللّه تعالى فخلق تلك الداعية الخالصة عن المعارض هو الإعانة وهو المراد من قوله وإياك نستعين وهو المراد من قولنا ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا أي : لا تخلق في قلوبنا داعية تدعونا إلى العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة وهب لنا من لدنك رحمة وهذه الرحمة خلق الداعية التي تدعونا إلى الأعمال الصالحة والعقائد الحقة فهذا هو المراد من الإعانة والاستعانة وكل من لم يقل بهذا القول لم يفهم البتة معنى قوله " {إياك نعبد وإياك نستعين} " وإذا ثبت هذا ظهر صحة قوله تعالى : هذا بيني وبين عبدي

أما الذي منه فهو خلق الداعية الجازمة

وأما الذي من العبد فهو أن عند حصول مجموع القدرة والداعية يصدر الأثر عنه وهذا كلام دقيق لا بد من التأمل فيه .

وأما قوله وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم يقول اللّه تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وتقريره أنا نرى أهل العلم مختلفين في النفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية وفي جميع مسائل النبوات وفي جميع مسائل المعاد والشبهات غالبة والظلمات مستولية ولم يصل إلى كنه الحق إلا القليل القليل من الكثير الكثير وقد حصلت هذه الحالة مع استواء الكل في العقول والأفكار والبحث الكثير والتأمل الشديد ؛ فلولا هداية اللّه تعالى وإعانته وأنه يزين الحق في عين عقل الطالب ويقبح الباطل في عينه كما قال " {ولكن اللّه حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} " [ الحجرات : ٧ ] وإلا لامتنع وصول أحد إلى الحق فقوله " {اهدنا الصراط المستقيم} " إشارة إلى هذه الحالة ويدل عليه أيضا أن المبطل لا يرضى بالباطل وإنما طلب الاعتقاد الحق والدين المتين والقول الصحيح فلو كان الأمر باختياره لوجب أن لا يقع أحد في الخطأ ؛ ولما رأينا الأكثرين غرقوا في بحر الضلالات علمنا أن الوصول إلى الحق ليس إلا بهداية اللّه تعالى ومما يقوي ذلك أن كل الملائكة والأنبياء أطبقوا على ذلك

أما الملائكة فقالوا : " {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} " [ البقرة : ٣٢ ]

وقال آدم عليه السلام : " {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} " [ الأعراف : ٢٣ ]

وقال إبراهيم عليه السلام : " {لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} " [ الأنعام : ٧٧ ]

وقال يوسف عليه السلام " {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} " [ يوسف : ١٠١ ]

وقال موسى عليه السلام : " {رب اشرح لي صدري - الآية} " [ طه : ٢٥ ]

وقال محمد عليه السلام : " {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} " [ آل عمران : ٨ ] فهذا هو الكلام في لطائف هذا الخبر والذي تركناه أكثر مما ذكرناه .

الفائدة الرابعة : من فوائد هذا الخبر : أن آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة أيضا في الصلاة سبعة وهي : القيام والركوع والانتصاب والسجود

الأول : والانتصاب فيه والسجود

الثاني والقعدة فصار عدد آيات الفاتحة مساويا لعدد هذه الأعمال فصارت هذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح والكمال إنما يحصل عند اتصال الروح بالجسد فقوله : " {بسم اللّه الرحمن الرحيم} " بإزاء القيام ألا ترى أن الباء في بسم اللّه لما اتصل باسم اللّه بقي قائما مرتفعا وأيضا فالتسمية لبداية الأمور قال عليه الصلاة والسلام : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر وقال تعالى : " {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} " [ الأعلى : ١٤ ] وأيضا القيام لبداية الأعمال فحصلت المناسبة بين التسمية وبين القيام من هذه الوجوه وقوله تعالى : " {الحمد للّه رب العالمين} " بإزاء الركوع وذلك لأن العبد في مقام التحميد ناظر إلى الحق وإلى الخلق ؛ لأن التحميد عبارة عن الثناء بسبب الإنعام الصادر منه والعبد في هذا المقام ناظر إلى المنعم وإلى النعمة فهو حالة متوسطة بين الإعراض وبين الاستغراق والركوع حالة متوسطة بين القيام وبين السجود وأيضا الحمد يدل على النعم الكثيرة والنعم الكثيرة مما تثقل ظهره فينحني ظهره للركوع وقوله : " {الرحمن الرحيم} " مناسب للانتصاب لأن العبد لما تضرع إلى اللّه في الركوع فيليق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولذلك قال عليه السلام : إذا قال العبد سمع اللّه لمن حمده نظر اللّه إليه بالرحمة وقوله : " {مالك يوم الدين} " مناسب للسجدة الأولى ؛ لأن قولك مالك يوم الدين يدل على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد فيليق به الإتيان بغاية الخضوع والخشوع وهو السجدة .

وقوله : " {إياك نعبد وإياك نستعين} " مناسب للقعدة بين السجدتين لأن قوله إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت وقوله وإياك نستعين استعانة باللّه في أن يوفقه للسجدة الثانية

وأما قوله : " {اهدنا الصراط المستقيم} " فهو سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية الدالة على نهاية الخضوع .

وأما قوله : " {صراط الذين أنعمت عليهم - إلى آخره} " فهو مناسب للقعدة وذلك لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابل اللّه تواضعه بالإكرام وهو أن أمره بالقعود بين يديه وذلك إنعام عظيم من اللّه على العبد فهو شديد المناسبة لقوله أنعمت عليهم وأيضا أن محمدا عليه السلام لما أنعم اللّه عليه بأن رفعه إلى قاب قوسين قال عند ذلك : التحيات المباركات الصلوات الطيبات للّه والصلاة معراج المؤمن فلما وصل المؤمن في معراجه إلى غاية الإكرام - وهي أن جلس بين يدي اللّه - وجب أن يقرأ الكلمات التي ذكرها محمد عليه السلام فهو أيضا يقرأ التحيات ويصير هذا كالتنبيه على أن هذا المعراج الذي حصل له شعلة من شمس معراج محمد عليه السلام وقطرة من بحره وهو تحقيق قوله " {فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين - الآية} " [ النساء : ٦٩ ] .

واعلم أن آيات الفاتحة وهي سبع صارت كالروح لهذه الأعمال السبعة وهذه الأعمال السبعة صارت كالروح للمراتب السبعة المذكورة في خلقة الإنسان وهي قوله : " {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} " [ المؤمنون : ١٢ ] إلى قوله : " {فتبارك اللّه أحسن الخالقين} " [ المؤمنون : ١٤ ] وعند هذا ينكشف أن مراتب الأجساد كثيرة ومراتب الأرواح كثيرة وروح الأرواح ونور الأنوار هو اللّه تعالى كما قال سبحانه وتعالى : " {وأن إلى ربك المنتهى} " [ النجم : ٤٢ ] .

الفصل الخامس

في الصلاة معراج العارفين اعلم أنه كان لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معراجان :

 أحدهما من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

والآخر من الأقصى إلى أعالي ملكوت اللّه تعالى فهذا ما يتعلق بالظاهر

وأما ما يتعلق بعالم الأرواح فله معراجان :

 أحدهما : من عالم الشهادة إلى عالم الغيب .

والثاني : من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهما بمنزلة قاب قوسين متلاصقين فتخطاهما محمد عليه السلام وهو المراد من قوله تعالى : " {فكان قاب قوسين أو أدنى} " [ النجم : ٩ ] وقوله أو أدنى إشارة إلى فنائه في نفسه

أما الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فاعلم أن كل ما يتعلق بالجسم والجسمانيات فهو من عالم الشهادة لأنك تشاهد هذه الأشياء ببصرك فانتقال الروح من عالم الأجساد إلى عالم الأرواح هو السفر من عالم الشهادة إلى عالم الغيب

وأما عالم الأرواح فعالم لا نهاية له وذلك لأن آخر مراتب الأرواح هو الأرواح البشرية ثم تترقى في معارج الكمالات ومصاعد السعادات حتى تصل إلى الأرواح المتعلقة بسماء الدنيا ثم تصير أعلى وهي أرواح السماء الثانية وهكذا حتى تصل إلى الأرواح الذين هم سكان درجات الكرسي وهي أيضا متفاوتة في الاستعلاء ثم تصير أعلى وهم الملائكة المشار إليهم بقوله تعالى : " {وترى الملائكة حافين من حول العرش} " [ الزمر : ٧٥ ]

ثم تصير أعلى وأعظم وهم المشار إليهم بقوله تعالى : " {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} " [ الحاقة : ١٧ ]

وفي عدد الثمانية أسرار لا يجوز ذكرها ههنا ثم تترقى فتنتهي إلى الأرواح المقدسة عن التعلقات بالأجسام وهم الذين طعامهم ذكر اللّه وشرابهم محبة اللّه وأنسهم بالثناء على اللّه ولذتهم في خدمة اللّه وإليهم الإشارة بقوله : " {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} "

وبقوله : " {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} " [ الأنبياء : ٢٠ ] ثم لهم أيضا درجات متفاوته ومراتب متباعدة والعقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بأحوالها والوقوف على شرح صفاتها ولا يزال هذا الترقي والتصاعد حاصلا كما قال تعالى : " {وفوق كل ذي علم عليم} " [ يوسف : ٧٦ ] إلى أن ينتهي الأمر إلى نور الأنوار ومسبب الأسباب ومبدأ الكل وينبوع الرحمة ومبدأ الخير وهو اللّه تعالى فثبت أن عالم الأرواح هو عالم الغيب وحضرة جلال الربوبية هي غيب الغيب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام إن للّه سبعين حجابا من النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك البصر وتقدير عدد تلك الحجب بالسبعين مما لا يعرف إلا بنور النبوة .

فقد ظهر بما ذكرنا أن المعراج على قسمين :

أولهما : المعراج من عالم الشهادة إلى عالم الغيب

والثاني : المعراج من عالم الغيب إلى عالم غيب الغيب وهذه كلمات برهانية يقينية حقيقية .

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى المقصود

فنقول : إن محمدا عليه السلام لما وصل إلى المعراج وأراد أن يرجع قال : يا رب العزة إن المسافر إذا أراد أن يعود إلى وطنه احتاج إلى محمولات يتحف بها أصحابه وأحبابه فقيل له : إن تحفة أمتك الصلاة وذلك لأنها جامعة بين المعراج الجسماني وبين المعراج الروحاني :

أما الجسماني فبالأفعال

وأما الروحاني فبالأذكار فإذا أردت أيها العبد الشروع في هذا المعراج فتطهر أولا لأن المقام مقام القدس فليكن ثوبك طاهرا وبدنك طاهرا لأنك بالوادي المقدس طوى وأيضا فعندك ملك وشيطان فانظر أيهما تصاحب ؛ ودين ودنيا فانظر أيهما تصاحب ؛ وعقل وهوى فانظر أيهما تصاحب ؛ وخير وشر وصدق وكذب وحق وباطل وحلم وطيش وقناعة وحرص ؛ وكذا القول في كل الأخلاق المتضدة والصفات المتنافية فانظر أنك تصاحب أي الطرفين وتوافق أي الجانبين فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ألا ترى أن الصديق اختار صحبة محمد عليه السلام فلزمه في الدنيا وفي القبر وفي القيامة وفي الجنة وأن كلبا صحب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا وفي الآخرة ولهذا السر قال تعالى " {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين} " [ التوبة : ١١٩ ] ثم إذا تطهرت فارفع يديك وذلك الرفع إشارة إلى توديع عالم الدنيا وعالم الآخرة فاقطع نظرك عنهما بالكلية ووجه قلبك وروحك وسرك وعقلك وفهمك وذكرك وفكرك إلى اللّه ثم قل : اللّه أكبر والمعنى أنه أكبر من كل الموجودات وأعلى وأعظم واعز من كل المعلومات بل هو أكبر من أن يقاس إليه شيء أو يقال إنه أكبر ثم قل : سبحانك اللّهم وبحمدك وفي هذا المقام تجلى لك نور سبحات الجلال ثم ترقيت من التسبيح إلى التحميد ثم قل : تبارك اسمك وفي هذا المقام انكشف لك نور الأزل والأبد لأن قوله تبارك إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام وذلك يتعلق بمطالعة حقيقة الأزل في العدم ومطالعة حقيقة الأبد في البقاء ثم قل : وتعالى جدك وهو إشارة إلى إنه أعلم وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ثم قل : ولا إله غيرك وهو إشارة إلى أن كل صفات الجلال وسمات الكمال له لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو والمقدس الذي لا مقدس إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ولا إله إلا هو والعقل ههنا ينقطع واللسان يعتقل والفهم يتبلد والخيال يتحير والعقل يصير كالزمن ثم عد إلى نفسك وحالك وقل : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض فقولك سبحانك اللّهم وبحمدك معراج الملائكة المقربين وهو المذكور في قوله : " {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} " [ البقرة : ٣٠ ] وهو أيضا معراج محمد عليه السلام لأن معراجه مفتتح بقوله سبحانك اللّهم وبحمدك

وأما قولك وجهت وجهي فهو معراج إبراهيم الخليل عليه السلام وقولك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه فهو معراج محمد الحبيب عليه السلام فإذا قرأت هذين الذكرين فقد جمعت بين معراج أكابر الملائكة المقربين وبين معراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم لتدفع ضرر العجب من نفسك .

واعلم أن للجنة ثمانية أبواب

ففي هذا المقام انفتح لك باب من أبواب الجنة وهو باب المعرفة

والباب الثاني هو باب الذكر وهو قولك بسم اللّه الرحمن الرحيم

والباب الثالث باب الشكر وهو قولك الحمد للّه رب العالمين

والباب الرابع الرجاء وهو قولك الرحمن الرحيم

والباب الخامس باب الخوف وهو قولك مالك يوم الدين

والباب السادس باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وهو قولك إياك نعبد وإياك نستعين

والباب السابع باب الدعاء والتضرع كما قال : " {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} " [ النمل : ٦٢ ] وقال : " {ادعوني أستجب لكم} " [ غافر : ٦٠ ] وهو ههنا قولك اهدنا الصراط المستقيم

والباب الثامن باب الاقتداء بالأرواح الطيبة الطاهرة والاهتداء بأنوارهم وهو قولك صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وبهذا الطريق إذا قرأت هذه السورة ووقفت على أسرارها انفتحت لك ثمانية أبواب الجنة وهو المراد من قوله تعالى : " {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} " [ ص : ٥٠ ] فجنات المعارف الربانية انفتحت أبوابها بهذه المقاليد الروحانية فهذا هو الإشارة إلى ما حصل في الصلاة من المعراج الروحاني .

وأما المعراج الجسماني فالمرتبة الأولى أن تقوم بين يدي اللّه مثل قيام أصحاب الكهف وهو قوله تعالى : " {إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض} " [ الكهف : ١٤ ] بل قم قيام أهل القيامة وهو قوله تعالى : " {يوم يقوم الناس لرب العالمين} " [ المطففين : ٦ ] ثم اقرأ سبحانك اللّهم وبعده وجهت وجهي وبعده الفاتحة وبعدها ما تيسر لك من القرآن واجتهد في أن تنظر من اللّه إلى عبادتك حتى تستحقرها وإياك أن تنظر من عبادتك إلى اللّه فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله إياك نعبد وإياك نستعين .

واعلم أن النفس الآن جارية مجرى خشبة عرضتها على نار خوف الجلال فلانت فاجعلها محنية بالركوع فقل : سمع اللّه لمن حمده ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة اللّه فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بنهاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل : سبحان ربي الأعلى فإذا أتيت بالسجدة الثانية فقد حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة : الركوع الواحد والسجودان وبها تنجو من العقبات الثلاث المهلكة فبالركوع تنجو عن عقبة الشهوات وبالسجود

الأول تنجو عن عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات وبالسجود

الثاني تنجو عن عقبة الهوى الذي هو الداعي إلى كل المهلكات والمضلات فإذا تجاوزت هذه العقبات وتخلصت عن هذه الدركات فقد وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات وانتهيت إلى عتبة جلال مدبر الأرض والسموات فقل عند ذلك التحيات المباركات الصلوات الطيبات للّه فالتحيات المباركات باللسان والصلوات بالأركان والطيبات بالجنان وقوة الإيمان ثم في هذا المقام يصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى اللّه عليه وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والراحة والريحان فلا بد لروح محمد عليه الصلاة والسلام من محمدة وتحية فقل : السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته فعند ذلك يقول محمد عليه الصلاة والسلام : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين وكانه قيل لك فهذه الخيرات والبركات بأي وسيلة وجدتها ؟ وبأي طريق وصلت إليها ؟ فقل بقولي : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه فقيل لك إن محمدا هو الذي هداك إليه فأي شيء هديتك له ؟

فقل : اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد فقيل لك : إن إبراهيم هو الذي طلب من اللّه أن يرسل إليك مثل هذا الرسول فقال " {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} " [ البقرة : ١٢٩ ] فما جزاؤك له ؟ فقل : كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فيقال لك : فكل هذه الخيرات من محمد أو من إبراهيم أو من اللّه ؟ فقل : بل من الحميد المجيد إنك حميد مجيد .

ثم إن العبد إذا ذكر اللّه بهذه الأثنية والمدائح ذكره اللّه تعالى في محافل الملائكة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن اللّه عز وجل إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى هذا العبد فقال اللّه : إن ملائكة السموات اشتاقوا إلى زيارتك وأحبوا القرب منك وقد جاؤك فأبدأ بالسلام عليهم لتحصل لك فيه مرتبة السابقين فيقول العبد عن يمينه وعن شماله : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فلا جرم أنه إذا دخل الجنة الملائكة يدخلون عليه من كل باب فيقولون : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار .

الفصل السادس في الكبرياء والعظمة أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان :

أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له والخلاء الذي لا غاية له

وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل فالأول والآخر صفة الزمان والظاهر والباطن صفة المكان وكمال هذه الأربعة الرحمن الرحيم فالحق سبحانه وسع المكان ظاهرا وباطنا ووسع الزمان أولا وآخرا وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزها عن المكان والزمان .

إذا عرفت هذا فنقول : الحق سبحانه وتعالى له عرش وكرسي فعقد المكان بالكرسي فقال : " {وسع كرسيه السموات والأرض} " [ البقرة : ٢٥٥ ] وعقد الزمان بالعرش فقال : " {وكان عرشه على الماء} " [ هود : ٧ ] لأن جري الزمان يشبه جري الماء فلا مكان وراء الكرسي ولا زمان وراء العرش فالعلو صفة الكرسي وهو قوله : " {وسع كرسيه السموات والأرض} " [ البقرة : ٢٥٥ ] والعظمة صفة العرش وهو قوله : " {فقل حسبي اللّه لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} " [ التوبة : ١٢٩ ] وكمال العلو والعظمة للّه كما قال : " {ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} " [ البقرة : ٢٥٥ ] .

واعلم أن العلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن درجة العظمة أكمل وأقوى من درجة العلو وفوقهما درجة الكبرياء قال تعالى : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ولا شك أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع هذه الصفات بالرتبة والشرف صفة الجلال وهي تقدسه في حقيقته المخصوصة وهويته المعينة عن مناسبة شيء من الممكنات وهو لتلك الهوية المخصوصة استحق صفة الإلهية فلهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام : ألظوا بياذا الجلال والإكرام وقال : " {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} " [ الرحمن : ٢٧ ] وقال : " {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} " [ الرحمن : ٧٨ ]

إذا عرفت هذا الأصل فاعلم أن المصلي إذا قصد الصلاة صار من جملة من قال اللّه في صفتهم : " {يريدون وجهه} " [ الكهف : ٢٨ ]

ومن أراد الدخول على السلطان العظيم وجب عليه أن يطهر نفسه من الأدناس والأنجاس ولهذا التطهير مراتب :

المرتبة الأولى : التطهير من دنس الذنوب بالتوبة كما قال تعالى : " {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحا} " [ التحريم : ٨ ]

ومن كان في مقام الزهد كانت طهارته من الدنيا حلالها وحرامها ومن كان في مقام الإخلاص كانت طهارته من الالتفات إلى أعماله ومن كان في مقام المحسنين كانت طهارته من الالتفات إلى حسناته ومن كان في مقام الصديقين كانت طهارته من كل ما سوى اللّه وبالجملة فالمقامات كثيرة والدرجات متفاوته كأنها غير متناهية كما قال تعالى " {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه} " [ الروم : ٣٠ ]

فإذا أردت أن تكون من جملة من قال اللّه فيهم : " {يريدون وجهه} " [ الكهف : ٢٨ ]

فقم قائما واستحضر في نفسك جميع مخلوقات اللّه تعالى من عالم الأجسام والأرواح وذلك بان تبتدئ من نفسك وتستحضر في عقلك جملة أعضائك البسيطة والمركبة وجميع قواك الطبيعية والحيوانية والإنسانية ثم استحضر في عقلك جملة ما في هذا العالم من أنواع المعادن والنبات والحيوان من الإنسان وغيره ثم ضم إليه البحار والجبال والتلال والمفاوز وجملة ما فيها من عجائب النبات والحيوان وذرات البهاء ثم ترق منها إلى سماء الدنيا على عظمها واتساعها ثم لا تزال ترقى من سماء إلى سماء حتى تصل إلى سدرة المنتهى والرفرف واللوح والقلم والجنة والنار والكرسي والعرش العظيم ثم انتقل من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح واستحضر في عقلك جميع الأرواح الأرضية السفلية البشرية وغير البشرية واستحضر جميع الأرواح المتعلقة بالجبال والبحار مثل ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عن ملك الجبال وملك البحار ثم استحضر ملائكة سماء الدنيا وملائكة جميع السموات السبع كما قال عليه الصلاة والسلام ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد واستحضر جميع الملائكة الحافين حول العرش وجميع حملة العرش والكرسي ثم انتقل منها إلى ما هو خارج هذا العالم كما قال تعالى : " {وما يعلم جنود ربك إلا هو} " [ المدثر : ٣١ ] فإذا استحضرت جميع هذه الأقسام من الروحانيات والجسمانيات فقل : اللّه أكبر وتريد بقولك اللّه الذات التي حصل بإيجادها وجود هذه الأشياء وحصلت لها كمالاتها في صفاتها وأفعالها وتريد بقولك أكبر أنه منزه عن مشابهتها ومشاكلتها بل هو منزه عن أن يحكم العقل بجواز مقايسته بها ومناسبته إليها فهذا هو المراد من قوله في أول الصلاة اللّه أكبر .

والوجه الثاني : في تفسير هذا التكبير : أنه عليه الصلاة والسلام قال : الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فتقول : اللّه أكبر من أن لا يراني ومن أن لا يسمع كلامي .

والوجه الثالث : أن يكون المعنى اللّه أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأوهامهم وأفهامهم قال علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه : التوحيد أن لا تتوهمه .

الوجه الرابع : أن يكون المعنى اللّه أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فطاعاتهم قاصرة عن خدمته وثناؤهم قاصر عن كبريائه وعلومهم قاصرة عن كنه صمديته .

واعلم أيها العبد أنك لو بلغت إلى أن يحيط عقلك بجميع عجائب عالم الأجسام والأرواح فإياك أن تحدثك نفسك بأنك بلغت مبادئ ميادين جلال اللّه فضلا عن أن تبلغ الغور والمنتهى ونعم ما قال الشاعر :

( أساميا لم تزده معرفة وإنما لذة ذكرناها )

ومن دعوات رسول اللّه عليه السلام وثنائه على اللّه : لا ينالك غوص الفكر ولا ينتهي إليك نظر ناظر ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك .

وإذا قلت اللّه أكبر فاجعل عين عقلك في آفاق جلال اللّه وقل سبحانك اللّهم وبحمدك ثم قل وجهت وجهي ثم انتقل منها إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لك تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة وتطالع فيها أنوار أسماء اللّه الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والمذاهب الماضية وأسرار الكتب الإلهية والشرائع النبوية وتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلى الحقيقة وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين ودركات الملعونين والمردودين والضالين فإذا قلت بسم اللّه الرحمن الرحيم فأبصر به الدنيا إذ باسمه قامت السموات والأرضون وإذا قلت الحمد للّه رب العالمين أبصرت به الآخرة إذ بكلمة الحمد قامت الآخرة كما قال : " {وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ] وإذا قلت الرحمن الرحيم فأبصر به عالم الجمال وهو الرحمة والفضل والإحسان وإذا قلت مالك يوم الدين فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال وإذا قلت إياك نعبد فابصر به عالم الشريعة وإذا قلت وإياك نستعين فأبصر به الطريقة وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم فأبصر به الحقيقة وإذا قلت صراط الذي أنعمت عليهم فابصر به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وإذا قلت غير المغضوب عليهم فابصر به مراتب فساق أهل الآفاق وإذا قلت ولا الضالين فأبصر به دركات أهل الكفر والشقاق والخزي والنفاق على كثرة درجاتها وتباين أطرافها وأكنافها .

ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية والمراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور والغاية بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالذلة والمسكنة وقل : اللّه أكبر ثم انزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة فقل : سبحان ربي العظيم وإن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش ولا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش وإن بقي إلى آخر أيام العالم ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة اللّه كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة اللّه ؟ ثم ههنا سر عجيب وهو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم وإنما جاء سبحان ربي العظيم وما جاء سبحان ربي العالي وإنما جاء سبحان ربي الأعلى ولهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها فإذا ركعت وقلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانيا وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل : سمع اللّه لمن حمده فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك وهو المراد من قوله عليه السلام لا يزال اللّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم .

فإن قيل : ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير ؟

قلنا : لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء وهو مقام الهيبة والخوف وهذا المقام مقام الشفاعة وهما متباينان .

ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير وانحدر به إلى صفة العلو وقل سبحان ربي الأعلى وذلك لأن السجود أكثر تواضعا من الركوع لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة – وهو الأعلى - والذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة روي أن للّه تعالى ملكا تحت العرش اسمه حزقيل أوحى اللّه إليه : أيها الملك ! طر فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى اللّه إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش فقال الملك عند ذلك : سبحان ربي الأعلى.

فإن قيل : فما الحكمة في السجدتين ؟

قلنا : فيه وجوه :

 الأول : أن السجدة الأولى للأزل والثانية للأبد والارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل والأبد وذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له وتعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانيا

الثاني : قيل : اعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة وبالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال اللّه

الثالث : السجدة الأولى فناء الكل في نفسها والسجدة الثانية : بقاء الكل بإبقاء اللّه تعالى : " {كل شيء هالك إلا وجهه} " [ القصص : ٨٨ ]

الرابع : السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة اللّه والسجدة الثانية تدل على انقياد عالم الأرواح للّه تعالى كما قال : " {ألا له الخلق والأمر} " [ الأعراف : ٥٤ ]

والخامس : السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته والسجدة الثانية سجدة العجز والخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله وكبريائه .

واعلم أن الناس يفهمون من العظمة كبر الجثة ويفهمون من العلو علو الجهة ويفهمون من الكبر طول المدة وجل الحق سبحانه عن هذه الأوهام فهو عظيم لا بالجثة عال لا بالجهة كبير لا بالمدة وكيف يقال ذلك وهو فرد أحد فكيف يكون عظيما بالجثة وهو منزه عن الحجمية وكيف يكون عاليا بالجهة وهو منزه عن الجهة ؟ وكيف يكون كبيرا بالمدة والمدة متغيرة من ساعة إلى ساعة ؛ فهي محدثة فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيرا بالمدة ؟ فهو تعالى عال على المكان لا بالمكان وسابق على الزمان لا بالزمان فكبرياؤه كبرياء عظمة وعظمته عظمة علو وعلوه علو جلال فهو أجل من أن يشابه المحسوسات ويناسب المخيلات وهو أكبر مما يتوهمه المتوهمون وأعظم مما يصفه الواصفون وأعلى مما يمجده الممجدون فإذا صور لك حسك مثالا ؛ فقل : اللّه أكبر وإذا عين خيالك صورة ؛ فقل : سبحانك اللّه وبحمدك وإذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل ؛ فقل : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض وإذا جال روحك في ميادين العزة والجلال ثم ترقى إلى الصفات العلى والأسماء الحسنى وطالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشا وسكن عند سماع تسبيحات المقربين وتنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه رب العالمين} " [ الصافات : ١٨٠ ] .

الفصل السابع في لطائف قوله الحمد للّه وفوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة أما لطائف قوله الحمد للّه فأربع نكت :

النكتة الأولى : روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه وقال : يا رب ما جزاء من حمدك فقال : الحمد للّه ؟ فقال تعالى : الحمد للّه فاتحة الشكر وخاتمته قال أهل التحقيق : لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها اللّه فاتحة كلامه ولما كانت خاتمته جعلها اللّه خاتمة كلام أهل الجنة فقال : " {وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ] ك وروي عن علي عليه السلام أنه قال : خلق اللّه العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه فجعل العلم نفسه والفهم روحه والزهد رأسه والحياء عينه والحكمة لسانه والخير سمعه والرأفة قلبه والرحمة همه والصبر بطنه ثم قيل له تكلم فقال : الحمد للّه الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز علي منك .

وأيضا نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال : الحمد للّه فكان أول كلامه ذلك إذا عرفت هذا فنقول : أول مراتب المخلوقات هو العقل وآخر مراتبها آدم وقد نقلنا أول كلام العقل هو قوله : الحمد للّه وأول كلام آدم هو قوله : الحمد فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه الكلمة وأول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة فلا جرم جعلها اللّه فاتحة كتابه فقال : " {الحمد للّه رب العالمين} " وأيضا ثبت أن أول كلمات اللّه قوله : الحمد للّه وآخر أنبياء اللّه محمد رسول اللّه وبين الأول والآخر مناسبة فلا جرم جعل قوله " {الحمد للّه} " أول آية من كتاب محمد رسوله ولما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان أحمد ومحمد ؛ وعند هذا قال عليه السلام : أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد فأهل السماء في تحميد اللّه ورسول اللّه أحمدهم واللّه تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى : " {فأولئك كان سعيهم مشكورا} " [ الإسراء : ١٩ ] ورسول اللّه محمدهم .

والنكتة الثانية : أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال والأحكام فلهذا السبب قال : سبقت رحمتي غضبي .

النكتة الثالثة : أن الرسول اسمه أحمد ومعناه أنه أحمد الحامدين أي : أكثرهم حمدا فوجب أن تكون نعم اللّه عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة والرحمة وإذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة اللّه في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين .

فلهذا السبب قال : " {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} " [ الأنبياء : ١٠٧ ] .

النكتة الرابعة : أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة وهما الرحمن الرحيم وهما يفيدان المبالغة والرسول له أيضا اسمان مشتقان من الرحمة وهما محمد وأحمد لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة فقولنا محمد وأحمد جار مجرى قولنا مرحوم وأرحم .

وجاء في بعض الروايات أن من أسماء الرسول : الحمد والحامد والمحمود فهذه خمسة للرسول دالة على الرحمة إذا ثبت هذا

فنقول إنه تعالى قال : " {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} " [ الحجر : ٤٩ ] فقوله نبئ إشارة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو مذكور قبل العباد والياء في قوله عبادي ضمير عائد إلى اللّه تعالى والياء في قوله أني عائد إليه وقوله أنا عائد إليه وقوله الغفور الرحيم صفتان للّه فهي خمسة ألفاظ دالة على اللّه الكريم الرحيم فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى اللّه عليه وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء اللّه تدل على الرحمة ورحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى : " {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} " [ الأنبياء : ١٠٧ ] ورحمة اللّه غير متناهية كما قال تعالى : " {ورحمتي وسعت كل شيء} " [ الأعراف : ١٥٦ ] فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة ؟

 وأما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء :

النكتة الأولى : أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء منها خمسة من صفة الربوبية وهي : اللّه والرب والرحمن والرحيم والمالك ؛ وخمسة أشياء من صفات العبد وهي : العبودية والاستعانة وطلب الهداية وطلب الاستقامة وطلب النعمة كما قال : " {صراط الذين أنعمت عليهم} " فانطبقت تلك الأسماء الخمسة على هذه الأحوال الخمسة فكأنه قيل : إياك نعبد لأنك أنت اللّه وإياك نستعين لأنك أنت الرب اهدنا الصراط المستقيم لأنك أنت الرحمن وارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم وأفض علينا سجال نعمك وكرمك لأنك مالك يوم الدين .

النكتة الثانية : الإنسان مركب من خمسة أشياء : بدنه ونفسه الشيطانية ونفسه الشهوانية ونفسه الغضبية وجوهره الملكي العقلي فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة فتجلى اسم اللّه للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع وأطاع كما قال " {ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} " [ الرعد : ٢٨ ] وتجلى للنفس الشيطانية بالبر والإحسان - وهو اسم الرب - فترك العصيان وانقاد لطاعة الديان وتجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن وهذا الاسم مركب من القهر واللطف كما قال : " {الملك يومئذ الحق للرحمن} " [ الفرقان : ٢٦ ] فترك الخصومة وتجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم وهو أنه أطلق المباحات والطيبات كما قال " {أحل لكم الطيبات} " [ المائدة : ٤ ] فلان وترك العصيان وتجلى للأجساد والأبدان بقهر قوله " {مالك يوم الدين} " فإن البدن غليظ كثيف فلا بد من قهر شديد وهو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران وانفتحت أبواب الجنان ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان وقالت " {إياك نعبد} " وأطاعت النفوس الشهواينة فقالت " {وإياك نستعين} " على ترك اللذات والإعراض عن الشهوات وأطاعت النفوس الغضبية فقالت " {اهدنا} " وأرشدنا وعلى دينك فثبتنا وأطاعت النفس الشيطانية وطلبت من اللّه الاستقامة والصون عن الانحراف فقالت " {اهدنا الصراط المستقيم} " وتواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من اللّه أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت " {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} " .

النكتة الثالثة : قال عليه السلام بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا اللّه حاصلة من تجلي نور اسم اللّه وإقام الصلاة من تجلي الرب ؛ لأن الرب مشتق من التربية والعبد يربي إيمانه بمدد الصلاة وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن ؛ لأن الرحمن مبالغة في الرحمة وإيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء ووجوب صوم رمضان من تجلي اسم الرحيم ؛ لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه وأيضا إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها ووجوب الحج من تجلى اسم مالك يوم الدين ؛ لأن عند الحج يجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر يوم القيامة وأيضا الحاج يصير حافيا حاسرا عاريا وهو يشبه حال أهل القيامة وبالجملة فالنسبة بين الحج وبين أحوال القيامة كثيرة جدا .

النكتة الرابعة : أنواع القبلة خمسة : بيت المقدس والكعبة والبيت المعمور والعرش وحضرة جلال اللّه .

فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة .

النكتة الخامسة : الحواس خمس : أدب البصر بقوله : " {فاعتبروا يا أولي الأبصار} " [ الحشر : ٢ ]

والسمع بقوله : " {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} " [ الزمر : ١٨ ]

والذوق بقوله : " {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} " [ المؤمنون : ٥١ ]

والشم بقوله : " {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} " [ يوسف : ٩٤ ]

واللمس بقوله : " {والذين هم لفروجهم حافظون} " [ المؤمنون : ٥ ]

فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة .

النكتة السادسة : اعلم أن الشطر

الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار والشطر

الثاني منها مشتمل على الصفات الخمسة للعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار وبسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته :

فالأول هو النزول

والثاني هو الصعود والحد المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله : " {مالك يوم الدين} " وبين قوله : " {إياك نعبد} " وتقرير هذا الكلام أن حاجة العبد

أما في طلب الدنيا وهو قسمان :

أما دفع الضرر أو جلب النفع

وأما في طلب الآخرة وهو أيضا قسمان :

دفع الضرر وهو الهرب من النار وطلب الخير وهو طلب الجنة فالمجموع أربعة

والقسم الخامس - وهو الأشرف - طلب خدمة اللّه وطاعته وعبوديته لما هو هو لا لأجل رغبة ولا لأجل رهبة فإن شاهدت نور اسم اللّه لم تطلب من اللّه شيئا سوى اللّه وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة وإن طالعت منه نور الرحمن طلبت منه خيرات هذه الدنيا وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه أن يعصمك عن مضار الآخرة وإن طالعت نور مالك يوم الدين طلبت منه أن يصونك عن آفات هذه الدنيا وقبائح الأعمال فيها لئلا تقع في عذاب الآخرة .

النكتة السابعة : يمكن أيضا تنزيل هذه الأسماء الخمسة على المراتب الخمس المذكورة في الذكر المشهور - وهو قوله سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم –

أما قولنا سبحان اللّه فهو فاتحة سورة واحدة وهي : " {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} " [ الإسراء : ١ ]

وأما قولنا الحمد للّه فهو فاتحة خمس سور

وأما قولنا لا إله إلا اللّه فهو فاتحة سورة واحدة وهي قوله : " {آلم اللّه لا إله إلا هو} " [ آل عمران : ١ ]

وأما قولنا اللّه أكبر فهو مذكور في القرآن لا بالتصريح في موضعين مضافا إلى الذكر تارة وإلى الرضوان أخرى فقال : " {ولذكر اللّه أكبر} " [ العنكبوت : ٤٥ ] وقال : " {ورضوان من اللّه أكبر} " [ التوبة : ٧٢ ]

وأما قولنا لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم فهو غير مذكور في القرآن صريحا لأنه من الأذكار الخمسة فقولنا اللّه مبدأ لقولنا سبحان اللّه

وقولنا رب مبدأ لقولنا الحمد للّه

وقولنا الرحمن مبدأ لقولنا لا إله إلا اللّه فإن قولنا لا إله إلا اللّه إنما يليق بمن يحصل له كمال القدرة وكمال الرحمة وذلك هو الرحمن ؛

وقولنا الرحيم مبدأ لقولنا اللّه أكبر ومعناه أنه أكبر من أن لا يرحم عباده الضعفاء

وقولنا مالك يوم الدين مبدأ لقولنا لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم لأن الملك والمالك هو الذي لا يقدر عبيده على أن يعملوا شيئا على خلاف إرادته واللّه أعلم .

الفصل الثامن في السبب المقتضي لاشتمال بسم اللّه الرحمن الرحيم على الأسماء الثلاثة وفيه وجوه

( الأول ) : لا شك أنه تعالى يتجلى لعقول الخلق إلا أن لذلك التجلي ثلاث مراتب : فإنه في أول الأمر يتجلى بأفعاله وآياته وفي وسط الأمر يتجلى بصفاته وفي آخر الأمر يتجلى بذاته قيل إنه تعالى يتجلى لعامة عباده بأفعاله وآياته قال : " {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} " [ الشورى : ٣٢ ]

وقال " {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات} " [ آل عمران : ١٩٠ ]

ثم يتجلى لأوليائه بصفاته قال : " {ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} " [ آل عمران : ١٩١ ]

ويتجلى لأكابر الأنبياء ورؤساء الملائكة بذاته " {قل اللّه ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} " [ الأنعام : ٩١ ] إذا عرفت هذا

فنقول : اسم اللّه عز وجل أقوى الأسماء في تجلي ذاته لأنه أظهر الأسماء في اللفظ وأبعدها معنى عن العقول فهو ظاهر باطن يعسر إنكاره ولا تدرك أسراره قال الحسين بن منصور الحلاج :

( اسم اللّه مع الخلق قد تاهوا به ولها ليعلموا منه معنى من معانيه ) ( واللّه ما وصلوا منه إلى سبب حتى يكون الذي أبداه مبديه )

وقال أيضا : ( يا سر سر يدق حتى يخفى على وهم كل حي ) ( فظاهرا باطنا تجلى لكل شيء بكل شيء ) وأما اسمه الرحمن فهو يفيد تجلى الحق بصفاته العالية ولذلك قال " {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى} " [ الإسراء : ١١٠ ]

وأما اسمه الرحيم فهو يفيد تجلي الحق بأفعاله وآياته ولهذا السبب قال " {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} " [ غافر : ٧ ] .

الفصل التاسع في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة السبب فيه أن مراتب أحوال الخلق خمسة :

أولها الخلق

وثانيها التربية في مصالح الدنيا

وثالثها التربية في تعريف المبدأ

ورابعها التربية في تعريف المعاد

وخامسها نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد فاسم اللّه منبع الخلق والإيجاد والتكوين والإبداع واسم الرب يدل على التربية بوجوه الفضل والإحسان واسم الرحمن يدل على التربية في معرفة المبدأ واسم الرحيم في معرفة المعاد حتى يحترز عما لا ينبغي ويقدم على ما ينبغي واسم الملك يدل على أنه ينقلهم من دار الدنيا إلى دار الجزاء ثم عند وصول العبد إلى هذه المقامات انتقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال : " {إياك نعبد} " كأنه يقول : إنك إذا انتفعت بهذه الأسماء الخمسة في هذه المراتب الخمس وانتقلت إلى دار الجزاء صرت بحيث ترى اللّه فحينئذ تكلم معه على سبيل المشاهدة لا على سبيل المغايبة ثم قال : إياك نعبد وإياك نستعين كأنه قال : إياك نعبد لأنك اللّه الخالق وإياك نستعين لأنك الرب الرازق إياك نعبد لأنك الرحمن وإياك نستعين لأنك الرحيم إياك نعبد لأنك الملك وإياك نستعين لأنك المالك .

واعلم أن قوله مالك يوم الدين دل على أن العبد منتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة ومن دار الشرور إلى دار السرور فقال : لا بد لذلك اليوم من زاد واستعداد وذلك هو العبادة فلا جرم قال : إياك نعبد ثم قال العبد : الذي اكتسبته بقوتي وقدرتي قليل لا يكفيني في ذلك اليوم الطويل فاستعان بربه فقال : ما معي قليل فأعطني من خزائن رحمتك ما يكفيني في ذلك اليوم الطويل فقال : وإياك نستعين ثم لما حصل الزاد ليوم المعاد قال : هذا سفر طويل شاق والطرق كثيرة والخلق قد تاهوا في هذه البادية فلا طريق إلا أن أطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق فقال : اهدنا الصراط المستقيم ثم إنه لا بد لسالك الطريق من رفيق ومن بدرقة ودليل فقال : صراط الذين أنعمت عليهم والذين أنعم اللّه عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون فالأنبياء هم الأدلاء والصديقون هم البدرقة والشهداء والصالحون هم الرفقاء ثم قال : غير المغضوب عليهم ولا الضالين وذلك لأن الحجب عن اللّه قسمان : الحجب النارية - وهي عالم الدنيا - ثم الحجب النورية - وهي عالم الأرواح - فاعتصم باللّه سبحانه وتعالى من هذين الأمرين وهو أن لا يبقى مشغول السر لا بالحجب النارية ولا بالحجب النورية .

الفصل العاشر في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم اللّه واسمان مضافان إلى غير اللّه :

أما الكلمتان المضافتان إلى اسم اللّه فهما قوله : بسم اللّه وقوله : الحمد للّه فقوله بسم اللّه لبداية الأمور وقوله الحمد للّه لخواتيم الأمور فبسم اللّه ذكر والحمد للّه شكر فلما قال بسم اللّه استحق الرحمة ولما قال الحمد للّه استحق رحمة أخرى فبقوله بسم اللّه استحق الرحمة من اسم الرحمن وبقوله الحمد للّه استحق الرحمة من اسم الرحيم فلهذا المعنى قيل : يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة

وأما قوله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين فالربوبية لبداية حالهم بدليل قوله " {ألست بربكم قالوا بلى} " [ الأعراف : ١٧٢ ] وصفة الرحمن لوسط حالهم وصفة الملك لنهاية حالهم بدليل قوله " {لمن الملك اليوم للّه الواحد القهار} " [ غافر : ١٦ ] واللّه أعلم بالصواب وهو الهادي إلى الرشاد

﴿ ٠