٢

الإشارة في "ذلك الكتاب": {ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلواة ومما رزقناهم ينفقون}.

قوله تعالى: {ذالك الكتاب} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لقائل أن يقول: المشار إليه ههنا حاضر، و "ذلك" اسم مبهم يشار به إلى البعيد،

والجواب عنه من وجهين:

الأول: لا نسلم أن المشار إليه حاضر، وبيانه من وجوه:

أحدها: ما قاله الأصم: وهو أن اللّه تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد، فقوله: {ذالك} إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة، وقد يسمى بعض القرآن قرآنا، قال اللّه تعالى: {وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له} (الأعراف: ٢٠٤) وقال حاكيا عن الجن {قل أوحى إلى أنه} (الجن: ١)

وقوله: {إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى} (الأحقاف: ٣٠) وهم ما سمعوا إلا البعض، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت،

وثانيها: أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه، ويؤيده قوله: {إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا} (المزمل: ٥) وهذا في سورة المزمل، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث،

وثالثها: أنه تعالى خاطب بني إسرائيل، لأن سورة البقرة مدنية، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل، وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن اللّه يرسل محمدا صلى اللّه عليه وسلم وينزل عليه كتابا فقال تعالى: {ذالك الكتاب} أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن اللّه تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل،

ورابعها: أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله: {وإنه فى أم الكتاب لدينا} (الزخرف: ٤) وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك، فغير ممتنع أن يقول تعالى: {ذالك الكتاب} ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ.

وخامسها: أنه وقعت الإشارة بذلك إلى "آلم" بعد ما سبق التكلم به وانقضى، والمنقضى في حكم المتباعد،

وسادسها: أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك ـ وقد أعطيته شيئا ـ احتفظ بذلك.

وسابعها: أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها ـ والقرآن وإن كان حاضرا نظرا إلى صورته لكنه غائب نظرا إلى أسراره وحقائقه ـ فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب.

"ذلك" يشار بها للقريب والبعيد:

المقام الثاني: سلمنا أن المشار إليه حاضر، لكن لا نسلم أن لفظة.

"ذلك" لا يشار بها إلا إلى البعيد، بيانه أن ذلك، وهذا حرفا إشارة، وأصلهما "ذا"؛ لأنه حرف للإشارة، قال تعالى: {من ذا الذى يقرض اللّه قرضا حسنا} (البقرة: ٢٤٥) ومعنى "ها" تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه، وقد تدخل الكاف على "ذا" للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل: "ذلك" فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيدالبعد في أصل الوضع، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها، فصارت كالدابة، فإنها مختصة في العرف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض وإذا ثبت هذا

فنقول: إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي، لا على مقتضى الوضع.

العرفي، وحينئذ لا يفيد البعد؛ ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق * إلى * قوله * وكل من الاخيار} (ص : ٤٥ ـ ٤٨)

ثم قال: {هاذا ذكر} (الأنبياء: ٢٤)

وقال: {وعندهم قاصرات الطرف أتراب * هاذا ما توعدون ليوم الحساب} (ص : ٥٢، ٥٣)

وقال: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} (ق : ١٩)

وقال: {فأخذه اللّه نكال الاخرة والأولى * إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى} (النازعات: ٢٥، ٢٦)

وقال: {ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادى الصالحون} (الأنبياء: ١٠٥)

ثم قال: {إن فى هاذا لبلاغا لقوم عابدين} (الأنبياء: ١٠٦)

وقال: {فقلنا اضربوه ببعضها كذالك * يحيى *اللّه الموتى} (البقرة: ٧٣) أي هكذا يحيى اللّه الموتى،

وقال: {وما تلك بيمينك ياموسى * موسى} (طه: ١٧) أي ما هذه التي بيمينك واللّه أعلم.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث، وهو السورة،

الجواب: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث؛ لأن المؤنث

أما المسمى أو الاسم، والأول باطل، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث،

وأما الاسم فهو (آلم) وهو ليس بمؤنث، نعم ذلك المسمى له اسم آخر ـ وهو السورة ـ وهو مؤنث، لكن

المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو (آلم)، لا الذي هو مئنث وهو السورة.

مدلول لفظ "كتاب":

المسألة الثالثة: اعلم أن أسماء القرآن كثيرة:

أحدها: الكتاب وهو مصدر كالقيام والصيام

وقيل: فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال: {كتاب أنزلناه إليك} : ٢٩) والكتاب جاء في القرآن على وجوه:

أحدها: الفرض {كتب عليكم القصاص} (البقرة: ١٧٨) {كتب عليكم الصيام} (البقرة: ١٨٣) {فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا اللّه قياما وقعودا} (النساء: ١٠٣)

وثانيها: الحجة والبرهان {فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين} (الصافات: ١٥٧) أي برهانكم.

وثالثها: الأجل {ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} (الحجر: ٤) أي أجل.

ورابعها: بمعنى مكاتبة السيد عبده {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم} (النور: ٣٣)

وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة، واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته، وسميت الكتيبة لاجتماعها، فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم، أو لأن اللّه تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق.

اشتقاق لفظ "قرآن":

وثانيها: القرآن {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هاذا القرءان} (الإسراء: ٨٨)

{إنا جعلناه قرءانا عربيا} (الزخرف: ٣)

{شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن} (البقرة: ١٨٥).

{إن هاذا القرءان * يهدى * للتى هى أقوم} (الإسراء: ٩)

وللمفسرين فيه قولان:

أحدهما: قول ابن عباس أن القرآن والقراءة واحد، كالخسران والخسارة واحد والدليل عليه قوله: {فإذا قرأناه فاتبع قرءانه} (القيامة: ١٨) أي تلاوته، أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته:

الثاني: وهو قول قتادة أنه مصدر من قول القائل: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته، وقال سفيان بن عيينة: سمي القرآن قرآنا لأن الحروف جمعت فصارت كلمات، والكلمات جمعت فصارت آيات، والآيات جمعت فصارت سورا، والسور جمعت فصارت قرآنا، ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين.

فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن

أما من التلاوة أو من الجمعية.

معنى الفرقان:

وثالثها: الفرقان {تبارك الذى نزل الفرقان على عبده} (الفرقان: ١).

{وبينات من الهدى والفرقان} (البقرة: ١٨٥)

واختلفوا في تفسيره، فقيل: سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقا أنزله في نيف وعشرين سنة، ودليله قوله تعالى: {وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} (الإسراء: ١٠٦)

ونزلت سائر الكتب جملة واحدة، ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه * وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان} (الفرقان: ٣٢)

وقيل: وقال الذين كفروا سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمجمل والمبين، والمحكم والمؤول،

وقيل: الفرقان هو النجاة، وهو قول عكرمة والسدي، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة، وعليه حمل المفسرون قوله: {وإذا * موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون * وإذ} (البقرة: ٥٣).

معنى تسميته بالذكر:

ورابعها: الذكر، والتذكرة، والذكرى،

أما الذكر فقوله: {وهاذا ذكر مبارك أنزلناه} (الأنبياء: ٥٠) {إنا نحن نزلنا الذكر} (الحجر: ٩). {وإنه لذكر لك ولقومك} (الزخرف: ٤٤) وفيه وجهان:

أحدهما: أنه ذكر من اللّه تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره.

والثاني: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به، وأنه شرف لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأمته،

وأما التذكرة فقوله: {وإنه لتذكرة للمتقين} (الحاقة: ٤٨)

وأما الذكرى فقوله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات: ٥٥).

تسميته تنزيلا وحديثا:

وخامسها: التنزيل {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الامين} (الشعراء: ١٩٢ ـ ١٩٣).

وسادسها: الحديث {اللّه نزل أحسن الحديث كتابا} (الزمر: ٢٣) سماه حديثا؛ لأن وصوله إليك حديث، ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به، فإن اللّه خاطب به المكلفين.

وسابعها: الموعظة {ترجعون ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} (يونس: ٥٧) وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو اللّه تعالى، والآخذ جبريل، والمستملي محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكيف لا تقع به الموعظة.

تسميته بالحكم والحكمة:

وثامنها: الحكم، والحكمة، والحكيم، والمحكم،

أما الحكم فقوله: {وكذالك أنزلناه حكما عربيا} (الرعد: ٣٧)

وأما الحكمة فقوله: {حكمة بالغة} (القمر: ٥)

{واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من ءايات اللّه والحكمة} (الأحزاب: ٣٤)

وأما الحكيم فقوله: {يس * والقرءان الحكيم} (يس: ١، ٢)

وأما المحكم فقوله: {كتاب أحكمت ءاياته} (هود: ١).

معنى الحكمة: واختلفوا في معنى الحكمة، فقال الخليل: هو مأخوذ من الأحكام والإلزام وقال المؤرخ: هو مأخوذ من حكمة اللجام؛ لأنها تضبط الدابة، والحكمة تمنع من السفه.

وتاسعها: الشفاء {وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (الإسراء: ٨٢) وقوله: {وشفاء لما فى الصدور} وفيه وجهان:

أحدهما: أنه شفاء من الأمراض.

والثاني: أنه شفاء من مرض الكفر، لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض، فقال: {فى قلوبهم مرض} (البقرة: ١٠)

وبالقرآن يزول كل شك عن القلب، فصح وصفه بأنه شفاء.

كونه هدي وهاديا:

وعاشرها: الهدى، والهادي: أما الهدى فلقوله: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢).

{هدى للناس} (آل عمران: ٤، الأنعام: ٩١).

{وشفاء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} (يونس: ٥٧)

وأما الهادي {إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم} (الإسراء: ٩)

وقالت الجن: {قل أوحى إلى أنه * يهدى إلى الرشد}.

الحادي عشر: الصراط المستقيم: قال ابن عباس في تفسيره: إنه القرآن، وقال: {وأن هاذا صراطي مستقيما فاتبعوه}.

والثاني عشر: الحبل: {واعتصموا بحبل اللّه جميعا} (آل عمران: ١٠٣) في التفسير: إنه القرآن، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك، ومن ذلك سماه النبي صلى اللّه عليه وسلم عصمة فقال: "إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به" لأنه يعصم الناس من المعاصي.

الثالث عشر: الرحمة {وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (الإسراء: ٨٨) وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات.

تسميته بالروح:

الرابع عشر: الروح {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى: ٥٢).

{ينزل الملائكة بالروح من أمره} (النحل: ٢)

وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح، وسمي جبريل بالروح {فأرسلنا إليها روحنا} (مريم: ١٧)

وعيسى بالروح {ألقاها إلى مريم وروح منه} (النساء: ١٧١).

الخامس عشر: القصص {نحن نقص عليك أحسن القصص} (يوسف: ٣)

سمي به لأنه يجب اتباعه {وقالت لاخته قصيه} (القصص: ١١)

أي اتبعي أثره؛ أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين، ومنه قوله تعلى: {إن هاذا لهو القصص الحق} (آل عمران: ٦٢).

السادس عشر: البيان، والتبيان، والمبين:

أما البيان فقوله: {هاذا بيان للناس} (آل عمران: ١٣٨) والتبياني فهو

قوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء} (النحل: ٨٩)

وأما المبين فقوله: {تلك ءايات الكتاب المبين} (يوسف: ١).

السابع عشر: البصائر {هاذا بصائر من ربكم} (الأعراف: ٢٠٣) أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيها بالبصر الذي يرى طريق الخلاص.

الثامن عشر: الفصل {إنه لقول فصل * وما هو بالهزل} (الطارق: ١٣، ١٤)

واختلفوا فيه، فقيل معناه القضاء، لأن اللّه تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوما إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار، فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار.

تسميته بالنجوم:

التاسع عشر: النجوم {فلا أقسم بمواقع النجوم} (الواقعة: ٧٥) {والنجم إذا هوى} (النجم: ١) لأنه نزل نجما نجما.

العشرون: المثاني: {مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم} (الزمر: ٢٣) قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار.

تسميه القرآن نعمة وبرهانا:

الحادي والعشرون: النعمة: {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: ١١) قال ابن عباس يعني به القرآن.

الثاني والعشرون: البرهان {قد جاءكم برهان من ربكم} (النساء: ١٧٤)

وكيف لا يكون برهانا وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله.

الثالث والعشرون: البشير والنذير، وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل: {مبشرين ومنذرين} (النساء: ١٦٥، الأنعام: ٤٨) وقال في صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم : {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} (الفتح: ٨) وقال في صفة القرآن في حم السجدة {بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم} (فصلت: ٤) يعني مبشرا بالجنة لمن أطاع وبالنار منذرا لمن عصى، ومن ههنا نذكر الأسماء المشتركة بين اللّه تعالى وبين القرآن.

تسميته قيما:

الرابع والعشرون: القيم {فيما * لينذر بأسا شديدا} (الكهف: ٢) والدين أيضا قيم {ذالك الدين القيم} (التوبة: ٣٦) واللّه سبحانه هو القيوم {اللّه لا إله إلا هو الحى القيوم} (البقرة: ٢٥٥، آل عمران: ٢)

وإنما سمي قيما لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة.

الخامس والعشرون: المهيمن {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} (المائدة: ٤٨)

وهو مأخوذ من الأمين، وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في

الدنيا والآخرة، والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء اللّه تعالى على خلقه كما قال: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: ١٤٣).

السادس والعشرون: الهادي {إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم} (الإسراء: ٩)

وقال: {يهدى إلى الرشد} (الجن: ٢) واللّه تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر "النور الهادي".

تسميته نورا:

السابع والعشرون: النور {اللّه نور * السماوات والارض} (النور: ٣٥)

وفي القرآن {واتبعوا النور الذى أنزل معه} (الأعراف: ١٥٧)

يعني القرآن وسمي الرسول نورا {قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين} (المائدة: ١٥)

يعني محمد وسمي دينه نورا {يريدون ليطفئوا نور اللّه بأفواههم} (الصف: ٨)

وسمي بيانه نورا {أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه} (الزمر: ٢٢)

وسمي التوراة نورا {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} (المائدة: ٤٤)

وسمي الإنجيل نورا {وقفينا على ءاثارهم بعيسى ابن} (المائدة: ٤٦)

وسمي الإيمان نورا {يسعى نورهم بين أيديهم} (الحديد: ١٢).

الثامن والعشرون: الحق: ورد في الأسماء "الباعث الشهيد الحق" والقرآن حق {وإنه لحق اليقين} (الحاقة: ٥١)

فسماه اللّه حقا؛ لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} (الأنبياء: ١٨) أي ذاهب زائل.

التاسع والعشرون: العزيز {وإن ربك لهو العزيز الرحيم} (الشعراء: ٩، ٦٨)

وفي صفة القرآن {وإنه لكتاب عزيز} (فصلت: ٤١)

والنبي عزيز {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه}

والأمة عزيزة {وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون: ٨)

فرب عزيز أنزل كتابا عزيزا على نبي عزيز لأمة عزيزة، وللعزيز معنيان:

أحدهما: القاهر، والقرآن كذلك؛ لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته.

والثاني: أن لا يوجد مثله.

تسمية القرآن بالكريم:

الثلاثون: الكريم {وأنه * إنه لقرءان * فى كتاب مكنون} (الواقعة: ٧٧)

واعلم أنه تعالى سمي سبعة أشياء بالكريم {ما غرك بربك الكريم} (الانفطار: ٦٠)

إذ لا جواد إجود منه، والقرآن بالكريم، لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه، وسمي موسى كريما {وجاءهم رسول كريم} (الدخان: ١٧)

وسمي ثواب الأعمال كريما {فبشره بمغفرة وأجر كريم} (يس: ١١)

وسمي عرشه كريما {اللّه لا إله إلا هو رب العرش * الكريم} (النمل: ٢٦)

لأنه منزل الرحمة، وسمي جبريل كريما {إنه لقول رسول كريم} (التكوير: ١٩)

ومعناه أنه عزيز، وسمي كتاب سليمان كريما {إنى ألقى إلى كتاب كريم} (النمل: ٢٩)

فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة، فإذا تمسكوا به نالوا ثوابا كريما.

ومن أسمائه "العظيم":

الحادي والثلاثون: العظيم: {ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم} (الحجر: ٨٧)

اعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيما فقال: {وهو العلى العظيم} (البقرة: ٢٥٥)

وعرشه عظيما {وهو رب العرش العظيم} (التوبة: ١٢٩)

وكتابه عظيما {ولقد ءاتيناك} (الحجر: ٨٧)

ويوم القيامة عظيما {ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين} (المطففين: ٥، ٦)

والزلزلة عظيمة {إن زلزلة الساعة شىء عظيم} (الحج: ١)

وخلق الرسول عظيما {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: ٤)

والعلم عظيما {وكان فضل اللّه عليك عظيما} (النساء: ١١٣)

وكيد النساء عظيما {إن كيدكن عظيم} (يوسف: ٢٨)

وسحر سحرة فرعون عظيما {وجاءو بسحر عظيم} (الأعراف: ١١٦)

وسمي نفس الثواب عظيما {وعد اللّه الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} (الفتح: ٢٩)

وسمي عقاب المنافقين عظيما {ولهم عذاب عظيم} (البقرة: ٧).

ومنها المبارك:

الثاني والثلاثون: المبارك: {وهاذا ذكر مبارك} (الأنبياء: ٥٠)

وسمى اللّه تعالى به أشياء، فسمي الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركا {فى البقعة المباركة من الشجرة} (القصص: ٣٠)

وسمى شجرة الزيتون مباركة {يوقد من شجرة مباركة زيتونة} (التوبة: ٣٥)

لكثرة منافعها، وسمي عيسى مباركا {وجعلنى مباركا} (مريم: ٣١)

وسمي المطر مباركا {ونزلنا من السماء ماء مباركا} (ق : ٩)

لما فيه من المنافع، وسمي ليلة القدر مباركة {إنا أنزلناه فى ليلة مباركة} (الدخان: ٣) فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة.

اتصال "آلم" بقوله "ذلك الكتاب":

المسألة الرابعة: في بيان اتصال قوله: {الم} بقوله: {ذالك الكتاب} قال صاحب الكشاف: إن جعلت {الم} اسما للسورة ففي التأليف وجوه:

الأول: أن يكون {الم} مبتدأ و {ذالك} مبتدأ ثانيا و {الكتاب} خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وإنه الذي يستأهل أن يكون كتابا كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، وأن يكون الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون {الم} خبر مبتدأ محذوف أي هذه {الم * ويكون * ذالك الكتاب} خبرا ثانيا أو بدلا على أن الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك، وأن تكون هذه {الم} جملة و {ذالك الكتاب} جملة أخرى وإن جعلت {الم} بمنزلة الصوت كان {ذالك} مبتدأ وخبره {الكتاب} أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد اللّه {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه} (السجدة: ٢) وتأليف هذا ظاهر.

تفسير قوله تعالى: {لا ريب فيه}: قوله تعالى: {لا ريب فيه} فيه مسألتان:

المسألة الأولى: الريب قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء، ومنها قوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: "ريب الدهر" و "ريب الزمان" أي حوادثه قال اللّه تعالى: {نتربص به ريب المنون} (الطور: ٣٠) ويستعمل أيضا في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر:

( فقضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا )

قلنا: هذان قد يرجعان إلى معنى الشك، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى: {لا ريب فيه} المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند اللّه، ولا في كونه معجزا.

ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزا على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله: {وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا} (البقرة: ٢٣) وها هنا سؤالات:

السؤال الأول: طعن بعض الملحدة فيه فقال: إن عني أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عني أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه.

الجواب: المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه.

السؤال الثاني: لم قال ههنا: {لا ريب فيه} وفي موضع آخر {لا فيها غول} (الصافات: ٤٧)؟

الجواب: لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتابا آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كما قصد في قوله: {لا فيها غول} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا

السؤال الثالث: من أين يدل قوله: {لا ريب فيه} على نفي الريب بالكلية؟

الجواب: قرأ أبو الشعثاء {لا ريب فيه} بالرفع.

واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدليل عليه أن قوله: {لا ريب} نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، ولهذا السر كان قولنا: "لا إله إلا اللّه" نفيا لجميع الآلهة سوى اللّه تعالى.

وأما قولنا: "لا ريب فيه" بالرفع فهو نقيض لقولنا: "ريب فيه" وهو يفيد ثبوت فرد واحد فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض.

الوقف على "فيه":

المسألة الثانية: الوقف على {فيه} هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على {لا ريب} ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا، ونظيره قوله: {قالوا لا ضير} وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز؛ والتقدير: {لا ريب فيه} {فيه هدى}.

واعلم أن القراءة الأولى أولى؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى واللّه أعلم.

حقيقة الهدى: قوله تعالى: {هدى للمتقين} فيه مسائل:

المسألة الأولى: في حقيقة الهدى: الهدى عبارة عن الدلالة، وقال صاحب الكشاف: الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية، وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم.

والذي يدل على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبرا في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهدتاء محال، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} أثبت الهدى مع عدم الاهتداء، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال: هديته فلم يهتد، وذلك يدل على قولنا، واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة:

أولها: وقوع الضلالة في مقابلة الهدى، قال تعالى: {أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} (البقرة: ١٦) وقال: {لعلى هدى} أو {فى ضلال مبين} (الأعراف: ٦٠)

وثانيها: يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهديا مدحا لاحتمال أنه هدى فلم يهتد

وثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى يقال: هديته فاهتدى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع فكما أن الإنكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى.

والجواب عن الأول: أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع،

وعن الثاني: أن المنتفع بالهدى سمي مهديا، وغير منتفع به لا يسمى مهديا؛ ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم.

وعن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمرا حصول الائتمار، فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضيا إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد، ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن اللّه تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.

معنى المتقي:

المسألة الثانية: المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقي، والوقاية فرط الصيانة، إذا عرفت هذا فنقول: إن اللّه تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقيا في أمور الدنيا، بل بأن يكون متقيا فيما يتصل بالدين، وذلك بأن يكون آتيا بالعبادات محترزا عن المحظورات.

واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد، وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ فروي عنه عليه السلام أنه قال: "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس" وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: أنهم الذين يحذرون من اللّه العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه.

واعلم أن التقوى هي الخشية، قال في أول النساء: {تفلحون يأيها الناس اتقوا ربكم} (النساء: ١)

ومثله في أول الحج، وفي الشعراء {إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون} (هود: ١٠٦)

يعني ألا تخشون اللّه، وكذلك قال هود وصالح، ولوط، وشعيب لقومهم، وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه {اعبدوا اللّه واتقوه} (نوح: ٣)

يعني اخشوه، وكذا قوله: {اتقوا اللّه حق تقاته} (آل عمران: ١٠٢) {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (البقرة: ١٩٧) {واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا} (البقرة: ٤٨)

واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة، والتوبة أخرى، والطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعا: والإخلاص خامسا:

أما الإيمان فقوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى} (الفتح: ٢٦) أي التوحيد {أولئك الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى} (الحجرات: ٣)

وفي الشعراء {قوم فرعون ألا يتقون} (الشعراء: ١١) أي أو يؤمنون

وأما التوبة فقوله: {ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا} (الأعراف: ٦٩) أي تابوا،

وأما الطاعة فقوله في النحل: {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} (النحل: ٢)

وفيه أيضا: {أفغير اللّه تتقون} (النحل: ٥٢) وفي المؤمنين {وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون: ٥٢)

وأما ترك المعصية فقوله: {وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا اللّه} (البقرة: ١٨٩) أي فلا تعصوه،

وأما الإخلاص فقوله في الحج: {فإنها من تقوى القلوب} (الحج: ٣٢) أي من إخلاص القلوب، فكذا قوله: {وإياى فاتقون} (البقرة: ٤١)

واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى: {إن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (النحل: ١٢٨)

وقال: {إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم} (الحجرات: ١٣)

وعن ابن عباس قال عليه السلام: "من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق اللّه، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه أوثق مما في يده" وقال علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإصرار عل المعصية، وترك الاغترار وبالطاعة.

قال الحسن: التقوى أن لا تختار عل اللّه سوى اللّه، وتعلم أن الأمور كلها بيد اللّه.

وقال إبراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيبا.

ولا الملائكة في أفعالك عيبا ولا ملك العرش في سرك عيبا وقال الواقدي: التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق، ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك، ويقال: المتقي من سلك سبيل المصطفى، ونبذ الدنيا وراء القفا، وكلف نفسه الإخلاص والوفا، واجتنب الحرام والجفا، ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى: {هدى للمتقين} كفاه، لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله: {شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس} (البقرة: ١٨٥) ثم قال ههنا في القرآن: إنه هدي للمتقين، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقيا كأنه ليس بإنسان.

المسألة الثالثة: في السؤالات:

السؤال الأول: كون الشيء هدى ودليلا لا يختلف بحسب شخص دون شخص، فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط؟ وأيضا فالمتقي مهتدى، والمهتدي لا يهتدي ثانيا والقرآن لا يكون هدى للمتقين.

الجواب: القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى دينه وصدق رسوله، فهو أيضا دلالة للكافرين.

إلا أن اللّه تعالى ذكر المتقين مدحا ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: ٤٥) وقال: {إنما تنذر من اتبع الذكر} (يس: ١١) وقد كان عليه السلام منذرا لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره.

وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه، لأن كون القرآن موصلا إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين.

السؤال الثاني: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير؛ ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن، ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولا إلى الخوارج.

لا تحتج عليهم بالقرآن، فإنه حصم ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه؛ ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءا من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر، فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد، فكيف يكون هدى؟

الجواب: أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين ـ وهو

أما دلالة العقل أو دلالة السمع ـ صار كله هدى.

السؤال الثالث: كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات اللّه تعالى وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله اللّه تعالى هدى على الإطلاق؟.

الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن اللّه تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم.

السؤال الرابع: الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالا كثيرة متعارضة، وما يكون كذلك لا يكون مبينا في نفسه فضلا عن أن يكون مبينا لغيره، فكيف يكون هدى؟

قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة، ولا يرجح واحدا منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال،

وأما نحن فقد رجحنا واحدا على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال.

المسألة الرابعة: قال صاحب "الكشاف": محل {هدى للمتقين} الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع {لا ريب فيه} {*لذلك}، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبرا عنه، ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه الإشارة، أو الظرف، والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحا، وأن يقال: إن قوله: {الضالين الم} جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و {ذالك الكتاب} جملة ثانية، و {لا ريب فيه} ثالثة و {هدى للمتقين} رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، والثانية متحدة بالأولى وهلم جرا إلى الثالثة، والرابعة.

بيانه: أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدي به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير الجهة التحدي ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة،

ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه،

وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة،

وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف،

وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر ـ الذي هو هدى ـ موضع الوصف الذي هو هاد، وإيراده منكرا.

اعلم أن فيه مسائل:

﴿ ٢