٧

{ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}.

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا، وهو الختم، والكلام ههنا يقع في مسائل:

المسألة الأولى: الختم والكتم أخوان؛ لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية، لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه، والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة.

المسألة الثانية: اختلف الناس في هذا الختم،

أما القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر، ثم لهم قولان، منهم من قال: الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار، ومنهم من قال هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سببا موجبا لوقوع الكفر، وتقريره أن القادر على الكفر

أما أن يكون قادرا على تركه أو لا يكون، فإن لم يقدر على تركه كانت القدرة على الكفر موجبة للكفر، فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر، وإن قدر على الترك كانت نسبة تلك القدرة إلى فعل الكفر وإلى تركه على سواء،

فأما أن يكون صيرورتها مصدرا للفعل بدلا عن الترك يتوقف على انضمام مرجح إليها أولا يتوقف، فإن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح، وتجويز يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر، وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال،

وأما إن توقف على المرجح فذلك المرجح

أما أن يكون من فعل اللّه أو من فعل العبد أولا من فعل اللّه ولا من فعل العبد، لا جائز أن يكون من فعل العبد وإلا لزم التسلسل، ولا جائز أن يكون لا بفعل اللّه ولا بفعل العبد؛ لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر، وذلك يبطل القول بالصانع.

فثبت أن كون قدرة العبد مصدرا للمقدور المعين يتوقف على أن ينضم إليها مرجح هو من فعل اللّه تعالى.

فنقول: إذا انضم ذلك المرجح إلى تلك القدرة

فأما أن يصير تأثير القدرة في ذلك الأثر واجبا أو جائزا أو ممتنعا، والثاني والثالث، باطل فتعين الأول، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون جائزا لأنه لو كان جائزا لكان يصح في العقل أن يحصل مجموع القدرة مع ذلك المرجح تارة مع ذلك الأثر، وأخرى منفكا عنه، فلنفرض وقوع ذلك؛ لأن كل ما كان جائزا لا يلزم من فرض وقوعه محال، فذاك المجموع تارة يترتب عليه الأثر، وأخرى لا يترتب عليه الأثر، فاختصاص أحد الوقتين يترتب ذلك الأثر عليه

أما أن يتوقف على انضمام قرينة إليه، أو لا يتوقف، فإن توقف كان المؤثر هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة، لا ذلك المجموع، وكنا قد فرضنا أن ذلك المجموع هو المستقل خلف هذا، وأيضا فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني، فإن توقف على قيد آخر لزم التسلسل وهو محال، وإن لم يتوقف فحينئذ حصل ذلك المجموع تارة بحيث يكون مصدرا للأثر، وأخرى بحيث لا يكون مصدرا له مع أنه لم يتميز أحد الوقتين عن الآخر بأمر ما البتة، فيكون هذا قولا بترجح الممكن لا عن مرجح وهو محال.

فثبت أن عند حصول ذلك المرجح يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزا،

وأما أنه لا يكون ممتنعا فظاهر، وإلا لكان مرجح الوجود مرجحا للعدم وهو محال، وإذا بطل القسمان ثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن المجموع الحاصل من القدرة، ومن ذلك المرجح، وإذا ثبت هذا كان القول بالجبر لازما: لأن قبل حصول ذلك المرجح كان صدور الفعل ممتنعا وبعد حصوله يكون واجبا، وإذ عرفت هذا كان خلق الداعية الموجبة للكفر في القلب ختما على القلب ومنعا له عن قبول الإيمان؛ فإنه سبحانه لما حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ذكر عقيبة ما يجري مجرى السبب الموجب له لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول، والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استفيد من العلم بالعلة، فهذا قول من أضاف جميع المحدثات إلى اللّه تعالى.

وأما المعتزلة فقد قالوا: إنه لا يجوز أجراء هذه الآية على المنع من الإيمان واحتجوا فيه بالوجوه التي حكيناها عنهم في الآية الأولى وزادوا ههنا بأن اللّه تعالى قد كذب الكفار الذين قالوا إن على قلوبهم كنان وغطاء يمنعهم عن الإيمان {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} (النساء: ١٥٥) وقال: {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه} (فصلت: ٤، ٥)

وهذا كله عيب وذم من اللّه تعالى فيما ادعوا أنهم ممنوعون عن الإيمان ثم قالوا: بل لا بد من حمل الختم والغشاوة على أمور أخر ثم ذكروا فيه وجوها:

أحدها: أن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل اللّه تعالى حتى صار ذلك كالألف والطبيعة لهم أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه وكذلك هذا في عيونهم حتى كأنها مسدودة لا تبصر شيئا وكأن بآذانهم وقرأ حتى لا يخلص إليها الذكر، وإنما أضيف ذلك إلى اللّه تعالى لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي؛ ولهذا قال تعالى: {بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون} (النساء: ١٥٥) {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين: ١٤) {فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه}. (لتوبة: ٧٧)

وثانيها: أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن اللّه تعالى لما كان هو الذي أقدره أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب.

وثالثها: أنهم لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر وكان ذلك عند إيراد اللّه تعالى عليهم الدلائل أضيف ما فعلوا إلى اللّه تعالى؛ لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده تعالى دلائله عليهم كقوله تعالى في سورة براءة: {زادتهم * رجسا إلى رجسهم} (التوبة: ١٢٥) أي ازدادوا بها كفرا إلى كفرهم.

ورابعها: أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء إلا أن اللّه تعالى ما أقرهم عليه لئلا يبطل التكليف فعبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم إشعارا بأنهم الذين انتهوا في الكفر إلى حيث لا يتناهون عنه إلا بالقسر وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي.

وخامسها: أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما به من قولهم: {قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى ءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} (فصلت: ٥) ونظيره في الحكاية والتهكم قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة} (البينة: ١).

وسادسها: الختم على قلوب الكفار من اللّه تعالى هو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق كما يقول الرجل لصاحبه أريد أن تختم على ما يقوله فلان، أي تصدقه وتشهد بأنه حق، فأخبر اللّه تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون، وأخبر في هذه الآية بأنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم.

وسابعها: قال بعضهم: هذه الآية إنما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل اللّه تعالى بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقابا لهم في العاجل، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا فقال: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} (البقرة: ٦٥)

وقال: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الارض فلا تأس على القوم الفاسقين} (المائدة: ٢٦)

ونحو هذا من العقوبات المعجلة لما علم اللّه تعالى فيها من العبرة لعبادة والصلاح لهم، فيكون هذا مثل ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع، إلا أنهم إذا صاروا بذلك إلى أن لا يفهموا سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ، وقد أسقط اللّه التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ، ولسنا ننكر أن يخلق اللّه في قلوب الكافرين مانعا يمنعهم عن الفهم والاعتبار إذا علم أن ذلك أصلح لهم كما قد يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين.

وثامنها: يجوز أن يجعل اللّه على قلوبهم الختم وعلى أبصارهم الغشاوة من غير أن يكون ذلك حائلا بينهم وبين الإيمان بل يكون ذلك كالبلادة التي يجدها الإنسان في قلبه والقذي في عينيه والطنين في أذنه، فيفعل اللّه كل ذلك بهم ليضيق صدورهم ويورثهم الكرب والغم فيكون ذلك عقوبة مانعة من الإيمان كما قد فعل ببني إسرائيل فتاهوا ثم يكون هذا الفعل في بعض الكفار ويكون ذلك آية للنبي صلى اللّه عليه وسلم ودلالة له كالرجز الذي أنزل على قوم فرعون حتى استغاثوا منه، وهذا كله مقيد بما يعلم اللّه تعالى أنه أصلح للعباد.

وتاسعها: يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة كما قد أخبر أنه يعميهم قال: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما} (الإسراء: ٩٧)

وقال: {ونحشر المجرمين يومئذ زرقا} (طه: ١٠٢)

وقال: {اليوم نختم على أفواههم} (يس: ٦٥)

وقال: {لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} (االأنبياء: ١٠٠).

وعاشرها: ما حكوه عن الحسن البصري ـ وهو اختيار أبي على الجبائي والقاضي ـ أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار، وعلى أنهم لا يؤمنون أبدا فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند اللّه كما قال: {أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان} وحينئذ الملائكة يحبونه ويستغفرون له، ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند اللّه فيبغضونه ويلعنونه، والفائدة في تلك العلامة

أما مصلحة عائدة إلى الملائكة؛ لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافرا ملعونا عند اللّه تعالى صار ذلك منفرا لهم عن الكفر أو إلى المكلف، فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السموات صار ذلك مرغبا له في الإيمان وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجرا له عن الكفر.

قالوا: والختم بهذا المعنى لا يمنع، لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه، ولأن الختم هو بمنزلة أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر، فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر.

قالوا: وإنما خص القلب والسمع بذلك؛ لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع، والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جان ببالقلب، ولهذا خصهما بالذكر.

فإن قيل: فيتحملون الغشاوة في البصر أيضا على معنى العلامة؟

قلنا لا، لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة، لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك، ولا مانع منه فوجب إثباته.

أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك فلا بد من حمله على المجاز، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية.

فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع.

المسألة الثالثة: الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي: الطبع، والكنان، والرين على القلب، والوقر في الآذان، والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة

فالقسم الأول: وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال:

{كلا بل ران على قلوبهم} (المطففين: ١٤)

{وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى ءاذانهم وقرا} (الأنعام: ٢٥)

{وطبع على قلوبهم} (التوبة: ٨٧)

{بل طبع اللّه عليها بكفرهم} (النساء: ١٥٥)

{فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} (فصلت: ٤)

{لينذر من كان حيا} (يس: ٧٠)

{إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء} (النحل: ٨٠)

{أموات غير أحياء} {فى قلوبهم مرض} (البقرة: ١٠)

والقسم الثاني: وردت دلالة على أنه لا مانع البتة

{وما منع الناس أن يؤمنوا} (الأسراء: ٩٤)

{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (االكهف: ٢٩)

{لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها} (البقرة: ٢٨٦)

{وما جعل عليكم فى الدين من حرج} (الحج: ٧٨)

{كيف تكفرون باللّه} (البقرة: ٢٨)

{لم تلبسون الحق بالباطل} (آل عمران: ٧١)

والقرآن مملوء من هذين القسمين، وصار كل قسم منهما متمسكا لطائفة، فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض.

أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها، وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعبا وأشدها شغبا، ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا، لأنهم نزهوه، فسئل عن أهل السنة فقال لا، لأنهم عظموه، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال اللّه وعلو كبريائه، إلا أن أهل السنة وقع نظرهم على العظمة فقالوا: ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح، وأقول: ههنا سر آخر، وهو أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح، وهو نفي الصانع، ولو توقفت لزم الجبر.

وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدرة.

بل ههنا سر آخر هو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضا تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزما بديهيا بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة، فكأن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم اللّه تعالى نظرا إلى قدرته وحكمته، وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت، فنسأل اللّه العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين.

المسألة الخامسة: قال صاحب الكشاف: اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم، وفي حكم التغشية، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم، لقوله تعالى: {وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} (الجاثية: ٢٣) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم.

المسألة السادسة: الفائدة في تكرير الجار في قوله: {وعلى سمعهم} أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين.

المسألة السادسة: إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه:

أحدها: أنه وحد السمع، لأن لكل واحد منهم سمعا واحدا، كما يقال: أتاني برأس الكبشين، يعني رأس كل واحد منهما، كما وحد البطن في قوله: "كلوا في بعض بطنكم تعيشوا" يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس، فإذا لم يؤمن كقولك.

فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه.

الثاني: أن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع يقال: رجلان صوم، ورجال صوم، فروعي الأصل، يدل على ذلك جمع الأذن في قوله: {وفى ءاذاننا وقر} (فصلت: ٥)

الثالث: أن نقدر مضافا محذوفا أي وعلى حواس سمعهم.

الرابع قال سيبويه: إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبلة وما بعده بلفظ الجمع، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضا، قال تعالى: {يخرجهم من الظلمات إلى النور} (البقرة: ٢٥٧)

{عن اليمين وعن الشمال} (المعارج: ٣٧) قال الراعي:

( فبها جيف الحيدي فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب )

وإنما أراد جلودها، وقرأ ابن أبي عبلة (وعلى أسماعهم).

المسألة السابعة: من الناس من قال: السمع أفضل من البصر، لأن اللّه تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر، والتقديم دليل على الفضيل، ولأن السمع شرط النبوة بخلاف البصر، ولذلك ما بعث اللّه رسولا أصم، وقد كان فيهم من كان مبتلي بالعمى، ولأن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات، ولأن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر، ولأن السمع متى بطل بطل النطق، والبصر إذا بطل لم يبطل النطق.

ومنهم من قدم البصر، لأن آلة القوة الباصرة أشرف، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور، ومتعلق القوة السامعة الريح.

المسألة الثامنة: قوله: {ختم اللّه على قلوبهم} يدل على أن محل العلم هو القلب.

واستقصينا بيانه في قوله: {نزل به الروح الامين * على قلبك} (الشعراء: ١٩٣) في سورة الشعراء.

المسألة التاسعة: قال صاحب الكشاف: البصر نور العين وهو ما يبصر به الرائي ويدرك المرئيات، كما أن البصيرة نور القلب، وهو ما يستبصر به ويتأمل، فكأنهما جوهران لطيفان خلق اللّه تعالى فيهما آلتين للأبصار والاستبصار، أقول: إن أصحابه من المعتزلة لا يرضون منه بهذا الكلام: وتحقيق القول في الأبصار يستدعي أبحاثا غامضة لا تليق بهذا الموضع.

المسألة العاشرة: قرىء {غشاوة} بالكسر والنصب، وغشاوة بالضم والرفع، وغشاوة بالفتح والنصب، وغشوة بالكسر والرفع، وغشوة بالفتح والرفع والنصب، وغشاوة بالعين غير المعجمة والرفع من الغشا، والغشاوة هي الغطاء، ومنه الغاشية، ومنه غشي عليه إذا زال عقله والغشيان كناية عن الجماع.

المسألة الحادية عشرة: العذاب مثل النكال بناء ومعنى، لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول نكل عنه، ومنه العذب، لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا، لأنه ينقخ العطش أي يكسره، وقراتا لأنه برقته عن القلب، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا وإن لم يكن نكالا أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة، والفرق بين العظيم الكبير: أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكأن العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا، تقول: رجل عظيم وكبير تريدجئته أو خطره، ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات اللّه، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا اللّه تعالى.

المسألة الثانية عشرة: اتفق المسلمون على أنه يحسن مناللّه تعالى تعذيب الكفار، وقال بعضهم لا يحسن وفسروا قوله: {ولهم عذاب عظيم} بأنهم يستحقون ذلك لكن كرمه يوجب عليه العفو، ولنذكر ههنا دلائل الفريقين،

أما الذين لا يجوزون التعذيب فقد تمسكوا بأمور.

أحدها: أن ذلك التعذيب ضرر خال عن جهات المنفعة، فوجب أن يكون قبيحا،

أما أنه ضرر فلا شك،

وأما أنه خال عن جهات المنفعة، فلأن تلك المنفعة

أما أن تكون عائدة إلى اللّه تعالى، أو إلى غيره،

والأول باطل، لأنه سبحانه متعال عن النفع والضرر بخلاف الواحد منا في الشاهد، فإن عبده إذا أساء إليه أدبه، لأنه يستلذ بذلك التأديب لما كان في قلبه من حب الانتقام ولأنه إذا أدبه فإنه ينزجر بعد ذلك عما يضره.

والثاني: أيضا باطل، لأن تلك المنفعة أما أن تكون عائدة إلى المعذب أو إلى غيره

أما إلى المعذب فهو محال، لأن الأضرار لا يكون عين الانتفاع

وأما إلى غيره فمحال، لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع، فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى شخص آخر ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو باطل وأيضا فلا منفعة يريد اللّه تعالى إيصالها إلى أحد إلا وهو قادر على ذلك الاتصال من غير توسيط الإضرار بالغير، فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة.

فثبت أن التعذيب ضرر خال عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضارا، والجهل الذي لا يكون ضارا، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار، لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر، دون قبيح نفس الضرر، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من اللّه تعالى، لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح،

وثانيها: أنه تعالى كان عالما بأن الكافر لا يؤمن على ما قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} (البقرة: ٦) إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان، فلو كان ذلك العصيان سببا للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقبا لاستقحاق العقاب،

أما لأنه تمام العلة، أو لأنه شطر العلة، وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبة لا محالة العقاب، وماكان مستعقبا للضرر الخالي عن النفع كان قبيحا، فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحا، والقبيح لا يفعله الحكيم، فلم يبق ها هنا إلا أحد أمرين،

أما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب، وكيف كان فالمقصود حاصل

وثالثها: أنه تعالى

أما أن يقال خلق الخلق للإنفاع، أو للإضرار، أولا للإنفاع ولا للإضرار، فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك، ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلا يؤدي بهم إلى العقاب، فإذا كان قاصدا لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم، وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سببا لاستحقاق العذاب، ولا جائز أن يقال.

خلقهم لا للإنفاع ولا للإضرار، لأن الترك على العدم يكفي في ذلك، ولأنه على هذا التقدير يكون عبثا، ولا جائز أن يقال: خلقهم للإضرار، لأن مثل هذا لا يكون رحيما كريما، وقد تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيما كريما، وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير، وكل ذلك يدل على عدم العقاب.

ورابعها: أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجىء إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها، إنما قلنا إنه هو الخالق لتلك الدواعي، لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها اللّه تعالى إليها، وبينا أن ذلك يوجب الجبر، وتعذيب المجبور قبيح في العقول وربما قرروا هذا من وجه آخر فقالوا: إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر، فإذا قيل لم قيل هذا وخالف الآخر؟ فيقال لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع، والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى، أو أن هذا أصغى إلي من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع، وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصي، فيقال: ولم أصغي هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم؟

فنقول: لأن هذا لبيب حازم فطن، وذلك أخرق جاهل غبي فيقال ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك، ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية.

فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه بنفسه؟ فإذا تناهت التعليلات إلى أمور خلقها اللّه تعالى اضطرارا علمنا أن كل هذه الأمور بقضاء اللّه تعالى وليس يمكنك أن تسوي بين الشخصين اللذين أطاع أحدهما وعصى الآخر في كل حال أعني في العقل والجهل، والفطانة والغباوة، والحزم والخرق، والمعلمين والباعثين والزاجرين، ولا يمكنك أن تقول إنهما لو استويا في ذلك كله لما استويا في الطاعة والمعصية، فإذن سبب الطاعة والمعصية من الأشخاص أمور وقعت بتخليق اللّه تعالى وقضائه، وعند هذا يقال: أين من العدل والرحمة والكرم أن يخلق العاصي على ما خلقه اللّه عليه من الفظاظة والجسارة، والغباوة والقساوة، والطيش والخرق، ثم يعاقبه عليه، وهلا خلقه مثل ما خلق الطائع لبيبا حازما عارفا عالما، وأين من العدل أن يسخن قلبه ويقوي غضبه ويلهب دماغه ويكثر طيشه ولا يرزقه ما رزق غيره من مؤدب أديب ومعلم عالم وواعظ مبلغ، بل يقيض له أضداد هؤلاء في أفعالهم وأخلاقهم فيتعلم منهم ثم يؤاخذه بما يؤاخذ به اللبيب الحازم، والعاقل العالم، البارد الرأس، المعتدل مزاج القلب، اللطيف الروح الذي رزقه مربيا شفيقا، ومعلما كاملا؟ ما هذا من العدل والرحمة والكرم والرأفة في شيءا فثبت بهذه الوجوه أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول.

وخامسها: أنه تعالى إنما كلفنا النفع لعوده إلينا، لأنه قال: {إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء: ٧) فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنسانا ويقول له إني أعذبك العذاب الشديد، لأنك فوت على نفسك بعض المنافع، فإنه يقال له إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر فهب أني فوت على نفسي أدون المطلوبين أفتفوت علي لأجل ذلك أعظمها وهل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول إنك قدرت على أن تكتسب دينارا لنفسك ولتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه غرض البتة، فلما لم تكتسب ذلك الدينار ولم تنتفع به آخذك وأقطع أعضاءك إربا إربا، لا شك أن هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمينا ثم قالوا هب أن سلمنا هذا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وذلك لأن أقسى الناس قلبا وأشدهم غلظة وفظاظة وبعدا عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوما أو شهرا أو سنة فإنه يشبع منه ويمل، فلو بقي مواظبا عليه لامه كل أحد، ويقال هب أنه بالغ هذا في أضرارك، ولكن إلى متى هذا التعذيب،

فأما أن تقتله وتريحه،

وأما أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقالا

وسادسها: أنه سبحانه نهى عباده عن استيفاء الزيادة، فقال: {فلا يسرف فى القتل إنه كان منصورا} (الإسرءا: ٣٣) وقال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: ٤٠)

ثم إن العبد هب أنه عصى اللّه تعالى طول عمره فأين عمره من الأبد؟ فيكون العقاب المؤبد ظلما.

وسابعها: أن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا اللّه عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته، ألا ترى أن هذا الكريم العظيم ما بقي في الآخرة، أو عقول أولئك المعذبين ما بقيت فلم لا يتوبون عن معاصيهم؟ وإذا تابوا فلم لا يقبل اللّه تعالى منهم توبتهم، ولم لا يسمع نداءهم، ولم يخيب رجاءهم؟ ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال: {ادعونى أستجب لكم} (غافر: ٦٠)

{أمن يجيب المضطر إذا دعاه} (النحل: ٦٢)

وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون: ١٠)

قالوا: فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب.

ثم قال من آمن من هؤلاء بالقرآن: العذر عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه:

أحدها: أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين، والدلائل العقلية تفيد اليقين، والمظنون لا يعارض المقطوع.

وإنما قلنا: إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني، وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية، لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر، فكانت روايتهم مظنونة، وأيضا فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير، وكل ذلك أمور ظنية، وأيضا فهي مبنية على عدم المعارض العقلي، فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معا، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل لأن العقل أصل النقل، والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معا، لكن عدم المعارض العقلي مظنون، هذا إذا لم يوجد فكيف وقد وجدنا ههنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر، فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية،

وأما أن الظني لا يعارض اليقيني فلا شك فيه.

وثانيها: وهو أن التجاوز عن الوعيد مستحسن فيما بين الناس، قال الشاعر:

( فوإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعاد ومنجز موعدي )

بل الإصرار على تحقيق الوعيد كأنه بعد لؤما، وإذا كان كذلك وجب أن لا يصلح من اللّه تعالى، وهذا بناء على حرف وهو أهل السنة جوزوا نسخ الفعل قبل مدة الامتثال وحاصل حروفهم فيه أن الأمر يسن تارة لحكمة تنشأ من نفس المأمور به، وتارة لحكمة تنشأ من نفس الأمر، فإن السيد قد يقول لعبده إفعل الفعل الفلاني غدا وإن كان يعلم في الحال أنه سينهاه عنه غدا، ويكون مقصوده من ذلك الأمر أن يظهر العبد الانقياد لسيده في ذلك ويوطن نفسه على طاعته، فكذلك إذا علم اللّه من العبد أنه سيموت غدا فإنه يحسن عند أهل السنة أن يقول: صل غدا إن عشت، ولا يكون المقصود من هذا الأمر تحصيل المأمور به، لأنه ههنا محال بل المقصود حكمة تنشأ من نفس الأمر فقط، وهو حصول الانقياد والطاعة وترك التمرد.

إذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال الخبر أيضا كذلك؟ فتارة يكون منشأ الحكمة من الأخبار هو الشيء المخبر عنه وذلك في الوعد، وتارة يكون منشأ الحكمة هو نفس الخبر لا المخبر عنه كما في الوعيد، فإن الأخبار على سبيل الوعيد مما يفيد الزجر عن المعاصي والإقدام على الطاعات، فإذا حصل هذا المقصود جاز أن لا يوجد المخبر عنه كما في الوعيد، وعند هذا قالوا إن وعد اللّه بالثواب حق لازم؛

وأما توعده بالعقاب فغير لازم، وإنما قصد به صلاح المكلفين مع رحمته الشاملة لهم، كالوالد يهدد ولده بالقتل والسمل والقطع والضرب، فإن قبل الولد أمره فقد انتفع وإن لم يفعل فما في قلب الوالد من الشفقه يرده عن قتله وعقوبته

فإن قيل فعلى جميع التقادير يكون ذلك كذبا والكذب قبيح

قلنا لا نسلم أن كل كذب قبيح بل القبيح هو الكذب الضار،

فأما الكذب النافع فلا، ثم إن سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أنه كذب، أليس أن جميع عمومات القرآن مخصوصة ولا يسمى ذلك كذبا، أليس أن كل المتشابهات مصروفة عن ظواهرها، ولا يسمى ذلك كذبا فكذا ههنا.

وثالثها: أليس أن آيات الوعيد في حق العصاة مشروطة بعدم التوبة وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا في صريح النص، فهي أيضا عندنا مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا بصريح النص صريحا، أو نقول: معناه أن العاصي يستحق هذه الأنواع من العقاب فيحمل الأخبار عن الوقوع على الأخبار عن استحقاق الوقوع فهذا جملة ما يقال في تقرير هذا المذهب.

وأما الذين أثبتوا وقوع العذاب، فقالوا إنه نقل إلينا على سبيل التواتر من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقوع العذاب فإنكاره يكون تكذيبا للرسول

وأما الشبه التي تمسكتم بها في نفي العقاب فهي مبنية على الحسن والقبح وذلك مما لا نقول به واللّه أعلم.

﴿ ٧