٤٠ {يابنى إسراءيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم وإياى فارهبون} المسألة الأولى: اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ويقولون إن معنى إسرائيل عبد للّه لأن "إسرا" في لغتهم هو العبد و "إيل" هو للّه وكذلك جبريل وهو عبد للّه وميكائيل عبد للّه . قال القفال: قيل إن "إسرا" بالعبرانية في معنى إنسان فكأنه قيل رجل للّه فقوله: {معى بنى إسراءيل} خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب عليه السلام في أيام محمد صلى للّه عليه وسلم . المسألة الثانية: حد النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا: وإنما زدنا هذا لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر بإنعامه والذم بمعصيته فلم لا يجوز ههنا أن يكون الأمر كذلك؟ ولنرجع إلى تفيسر الحد فنقول: أما قولنا: المنفعة فلأن المضرة المحضة لا يجوز أن تكون نعمة، وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان فلأنه لو كان نفعا وقصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها أو أراد استدراجه إلى ضرر واختداعه كمن أطعم خبيصا مسموما ليهلكه لم يكن ذلك، نعمة فأما إذا كانت المنفعة مفعولة على قصد الإحسان إلى الغير كانت نعمة. إذا عرفت حد النعمة فلنفرع عليه فروعا: الفرع الأول: اعلم أن كل ما يصل إلينا آناء الليل والنهار في الدنيا والآخرة من النفع ودفع الضرر فهو من للّه تعالى على ما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن للّه } (النحل: ٥٣)، ثم إن النعمة على ثلاثة أوجه: أحدها: نعمة تفرد للّه بها نحو أن خلق ورزق، وثانيها: نعمة وصلت إلينا من جهة غيره بأن خلقها وخلق المنعم ومكنه من الإنعام وخلق فيه قدرة الأنعام وداعيته ووفقه عليه وهداه إليه، فهذه النعمة في الحقيقة أيضا من للّه تعالى، إلا أنه تعالى لما أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكورا، ولكن المشكور في الحقيقة هو للّه تعالى، ولهذا قال: {أن اشكر لى ولوالديك} (لقمان: ١٤) فبدأ بنفسه، وقال عليه السلام: "لا يشكر للّه من لا يشكر الناس". وثالثها: نعمة وصلت إلينا من للّه تعالى بواسطة طاعاتنا وهي أيضا من للّه تعالى لأنه لولا أنه سبحانه وتعالى وفقنا على الطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار وإلا لما وصلنا إلى شيء منها، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم من للّه تعالى على ما قال سبحانه وتعالى: {وما بكم من نعمة فمن للّه }. الفرع الثاني: أن نعم للّه تعالى على عبيده مما لا يمكن عدها وحصرها على ما قال: {وإن تعدوا نعمة للّه لا تحصوها} (النحل: ١٨) وإنما لا يمكن ذلك لأن كل ما أودع فينا من المنافع واللذات التي ننتفع بها والجوارح والأعضاء التي نستعملها في جلب المنافع ودفع المضار وما خلق للّه تعالى في العالم مما يلتذ به ويستدل على وجود الصانع وما وجد في العالم مما يحصل الانزجار برؤيته عن المعاصي مما لا يحصى عدده وكل ذلك منافع لأن المنفعة هي اللذة أو ما يكون وسيلة إلى اللذة وجميع ما خلق للّه تعالى كذلك لأن كل ما يلتذ به نعمة وكل ما يلتذ به وهو وسيلة إلى دفع الضرر فهو كذلك والذي لا يكون جالبا للنفع الحاضر ولا دافعا للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدل به على الصانع الحكيم فيقع ذلك وسيلة إلى معرفته وطاعته وهما وسيلتان إلى اللذات الأبدية فثبت أن جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد ولما كانت العقول قاصرة عن تعديد ما في أقل الأشياء من المنافع والحكم فكيف يمكن الإحاطة بكل ما في العالم من المنافع والحكم، فصح بهذا معنى قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة للّه لا تحصوها} فإن قيل: فإذا كانت النعم غير متناهية وما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكرها في قوله: {اذكروا نعمتي التى أنعمت عليكم} والجواب أنها غير متناهية بحسب الأنواع والأشخاص إلا أنها متناهية بحسب الأجناس، وذلك يكفي في التذكير الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم. واعلم أنه لما ثبت أن استحقاق الحمد والثناء والطاعة لا يتحقق إلا على إيصال النعمة ثبت أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لحمد الحامدين. ولهذا قال في ذم الأصنام: {هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون} (الشعراء: ٧٢، ٧٣) وقال تعالى: {ويعبدون من دون للّه ما لا ينفعهم ولا يضرهم} (الفرقان: ٥٥) وقال: {أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى} (يونس: ٣٥). الفرع الثالث: أن أول ما أنعم للّه به على عبيده هو أن خلقهم أحياء والدليل عليه قوله تعالى: {كيف تكفرون بللّه وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون * هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا} (البقرة: ٢٨، ٢٩) إلى آخر الآية، وهذا صريح في أن أصل النعم الحياة لأنه تعالى أول ما ذكر من النعم فإنما ذكر الحياة ثم إنه تعالى ذكر عقيبها سائر النعم وأنه تعالى إنما ذكر المؤمنين ليبين أن المقصود من حياة الدنيا حياة الآخرة والثواب. وبين أن جميع ما خلق قسمان منتفع ومنتفع به، هذا قول المعتزلة. وقال أهل السنة: إنه سبحانه كما خلق المنافع خلق المضار ولا اعتراض لأحد عليه، ولهذا سمى نفسه "النافع الضار" ولا يسأل عما يفعل. الفرع الرابع: قالت المعتزلة: إن للّه تعالى قد أنعم على المكلفين بنعمة الدنيا ونعمة الدين، وسوى بين الجميع في النعم الدينية والدنيوية، أما في النعم الدينية فلأن كل ما كان في المقدور من الألطاف فقد فعل بهم والذي لم يفعله فغير داخل في القدرة إذ لو قدر على لطف لم يفعله بالمكلف لبقي عذر المكلف، وأما في الدنيا فعلى قول البغداديين خاصة لأن عندهم يجب رعاية الأصلح في الدنيا وعند البصريين لا يجب. وقال أهل السنة: إن للّه تعالى خلق الكافر للنار ولعذاب الآخرة ثم اختلفوا في أنه هل للّه نعمة على الكافر في الدنيا؟ فمنهم من قال: هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم يكن ذلك نعمة على الكافر في الدنيا، فإن من جعل السم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سبيلا إلى الضرر العظيم، ولهذا قال تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملى لهم خير لانفسهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما} (آل عمران: ١٧٨) ومنهم من قال: إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدين فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه للّه ، وهذا القول أصوب ويدل عليه وجوه. أحدها: قوله تعالى: {قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذى جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء} (البقرة: ٢١، ٢٢) فنبه على أنه يجب على الكل طاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق. ثانيها: قوله تعالى: {كيف تكفرون بللّه وكنتم أمواتا} (البقرة: ٢٨) إلى آخره وذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم ولو لم يصل إليهم من للّه تعالى شيء من النعم لما صح ذلك. وثالثها: قوله: {راجعون يابنى إسراءيل اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين} (البقرة: ٤٧) وهذا نص صريح في أن للّه تعالى أنعم على الكافر إذ المخاطب بذلك هم أهل الكتاب وكانوا من الكفار وكذا قوله: {خالدون يابنى إسراءيل اذكروا نعمتي} إلى قوله: {وإذ أنجيناكم} وقوله: {وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} (البقرة: ٥٣). وكل ذلك عد للنعم على العبيد. ورابعها: قوله: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الارض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا} (الأنعام: ٦). وخامسها: قوله: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه} (الأنعام: ٦٣) إلى قوله: {ثم أنتم تشركون}. وسادسها: قوله: {ولقد مكناكم فى الارض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون} (الأعراف: ١٠) وقال في قصة إبليس: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} (الأعراف:١٧)، ولو لم يكن عليهم من للّه نعمة لما كان لهذا القول فائدة. وسابعها: قوله: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم فى الارض} (الأعراف: ٨٦) الآية، وقال حاكيا عن شعيب: {واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم} وقال حاكيا عن موسى: {قال أغير للّه أبغيكم إلاها وهو فضلكم على العالمين} (الأعراف: ١٤٠). وثامنها: قوله: {ذالك بأن للّه لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم} (الأنفال: ٥٣) وهذا صريح. وتاسعها: قوله: {هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق للّه ذالك إلا بالحق} (يونس: ٥). وعاشرها: قوله تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم}. الحادي عشر: قوله: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها} إلى قوله: {*} إلى قوله: {فلما أنجاهم إذا هم يبغون فى الارض بغير الحق} (يونس: ٢١ ـ ٢٣). ٣١ الثاني عشر: قوله: {وهو الذى جعل لكم اليل لباسا} (الفرقان: ٤٧). وقوله: {هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا} (يونس: ٦٧). الثالث عشر: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت للّه كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار} (إبراهيم: ٢٨ ـ ٢٩). الرابع عشر: {للّه الذى خلق * السماوات والارض * وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره} (إبراهيم: ٣٢). الخامس عشر: قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة للّه لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم: ٣٤) وهذا صريح في إثبات النعمة في حق الكفار. واعلم أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى العبارة. وذلك لأنه لا نزاع في أن هذه الأشياء أعني الحياة والعقل والسمع والبصر وأنواع الرزق والمنافع من للّه تعالى إنما الخلاف في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المضار الأبدية هل يطلق في العرف عليها اسم النعمة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك نزاع في مجرد عبارة، وأما الذي يدل على أن ما لا يلتذ به المكلف فهو تعالى إنما خلقه لينتفع به في الاستدلال على الصانع وعلى لطفه وإحسانه فأمور. أحدها: قوله تعالى في سورة أتى أمر للّه : {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده} فيبين تعالى أنه إنما بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولأجل الدعوة إلى وحدانيته والإيمان بتوحيده وعدله، ثم إنه تعالى قال: {خلق * السماوات والارض بالحق * تعالى عما يشركون * خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} (النحل: ٢ ـ ٤) فبين أن حدوث العبد مع ما فيه من الكفر من أعظم الدلائل على وجود الصانع وهو انقلابه من حال إلى حال، من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن ينتهي من أخس أحواله وهو كونه نطفة إلى أشرف أحواله وهو كونه خصيما مبينا، ثم ذكر بعد ذلك وجوه إنعامه فقال: {والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} إلى قوله: {هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون} (النحل: ١٠) بين بذلك الرد على الدهرية وأصحاب الطبائع لأنه تعالى بين أن الماء واحد والتراب واحد ومع ذلك اختلفت الألوان والطعوم والروائح، ثم قال: {وسخر لكم الشمس والقمر} (إبراهيم: ٣٣) بين به الرد على المنجمين وأصحاب الأفلاك حيث استدل بحركاتها وبكونها مسخرة على طريقة واحدة على حدوثها فأثبت سبحانه وتعالى بهذه الآيات أن كل ما في العالم مخلوق لأجل المكلفين لأن كل ما في العالم مما يغاير ذات المكلف ليس يخلو من أن يلتذ به المكلف ويستروح إليه فيحصل له به سرور أو يتحمل عنه كلفة أو يحصل له به اعتبار نحو الأجسام المؤذية كالحيات والعقارب فيتذكر بالنظر إليها أنواع العقاب في الآخرة فيحترز منها ويستدل بها على المنعم الأعظم، فثبت أنه لا يخرج شيء من مخلوقاته عن هذه المنافع، ثم إنه سبحانه وتعالى نبه على عظم إنعامه بهذه الأشياء في آخر هذه الآيات فقال: {وإن تعدوا نعمة للّه لا تحصوها} (إبراهيم: ٣٤). وثانيها: قوله تعالى: {وضرب للّه مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت ٣٢ بأنعم للّه } (النحل: ١١٢) فنبه بذلك على أن كون النعمة واصلة إليهم يوجب أن يكون كفرانها سببا للتبديل، وثالثها: قوله في قصة قارون: {وأحسن كما أحسن للّه إليك} (القصص: ٧٧) وقال: {ألم تروا أن للّه سخر لكم ما فى * السماوات وما في الارض *وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} (لقمان: ٢٠) وقال: {أفرءيتم ما تمنون * تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن} (الواقعة: ٥٨) وقال: {فبأى ءالاء ربكما تكذبان} (يس: ١٤) (الرحمن: ١٦) على سبيل التكرير وكل ما في هذه السورة فهو من النعم، أما في الدين أو في الدنيا فهذا ما يتعلق بهذا الباب. المسألة الثالثة: في النعم المخصوصة ببني إسرائيل قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون وعبيد المنعم قليلون، فللّه تعالى ذكر بني إسرائيل بنعمه عليهم ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى للّه عليه وسلم ذكرهم بالمنعم فقال: {فاذكرونى أذكركم} فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى للّه عليه وسلم على سائر الأمم. واعلم أن نعم للّه تعالى على بني إسرائيل كثيرة (أ) استنقذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبودية كما قال: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم فى الارض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (القصص: ٥،٦). (ب) جعلهم أنبياء وملوكا بعد أن كانوا عبيدا للقبط فأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال: {كذلك وأورثناها بنى إسراءيل} (الشعراء: ٥٩) (ج) أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمة سواهم كما قال: {وإذ قال موسى لقومه ياقوم * قوم * اذكروا نعمة للّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} (المائدة: ٢٠). (د) روى هشام عن ابن عباس أنه قال: من نعمة للّه تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون وظلل عليهم في التيه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه وأعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا من الماء متى أرادوا فإذا استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم وأعطاهم عمودا من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لا تتشعث وثيابهم لا تبلى. واعلم أنه سبحانه وتعالى إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه: أحدها: أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلى للّه عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل والزبور. وثانيها: أن كثرة النعم توجب عظم المعصية فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى للّه عليه وسلم وبالقرآن. وثالثها: أن تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة. ورابعها: أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أن المنعم خصهم من بين سائر الناس بها ومن خص أحدا بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم لما قيل: إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية، وذلك الطمع مانع من إظهار المخالفة والمخاصمة. فإن قيل: هذه النعم ما كانت على المخاطبين بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعما عليهم وسببا لعظم معصيتهم؟ والجواب من وجوه: أحدها: لولا هذه النعم على آبائهم لما بقوا فما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنها نعم على الأبناء. ٣٣ وثانيها: أن الانتساب إلى الآباء وقد خصهم للّه تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد. وثالثها: الأولاد متى سمعوا أن للّه خص آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم وإعراضهم عن الكفر والجحود رغب الولد في هذه الطريقة لأن الولد مجبول على التشبه بالأب في أفعال الخير فيصير هذا التذكير داعيا إلى الاشتغال بالخيرات والإعراض عن الشرور. أما قوله تعالى: {وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم} فاعلم أن العهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعا وذكروا في هذا العهد قولين: الأول: أن المراد منه جميع ما أمر للّه به من غير تخصيص ببعض التكاليف دون بعض ثم فيه روايات. إحداها: أنه تعالى جعل تعريفه إياهم نعمه عهدا له عليهم من حيث يلزمهم القايم بشكرها كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق، وقوله: {أوف بعهدكم} أراد به الثواب والمغفرة. فجعل الوعد بالثواب شبيها بالعهد من حيث اشتراكهما في أنه لا يجوز الإخلال به. ثانيها: قال الحسن: المراد منه العهد الذي أخذه للّه تعالى على بني إسرائيل في قوله تعالى: {وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال للّه إنى معكم لئن أقمتم الصلواة وءاتيتم الزكواة} إلى قوله: {ولادخلنكم جنات تجرى من تحتها الانهار} (المائدة: ١٢) فمن وفى للّه بعهده وفى للّه له بعهده، وثالثها: وهو قول جمهور المفسرين أن المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم، أي أرضى عنكم وأدخلكم الجنة وهو الذي حكاه الضحاك عن ابن عباس وتحقيقه ما جاء في قوله تعالى: {إن للّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} إلى قوله تعالى: {ومن أوفى بعهده من للّه فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به} (التوبة: ١١١). القول الثاني: أن المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد صلى للّه عليه وسلم وأنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله: {ولقد أخذ للّه ميثاق بنى إسراءيل} إلى قوله: {لاكفرن عنكم سيئاتكم ولادخلنكم جنات تجرى من تحتها الانهار} (المائدة: ١٢) وقال في سورة الأعراف: {واكتب لنا فى هاذه الدنيا حسنة وفي الاخرة إنا هدنا إليك قال عذابى * الذين يتبعون الرسول النبى الامى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل} (الأعراف: ١٥٦) وأما عهد للّه معهم فهو أن ينجز لهم ما وعدهم من وضع ما كان عليهم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقهم، وقال: {وإذ أخذ للّه ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق} (آل عمران: ٨١) الآية. وقال: {وإذ قال عيسى ابن مريم يابنى * بنى إسراءيل أنى *رسول للّه إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد} (الصف: ٦). وقال ابن عباس: إن للّه تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به ـ أي بالقرآن ـ غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين، أجرا باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل، وأجرا باتباع ما جاء به محمد النبي الأمي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في قوله تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} (القصص: ٥٢) إلى قوله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} (القصص: ٥٤) وكان علي بن عيسى يقول تصديق ذلك في قوله تعالى: {فاسقون ياأيها الذين ءامنوا اتقوا للّه وءامنوا برسوله يؤتكم كفلين من ٣٤ رحمته} (الحديد: ٢٨) وتصديقه أيضا فيما روى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى للّه عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى للّه عليه وسلم فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران، ورجل أطاع للّه وأطاع سيده فله أجران" بقي ههنا سؤالان: السؤال الأول: لو كان الأمر كما قلتم فكيف يجوز من جماعتهم جحده؟ والجواب من وجهين: الأول: أن هذا العلم كان حاصلا عند العلماء بكتبهم لكن لم يكن لهم العدد الكثير فجاز منهم كتمانه. الثاني: أن ذلك النص كان نصا خفيا لا جليا فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه. السؤال الثاني: الشخص المبشر به في هذه الكتب أما أن يكون قد ذكر في هذه الكتب وقت خروجه ومكان خروجه وسائر التفاصيل المتعلقة بذلك أو لم يذكر شيء من ذلك، فإن كان ذلك النص نصا جليا واردا في كتب منقولة إلى أهل العلم بالتواتر فكان يمتنع قدرتهم على الكتمان وكان يلزم أن يكون ذلك معلوما بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين. وإن كان الثاني لم يدل ذلك النص على نبوة محمد صلى للّه عليه وسلم لاحتمال أن يقولوا: إن ذلك المبشر به سيجيء بعد ذلك على ما هو قول جمهور اليهود. والجواب أن الذين حملوا قوله تعالى: {وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم} على الأمر بالتأمل في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة على ما شرحناه في القول الأول إنما اختاروه لقوة هذا السؤال، فأما من أراد أن ينصر القول الثاني فإنه يجيب عنه بأن تعيين الزمان والمكان لم يكن منصوصا عليه نصا جليا يعرفه كل أحد بل كان منصوصا عليه نصا خفيا فلا جرم لم يلزم أن يعلم ذلك بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ولنذكر الآن بعض ما جاء في كتب الأنبياء المتقدمين من البشارة بمقدم محمد صلى للّه عليه وسلم ، فالأول: جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك (من قبل) للّه فقال لها يا هاجر أين تريدين ومن أين أقبلت؟ قالت: أهرب من سيدتي سارة فقال لها: ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن للّه سيكثر زرعك وذريتك وستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه إسماعيل من أجل أن للّه سمع تبتلك وخشوعك وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهو يشكر على رغم جميع إخوته. واعلم أن الاستدلال بهذا الكلام أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة وليس يجوز أن يبشر الملك من قبل للّه بالظلم والجور وبأمر لا يتم إلا بالكذب على للّه تعالى ومعلوم أن إسماعيل وولده لم يكونوا متصرفين في الكل أعني في معظم الدنيا ومعظم الأمم ولا كانوا مخالطين للكل على سبيل الاستيلاء إلا بالإسلام لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف، فلما جاء الإسلام استولوا على الشرق والغرب بالإسلام ومازجو الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة، فلو لم يكن النبي صلى للّه عليه وسلم صادقا لكانت هذه المخالطة منهم للأمم ومن الأمم لهم معصية للّه تعالى وخروجا عن طاعته إلى طاعة الشيطان وللّه يتعالى عن أن يبشر بما هذا سبيله. والثاني: جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: "إن الرب إلهكم يقيم لكم نبيا مثلي من بينكم ومن إخوانكم"، وفي هذا الفصل أن الرب تعالى قال لموسى: "إني مقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوانهم وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه". وهذا الكلام يدل على أن النبي الذي يقيمه للّه تعالى ليس من بني إسرائيل كما أن من قال لبني هاشم: إنه سيكون من إخوانكم إمام، عقل أنه لا يكون من بني هاشم، ثم إن يعقوب عليه السلام هو إسرائيل ولم يكن له أخ إلا العيص ولم يكن للعيص ولد من الأنبياء سوى أيوب وإنه كان قبل موسى عليه السلام فلا يجوز أن يكون موسى عليه السلام مبشرا به، وأما اسماعيل فإنه كان أخا لإسحق والد يعقوب ثم إن كل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل، فالنبي عليه السلام ما كان منهم لكنه كان من إخوانهم لأنه من ولد إسماعيل الذي هو أخو إسحق عليهم السلام. فإن قيل قوله: "من بينكم" يمنع من أن يكون المراد محمدا صلى للّه عليه وسلم لأنه لم يقم من بين بني إسرائيل. قلنا: بل قد قام من بينهم لأنه عليه السلام ظهر بالحجاز فبعث بمكة وهاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره. وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، وأيضا فإن الحجاز يقارب الشام وجمهور اليهود كانوا إذ ذاك بالشام، فإذا قام محمد بالحجاز فقد قام من بينهم، وأيضا فإنه إذا كان من إخوانهم فقد قام من بينهم فإنه ليس ببعيد منهم. والثالث: قال في الفصل العشرين من هذا السفر: "إن الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع لنا من ساعير وظهر من جبال فاران وصف عن يمينه عنوان القديسين فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة، وجه الاستدلال: أن جبل فاران هو بالحجاز لأن في التوراة أن اسماعيل تعلم الرمي في برية فاران، ومعلوم أنه إنما سكن بمكة. إذا ثبت هذا فنقول: إن قوله: "فمنحهم العز" لا يجوز أن يكون المراد إسماعيل عليه السلام لأنه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل عليه السلام هناك عز ولا اجتمع هناك ربوات القديسين فوجب حمله على محمد عليه السلام. قالت اليهود: المراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضا ومن جبل فاران أيضا فانتشرت في هذه المواضع قلنا هذا لا يصح لأن للّه تعالى لو خلق نارا في موضع فإنه لا يقال جاء للّه من ذلك إذا تابع ذلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة وما أشبه ذلك. وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحي ولا كلام إلا من طور سيناء فما كان ينبغي إلا أن يقال ظهر من ساعير ومن جبل فاران فلا يجوز وروده كما لا يقال جاء للّه من الغمام إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران كما يتفق ذلك في أيام الربيع، وأيضا ففي كتاب حقوق بيان ما قلنا وهو جاء للّه من طور سيناء والقدس من جبل فاران، وانكشفت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده. يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزه تسير المنايا أمامه ويصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وتأمل الأمم وبحث عنها فتضعضعت الجبال القديمة واتضعت الروابي والدهرية، وتزعزعت ستور أهل مدين وركبت الخيول، وعلوت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في قسيك إغراقا ونزعا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء وتخور الأرض بالأنهار، ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل ونفرت المهاري نفيرا ورعبا ورفعت أيديها وجلا وفرقا وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضبا وتدوس الأمم زجرا لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ تراب آبائك". هكذا نقل عن ابن رزين الطبري. أما النصارى فقال أبو الحسين رحمه للّه في كتاب الغرر قد رأيت في نقولهم: "وظهر من جبال فاران لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود وترتوى السهام بأمرك المحمود لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ مسيحك"، فظهر بما ذكرنا أن قوله تعالى في التوراة: "ظهر الرب من جبال فاران" ليس معناه ظهور النار منه بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات وما ذاك إلا رسولنا محمد صلى للّه عليه وسلم . فإن قالوا المراد مجيء للّه تعالى ولهذا قال في آخر الكلام: "وإنقاذ مسيحك" قلنا لا يجوز وصف للّه تعالى بأنه يركب الخيول وبأن شعاع منظره مثل النور وبأنه جاز المشاعر القديمة، أما قوله: (وإنقاذ مسيحك) فإن محمدا عليه السلام أنقذ المسيح من كذب اليهود والنصارى. والرابع: ما جاء في كتاب أشعياء في الفصل الثاني والعشرين منه: "قومي فأزهري مصباحك، يريد مكة، فقد دناوقتك وكرامة للّه تعالى طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقا ويظهر كرامته عليك تسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك وارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم مستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بلد بعيد لأنك أم القرى فأولاد سائر البلاد كأنهم أولاد مكة وتتزين ثيابك على الأرائك والسرر حين ترين ذلك تسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ويحج إليك عساكر الأمم ويساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم للّه ويمجدونه وتسير إليك أغنام فاران ويرفع إلى مذبحي ما يرضيني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمدا". فوجه الاستدلال أن هذه الصفات كلها موجودة لمكة فإنه قد حج إليها عساكر الأمم ومال إليها ذخائر البحر وقوله: "وأحدث لبيت محمدتي حمدا" معناه أن العرب كانت تلبي قبل الإسلام فتقول لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكة وما ملك، ثم صار في الإسلام: لبيك للّه م لبيك، لا شريك لك لبيك، فهذا هو الحمد الذي جدده للّه لبيت محمدته. فإن قيل المراد: بذلك بيت المقدس وسيكون ذلك فيما بعد. قلنا لا يجوز أن يقول الحكيم: "قد دنا وقتك" مع أنه ما دنا بل الذي دنا أمر لا يوافق رضاه ومع ذلك لا يحذر منه وأيضا فإن كتاب أشعياء مملوء من ذكر البادية وصفتها، وذلك يبطل قولهم. والخامس: روى السمان في تفسيره في السفر الأول من التوراة أن للّه تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام قال: "قد أجبت دعاك في إسماعيل وباركت عليه فكبرته وعظمته جدا جدا وسيلد اثني عشر عظيما واجعله لأمة عظيمة" والاستدلال به أنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان كان لأمة عظيمة غير نبينا محمد صلى للّه عليه وسلم فأما دعاء إبراهيم عليه السلام وإسماعيل فكان لرسولنا عليه الصلاة والسلام لما فرغا من بناء الكعبة وهو قوله: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} (البقرة: ١٢٩) ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام: "أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى" وهو قوله: {ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد} (الصف: ٦) فإنه مشتق من الحمد والاسم المشتق من الحمد ليس إلا لنبينا فإن اسمه محمد وأحمد ومحمود. قيل إن صفته في التوراة أن مولده بمكة ومسكنه بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون. والسادس: قال المسيح للحواريين: "أنا أذهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول كما يقال له" وتصديق ذلك: {إن أتبع إلا ما يوحى إلى} (الأنعام: ٥٠) وقوله: {قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما * يوحى إلى} (يونس: ١٥) أما "الفارقليط" ففي تفسيره وجهان: أحدهما أنه الشافع المشفع وهذا أيضا صفته عليه الصلاة والسلام، الثاني: قال بعض النصارى: الفار قليط هو الذي يفرق بين الحق والباطل وكان في الأصل فاروق كما يقال راووق للذي يروق به وأما "ليط" فهو التحقيق في الأمر كما يقال شيب أشيب ذو شيب وهذا أيضا صفة شرعنا لأنه هو الذي يفرق بين الحق والباطل. والسابع: قال دانيال ليختنصر حين سأله عن الرؤيا التي كان رآها من غير أن قصها عليه: رأيت أيها الملك منظرا هائلا رأسه من الذهب الأبريز وساعده من الفضة وبطنه وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعضها من خزف ورأيت حجرا يقطع من غير قاطع وصك رجل ذلك الصنم ودقها دقا شديدا فتفتت الصنم كله حديده ونحاسه وفضته وذهبه وصارت رفاتا وعصفت بها الرياح فلم يوجد لها أثر وصار ذلك الحجر الذي صك ذلك الرجل من ذلك الصنم جبلا عاليا امتلأت به الأرض فهذا رؤياك أيها الملك. وأما تفسيرها فأنت الرأس الذي رأيته من الذهب ويقوم بعدك مملكة أخرى دونك والمملكة الثالثة التي تشبه النحاس تنبسط على الأرض كلها، والمملكة الرابعة تكون قوتها مثل الحديد، وأما الرجل التي كان بعضها من خزف فإن بعض المملكة يكون عزيزا وبعضها يكون ذليلا وتكون كلمة الملك متفرقة ويقيم إله السماء في تلك الأيام مملكة أبدية لا تتغير ولا تزول وإنها تزيل جميع الممالك وسلطانها يبطل جميع السلاطين وتقوم هي إلى الدهر الداهر فهذا تفسير الحجر الذي رأيت أنه يقطع من جبل بلا قاطع حتى دق الحديد والنحاس والخزف وللّه أعلم بما يكون في آخر الزمان. فهذه هي البشارات الواردة في الكتب المتقدمة بمبعث رسولنا محمد صلى للّه عليه وسلم . أما قوله تعالى: {أوف بعهدكم} فقالت المعتزلة: ذلك العهد هو ما دل العقل عليه من أن للّه تعالى يجب عليه إيصال الثواب إلى المطيع وصح وصف ذلك الوجوب بالعهد لأنه بحيث يجب الوفاء به فكان ذلك أوكد من العهد بالإيجاب بالنذر واليمين: وقال أصحابنا: إنه لا يجب للعبد على للّه شيء، وفي هذه الآية ما يدل على ذلك لأنه تعالى لما قدم ذكر النعم، ثم رتب عليه الأمر بالوفاء بالعهد دل على أن تلك النعم السالفة توجب عهد العبودية، وإذا كان كذلك كان أداء العبادات أداء لما وجب بسبب النعم السالفة وأداء الواجب لا يكون سببا لواجب آخر، فثبت أن أداء التكاليف لا يوجب الثواب فبطل قول المعتزلة بل التفسير الحق من وجهين: الأول: أنه تعالى لما وعد بالثواب وكل ما وعد به استحال أن لا يوجد، لأنه لو لم يوجد لانقلب خبره الصدق كذبا والكذب عليه محال، والمفضي إلى المحال محال فكان ذلك واجب الوقوع فكان ذلك آكد مما ثبت باليمين والنذر، الثاني: أن يقال العهد هو الأمر والعبد يجوز أن يكون مأمورا إلا أن للّه تعالى لا يجوز أن يكون مأمورا لكنه سبحانه وتعالى جرى في ذلك على موافقة اللفظ كقوله: {يخادعون للّه وهو خادعهم} (النساء: ١٤٢)، {ومكروا ومكر للّه } (آل عمران: ٥٤) وأما قوله: {وإياى فارهبون} فاعلم أن الرهبة هي الخوف قال المتكلمون: الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه وقد يقال في المكلف إنه خائف على وجهين: أحدهما: مع العلم والآخر مع الظن، أما العلم فإذا كان على يقين من أنه أتى بكل ما أمر به واحترز عن كل ما نهى عنه فإن خوفه إنما يكون عن المستقبل وعلى هذا نصف الملائكة والأنبياء عليهم السلام بالخوف والرهبة. قال تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} (النحل: ٥٠) وأما الظن فإذا لم يقطع بأنه فعل المأمورات واحترز عن المنهيات فحينئذ يخاف أن لا يكون من أهل الثواب، واعلم أن كل من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس. روى: "أنه ينادي مناد يوم القيامة وعزتي وجلالي إني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة" وقال العارفون: الخوف خوفان خوف العقاب وخوف الجلال، والأول: نصيب أهل الظاهر، والثاني: نصيب أهل القلب، والأول: يزول، والثاني: لا يزول. واعلم أن في الآية دلالة على أن كثرة النعم تعظم المعصية، ودلالة على ما تقدم العهد يعظم المخالفة ودلالة على أن الرسول كما كان مبعوثا إلى العرب كان مبعوثا إلى بني إسرائيل. وقوله: {وإياى فارهبون} يدل على أن المرء يجب أن لا يخاف أحدا إلا للّه تعالى، وكما يجب ذلك في الخوف فكذا في الرجاء والأمل وذلك يدل على أن الكل بقضاء للّه وقدره إذ لو كان العبد مستقلا بالفعل لوجب أن يخاف منه كما يخاف من للّه تعالى وحينئذ يبطل الحصر الذي دل عليه قوله تعالى: {وإياى فارهبون} بل كان يجب أن لا يرهب إلا نفسه، لأن مفاتيح الثواب والعقاب بيده لا بيد للّه تعالى فوجب أن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف للّه ألبتة، وفيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء وأن ذلك لا بد منه في صحتها وللّه أعلم. |
﴿ ٤٠ ﴾