٤٨ {واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} اعلم أن اتقاء اليوم اتقاء لما يحصل في ذلك اليوم من العقاب والشدائد لأن نفس اليوم لا يتقي ولا بد من أن يرده أهل الجنة والنار جميعا. فالمراد ما ذكرناه ثم إنه تعالى وصف اليوم بأشد الصفات وأعظمها تهويلا، وذلك لأن العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وحاولت أعوانه دفاع ذلك عنه بذلت ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته، فإن رأى من لا طاقة له بمانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والليان لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله. أما مال أو غيره وإن لم تغن عنه هذه الثلاثة تعلل بما يرجوه من نصر الأخلاء والأخوان فأخبر للّه سبحانه أنه لا يغني شيء من هذه الأمور عن المجرمين في الآخرة. بقي على هذا الترتيب سؤالان: السؤال الأول: الفائدة من قوله: {لا تجزى نفس عن نفس شيئا} هي الفائدة من قوله: {ولا هم ينصرون} فما المقصود من هذا التكرار؟ والجواب: المراد من قوله: {لا تجزى نفس عن نفس شيئا} أنه لا يتحمل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء، وأما النصرة فهي أن يحاول تخليصه عن حكم المعاقب وسنذكر فرقا آخر إن شاء للّه تعالى. السؤال الثاني: أن للّه تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه؟ الجواب: أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة، ففائدة تغيير الترتيب، الإشارة إلى هذين الصنفين: ولنذكر الآن تفسير الألفاظ: أما قوله تعالى: {لا تجزى نفس عن نفس شيئا} فقال القفال: الأصل في جزي هذا عند أهل اللغة قضي ومنه الحديث أن رسول للّه صلى للّه عليه وسلم قال لأبي بردة بن يسار: "تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك"، هكذا يرويه أهل العربية: "تجزيك" بفتح التاء غير مهموز أي تقضي عن أضحيتك وتنوب، ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئا ولا تحمل عنها شيئا مما أصابها، بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي على العاصي ما كان واجبا عليه. وقد تقع هذه النيابة في الدنيا كالرجل يقضي عن قريبه وصديقه دينه ويتحمل عنه، فأما يوم القيامة فإن قضاء الحقوق إنما يقع فيه من الحسنات. روى أبو هريرة قال: قال عليه السلام: "رحم للّه عبدا كان عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال أو جاه فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثم دينار ولا درهم فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته وإن لم يكن له حسنات حمل من سيئاته". قال صاحب الكشاف: و (شيئا) مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلا من الجزاء كقوله تعالى: {ولا يظلمون شيئا} (مريم: ٦٠). ومن قرأ: "لا يجزي" من أجزأ عنه إذا أغنى عنه فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئا من الإجزاء وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوما. فإن قيل: فأين العائد منها إلى الموصوف؟ قلنا: هو محذوف تقديره لا تجزي فيه ومعنى التنكير أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس غيرها شيئا من الأشياء وهو الإقناط الكلي القطاع للمطامع. أما قوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} فالشفاعة أن يستوهب أحد لأحد شيئا ويطلب له حاجة وأصلها من الشفع الذي هو ضد الوتر كأن صاحب الحاجة كان فردا فصار الشفيع له شفعا أي صارا زوجا. واعلم أن الضمير في قوله: {ولا يقبل منها} راجع إلى النفس الثانية العاصية وهي التي لا يؤخذ منها عدل، ومعنى لا يقبل منها شفاعة إنها إن جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها، ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى، على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها كما لا تجزي عنها شيئا. أما قوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} أي فدية، وأصل الكلمة من معادلة الشيء تقول: ما أعدل بفلان أحدا، أي لا أرى له نظيرا. قال تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (المائدة: ٣٦) ونظيره هذه الآية قوله تعالى: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما فى الارض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما} (المائدة: ٣٦) وقال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به} (آل عمران: ٩١) وقال: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} (الأنعام: ٧٠). أما قوله تعالى: {ولا هم ينصرون} فاعلم أن التناصر إنما يكون في الدنيا بالمخالطة والقرابة وقد أخير للّه تعالى أنه ليس يومئذ خلة ولا شفاعة وأنه لا أنساب بينهم، وإنما المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه وقرابته، قال القفال: والنصر يراد به المعونة كقوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، ومنه معنى الإغاثة: تقول العرب: أرض منصورة أي ممطورة، والغيث ينصر البلاد إذا أنبتها فكأنه أغاث أهلها وقيل في قوله تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره للّه } (الحج: ١٥) أي أن لن يرزقه كما يرزق الغيث البلاد، ويسمى الانتقام نصرة وانتصارا، قال تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بئاياتنا} (الأنبياء: ٧٧) قالوا معناه: فانتقمنا له، فقوله تعالى: {ولا هم ينصرون} يحتمل هذه الوجوه فإنهم يوم القيامة لا يغاثون، ويحتمل أنهم إذا عذبوا لم يجدوا من ينتقم لهم من للّه ، وفي الجملة كأن النصر هو دفع الشدائد، فأخبر للّه تعالى أنه لا دافع هناك من عذابه، بقي في الآية مسألتان: المسألة الأولى: أن في الآية أعظم تحذير عن المعاصي وأقوى ترغيب في تلافي الإنسان ما يكون منه من المعصية بالتوبة لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة، فإذا كان لا يأمن كل ساعة من التقصير في العبادة، ومن فوت التوبة من حيث إنه لا يقين له في البقاء صار حذرا خائفا في كل حال، والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي في المعنى مخاطبة للكل لأن الوصف الذي ذكر فيها وصف لليوم وذلك يعم كل من يحضر في ذلك اليوم. المسألة الثانية: أجمعت الأمة على أن لمحمد صلى للّه عليه وسلم شفاعة في الآخرة وحمل على ذلك قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} (الإسراء: ٧٩) وقوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى: ٥) ثم اختلفوا بعد هذا في أن شفاعته عليه السلام لمن تكون أتكون للمؤمنين المستحقين للثواب، أم تكون لأهل الكبائر المستحقين للعقاب؟ فذهبت المعتزلة على أنها للمستحقين للثواب وتأثير الشفاعة في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه، وقال أصحابنا: تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب، أما بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار وإن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة واتفقوا على أنها ليست للكفارواستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه. أحدها: هذه الآية: قالوا إنها تدل على نفي الشفاعة من ثلاثة أوجه. الأول: قوله تعالى: {لا تجزى نفس عن نفس شيئا} ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكان قد أجزت نفس عن نفس شيئا. الثاني: قوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} وهذه نكرة في سياق النفي فتعم جميع أنواع الشفاعة، والثالث: قوله تعالى: {ولا هم ينصرون} ولو كان محمد شفيعا لأحد من العصاة لكان ناصرا له وذلك على خلاف الآية. لا يقال الكلام على الآية من وجهين: الأول: أن اليهود كانوا يزعمون أن آباءهم يشفعون لهم فأيسوا من ذلك، فالآية نزلت فيهم. الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي نفي الشفاعة مطلقا إلا أنا أجمعنا على تطرق التخصيص إليه في حق زيادة الثواب لأهل الطاعة، فنحن أيضا نخصه في حق المسلم صاحب الكبيرة بالدلائل التي نذكرها، لأنا نجيب عن الأول بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعن الثاني أنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية نفي الشفاعة في زيادة المنافع لأنه تعالى حذر من ذلك اليوم بأنه لا تنفع فيه شفاعة، وليس يحصل التحذير إذا رجع نفي الشفاعة إلى تحصيل زيادة النفع لأن عدم حصول زيادة النفع ليس فيه خطر ولا ضرر يبين ذلك أنه تعالى لو قال: اتقوا يوما لا أزيد فيه منافع المستحق للثواب بشفاعة أحد لم يحصل بذلك زجر عن المعاصي، ولو قال: اتقوا يوما لا أسقط فيه عقاب المستحق للعقاب بشفاعة شفيع كان ذلك زجرا عن المعاصي، فثبت أن المقصود من الآية نفي تأثير الشفاعة في إسقاط العقاب لا نفي تأثيرها في زيادة المنافع. وثانيها: قوله تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر: ١٨) والظالم هو الآتي بالظلم وذلك يتناول الكافر وغيره، لا يقال إنه تعالى نفى أن يكون للظالمين شفيع يطاع ولم ينف شفيعا يجاب ونحن نقول بموجبه فإنه لا يكون في الآخرة شفيع يطاع، لأن المطاع يكون فوق المطيع، وليس فوقه تعالى أحد يطيعه للّه تعالى، لأنا نقول: لا يجوز حمل الآية على ما قلتم من وجهين، الأول: أن العلم بأنه ليس فوقه تعالى أحد يطيعه، متفق عليه بين العقلاء. أما من أثبته سبحانه فقد اعترف أنه لا يطيع أحدا، وأما من نفاه فمع القول بالنفي استحال أن يعتقد فيه كونه مطيعا لغيره، فإذا ثبت هذا كان حمل الآية على ما ذكرتم حملا لها على معنى لا يفيد. الثاني: أنه تعالى نفى شفيعا يطاع، والشفيع لا يكون إلا دون المشفوع إليه لأن من فوقه يكون آمرا له وحاكما عليه ومثله لا يسمى شفيعا فأفاد قوله: "شفيع" كونه دون للّه تعالى فلم يمكن حمل قوله: {يطاع} على من فوقه فوجب حمله على أن المراد به أن لا يكون لهم شفيع يجاب. وثالثها: قوله تعالى: {من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} (البقرة: ٢٥٤) ظاهر الآية يقتضي نفي الشفاعات بأسرها. ورابعها: قوله تعالى: {وما للظالمين من أنصار} (البقرة: ٢٧٠) ولو كان الرسول يشفع للفاسق من أمته لوصفوا بأنهم منصورون لأنه إذا تخلص بسبب شفاعة الرسول عن العذاب فقد بلغ الرسول النهاية في نصرته. وخامسها: قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: ٢٨) أخبر تعالى عن ملائكته أنهم لا يشفعون لأحد إلا أن يرتضيه للّه عز وجل والفاسق ليس بمرتضى عند للّه تعالى، وإذا لم تشفع الملائكة له فكذا الأنبياء عليهم السلام، لأنه لا قائل بالفرق. وسادسها: قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} (المدثر: ٤٨) ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكانت الشفاعة قد تنفعهم وذلك ضد الآية. وسابعها: أن الأمة مجمعة على أنه ينبغي أن نرغب إلى للّه تعالى في أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه السلام ويقولون في جملة أدعيتهم: واجعلنا من أهل شفاعته، فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصرا على الكبائر لكانوا قد رغبوا إلى للّه تعالى في أن يختم لهم مصرين على الكبائر. لا يقال لم لا يجوز أن يقال: إنهم يرغبون إلى للّه تعالى في أن يجعلهم من أهل شفاعته إذا خرجوا مصرين لا أنهم يرغبون في أن يختم لهم مصرين كما أنهم يقولون في دعائهم: اجعلنا من التوابين وليسوا يرغبون في أن يذنبوا ثم يتوبوا وإنما يرغبون في أن يوفقهم للتوبة إذا كانوا مذنبين وكلتا الرغبتين مشروطة بشرط وهو تقدم الإصرار وتقدم الذنب، لأنا نقول: الجواب عنه من وجهين. الأول: ليس يجب إذا شرطنا شرطا في قولنا: للّه م اجعلنا من التوابين، أن نزيد شرطا في قولنا اجعلنا من أهل الشفاعة. الثاني: أن الأمة في كلتا الرغبتين إلى للّه تعالى يسألون منه تعالى أن يفعل بهم ما يوصلهم إلى المرغوب فيه ففي قولهم: اجعلنا من التوابين، أن يرغبون في أن يوفقهم للتوبة من الذنوب، وفي الثاني يرغبون في أن يفعل بهم ما كانوا عنده أهلا لشفاعته عليه السلام، فلو لم تحصل أهلية الشفاعة إلا بالخروج من الدنيا مصرا على الكبائر لكان سؤال أهلية الشفاعة سؤالا للاخراج من الدنيا حال الإصرار على الكبائر، وذلك غير جائز بالإجماع. أما على قولنا: إن أهلية الشفاعة إنما تحصل بالخروج على الكبائر، وذلك غير جائز بالإجماع. أما على قولنا إن أهلية الشفاعة إنما تحصل بالخروج من الدنيا مستحقا للثواب كان سؤال أهلية الشفاعة حسنا فظهر الفرق. وثانيها: أن قوله تعالى: {وإن الفجار لفى جحيم * يصلونها يوم الدين * وما هم عنها بغائبين} (الانفطار: ١٤ ـ ١٦) يدل على أن كل الفجار يدخلون النار وأنهم لا يغيبون عنها وإذا ثبت أنهم لا يغيبون عنها ثبت أنهم لا يخرجون منها، وإذا كان كذلك لم يكن للشفاعة أثر لا في العفو عن العقاب ولا في الإخراج من النار بعد الإدخال فيها. وتاسعها: قوله تعالى: {يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه} (يونس: ٣) فنفى الشفاعة عمن لم يأذن في شفاعته وكذا قوله: {من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه} (البقرة: ٢٥٥) وكذا قوله تعالى: {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا} (سبأ: ٣٨) وإنه تعالى لم يأذن في الشفاعة في حق أصحاب الكبائر لأن هذا الإذن لو عرف لعرف أما بالعقل أو بالنقل، أما العقل فلا مجال له فيه، وأما النقل فأما بالتواتر أو بالآحاد، والآحاد لا مجال له فيه لأن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن والمسألة علمية والتمسك في المطالب العلمية بالدلائل الظنية غير جائز. وأما بالتواتر فباطل لأنه لو حصل ذلك لعرفه جمهور المسلمين ولو كان كذلك لما أنكروا هذه الشفاعة. فحيث أطبق الأكثرون على الأنكار علمنا أنه لم يوجد هذا الإذن. وعاشرها: قوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما} ولو كانت الشفاعة حاصلة للفاسق لم يكن لتقييدها بالتوبة ومتابعة السبيل معنى. الحادي عشر: الأخبار الدالة على أنه لا توجد الشفاعة في حق أصحاب الكبائر وهي أربعة. الأول: ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام دخل المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء للّه بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت اخواننا: قالوا: يا رسول للّه ألسنا إخوانك. قال: بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. قالوا: يا رسول للّه كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت إن كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم فهل لا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول للّه ، قال فانهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء، وأما فرطهم على الحوض، ألا فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم، ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول فسحقا فسحقا". والاستدلال بهذا الخبر على نفي الشفاعة أنه لو كان شفيعالهم لم يكن يقول فسحقا فسحقا، لأن الشفيع لا يقول ذلك، وكيف يجوز أن يكون شفيعا لهم في الخلاص من العقاب الدائم وهو يمنعهم شربة ماء. الثاني: روى عبد الرحمن ابن ساباط عن جابر بن عبد للّه أن النبي صلى للّه عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: "يا كعب بن عجرة أعيذك بللّه من إمارة السفهاء إنه سيكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولست منه ولن يرد على الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض، يا كعب بن عجرة الصلاة قربان والصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفيء الماء النار، يا كعب بن عجرة لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت). والاستدلال بهذا الحديث من ثلاثة أوجه. أحدها: أنه إذا لم يكن من النبي ولا النبي منه فكيف يشفع له، وثانيها: قوله: "لم يرد على الحوض" دليل على نفي الشفاعة لأنه إذا منع من الوصول إلى الرسول حتى لا يرد عليه الحوض فبأن يمتنع الرسول من خلاصه من العقاب أولى. وثالثها: أن قوله: "لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت" صريح في أنه لا أثر للشفاعة في حق صاحب الكبيرة. الثالث: عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول للّه أغثني فأقول لا أملك لك من للّه شيئا قد بلغتك". وهذا صريح في المطلوب، لأنه إذا لم يملك له من للّه شيئا فليس له في الشفاعة نصيب. الرابع: عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة، ومن كنت خصيمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجرته". والاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام لما كان خصيما لهؤلاء استحال أن يكون شفيعا لهم، فهذا مجموع وجوه المعتزلة في هذا الباب. أما أصحابنا فقد تمسكوا فيه بوجوه. أحدها: قوله سبحانه وتعالى: حكاية عن عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، وجه الاستدلال أن هذه الشفاعة من عيسى عليه السلام أما أن يقال إنها كانت في حق الكفار أو في حق المسلم المطيع أو في حق المسلم صاحب الصغيرة أو المسلم صاحب الكبيرة بعد التوبة أو المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة. والقسم الأول باطل لأن قوله تعالى: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة: ١١٨)، لا يليق بالكفار، والقسم الثاني والثالث والرابع باطل لأن المسلم المطيع والمسلم صاحب الصغيرة والمسلم صاحب الكبيرة لا يجوز بعد التوبة تعذيبه عقلا عند الخصم، وإذا كان كذلك لم يكن قوله: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} لائقا بهم وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال: إن هذه الشفاعة إنما وردت في حق المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة وإذا صح القول بهذه الشفاعة في حق عيسى عليه السلام صح القول بها في حق محمد صلى للّه عليه وسلم ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وثانيها: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم} فقوله: {ومن عصانى فإنك غفور رحيم} (إبراهيم: ٣٦) لا يجوز حمله على الكافر لأنه ليس أهلا للمغفرة بالإجماع ولا حمله على صاحب الصغيرة ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة لأن غفرانه لهم واجب عقلا عند الخصم فلا حاجة له إلى الشفاعة فلم يبق إلا حمله على صاحب الكبيرة قبل التوبة. ومما يؤكد دلالة هاتين الآيتين على ما قلناه ما رواه البيهقي في كتاب شعب الإيمان أنه عليه الصلاة والسلام تلا قوله تعالى في إبراهيم: {ومن عصانى فإنك غفور رحيم} وقول عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} الآية، ثم رفع يديه وقال: "للّه م أمتي أمتي وبكى فقال للّه تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول للّه صلى للّه عليه وسلم بما قال، فقال للّه عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك". رواه مسلم في الصحيح. وثالثها: قوله تعالى في سورة مريم: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا * لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا} (مريم: ٨٥ ـ ٨٧)، فنقول ليس في ظاهر الآية أن المقصود من الآية أن المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم أو أنهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم لأن المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلى الفاعل يجوز ويحسن إضافته إلى المفعول إلا أنا نقول حمل الآية على الوجه الثاني أولى، لأن حملها على الوجه الأول يجري مجرى إيضاح الواضحات، فإن كل أحد يعلم أن المجرمين الذين يساقون إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة لغيرهم، فتعين حملها على الوجه الثاني. إذا ثبت هذا فنقول: الآية تدل على حصول الشفاعة لأهل الكبائر، لأنه قال عقيبه: {إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا}، والتقدير أن المجرمين لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا اتخذوا عند الرحمن عهدا، فكل من اتخذ عند الرحمن عهدا وجب دخوله فيه، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهدا وهو التوحيد والإسلام، فوجب أن يكون داخلا تحته أقصى ما في الباب أن يقال: واليهودي اتخذ عند الرحمن عهدا وهو الإيمان بللّه فوجب دخوله تحته لكنا نقول ترك العمل به في حقه لضرورة الإجماع فوجب أن يكون معمولا به فيما وراءه. ورابعها: قوله تعالى في صفة الملائكة: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: ٢٨) وجه الاستدلال به أن صاحب الكبيرة مرتضى عند للّه تعالى، وكل من كان مرتضى عند للّه تعالى وجب أن يكون من أهل الشفاعة، إنما قلنا: إن صاحب الكبيرة مرتضى عند للّه تعالى لأنه مرتضى عند للّه بحسب إيمانه وتوحيده وكل من صدق عليه أنه مرتضى عند للّه بحسب هذا الوصف يصدق عليه أنه مرتضى عند للّه تعالى لأن المرتضى عند للّه جزء من مفهوم قولنا: مرتضى عند للّه بحسب إيمانه، ومتى صدق المركب صدق المفرد، فثبت أن صاحب الكبيرة مرتضى عند للّه ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون من أهل الشفاعة لقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} نفي الشفاعة إلا لمن كان مرتضى والاستثناء عن النفي إثبات، فوجب أن يكون المرتضى أهلا لشفاعتهم، وإذا ثبت أن صاحب الكبيرة داخل في شفاعة الملائكة وجب دخوله في شفاعة الأنبياء وشفاعة محمد صلى للّه عليه وسلم ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق. فإن قيل: الكلام على هذا الاستدلال من وجهين، الأول: أن الفاسق ليس بمرتضى فوجب أن لا يكون أهلا لشفاعة الملائكة وإذا لم يكن أهلا لشفاعة الملائكة وجب أن لا يكون أهلا لشفاعة محمد صلى للّه عليه وسلم ، إنما قلنا: إنه ليس بمرتضى لأنه ليس بمرتضى بحسب فسقه وفجوره ومن صدق عليه أنه ليس بمرتضى بحسب فسقه صدق عليه أنه ليس بمرتضى بعين ما ذكرتم من الدليل، وإذا ثبت أنه ليس بمرتضى وجب أن لا يكون أهلا لشفاعة الملائكة، لأن قوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} يدل على نفي الشفاعة عن الكل إلا في حق المرتضى، فإذا كان صاحب الكبيرة غير مرتضى وجب أن يكون داخلا في النفي. الوجه الثاني: أن الاستدلال بالآية إنما يتم لو كان قوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} محمولا على أن المراد منه ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه للّه ، أما لو حملناه على أن المراد منه ولا يشفعون إلا لمن ارتضى للّه منه شفاعته فحينئذ لا تدل الآية إلا إذا ثبت أن للّه تعالى ارتضى شفاعة صاحب الكبيرة، وهذا أول المسألة. والجواب عن الأول: أنه ثبت في العلوم المنطقية أن المهملتين لا يتناقضان، فقولنا: زيد عالم، زيد ليس بعالم لا يتناقضان لاحتمال أن يكون المراد زيد عالم بالفقه، زيد ليس بعالم بالكلام، وإذا ثبت هذا فكذا قولنا صاحب الكبيرة مرتضى صاحب الكبيرة ليس بمرتضى، لا يتناقضان لاحتمال أن يقال: إنه مرتضى بحسب دينه، ليس بمرتضى بحسب فسقه، وأيضا فمتى ثبت أنه مرتضى بحسب إسلامه ثبت مسمى كونه مرتضى، وإذا كان المستثنى هو مجرد كونه مرتضى، ومجرد كونه مرتضى حاصل عند كونه مرتضى بحسب إيمانه وجب دخوله تحت الاستثناء وخروجه عن المستثنى منه، ومتى كان كذلك ثبت أنه من أهل الشفاعة. وأما السؤال الثاني: فجوابه أن حمل الآية على أن يكون معناها ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه للّه أولى من حملها على أن المراد ولا يشفعون إلا لمن ارتضى للّه شفاعته، لأن على التقدير الأول تفيد الآية الترغيب والتحريض على طلب مرضاة للّه عز وجل والاحتراز عن معاصيه، وعلى التقدير الثاني لا تفيد الآية ذلك، ولا شك أن تفسير كلام للّه تعالى بما كان أكثر فائدة أولى. وخامسها: قوله تعالى في صفة الكفار: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} (المدثر: ٤٨) خصهم بذلك فوجب أن يكون حال المسلم بخلافه بناء على مسألة دليل الخطاب، وسادسها: قوله تعالى لمحمد صلى للّه عليه وسلم : {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} (محمد: ١٩) دلت الآية على أنه تعالى أمر محمدا بأن يستغفر لكل المؤمنين والمؤمنات وقد بينا في تفسير قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة: ٣) أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإذا كان كذلك ثبت أن محمدا صلى للّه عليه وسلم استغفر لهم، وإذا كان كذلك ثبت أن للّه تعالى قد غفر لهم. وإلا لكان للّه تعالى قد أمره بالدعاء ليرد دعاءه فيصير ذلك محض التحقير والايذاء وهو غير لائق بللّه تعالى ولا بمحمد صلى للّه عليه وسلم فدل على أن للّه تعالى لما أمر محمدا بالاستغفار لكل العصاة فقد استجاب دعاءه، وذلك إنما يتم لو غفر لهم ولا معنى للشفاعة إلا هذا، وسابعها: قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء: ٨٦) فللّه تعالى أمر الكل بأنهم إذا حياهم أحد بتحية أن يقابلوا تلك التحية بأحسن منها أو يردوها، ثم أمرنا بتحية محمد صلى للّه عليه وسلم حيث قال: {النبى ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (الأحزاب: ٥٦) الصلاة من للّه رحمة ولا شك أن هذا تحية، فلما طلبنا من للّه الرحمة لمحمد عليه الصلاة والسلام وجب بمقتضى قوله: {فحيوا بأحسن منها أو ردوها}، أن يفعل محمد مثله وهو أن يطلب لكل المسلمين الرحمة من للّه تعالى، وهذا هو معنى الشفاعة، ثم توافقنا على أنه عليه الصلاة والسلام غير مردود الدعاء، فوجب أن يقبل للّه شفاعته في الكل وهو المطلوب. وثامنها: قوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا للّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا للّه توابا رحيما} (النساء: ٦٤) وليس في الآية ذكر التوبة، والآية تدل على أن الرسول متى استغفر للعصاة والظالمين فإن للّه يغفر لهم، وهذا يدل على أن شفاعة الرسول في حق أهل الكبائر مقبولة في الدنيا، فوجب أن تكون مقبولة في الآخرة، لأنه لا قائل بالفرق. وتاسعها: أجمعنا على وجوب الشفاعة لمحمد صلى للّه عليه وسلم فتأثيرها أما أن يكون في زيادة المنافع أو في إسقاط المضار والأول باطل وإلا لكنا شافعين للرسول عليه الصلاة والسلام إذا طلبنا من للّه تعالى أن يزيد في فضله عند ما نقول: للّه م صل على محمد وعلى آل محمد، وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو المطلوب، فإن قيل: إنما لا يطلق علينا كوننا شافعين لمحمد صلى للّه عليه وسلم لوجهين، الأول: أن الشفيع لا بد أن يكون أعلى رتبة من المشفوع له، ونحن وإن كنا نطلب الخير له عليه الصلاة والسلام ولكن لما كنا أدنى رتبة منه عليه الصلاة والسلام لم يصح أن نوصف بكوننا شافعين له. الثاني: قال أبو الحسين: سؤال المنافع للغير إنما يكون شفاعة إذا كان فعل تلك المنافع لأجل سؤاله ولولاه لم تفعل أو كان لسؤاله تأثير في فعلها، فأما إذا كانت تفعل سواء سألها أو لم يسألها، وكان غرض السائل التقرب بذلك إلى المسؤول، وإن لم يستحق المسؤول له بذلك السؤال منفعة زائدة فإن ذلك لا يكون شفاعة له، ألا ترى أن السلطان إذا عزم على أن يعقد لابنه ولاية فحثه بعض أوليائه على ذلك وكان يفعل ذلك لا محالة سواء حثه عليه أو لم يحثه، وقصد بذلك التقرب إلى السلطان ليحصل له بذلك منزلة عنده فإنه لا يقال إنه يشفع لابن السلطان: وهذه حالتنا في حق الرسول صلى للّه عليه وسلم فيما نسأله له من للّه تعالى، فلم يصح أن نكون شافعين، والجواب على الأول، لا نسلم أن الرتبة معتبرة في الشفاعة. والدليل عليه أن الشفيع إنما سمي شفيعا مأخوذا من الشفع، وهذا المعنى لا تعتبر فيه الرتبة، فسقط قولهم، وبهذا الوجه يسقط السؤال الثاني، وأيضا فنقول في الجواب عن السؤال الثاني: إنا وإن كنا نقطع بأن للّه تعالى يكرم رسوله ويعظمه سواء سألت الأمة ذلك أم لم تسأل، ولكنا لا نقطع بأنه لا يجوز أن يزيد في إكرامه بسبب سؤال الأمة ذلك على وجه لولا سؤال الأمة لما حصلت تلك الزيادة وإذا كان هذا الاحتمال يجوز، وجب أن يبقى تجويز كوننا شافعين للرسول صلى للّه عليه وسلم ولما بطل ذلك باتفاق الأمة بطل قولهم. وعاشرها: قوله تعالى في صفة الملائكة: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا} وصاحب الكبيرة من جملة المؤمنين فوجب دخوله في جملة من تستغفر الملائكة لهم، أقصى ما في الباب أنه ورد بعد ذلك قوله: {فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك} (غافر: ٧)، إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص ذلك العام لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ العام إذا ذكر بعده بعض أقسامه فإن ذلك لا يوجب تخصيص ذلك العام بذلك الخاص. الحادي عشر: الأخبار الدالة على حصول الشفاعة لأهل الكبائر، ولنذكر منها ثلاثة أوجه، الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" قالت المعتزلة: الإعتراض عليه من ثلاثة وجوه: أحدها: أنه خبر واحد ورد على مضادة القرآن، فإنا بينا أن كثيرا من الآيات يدل على نفي هذه الشفاعة وخبر الواحد إذا ورد على خلاف القرآن وجب رده، وثانيها: أنه يدل على أن شفاعته ليست إلا لأهل الكبائر وهذا غير جائز، لأن شفاعته منصب عظيم فتخصيصه بأهل الكبائر فقط يقتضي حرمان أهل الثواب عنه وذلك غير جائز، لأنه لا أقل من التسوية، وثالثها: أن هذه المسألة ليست من المسائل العملية فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلا يجوز التمسك في هذه المسألة بهذا الخبر. ثم إن سلمنا صحة الخبر لكن فيه احتمالات، أحدها: أن يكون المراد منه الاستفهام بمعنى الانكار يعني أشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي كما أن المراد من قوله: {هاذا ربى} أي أهذا ربي، وثانيها: أن لفظ الكبيرة غير مختص لا في أصل اللغة ولا في عرف الشرع بالمعصية بل كما يتناول المعصية بل كما يتناول المعصية يتناول الطاعة. قال تعالى في صفة الصلاة: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}، وإذا كان كذلك فقوله لأهل الكبائر: لا يجب أن يكون المراد منه أهل المعاصي الكبيرة بل لعل المراد منه أهل الطاعات الكبيرة. فإن قيل: هب أن لفظ الكبيرة يتناول الطاعات والمعاصي ولكن قوله أهل الكبائر صيغة جمع مقرونة بالألف واللام فيفيد العموم فوجب أن يدل الخبر على ثبوت الشفاعة لكل من كان من أهل الكبائر سواء كان من أهل الطاعات الكبيرة أو المعاصي الكبيرة قلنا: لفظ الكبائر وإن كان للعموم إلا أن لفظ "أهل" مفرد فلا يفيد العموم فيكفي في صدق الخبر شخص واحد من أهل الكبائر فنحمله على الشخص الآتي بكل الطاعات، فإنه يكفي في العمل بمقتضى الحديث حمله عليه. وثالثها: هب أنه يجب حمل أهل الكبائر على أهل المعاصي الكبيرة لكن أهل المعاصي الكبيرة أعم من أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة فنحن نحمل الخبر على أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة، ويكون تأثير الشفاعة في أن يتفضل للّه عليه بما انحبط من ثواب طاعته المتقدمة على فسقه سلمنا دلالة الخبر على قولكم لكنه معارض بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" ذكره مع همزة الاستفهام على سبيل الإنكار. وروى الحسن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ما ادخرت شفاعتي إلا لأهل الكبائر من أمتي" واعلم أن الإنصاف أنه لا يمكن التمسك في مثل هذه المسألة بهذا الخبر وحده، ولكن بمجموع الأخبار الواردة في باب الشفاعة وإن سائر الأخبار دالة على سقوط كل هذه التأويلات. الثاني: روى أبو هريرة قال: قال رسول للّه صلى للّه عليه وسلم : "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء للّه من مات من أمتي لا يشرك بللّه شيئا" رواه مسلم في الصحيح والاستدلال به أن الحديث صريح في أن شفاعته صلى للّه عليه وسلم تنال كل من مات أمته لا يشرك بللّه شيئا وصاحب الكبيرة كذلك، فوجب أن تناله الشفاعة. والثالث: عن أبي هريرة قال: "أتى رسول للّه صلى للّه عليه وسلم يوما بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون لم ذلك؟ قالوا: لا يا رسول للّه ، قال: يجمع للّه الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم ألا تذهبون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك للّه بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لكاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته. نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك للّه عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقولون: أنت إبراهيم نبي للّه وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى ويقولون: يا موسى أنت رسول للّه ، فضلك للّه برسلاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى بن مريم، فيأتون عيسى فيقولون: أنت رسول للّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد. فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول للّه وخاتم النبيين وقد غفر للّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فأنطلق واستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء أن يدعني ثميقول لي: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي تبارك وتعالى وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء للّه أن يدعني، ثم يقول: أرفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء للّه أن يدعني، ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة. ثم ارجع فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، أي وجب عليه الخلود"، وأكثر هذا الخبر مخرج بلفظه في الصحيحين. قالت المعتزلة: الكلام على هذا الخبر وأمثاله من وجوه، أحدها: أن هذه الأخبار أخبار طويلة فلا يمكن ضبطها بلفظ الرسول صلى للّه عليه وسلم ، فالظاهر أن الراوي إنما رواها بلفظ نفسه، وعلى هذا التقدير لا يكون شيء منها حجة، وثانيها: أنها خبر عن واقعة واحدة، وأنها رويت على وجوه مختلفة مع الزيادات والنقصانات، وذلك أيضا مما يطرق التهمة إليها. وثالثها: أنها مشتملة على التشبيه وذلك باطل أيضا يطرق التهمة إليها. ورابعها: أنها وردت على خلاف ظاهر القرآن. وذلك أيضا بطرق التهمة إليها. وخامسها: أنها خبر عن واقعة عظيمة تتوافر الدواعي على نقلها، فلو كان صحيحا لوجب بلوغه إلى حد التواتر وحيث لم يكن كذلك فقد تطرقت التهمة إليها، وسادسها: أن الاعتماد على خبر الواحد الذي لا يفيد إلا الظن في المسائل القطعية غير جائز. أجاب أصحابنا عن هذه المطاعن بأن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان مرويا بالآحاد إلا أنها كثيرة جدا وبينها قدر مشترك واحد وهو خروج أهل العقاب من النار بسبب الشفاعة فيصير هذا المعنى مرويا على سبيل التواتر فيكون حجة وللّه أعلم. والجواب على جميع أدلة المعتزلة بحرف واحد وهو أن أدلتهم على نفي الشفاعة تفيد نفي جميع أقسام الشفاعات، وأدلتنا على إثبات الشفاعة تفيد إثبات شفاعة خاصة والعام والخاص إذا تعارضا قدم الخاص على العام فكانت دلائلنا مقدمة على دلائلهم، ثم إنا نخص كل واحد من الوجوه التي ذكروها بجواب على حدة: أما الوجه الأول: وهو التمسك بقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة} فهب أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص مثل هذا العام بذلك السبب المخصوص يكفي فيه أدنى دليل، فإذا قامت الدلائل الدالة على وجود الشفاعة وجب المصير إلى تخصيصها. وأما الوجه الثاني: وهو قوله تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر: ١٨) فالجواب عنه أن قوله: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع} نقيض لقولنا: للظالمين حميم وشفيع، لكن قولنا للظالمين: حميم وشفيع موجبة كلية، ونقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية، والسالبة يكفي في صدقها تحقق ذلك السلب في بعض الصور، ولا يحتاج فيه إلى تحقق ذلك السلب في جميع الصور، وعلى هذا فنحن نقول بموجبه لأن عندنا أنه ليس لبعض الظالمين حميم ولا شفيع يجاب وهم الكفار، فأما أن يحكم على كل واحد منهم بسلب الحميم والشفيع فلا. وأما الوجه الثالث: وهو قوله: {من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} (البقرة: ٢٥٤) فالجواب عنه ما تقدم في الوجه الأول. وأما الوجه الرابع: وهو قوله: {وما للظالمين من أنصار} (البقرة: ٢٧٠) فالجواب عنه أنه نقيض لقولنا: للظالمين أنصار وهذه موجبة كلية فقوله: {وما للظالمين من أنصار} سالبة جزئية فكيون مدلوله سلب العموم وسلب العموم لا يفيد عموم السلب. وأما الوجه الخامس: وهو قوله: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} (المدثر: ٤٨) فهذا وارد في حق الكفار وهو يدل بسبب التخصيص على ضد هذا الحكم في حق المؤمنين. وأما الوجه السادس: وهو قوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: ٢٨) فقد تقدم القول فيه. وأما الوجه السابع: وهو قول المسلمين: للّه م اجعلنا من أهل شفاعة محمد صلى للّه عليه وسلم ، فالجواب عنه أن عندنا تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب وأعني به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق ودفع المضار المستحقة على المعاصي، وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون العبد عاصيا فاندفع السؤال. وأما الوجه الثامن: وهو التمسك بقوله: {وإن الفجار لفى جحيم} (الانفطار: ١٤) فالكلام عليه سيأتي إن شاء للّه تعالى في مسألة الوعيد. وأما الوجه التاسع: وهو قوله لم يوجد ما يدل على إذن للّه عز وجل في الشفاعة لأصحاب الكبائر، فجوابه أن هذا ممنوع والدليل عليه ما أوردنا من الدلائل الدالة على حصول هذه الشفاعة. وأما الوجه العاشر: وهو قوله في حق الملائكة: {فاغفر للذين تابوا} (غافر: ٧) فجوابه ما بينا أن خصوص آخر هذه الآية لا يقدح في عموم أولها. وأما الأحاديث فهي دالة على أن محمد صلى للّه عليه وسلم لا يشفع لبعض الناس ولا يشفع في بعض مواطن القيامة، وذلك لا يدل على أنه لا يشفع لأحد ألبتة من أصحاب الكبائر، ولا أنه يمتنع من الشفاعة في جميع المواطن. والذي نحققه أنه تعالى بين أن أحدا من الشافعين لا يشفع إلا بإذن للّه ، فلعل الرسول لم يكن مأذونا في بعض المواضع وبعض الأوقات، فلا يشفع في ذلك المكان ولا في ذلك الزمان، ثم يصير مأذونا في موضع آخر وفي وقت آخر في الشفاعة فيشفع هناك وللّه أعلم. قالت الفلاسفة في تأويل الشفاعة: إن واجب الوجود عام الفيض تام الجود، فحيث لا يحصل فإنما لا يحصل لعدم كون القابل مستعدا، ومن الجائز أن لا يكون الشيء مستعدا لقبول الفيض عن واجب الوجود إلا أن يكون مستعدا لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود، فيكون ذلك الشيء كالمتوسط بين واجب الوجود وبين ذلك الشيء الأول، ومثاله في المحسوس أن الشمس لا تضيء إلا للقابل المقابل، وسقف البيت لما لم يكن مقابلا لجرم الشمس لا جرم لم يكن فيه استعداد لقبول النور عن الشمس، إلا أنه إذا وضع طست مملوء من الماء الصافي ووقع عليه ضوء الشمس انعكس ذلك الضوء من ذلك الماء إلى السقف فيكون ذلك الماء الصافي متوسطا في وصول النور من قرص الشمس إلى السقف الذي هو غير مقابل للشمس، وأرواح الأنبياء كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق في وصول فيض واجب الوجود إلى أرواح العامة، فهذا ما قالوه في الشفاعة تفريعا على أصولهم. |
﴿ ٤٨ ﴾