١٢٩

النوع الثالث: قوله: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} واعلم أنه لا شبهة في أن قوله: {ربنا وابعث فيهم رسولا} يريد من أراد بقوله: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد صلى للّه عليه وسلم ، فعطف عليه بقوله تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} وهذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين.

أحدهما: أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام.

والثاني: أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه.

أحدها: ليكون محلهم ورتبتهم في العز والدين أعظم، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معا من ذريته، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها.

وثانيها: أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته.

وثالثها: أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم، إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان مراد إبراهيم عليه السلام عمارة الدين في الحال وفي المستقبل، وكان قد غلب على ظنه أن ذلك إنما يتم ويكمل بأن يكون القوم من ذريته حسن منه أن يريد ذلك ليجتمع له بذلك نهاية المراد في الدين، وينضاف إليه السرور العظيم بأن يكون هذا الأمر في ذريته لأن لا عز ولا شرف أعلى من هذه الرتبة.

وأما إن الرسول هو محمد صلى للّه عليه وسلم فيدل عليه وجوه.

أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة.

وثانيها: ما روي عنه عليه السلام أنه قال: "أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى" وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في سورة الصف من قوله: {مبشرا * برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد} (الصف: ٦).

وثالثها: أن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين يكونون بها وبما حولها ولم يبعث للّه تعالى إلى من بمكة وما حولها إلا محمدا صلى للّه عليه وسلم .

وههنا سؤال وهو أنه يقال: ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد صلى للّه عليه وسلم في باب الصلاة حيث يقال: للّه م صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؟

وأجابوا عنه من وجوه،

أولها: أن إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد عليه السلام حيث قال: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك} فلما وجب للخليل على الحبيب حق دعائه له

قضى للّه تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة.

وثانيها: أن إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله: {واجعل لى لسان صدق فى الاخرين} (الشعراء: ٨٤) يعني ابق لي ثناء حسنا في أمة محمد صلى للّه عليه وسلم ، فأجابه للّه تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته.

وثالثها: أن إبراهيم كان أب الملة لقوله: {ملة أبيكم إبراهيم} (الحج: ٧٨) ومحمد كان أب الرحمة، وفي قراءة ابن مسعود: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) وقال في قصته: {بالمؤمنين * لرءوف رحيم} (التوبة: ١٢٨) وقال عليه السلام: "إنما أنا لكم مثل الوالد"، يعني في الرأفة والرحمة، فلما وجب لكل واحد منهم حق الأبوة من وجه قرب بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة.

ورابعها: أن إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج: {وأذن فى الناس بالحج} (الحج: ٢٧) وكان محمد عليه السلام منادي الدين: {سمعنا مناديا ينادى للإيمان} (آل عمران: ١٩٣) فجمع للّه تعالى بينهما في الذكر الجميل.

واعلم أنه تعالى لما طلب بعثة رسول منهم إليهم، ذكر لذلك الرسول صفات.

أولها: قوله: {يتلو عليهم * ءاياتك} وفيه وجهان.

الأول: أنها الفرقان الذي أنزل على محمد صلى للّه عليه وسلم لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك، فوجب حمله عليه.

الثاني: يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إياها عليهم: أنه كان يذكرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها.

وثانيها: قوله: {ويعلمهم الكتاب} والمراد أنه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه، وذلك لأن التلاوة مطلوبة لوجوه: منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا عن التحريف والتصحيف، ومنها أن يكون لفظه ونظمه معجزا لمحمد صلى للّه عليه وسلم ، ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة، ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة، فهذا حكم التلاوة إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام، فإن للّه تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونورا لما فيه من المعاني والحكم والأسرار، فلما ذكر للّه تعالى أولا أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال: {ويعلمهم الكتاب}.

الصفة الثالثة: من صفات الرسول صلى للّه عليه وسلم قوله: (والحكمة) أي ويعلمهم الحكمة.

واعلم أن الحكمة هي: الإصابة في القول والعمل، ولا يسمى حكيما إلا من اجتمع له الأمران

وقيل: أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل، ووضع كل شيء موضعه.

قال القفال: وعبر بعض الفلاسفة عن الحكمة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية.

واختلف المفسرون في المراد بالحكمة ههنا على وجوه.

أحدها: قال ابن وهب قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: معرفة الدين، والفقه فيه، والاتباع له.

وثانيها: قال الشافعي رضي للّه عنه: الحكمة سنة رسول للّه صلى للّه عليه وسلم .

وهو قول قتادة، قال أصحاب الشافعي رضي للّه عنه: والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولا وتعليمه ثانيا ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئا خارجا عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة الرسول عليه السلام.

فإن قيل: لم لا يجوز حمله على تعليم الدلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟

قلنا: لأن العقول مستقبلة بذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى.

وثالثها: الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل، وهو مصدر بمعنى الحكم، كالقعدة والجلسة.

والمعنى: يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها، ومثال هذا: الخبر والخبرة، والعذر والعذرة، والغل والغلة، والذل والذلة.

ورابعها: ويعلمهم الكتاب أراد به الآيات المحكمة.

(والحكمة) أراد بها الآيات المتشابهات.

وخامسها: {يعلمهم * الكتاب} أي يعلمهم ما فيه من الأحكام.

(والحكمة) أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع، ومن الناس من قال: الكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات، وبأنه كتاب، وبأنه حكمة.

الصفة الرابعة: من صفات الرسول صلى للّه عليه وسلم : قوله: "ويزكيهم" واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين.

أحدهما: أن يعرف الحق لذاته.

والثاني: أن يعرف الخير لأجل العمل به، فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهرا عن الرذائل والنقائص، ولم يكن زكيا عنها، فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص، فقال: (ويزكيهم) واعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين، وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة لكنه لا يتصرف فيها وإلا لكان ذلك الزكاء حاصلا فيهم على سبيل الجبر لا على سبيل الاختيار، فإذن هذه التزكية لها تفسيران.

الأول: ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة، حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم، وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد، والوعظ والتذكير، وتكرير ذلك عليهم، ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا، فقد كان عليه السلام يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح، ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم، وأنه أوتي مكارم الأخلاق.

الثاني: يزكيهم، يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت، كتزكية المزكي الشهود، والأول أجود لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء، لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة، وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة، ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الاخلال بالعمل وهو التزكية، هذا هو الكلام الملخص في هذه الآية، وللمفسرين فيه عبارات.

أحدها: قال الحسن: يزكيهم: يطهرهم من شركهم، فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال لا حكمة فيهم ولا كتاب، وأن الشرك ينجسهم، وأنه تعالى يبعث فيهم رسولا منهم يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم.

وثانيها: التزكية هي الطاعة للّه والإخلاص عن ابن عباس.

وثالثها: ويزكيهم عن الشرك وسائر الأرجاس، كقوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبئث} (الأعراف: ٥٧) واعلم أنه عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات ختمها بالثناء على للّه تعالى فقال: {إنك أنت العزيز الحكيم} والعزيز:

هو القادر الذي لا يغلب، والحكيم هو العالم الذي لا يجهل شيئا، وإذا كان عالما قادرا كان ما يفعله صوابا ومبرأ عن العبث والسفه، ولولا كونه كذلك لما صح منه إجابة الدعاء ولا بعثة الرسل، ولا إنزال الكتاب، واعلم أن العزيز من صفات الذات إذا أريد اقتداره على الأشياء وامتناعه من الهضم والذلة، لأنه إذا كان منزها عن الحاجات لم تلحقه ذلة المحتاج، ولا يجوز أن يمنع من مراده حتى يلحقه اهتضام، فهو عزيز لا محالة،

وأما الحكيم فإذا أريد به معنى العليم فهو من صفات الذات، فإذا أريد بالعزة كمال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه، وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكن العزيز والحكيم من صفات الذات بل من صفات الفعل والفرق بين هذين النوعين من الصفات وجوه.

أحدها: أن صفات الذات أزلية، وصفات الفعل ليست كذلك.

وثانيها: أن صفات الذات لا يمكن أن تصدق نقائضها في شيء من الأوقات، وصفات الفعل ليست كذلك.

وثالثها: أن صفات الفعل أمور نسبية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفاعل، وصفات الذات ليست كذلك، واحتج النظام على أنه تعالى غير قادر على القبيح بأن قال: الإله يجب أن يكون حكيما لذاته، وإذا كان حكيما لذاته لم يكن القبيح مقدورا والحكمة لذاتها تنافي فعل القبيح، فالإله يستحيل منه فعل القبيح، وما كان محال لم يكن مقدورا، إنما

قلنا: الإله يجب أن يكون حكيما لأنه لو لم يجب ذلك لجاز تبدله بنقيضه، فحينئذ يلزم أن يكون الإله إلها مع عدم الحكمة وذلك بالاتفاق محال،

وأما أن الحكمة تنافي فعل السفه فذلك أيضا معلوم بالبديهة،

وأما أن مستلزم المنافي مناف فمعلوم بالبديهة، فإذن الإلهية لا يمكن تقريرها مع فعل السفه،

وأما أن المحال غير مقدور فبين، فثبت أن الإله لا يقدر على فعل القبيح.

والجواب عنه:

أما على مذهبنا فليس شيء من الأفعال سفها منه فزال السؤال وللّه أعلم.

﴿ ١٢٩