٢٥٨{ألم تر إلى الذى حآج إبراهيم فى ربه أن آتاه اللّه الملك إذ قال إبراهيم ربي الذى يحى ويميت قال أنا أحى وأميت قال إبراهيم ...}. إعلم أنه تعالى ذكر هاهنا قصصا ثلاثة: الأولى: منها في بيان إثبات العلم بالصانع، والثانية: في إثبات الحشر والنشر والبعث، والقصة الأولى مناظرة إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم مع ملك زمانه وهي هذه الآية التي نحن في تفسيرها فنقول: أما قوله تعالى: {ألم تر} فهي كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها، ولفظها لفظ الاستفهاموهي كما يقال: ألم تر إلى فلان كيف يصنع، معناه: هل رأيت كفلان في صنعه كذا. أما قوله: {إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه} فقال مجاهد: هو نمروذ بن كنعان، وهو أول من تجبر وادعى الربوبية، واختلفوا في وقت هذه المحاجة قيل: إنه عند كسر الأصنام قبل الإلقاء في النار عن مقاتل، وقيل: بعد إلقائه في النار، والمحاجة المغالبة، يقال: حاججته فحججته، أي غالبته فغلبته، والضمير في قوله {فى ربه} يحتمل أن يعود إلى إبراهيم، ويحتمل أن يرجع إلى الطاعن، والأول أظهر، كما قال: {وحاجه قومه قال أتحاجونى فى اللّه} (الأنعام: ٨٠) والمعنى وحاجه قومه في ربه. أما قوله: {أن آتاه اللّه الملك} فاعلم أن في الآية قولين الأول: أن الهاء في آتاه عائد إلى إبراهيم، يعني أن اللّه تعالى آتى إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم الملك، واحتجوا على هذا القول بوجوه الأول: قوله تعالى: {فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما} (النساء: ٥٤) أي سلطانا بالنبوة، والقيام بدين اللّه تعالى والثاني: أنه تعالى لا يجوز أن يؤتي الملك الكفار، ويدعي الربوبية لنفسه والثالث: أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب، وإبراهيم أقرب المذكورين إلى هذا الضمير، فوجب أن يكون هذا الضمير عائدا إليه والقول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين: أن الضمير عائد إلى ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم. وأجابو عن الحجة الأولى بأن هذه الآية دالة على حصول الملك لآل إبراهيم، وليس فيها دلالة على حصول الملك لإبراهيم عليه السلام. وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك هاهنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا، والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى، وأيضا فلم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمنا، ثم أنه بعد ذلك كفر باللّه تعالى. وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة، ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه الأول: أن قوله تعالى: {أن آتاه اللّه الملك} يحتمل تأويلات ثلاثة، وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا: الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم، وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه اللّه الملك، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك، ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي، والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكرا على أن آتاه ربه الملك، كما يقال: عاداني فلان لأني أحسنت إليه، يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان، ونظيره قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} (الواقعة: ٨٢) وهذا التأويل أيضا لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له، فثبت أنه لا يستقيم لقوله {أن آتاه اللّه الملك} معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي. الحجة الثانية: أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم في إظهار الدعوة إلى الدين الحق، ومتى كان الكافر سلطانا مهيبا، وإبراهيم ما كان ملكا، كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكا، ولما كان الكافر ملكا، فوجب المصير إلى ما ذكرنا. الحجة الثانية: ما ذكره أبو بكر الأصم، وهو أن إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم لو كان هو الملك لما قدر الكافر أن يقتل أحد الرجلين ويستبقي الآخر، بل كان إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم يمنعه منه أشد منع، بل كان يجب أن يكون كالملجأ إلى أن لا يفعل ذلك، قال القاضي هذا الاستدلال ضعيف، لأنه من المحتمل أن يقال: إن إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم كان ملكا وسلطانا في الدين والتمكن من إظهار المعجزات، وذلك الكافر كان ملكا مسلطا قادرا على الظلم، فلهذا السبب أمكنه قتل أحد الرجلين، وأيضا فيجوز أن يقال إنما قتل أحد الرجلين قوما، وكان الاختيار إليه، واستبقى الآخر، أما لأنه لا قتل عليه أو بذل الدية واستبقاه.وأيضا قوله {ألم تر إلى} خبر ووعد، ولا دليل في القرآن على أنه فعله، فهذا ما يتعلق بهذه المسألة. أما قوله تعالى: {ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى} ففيه مسائل: المسألة الأولى: الظاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور،وذلك لأن من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا للدعوة، والظاهر أنه متى ادعى الرسالة، فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلاها، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما قال: {إنى رسول رب العالمين} (الزخرف: ٤٦) {قال فرعون وما رب العالمين} (الشعراء: ٢٣) فاحتج موسى عليه السلام على إثبات الإلاهية بقوله {رب * السماوات والارض} فكذا هاهنا الظاهر أن إبراهيم ادعى الرسالة، فقال نمروذ: من ربك؟ فقال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، إلا أن تلك المقدمة حذفت، لأن الواقعة تدل عليها. المسألة الثانية: دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة، وذلك لا سبيل إلى معرفة اللّه تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين، والأحياء والاماتة كذلك، لأن الخلق عاجزون عنهما، والعلم بعد الاختيار ضروري، فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم، وذلك المؤثر أما أن يكون موجبا أو مختارا، والأول: باطل، لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر، فكان يجب أن لا يتبدل الأحياء بالاماتة وأن لا تتبدل الاماتة بالأحياء، والثاني: وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية، وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الأحياء والاماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة، والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها، وذلك هو اللّه سبحانه وتعالى، وهو دليل متين قوي ذكره اللّه سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنون: ١٢) إلى آخره، وقوله {لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين} (التين: ٤، ٥) وقال تعالى: {الذى خلق الموت والحيواة}. المسألة الثانية: لقائل أن يقول: إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منه قوله تعالى: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم} (البقرة: ٢٨) وقال: {الذى خلق الموت والحيواة} (الملك: ٢) وحكي عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على اللّه تعالى: {والذى يميتنى ثم يحيين} (الشعراء: ٨١) فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت، حيث قال: {ربي الذى يحى ويميت}. والجواب: لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى اللّه تعالى وجب أن يكون الدليل في غاية الوضوح، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإنسان عليها أتم، فلا جرم وجب تقديم الحياة هاهنا في الذكر. أما قوله تعالى: {قال إبراهيم ربي الذى} ففيه مسائل: المسألة الأولى: يروى أن إبراهيم عليه السلام لما احتج بتلك الحجة، دعا ذلك الملك الكافر شخصين، وقتل أحدهما، واستبقى الآخر، وقال: أنا أيضا أحيي وأميت، هذا هو المنقول في التفسير، وعندي أنه بعيد، وذلك لأن الظاهر من حال إبراهيم أنه شرح حقيقة الأحياء وحقيقة الإماتة على الوجه الذي لخصناه في الاستدلال، ومتى شرحه على ذلك الوجه امتنع أن يشتبه على العاقل الإماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه، ويبعد في الجمع العظيم أن يكونوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق، والمراد من الآية واللّه أعلم شيء آخر، وهو أن إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم لما احتج بالإحياء والإماتة من اللّه قال المنكر، تدعى الإحياء والإماتة من اللّه ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية، أو تدعى صدور الأحياء والاماتة من اللّه تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية، أما الأول: فلا سبيل إليه، وأما الثاني: فلا يدل على المقصود لأن الواحد منا يقدر على الاحياء والاماتة بواسطة سائر الأسباب، فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية، وتناول السم قد يفضي إلى الموت، فلما ذكر نمروذ هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال: هب أن الإحياء والإماتة حصلا من اللّه تعالى بواسطة الاتصالات الفلكية إلا أنه لا بد لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مدبر، فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو اللّه تعالى، كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضا من اللّه تعالى، وأما الإحياء والإماتة الصادران على البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك، لأنه لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية، فظهر الفرق.وإذا عرفت هذا فقوله {إن اللّه * يأت * بالشمس من المشرق} ليس دليلا آخر، بل تمام الدليل الأول: ومعناه: أنه وإن كان الإحياء والإماتة من اللّه بواسطة حركات الأفلاك إلا أن حركات الأفلاك من اللّه فكان الإحياء والإماتة أيضا من اللّه تعالى، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية إلا أن الأسباب ليست واقعة بقدرته، فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين عن البشر ليست على ذلك الوجه، وأنه لا يصلح نقضا عليه، فهذا هو الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة، لا ما هو المشهور عند الكل، واللّه أعلم بحقيقة الحال. المسألة الثانية: أجمع القراء على إسقاط ألف {أنا} في الوصل في جميع القرآن، إلا ما روي عن نافع من إثباته عند استقبال الهمزة، والصحيح ما عليه الجمهور، لأن ضمير المتكلم هو {ءان} وهو الهمزة والنون، فأما الألف فإنما تلحقها في الوقف كما تلحق الهاء في سكوته للوقف، وكما إن هذه الهاء تسقط عند الوصل، فكذا هذه الألف تسقط عند الوصل، لأن ما يتصل به يقوم مقامه، ألا ترى أن همزة الوصل إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت ولم تثبت، لأن ما يتصل به يتوصل به إلى النطق بما بعد الهمزة فلا تثبت الهمزة فكذا الألف في {أنا} والهاء التي في الوقف يجب سقوطها عند الوصل كما يجب سقوط الهمزة عند الوصل. أما قوله تعالى: {قال إبراهيم فإن اللّه يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} فاعلم أن للناس في هذا المقام طريقين الأول: وهو طريقة أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمروذ أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه، فقال: {إن اللّه * يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل. فإن قيل: هلا قال نمروذ: فليأت ربك بها من المغرب؟. قلنا: الجواب من وجهين: أحدهما: أن هذه المحاجة كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالما، فعلم أن من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب والثاني: أن اللّه خذله وأنساه إيراد هذه الشبهة نصرة لنبيه عليه السلام.والطريق الثاني: وهو الذي قال به المحققون: إن هذا ما كان انتقالا من دليل إلى دليل آخر بل الدليل واحد في الموضعين وهو أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر يتولى إحداثها وهو اللّه سبحانه وتعالى، ثم إن قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها له أمثلة منها: الإحياء، والإماتة، ومنها السحاب، والرعد، والبرق، ومنها حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل آخر، لكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالا فله أن ينتقل من ذلك المثال إلى مثال آخر، فكان ما فعله إبراهيم من باب ما يكون الدليل واحد إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر، وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر، وهذا الوجه أحسن من الأول وأليق بكلام أهل التحقيق منه، والإشكال عليهما من وجوه: الإشكال الأول: أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة، ووقعت تلك الشبهة في الأسماع، وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول، أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجبا مضيقا، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب. والإشكال الثاني: أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال، فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفا ساقطا، وأنه ما كان عالما بضعفه، وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطا وأنه كأنه عالما بضعفه فنبه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز. والإشكال الثالث: وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل، أو من مثال إلى مثال، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وهاهنا ليس الأمر كذلك، لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرة عليه، ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السماوات، وأنه هو الذي يكون محركا للسماوات، وعلى هذا التقدير الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قويا. والإشكال الرابع: أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات والتبدل قوى الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر، أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلا، ولا في صفاتها تبدلا، ولا في منهج حركاتها تبدلا ألبتة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالا من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف، وأنه لا يجوز. الإشكال الخامس: أن نمروذ لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن اللّه تعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب، وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك فقالوا: إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب، فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب، إلا أنه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلا على وجود الصانع، وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعا كما صار دليله الأول ضائعا، وأيضا فما الدليل الذي جمل إبراهيم عليه السلام على أن ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال إلى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته إلا بالتزام طلوع الشمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي باطلاع الشمس من المغرب فإنه يضيع دليله الثاني كما ضاع الأول ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا يليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العقلاء وأعلم العلماء، فظهر بهذا أن هذا التفسير الذي أجمع المفسرون عليه ضعيف، وأما الوجه الذي ذكرناه فلا يتوجه عليه شيء من هذه الإشكالات، لأنا نقول: لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإحياء والإماتة أورد الخصم عليه سؤالا لا يليق بالعقلاء، وهو أنك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطة، فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا، وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر، فأجاب إبراهيم عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك، لكن تلك الحركات حصلت من اللّه تعالى وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من اللّه تعالى بخلاف الخلق فإنه لا قدرة لهم على تحريكات الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، ومتى حملنا الكلام على هذا الوجه لم يكن شيء من المحذورات المذكورة لازما عليه، واللّه أعلم بحقيقة كلامه. أما قوله تعالى: {فبهت الذى كفر} فالمعنى: فبقي مغلوبا لا يجد مقالا، ولا للمسألة جوابه، وهو كقوله {بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها} (الأنبياء: ٤٠) قال الواحدي، وفيه ثلاث لغات: بهت الرجل فهو مبهوت، وبهت وبهت، قال عروة العذري: ( فما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب ) أي أتجير وأسكت. ثم قال: {واللّه لا يهدى القوم الظالمين} وتأويله على قولنا ظاهر، أما المعتزلة فقال القاضي: يحتمل وجوها: منها أنه لا يهديهم لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق كما يهدي المؤمن فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع. وأقول: هذا ضعيف، لأن قوله لا يهديهم للحجاج، إنما يصح حيث يكون الحجاج موجودا ولا حجاج على الكفر، فكيف يصح أن يقال: إن اللّه تعالى لا يهديه إليه، قال القاضي: ومنها أن يريد أنه لا يهديهم لزيادات الألطاف من حيث أنهم بالكفر والظلم سدوا على أنفسهم طريق الانتفاع به. وأقول: هذا أيضا ضعيف، لأن تلك الزيادات إذا كانت في حقهم ممتنعة عقلا لم يصح أن يقال: إنه تعالى لا يهديهم، كما لا يقال: إنه تعالى يجمع بين الضدين فلا يجمع بين الوجود والعدم قال القاضي: ومنها أنه تعالى لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا يهديهم إلى الجنة. وأقول: هذا أيضا ضعيف، لأن المذكور هاهنا أمر الاستدلال وتحصيل المعرفة ولم يجر للجنة ذكر، فيبعد صرف اللفظ إلى الجنة، بل أقول: اللائق بسياق الآية أن يقال إنه تعالى لما بين أن الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن اللّه تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر، ونظير هذا التفسير قوله {ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه} الأنعام: ١١١). القصة الثانية والمقصود منها إثبات المعاد، |
﴿ ٢٥٨ ﴾