٢٨٥

{ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن باللّه وملائكته ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه

الأول: وهو أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة كمال الملك، وكمال العلم، وكمال القدرة للّه تعالى، وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع للّه تعالى، وذلك هو كمال العبودية وإذا ظهر لنا كمال الربوبية، وقد ظهر منا كمال العبودية، فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللّهم حقق هذا الأمل.

الوجه الثاني في النظم: أنه تعالى لما قال: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} (القبرة: ٢٨٤) بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء ألبتة، ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا، فقال: {الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل} كأنه بفضله يقول عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك، فلا أظهر من أحوالك، ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحا لك وثناء عليك، حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة، فأنا الكامل في الجود والرحمة، وفي إظهار الحسنات، وفي الستر على السيئات.

الوجه الثالث: أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، وبين في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: {والمؤمنون كل ءامن باللّه وملئكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} وهذا هو المراد بقوله في أول السورة {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة: ٣). ثم قال ههنا {وقالوا سمعنا وأطعنا} وهو المراد بقوله في أول السورة {ويقيمون الصلواة ومما رزقناهم ينفقون}. ثم قال ههنا {غفرانك ربنا وإليك المصير} وهو المراد بقوله في أول السورة {وبالأخرة هم يوقنون} (البقرة: ٤) ثم حكى عنهم ههنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: ٢٨٦) إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة {أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون} (البقرة: ٥) فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.

والوجه الرابع: وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند اللّه، وقال له: إن اللّه بعثك رسولا إلى الخلق، فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها اللّه تعالى على صدق ذلك الملك في دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطانا ضالا مضلا، وذلك الملك أيضا إذا سمع كلام اللّه تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام اللّه تعالى لا غير، وهذه المراتب معتبرة أولها: قيام المعجز على أن المسموع كلام اللّه لا غيره، فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام اللّه تعالى

وثانيها: قيام المعجزة عند النبي صلى اللّه عليه وسلم على أن ذلك الملك صادق في دعواه، وأنه ملك بعثه اللّه تعالى وليس بشيطان

وثالثها: أن تقوم المعجزة على يد الرسولعند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولا من عند اللّه لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك،

فلما ذكر اللّه تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام، قال: {الرسول بما} فبين أن الرسول عرف أن ذلك وحي من اللّه تعالى وصف إليه، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل اللّه تعالى معصوم من التحريف، وليس بشيطان مضل، ثم ذكر إيمان الرسول صلى اللّه عليه وسلم بذلك، وهو المرتبة المتقدمة، وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة، فقال: {والمؤمنون كل ءامن باللّه} ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضا معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعل الذين قالوا: إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور، وليس الأمر في هذا الباب كما قيل: ( والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر ) ونسأل اللّه تعالى أن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا به بفضله ورحمته.

المسألة الثانية:

قوله تعالى: {الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} فالمعنى أنه عرف بالدلائل القاهرة والمعجزات الباهرة أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام نزل من عند اللّه تعالى، وليس ذلك من باب إلقاء الشياطين، ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة، وإنما عرف الرسول لأنه صلى اللّه عليه وسلم ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل عليه السلام.

فأما قوله {والمؤمنون} ففيه احتمالان

أحدهما: أن يتم الكلام عند قوله {والمؤمنون} فيكون المعنى: آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه، ثم ابتدأ بعد ذلك بقوله {كل ءامن باللّه} والمعنى: كل واحد من المذكورين فيما تقدم، وهم الرسول والمؤمنون آمن باللّه. الاحتمال

الثاني: أن يتم الكلام عند قوله {بما أنزل إليه من ربه} ثم يبتدىء من قوله {والمؤمنون كل ءامن باللّه} ويكون المعنى أن الرسول آمن بكل ما أنزل إليه من ربه،

وأما المؤمنون فإنهم آمنوا باللّه وملائكته وكتبه ورسله، فالوجه الأول يشعر بأنه عليه الصلاة والسلام ما كان مؤمنا بربه، ثم صار مؤمنا به، ويحتمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال، وعلى الوجه الثاني يشعر اللفظ بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي أنزلت عليه، كما قال: {ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان} (الشورى: ٥٢)

وأما الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال، فقد كان حاصلا منذ خلقه اللّه من أول الأمر، وكيف يستبعد ذلك مع أن عيسى عليه السلام حين انفصل عن أمه قال: إني عبد اللّه آتاني الكتاب، فإذا لم يبعد أن عيسى عليه السلام رسولا من عند اللّه حين كان طفلا، فكيف يستبعد أن يقال: إن محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان عارفا بربه من أول ما خلق كامل العقل.

المسألة الثالثة: دلت الآية على أن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون آمنوا باللّه وملائكته وكتبه ورسله، وإنما خص الرسول بذلك، لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون كلاما متلوا يسمه الغير ويعرفه ويمكنه أن يؤمن به، وقد يكون وحيا لا يعلمه سواه، فيكون هو صلى اللّه عليه وسلم مختصا بالإيمان به، ولا يتمكن غيره من الإيمان به، فلهذا السبب كان الرسول مختصا في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره. ثم قال اللّه تعالى: {والمؤمنون كل ءامن باللّه وملئكته وكتبه ورسله} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: إعلم أن هذه الآية دلت على أن معرفة هذه المراتب الأربعة من ضرورات الإيمان.

فالمرتبة الأولى: هي الإيمان باللّه سبحانه وتعالى، وذلك لأنه ما لم يثبت أن للعالم صانعا قادرا على جميع المقدورات، عالما بجميع المعلومات، غنيا عن كل الحاجات، لا يمكن معرفة صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكانت معرفة اللّه تعالى هي الأصل، فلذلك قدم اللّه تعالى هذه المرتبة في الذكر.

والمرتبة الثانية: أنه سبحانه وتعالى إنما يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة الملائكة، فقال: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده} (النحل: ٢)

وقال: {وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء} (الشورى: ٥١)

وقال: {فإنه نزله على قلبك} (البقرة: ٩٧)

وقال: {نزل به الروح الامين * على قلبك} (الشعراء: ١٩٣، ١٩٤)

وقال: {علمه شديد القوى} (النجم: ٥)

فإذا ثبت أن وحي اللّه تعالى إنما يصل إلى البشر بواسطة الملائك فالملائكة يكونون كالواسطة بين اللّه تعالى وبين البشر، فلهذا السبب جعل ذكر الملائكة في المرتبة الثانية، ولهذا السر قال أيضا: {شهد اللّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} (آل عمران: ١٨).

والمرتبة الثالثة: الكتب، وهو الوحي الذي يتلقفه الملك من اللّه تعالى ويوصله إلى البشر وذلك في ضرب المثال يجري مجرى استنارة سطح القمر من نور الشمس فذات الملك كالقمر وذات الوحي كاستنارة القمر فكما أن ذات القمر مقدمة في الرتبة على استنارته فكذلك ذات الملك متقدم على حصول ذلك الوحي المعبر عنه بهذه الكتب، فلهذا السبب كانت الكتب متأخرة في الرتبة عن الملائكة، فلا جرم أخر اللّه تعالى ذكر الكتب عن ذكر الملائكة.

والمرتبة الرابعة: الرسل، وهم الذين يقتبسون أنوار الوحي من الملائكة، فيكونون متأخرين في الدرجة عن الكتب فلهذا السبب جعل اللّه تعالى ذكر الرسل في المرتبة الرابعة، واعلم أن ترتيب هذه المراتب الأربعة على هذا الوجه أسرار غامضة، وحكما عظيمة لا يحسن إيداعها في الكتب والقدر الذي ذكرناه كاف في التشريف.

المسألة الثانية: المراد بالإيمان باللّه عبارة عن الإيمان بوجوده، وبصفاته، وبأفعاله، وبأحكامه، وبأسمائه.

أما الإيمان بوجوده، فهو أن يعلم أن وراء المتحيزات موجودا خالقا لها، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقرا بوجود الإلاه تعالى لأنه لا يثبت ما وراء المتحيزات شيئا آخر فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات اللّه تعالى

أما الفلاسفة والمعتزلة فإنهم مقرون بإثبات موجود سوى المتحيزات موجد لها، فيكون الخلاف معهم لا في الذات بل في الصفات.

وأما الإيمان بصفاته، فالصفات

أما سلبية،

وأما ثبوتية.

فأما السلبية: فهي أن يعلم أنه فرد منزه عن جميع جهات التركيب، فإن كل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره، فهو مركب، فهو مفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فإذن كل مركب فهو ممكن لذاته، وكل ما ليس ممكنا لذاته، بل كان واجبا لذاته امتنع أن يكون مركبا بوجه من الوجوه، بل كان فردا مطلقا، وإذا كان فردا في ذاته لزم أن لا يكون متحيزا، ولا جسما، ولا جوهرا، ولا في مكان، ولا حالا، ولا في محل، ولا متغيرا ولا محتاجا بوجه من الوجوه ألبتة.

وأما الصفات الثبوتية: فبأن يعلم أن الموجب لذاته نسبته إلى بعض الممكنات كنسبته إلى البواقي،

فلما رأينا أن هذه المخلوقات وقعت على وجه يمكن وقوعها على خلاف تلك الأحوال، علمنا أن المؤثر فيها قادر مختار لا موجب بالذات، ثم يستدل بما في أفعاله من الإحكام والإتقان على كمال علمه، فحينئذ يعرفه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موصوفا منعوتا بالجلال وصفات الكمال، وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله {اللّه لا إله إلا هو الحى القيوم} (البقرة: ٢٥٥).

وأما الإيمان بأفعاله، فبأن تعلم أن كل ما سواه فهو ممكن محدث، وتعلم ببديهة عقلك أن الممكن المحدث لا يوجد بذاته، بل لا بد له من موجد يوجده وهو القديم، وهذا الدليل يحملك على أن تجزم بأن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وإيجاده وتكوينه إلا أنه وقع في البين عقدة وهي الحوادث التي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات، فالحكم الأول وهو أنها ممكنة محدثة فلا بد من إسنادها إلى واجب الوجود مطرد فيها.

فإن قلت: إني أجد من نفسي أني إن شئت أن أتحرك تحركت، وإن شئت أن لا أتحرك لم أتحرك فكانت حركاتي وسكناتي بي لا بغيري. فنقول: قد علقت حركتك بمشيئتك لحركتك، وسكونك بمشيئتك لسكونك، فقبل حصول مشيئة الحركة لا تتحرك وقبل حصول مشيئة السكون لا تسكن، وعند حصول مشيئة الحركة لا بد وأن تتحرك. إذا ثبت هذا فنقول: هذه المشيئة كيف حدثت فإن حدوثها

أما أن يكون لا بمحدث أصلا أو يكون بمحدث، ثم ذلك المحدث

أما أن يكون هو العبد أو اللّه تعالى، فإن حدثت لا بمحدث فقد لزم نفي الصانع، وإن كان محدثها هو العبد افتقر في إحداثها إلى مشيئة أخرى ولزم التسلسل، فثبت أن محدثها هو اللّه سبحانه وتعالى. إذا ثبت هذا فنقول: لا اختيار للإنسان في حدوث تلك المشيئة، وبعد حدوثها فلا اختيار له في ترتب الفعل عليها إلا بالمشيئة به، ولا حصول الفعل بعد المشيئة، فالإنسان مضطر في صورة مختار، فهذا كلام قاهر قوي، وفي معارضته إشكالان

أحدهما: كيف يليق بكمال حكمة اللّه تعالى إيجاد هذه القبائح والفواحش من الكفر والفسق

والثاني: أنه لو كان الكل بتخليقه فكيف توجه الأمر والنهي، والمدح والذم، والثواب والعقاب على العبد، فهذا هو الحرف المعول عليه من جانب الخصم، إلا أنه وارد عليه أيضا في العلم على ما قررناه في مواضع عدة.

وأما المرتبة الرابعة في الإيمان باللّه: فهي معرفة أحكامه، ويجب أن يعلم في أحكامه أمورا أربعة

أحدها: أنها غير معللة بعلة أصلا، لأن كل ما كان معللا بعلة كان صاحبه ناقصا بذاته، كاملا بغيره، وذلك على الحق سبحانه محال

وثانيها: أن يعلم أن المقصود من شرعها منفعة عائدة إلى العبد لا إلى الحق، فإنه منزه عن جلب المنافع، ودفع المضار

وثالثها: أن يعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد

ورابعها: أنه يعلم أنه لا يجب لأحد على الحق بسبب أعماله وأفعاله شيء، وأنه سبحانه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله، وأنه لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه شيء، لأن الكل ملكه وملكه، والمملوك المجازى لا حق له على المالك المجازي، فكيف المملوك الحقيقي مع المالك الحقيقي.

وأما الرتبة الخامسة في الإيمان باللّه: فمعرفة أسمائه قال في الأعراف {وللّه الاسماء الحسنى} (الأعراف: ١٨٠)

وقال في بني إسرائيل {أياًّ ما تدعوا فله الاسماء الحسنى} (الإسراء: ١١٠)

وقال في طه {اللّه لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى} (طه: ٨)

وقال في آخر الحشر {له الاسماء الحسنى يسبح له ما فى * السماوات والارض} (الحشر: ٢٤)

والأسماء الحسنى هي الأسماء الواردة في كتب اللّه المنزلة على ألسنة أنبيائه المعصومين، وهذه الإشارة إلى معاقد الإيمان باللّه.

وأما الإيمان بالملائكة، فهو من أربعة أوجه أولها: الإيمان بوجودها، والبحث عن أنها روحانية محضة، أو جسمانية، أو مركبة من القسمين، وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام لطيفة أو كثيفة، فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية، أو هوائية، وإن كانت كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى، فذاك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية. والمرتبة الثانية في الإيمان بالملائكة: العلم بأنهم معصومون مطهرون {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} (النحل: ٥٠) {لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} (الأنبياء: ١٩) فإن لذتهم بذكر اللّه، وأنسهم بعبادة اللّه، وكما أن حياة كل واحد منا بنفسه الذي هو عبارة عن استنشاق الهواء، فكذلك حياتهم بذكر اللّه تعالى ومعرفته وطاعته.

والمرتبة الثالثة: أنهم وسائط بين اللّه وبين البشر، فكل قسم منهم متوكل على قسم من أقسام هذا العالم، كما قال سبحانه: {والصافات صفا * فالزجرات زجرا} (الصافات: ١، ٢)

وقال: {والذريات ذروا * فالحاملات وقرا} (الذاريات: ١، ٢)

وقال: {والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا} (المرسلات: ١، ٢)

وقال: {والنازعات غرقا * والناشطات نشطا} (النازعات: ١، ٢)

ولقد ذكرنا في تفسير هذه الآيات أسرارا مخفية، إذا طالعها الراسخون في العلم وقفوا عليها.

والمرتبة الرابعة: أن كتب اللّه المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة، قال اللّه تعالى: {إنه لقول رسول كريم * ذى قوة عند ذى العرش مكين * مطاع ثم أمين} (التكوير: ١٩، ٢٠، ٢١) فهذه المراتب لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة، فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم.

وأما الإيمان بالكتب: فلا بد فيه من أمور أربعة أولها: أن يعلم أن هذه الكتب وحي من اللّه تعالى إلى رسوله، وأنها ليست من باب الكهانة، ولا من باب السحر، ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة

وثانيها: أن يعلم أن الوحي بهذه الكتب وإن كان من قبل الملائكة المطهرين، فاللّه تعالى لم يمكن أحدا من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الطاهر، وعند هذا يعلم أن من قال: إن الشيطان ألقى قوله: تلك الغرانيق العلا في أثناء الوحي، فقد قال قولا عظيما، وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن.

والمرتبة الثالثة: أن هذا القرآن لم يغير ولم يحرف، ودخل فيه فساد قول من قال: إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي اللّه عنه، فإن من قال ذلك أخرج القرآن عن كونه حجة.

والمرتبة الرابعة: أن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، وأن محكمه يكشف عن متشابهه.

وأما الإيمان بالرسل: فلا بد فيه من أمور أربعة:

المرتبة الأولى: أن يعلم كونهم معصومين من الذنوب، وقد أحكمنا هذه المسألة في تفسير قوله {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} (البقرة: ٣٦) وجميع الآيات التي يتمسك بها المخالفون قد ذكرنا وجه تأويلاتها في هذا التفسير بعون اللّه سبحانه وتعالى.

والمرتبة الثانية: من مراتب الإيمان بهم: أن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، ومن الصوفية من ينازع في هذا الباب.

المرتبة الثالثة: قال بعضهم: أنهم أفضل من الملائكة وقال كثير من العلماء: إن الملائكة السماوية أفضل منهم، وهم أفضل من الملائكة الأرضية، وقد ذكرنا هذه المسألة في تفسير قوله {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم} (البقرة: ٣٤) ولأرباب المكاشفات في هذه المسألة مباحثات غامضة. المرتبة

الرابعة: أن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض، وقد بينا ذلك في تفسير

قوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} (البقرة: ٢٥٣)

ومنهم من أنكر ذلك وتمسك بقوله تعالى له في هذه الآية {لا نفرق بين أحد من رسله} (البقرة: ٢٥٣).

وأجاب العلماء عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر، وهو أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا كانوا حاضرين هو ظهور المعجزة على وفق دعاويهم، فإذا كان هذا هو الطريق، وجب في حق كل من ظهرت المعجزة على وفق دعواه أن يكون صادقا، وإن لم يصح هذا الطريق وجب أن لا يدل في حق أحد منهم على صحة رسالته،

فأما أن يدل على رسالة البعض دون البعض فقول فاسد متناقض، والغرض منه تزييف طريقة اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى، ويكذبون بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فهذا هو المقصود من

قوله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} لا ما ذكرتم من أنه لا يجوز أن يكون بعضهم أفضل من البعض فهذا هو الإشارة إلى أصول الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله.

المسألة الثالثة: قرأ حمزة {*وكتابه} على الواحد، والباقون {أوتى كتابه} على الجمع،

أما الأول ففيه وجهان

أحدهما: أن المراد هو القرآن ثم الإيمان به ويتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل

والثاني: على معنى الجنس فيوافق معنى الجمع، ونظيره

قوله تعالى: {فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق} (البقرة: ٢١٣).

فإن قيل: اسم الجنس إنما يفيد العموم إذا كان مقرونا بالألف واللام، وهذه مضافة.

قلنا: قد جاء المضاف من الأسماء ونعني به الكثرة، قال اللّه تعالى: {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} (إبراهيم: ٣٤)

وقال اللّه تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (البقرة: ١٨٧) وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام قال العلماء: والقراءة بالجمع أفضل لمشاكلة ما قبله وما بعده من لفظ الجمع ولأن أكثر القراءة عليه، واعلم أن القراء أجمعوا في قوله {ورسله} على ضم السين، وعن أبي عمرو سكونها، وعن نافع {وكتبه ورسله} مخففين، وحجة الجمهور أن أصل الكلمة على فعل بضم العين، وحجة أبي عمرو هي أن لا تتوالى أربع متحركات، لأنهم كرهوا ذلك، ولهذا لم تتوال هذه الحركات في شعر إلا أن يكون مزاحفا، وأجاب الأولون أن ذلك مكروه في الكلمة الواحدة

أما في الكلمتين فلا بدليل أن الإدغام غير لازم في وجعل ذلك مع أنه قد توالى فيه خمس متحركات، والكلمة إذا اتصل بها ضمير فهي كلمتان لا كلمة واحدة.

المسألة الرابعة: قوله {لا نفرق بين أحد من رسله} فيه محذوف، والتقدير: يقولون لا نفرق بين أحد من رسله كقوله {والملئكة باسطوا أيديهم أخرجوا} (الأنعام: ٩٣) معناه يقولون: أخرجوا وقال: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه} (الزمر: ٣) أي قالوا هذا.

المسألة الخامسة: قرأ أبو عمرو {يفرق} بالياء على أن الفعل لكل، وقرأ عبد اللّه {لا * يفرقون}.

المسألة السادسة: أحد في معنى الجمع، كقوله {فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة: ٤٧) والتقدير: لا نفرق بين جميع رسله، هذا هو الذي قالوه، وعندي أنه لا يجوز أن يكون أحد ههنا في معنى الجمع، لأنه يصير التقدير: لا نفرق بين جميع رسله، وهذا لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل والمقصود بالنفي هو هذا، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل، بل بين البعض وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فثبت أن التأويل الذي ذكروه باطل، بل معنى الآية: لا نفرق بين أحد من الرسل، وبين غيره في النبوة، فإذا فسرنا بهذا حصل المقصود من الكلام، واللّه أعلم. ثم قال اللّه تعالى: {وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}.وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: الكلام في نظم هذه الآية من وجوه

الأول: وهو أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، واستكمال القوة النظرية بالعلم، واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات، والقوة النظرية أشرف من القوة العملية، والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن إبراهيم {رب هب لى حكما وألحقنى بالصالحين} (الشعراء: ٨٣) فالحكم كمال القوة النظرية {وألحقنى بالصالحين} كمال القوة العملية، وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب. إذا عرفت هذا فنقول: الأمر في هذه الآية أيضا كذلك، فقوله {كل ءامن باللّه وملئكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وقوله {وقالوا سمعنا وأطعنا} إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة، ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون.

والوجه الثاني: من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياما ثلاثة: الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ واليوم الحاضر، والبحث عنه يسمى بعلم الوسط، والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود {وللّه غيب * السماوات والارض *وإليه يرجع الامر كله} (هود: ١٢٣) وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة، لا جرم ذكرها في هذه الآية، وقوله {وللّه غيب * السماوات والارض} إشارة إلى كمال العلم، وقوله {وإليه يرجع الامر كله} إشارة إلى كمال القدرة، فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ،

وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به، فله أيضا مرتبتان: البداية والنهاية

أما البداية فالاشتغال بالعبودية،

وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب، وذلك هو المسمى بالتوكل، فذكر هذين المقامين، فقال: {فاعبده وتوكل عليه} (هود: ١٢٣)

وأما علم المعاد فهو قوله {وما ربك بغافل عما يعملون} (الأنعام: ١٣٢) أي فيومك غدا سيصل فيه نتائج أعمالك إليك، فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة، ونظيرها أيضا قوله سبحانه وتعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} (الصافات: ١٨٠) وهو إشارة إلى علم المبدأ، ثم قال: {وسلام على المرسلين} (الصافات: ١٨١) وهو إشارة إلى علم الوسط، ثم قال: {والحمد للّه رب العالمين} (الصافات: ١٨٢) وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة {دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام} (يونس: ١٠٠). إذا عرفت هذا فنقول: تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة، فقوله {الرسول بما} إلى قوله {لا نفرق بين أحد من رسله} إشارة إلى معرفة المبدأ، وقوله {وقالوا سمعنا وأطعنا} إشارة إلى علم الوسط، وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالما مشتغلا بها، ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا، وقوله {غفرانك ربنا وإليك المصير} إشارة إلى علم المعاد، والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم الأفلاك، وأنوار بهجة السماوات. الوجه الثالث في النظم: أن المطالب قسمان

أحدهما: البحث عن حقائق الموجودات

والثاني: البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر، أما القسم الأول فمستفاد من العقل والثاني مستفاد من السمع والقسم الأول هو المراد بقوله {والمؤمنون كل ءامن باللّه} والقسم الثاني هو المراد بقوله {وقالوا سمعنا وأطعنا}.

المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه اللّه قوله {سمعنا وأطعنا} أي سمعنا قوله وأطعنا أمره، إلا أنه حذف المفعول، لأن في الكلام دليلا عليه من حيث مدحوا به.

وأقول: هذا من الباب الذي ذكره عبد القاهر النحوي رحمه اللّه أن حذف المفعول فيه ظاهرا وتقديرا أولى لأنك إذا جعلت التقدير: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، فإذن ههنا قول آخر غير قوله، وأمر آخر يطاع سوى أمره، فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته: أطعنا إلا أمره فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى.

المسألة الثالثة: إعلم أنه تعالى لما وصف إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون: سمعنا وأطعنا، فقوله {سمعنا} ليس المراد منه السماع الظاهر، لأن ذلك لا يفيد المدح، بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا، أي عقلناه وعلمنا صحته، وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن، قال اللّه تعالى: {إن فى ذالك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (ق : ٣٧) والمعنى: لمن سمع الذكرى بفهم حاضر، وعكسه قوله تعالى: {كأن لم يسمعها كأن فى أذنيه وقرا} (لقمان: ٧) ثم قال بعد ذلك {وأطعنا} فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع اللّه تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علما وعملا. ثم حكي عنهم بعد ذلك أنهم قالوا {غفرانك ربنا وإليك المصير} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في هذه الآية سؤال، وهو أن القوم لما قبلوا التكاليف وعملوا بها، فأي حاجة بهم إلى طلبهم المغفرة.

والجواب من وجوه

الأول: أنهم وإن بذلوا مجهودهم في أداء هذه التكاليف إلا أنهم كانوا خائفين من تقصير يصدر عنهم، فلما جوزوا ذلك قالوا {غفرانك ربنا} ومعناه أنهم يلتمسون من قبله الغفران فيما يخافون من تقصيرهم فيما يأتون ويذرون

والثاني: روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة" فذكروا لهذا الحديث تأويلات من جملتها أنه عليه الصلاة والسلام كان في الترقي في درجات العبودية فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى من الأول رأى الأول حقيرا، فكان يستغفر اللّه منه، فحمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه أيضا غير مستبعد

والثالث: أن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلاهيته جنايات، وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل، ولذلك قال: {وما قدروا اللّه حق قدره} (الأنعام: ٩١) وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية، وإن كان عالما جدا إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء اللّه تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه، وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم : {فاعلم أنه لا إله إلائ اللّه واستغفر لذنبك} (محمد: ١٩) فإن مقامات عبوديته وإن كانت عالية إلا أنه كان ينكشف له في درجات مكاشفاته أنها بالنسبة إلى ما يليق بالحضرة الصمدية عن التقصير، فكان يستغفر منها، وكذلك حكي عن أهل الجنة كلامهم فقال {دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام} (يونس: ١٠) فسبحانك اللّهم إشارة إلى التنزيه. ثم إنه قال: {دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام} (يونس: ١٠) يعني أن كل الحمد للّه وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا.

المسألة الثانية: قوله {غفرانك} تقديره: اغفر غفرانك، ويستغني بالمصدر عن الفعل في الدعاء نحو سقيا ورعيا، قال الفراء: هو مصدر وقع موقع الأمر فنصب، ومثله الصلاة الصلاة، والأسد الأسد، وهذا أولى من قول من قال: نسألك غفرانك لأن هذه الصيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ابتداء كانت أدل عليه، ونظيره قولك: حمدا حمدا، وشكرا شكرا، أي أحمد حمدا، وأشكر شكر.

المسألة الثالثة: أن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين

أحدهما: بالإضافة إليه، وهو قوله {غفرانك}

والثاني: أردفه بقوله {ربنا} وهذان القيدان يتضمنان فوائد إحداها: أنت الكامل في هذه الصفة، فأنت غافر الذنب، وأنت غفور {وربك الغفور} (الكهف: ٥٨) {وهو الغفور الودود} (البروج: ١٤) وأنت الغفار {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} (نوح: ١٠) يعني أنه ليست غفاريته من هذا الوقت، بل كانت قبل هذا الوقت غفار الذنوب، فهذه الغفارية كالحرفة له، فقوله ههنا {غفرانك} يعني أطلب الغفران منك وأنت الكامل في هذه الصفة، والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة، فقوله {غفرانك} طلب لغفران كامل، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب بفضله ورحمته، ويبدلها بالحسنات، كما قال: {فأولئك يبدل اللّه سيئاتهم حسنات} (الفرقان: ٧٠)

وثانيها: روي في الحديث الصحيح "إن للّه مائة جزء من الرحمة قسم جزءا واحدا منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات، فيها يتراحمون، وادخر تسعة وتسعين جزءا ليوم القيامة" فأظن أن المراد من قوله {غفرانك} هو ذلك الغفران الكبير، كان العبد يقول: هب أن جرمي كبير لكن غفرانك أعظم من جرمي

وثالثها: كأن العبد يقول: كل صفة من صفات جلالك وإلاهيتك، فإنما يظهر أثرها في محل معين، فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك، فكذا لولا جرم العبد وجنايته، وعجزه وحاجته، لما ظهرت آثار غفرانك، فقوله {غفرانك} معناه طلب الغفران الذي لا يمكن ظهور أثره إلا في حقي، وفي حق أمثالي من المجرمين.

وأما القيد

الثاني: وهو قوله {ربنا} ففيه فوائد أولها: ربيتني حين ما لم أذكرك بالتوحيد، فكيف يليق بكرمك أن لا تريني عندما أفنيت عمري في توحيدك

وثانيها: ربيتني حين كنت معدوما، ولو لم تربني في ذلك الوقت لما تضررت به، لأني كنت أبقى حينئذ في العدم

وأما الآن فلو لم تربني وقعت في الضرر الشديد، فأسألك أن لا تهملي

وثالثها: ربيتني في الماضي فاجعل لي في الماضي شفيعي إليك في أن تربيني في المستقبل

ورابعها: ربيتني في الماضي فإتمام المعروف خير من ابتدائه، فتمم هذه التربية بفضلك ورحمتك. ثم قال اللّه تعالى: {وإليك المصير} وفيه فائدتان إحداهما: بيان أنهم كما أقروا بالمبدأ فكذلك أقروا بالمعاد، لأن الإيمان بالمبدأ أصل الإيمان بالمعاد، فإن من أقر أن اللّه عالم بالجزئيات، وقادر على كل الممكنات، لا بد وأن يقر بالمعاد والثانية: بيان أن العبد متى علم أنه لا بد من المصير إليه، والذهاب إلى حيث لا حكم إلا حكم اللّه، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذن اللّه، كان إخلاصه في الطاعات أتم، واحترازه عن السيئات أكمل، وهاهنا آخر ما شرح اللّه تعالى من إيمان المؤمنين.

﴿ ٢٨٥