٤

{من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بأيات اللّه لهم عذاب شديد واللّه عزيز ذو انتقام}.

أما قوله تعالى: {والإنجيل من قبل هدى للناس}. فاعلم أنه تعالى بين أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن، ثم بين أنه إنما أنزلهما هدى للناس، قال الكعبي: هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمي على الكافرين وليس بهدى لهم، ويدل على معنى قوله {وهو عليهم عمى} (فصلت: ٤٤) أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز، كقول نوح عليه السلام {فلم يزدهم دعائى إلا فرارا} (نوح: ٦) لما فروا عنده. واعلم أن قوله {هدى للناس} فيه احتمالان

الأول: أن يكون ذلك عائدا إلى التوراة والإنجيل فقط، وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان.

فإن قيل: إنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدى للمتقين، فلم لم يصفه ههنا به؟.

قلنا: فيه لطيفة، وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال: {هدى للمتقين} (البقرة: ٢) لأنهم هم المنتفعون به، فصار من الوجه هدى لهم لا لغيرهم،

أما ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل ههنا في القرآنه أنه هدى بل قال: إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه،

وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما اللّه تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدى، فهذا ما خطر بالبال واللّه أعلم. القول

الثاني: وهو قول الأكثرين: أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى، فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل واللّه أعلم بمراده. ثم قال: {وأنزل الفرقان}. ولجمهور المفسرين فيه أقوال

الأول: أن المراد هو الزبور، كما قال: {وءاتينا * داوود * زبورا} (النساء: ١٦٣)

والثاني: أن المراد هو القرآن، وإنما أعاده تعظيما لشأنه ومدحا بكونه فارقا بين الحق والباطل أو يقال: إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير فلا تكرار.

والقول الثالث: وهو قول الأكثرين: أن المراد أنه تعالى كما جعل الكتب الثلاثة هدى ودلالة، فقد جعلها فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع، فصار هذا الكلام دالا على أن اللّه تعالى بين بهذه الكتب ما يلزم عقلا وسمعا، هذا جملة ما قاله أهل التفسير في هذه الآية وهي عندي مشكلة

أما حمله على الزبور فهو بعيد، لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، بل ليس فيه إلا المواعظ، ووصف التوراة والإنجيل مع اشتمالهما على الدلائل، وبيان الأحكام بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك،

وأما القول

الثاني: وهو حمله على القرآن فبعيد من حيث إن قوله {وأنزل الفرقان} عطف على ما قبله، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه والقرآن مذكور قبل هذا فهذا يقتضي أن يكون هذا الفرقان مغايرا للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث، لأن كون هذه الكتب فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب وعطف الصفة على الموصوف وإن كان قد ورد في بعض الأشعار النادرة إلا أنه ضعيف بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللّه تعالى، والمختار عندي في تفسير هذه الآية وجه رابع، وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها اللّه تعالى بإنزال هذه الكتب وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند اللّه تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين، فلما أظهر اللّه تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر اللّه تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق، وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك، بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية، وهب أن أحدا من المفسرين ما ذكره إلا أن حمل كلام اللّه تعالى عليه يفيد قوة المعنى، وجزالة اللفظ، واستقامة الترتيب والنظم، والوجوه التي ذكروها تنافي كل ذلك، فكان ما ذكرناه أولى واللّه أعلم بمراده. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإلاه، وجميع ما يتعلق بتقرير النبوة أتبع ذلك بالوعيد زجرا للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال:{إن الذين كفروا بأيات اللّه لهم عذاب شديد واللّه عزيز ذو انتقام}.

واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى، فقصر اللفظ العام على سبب نزوله، والمحققون من المفسرين قالوا: خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل اللّه تعالى. ثم قال: {واللّه عزيز ذو انتقام}. والعزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة، يقال انتقم منه انتقاما أي عاقبه، وقال الليث يقال: لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع، والعزيز إشار إلى القدرة التامة على العقاب، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب، فالأول: صفة الذات،

والثاني: صفة الفعل، واللّه أعلم.

{إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السمآء * هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشآء لا إله إلا هو العزيز الحكيم}.

إعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين: الاحتمال

الأول: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم، وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين

أحدهما: أن يكون عالما بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية

والثاني: أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها،

والأول: لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات،

والثاني: لا يتم إلا إذا كان قادرا على جميع الممكنات، فقوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات، فحينئذ يكون عالما لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات، لا يشغله سؤال عن سؤال، ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء} إشارة إلى كونه تعالى قادرا على جميع الممكنات، وحينئذ يكون قادرا على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم، وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائما بالقسط قيوما بجميع الممكنات والكائنات، ثم فيه لطيفة أخرى، وهي أن قوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه، والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالما لا يجوز أن يكون هو السمع، لأن معرفة صحة السمع مرقوفة على العلم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات، بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي، وذلك هو أن نقول: إن أفعال اللّه تعالى محكمة متقنة، والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالما، فلما كان دليل كونه تعالى عالما هو ما ذكرنا، فحين ادعى كونه عالما بكل المعلومات بقوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك، وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة، والتركيب الغريب، وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، فبعضها عظام، وبعضها غضاريف، وبعضها شرايين، وبعضها أوردة، وبعضها عضلات، ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن، والتأليف الأكمل، وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون، ويدل على كونه عالما من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم، فكان قوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء} دالا على كونه قادرا على كل الممكنات، ودالا على صحة ما تقدم من قوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وقادر على كل الممكنات، ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات، فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولا من أنه هو الحي القيوم، ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة، ولا أحسن ترتيبا، ولا أكثر تأثيرا في القلوب من هذه الكلمات. والاحتمال

الثاني: أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها، وذلك لأن النصارى ادعوا إلاهية عيسى عليه السلام، وعولوا في ذلك على نوعين من الشبه، أحد النوعين شبه مستخرجة من مقدمات مشاهدة، والنوع

الثاني: شبه مستخرجة من مقدمات إلزامية.

أما النوع الأول من الشبه: فاعتمادهم في ذلك على أمرين

أحدهما: يتعلق بالعلم

والثاني: يتعلق بالقدرة.

أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب، وكان يقول لهذا: أنت أكلت في دارك كذا، ويقول لذاك: إنك صنعت في دارك كذا، فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم.

وأما الأمر الثاني من شبههم، فهو متعلق بالقدرة، وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه، وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة، وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين، ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلاهية عيسى وفي التثليث بقوله {الحى القيوم} (البقرة: ٢٥٥) يعني الإلاه يجب أن يكون حيا قيوما، وعيسى ما كان حيا قيوما، لزم القطع إنه ما كان إلاها، فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جوابا عن هاتين الشبهتين:

أما الشبهة

الأولى: وهي المتعلقة بالعلم، وهي قولهم: إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلاها، فأجاب اللّه تعالى عنه بقوله {إن اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء} وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالما ببعض المغيبات أن يكون إلاها لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من اللّه إليه، وتعليم اللّه تعالى له ذلك، لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإلاه لأن الإلاه هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإلاه هو الذي يكون خالقا، والخالق لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات، فكيف والنصارى يقولون: إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالما بالغيب كله، لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله، وأنه يتأذى بذلك ويتألم، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه، فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالما بجميع المعلومات والمغيبات والإلاه هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات، فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلاها فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلاهية،

وأما الجهل ببعض الغيب يدل قطعا على عدم الإلاهية، فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم.

أما النوع

الثاني: من الشبه، وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة فأجاب اللّه تعالى عنها بقوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء} والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاها، لاحتمال أن اللّه تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهارا لمعجزته وإكراما له.

أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلاهية، وذلك لأن الإلاه هو الذي يكون قادرا على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب، والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادرا على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف، ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه، فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاها،

أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلاها، فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضا ساقطة.

وأما النوع الثاني من الشبه: فهي الشبه المبنية على مقدمات إلزامية، وحاصلها يرجع إلى نوعين.

النوع الأول: أن النصارى يقولون: أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنا له فأجاب اللّه تعالى عنه أيضا بقوله {هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء} لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب.

والنوع الثاني: أن النصارى قالوا للرسول صلى اللّه عليه وسلم ألست تقول: إن عيسى روح اللّه وكلمته، فهذا يدل على أنه ابن اللّه، فأجاب اللّه تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي، واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز، فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفا للدليل العقلي كان من باب المتشابهات، فوجب رده إلى التأويل، وذلك هو المراد بقوله {هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} (آل عمران: ٧) فظهر بما ذكرنا أن قوله {الحى القيوم} إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإلاه ولا ابن له،

﴿ ٤