٣٣{إن اللّه اصطفى آدم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم}. اعلم أنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال: {إن اللّه اصطفى آدم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المخلوقات على قسمين: المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة: الملائكة، والإنس والجن، والشياطين، أما الملائكة، فقد روي في الأخبار أن اللّه تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول: أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني: لهذا السبب قدروا على حمل العرش، لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث: لهذا السبب سموا روحانيين، وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور، ولهذا صفت وأخلصت للّه تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول: أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السماوات، أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر ل قوله تعالى: {وكان من الكافرين} (البقرة: ٣٤) وأما سائر الشياطين فهم أيضا كفرة بدليل قوله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (الأنعام: ١٢١) ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى: {ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو} (الكهف: ٥٠) وقال: {وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الإنس والجن} (الأنعام: ١١٢) ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال اللّه تعالى حكاية عن إبليس {خلقتني من نار وخلقته من طين} (الأعراف: ١٢) وقال: {والجآن خلقناه من قبل من نار السموم} (الحجر: ٢٧) فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن، قال تعالى: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} (الجن: ١٤) أما الإنس فلا شك أن لهم والدا هو والدهم الأول، وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دل على أن ذلك الأول هو آدم صلى اللّه عليه وسلم على ما قال تعالى في هذه السورة {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: ٥٩) وقال: {تفلحون يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} (النساء: ١). إذا عرفت هذا فنقول: اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين، واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة، وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: {اسجدوا لادم فسجدوا} (الأعراف: ١١) والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية، وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة، فلما بين تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين. فإن قيل: إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض، فوجب حمله على هذا المعنى دفعا للتناقض وأيضا قال تعالى في صفة بني إسرائيل {وأنى فضلتكم على العالمين} (البقرة: ٤٧) ولا يلزم كونهم أفضل من محمد صلى اللّه عليه وسلم بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم، والجواب ظاهر في قوله: اصطفى آدم على العالمين، يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم عليه فيندرج فيه الملك، غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه، فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل. المسألة الثانية: {اصطفى} في اللغة اختار، فمعنى: اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه، تمثيلا بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، ويقال على ثلاثة أوجه: صفوة، وصفوة وصفوة، ونظير هذه الآية قوله لموسى {إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي} (الأعراف: ١٤٤) وقال في إبراهيم {وإسحاق ويعقوب * وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار} (ص: ٤٧). إذا عرفت هذا فنقول.في الآية قولان الأول: المعنى أن اللّه اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعا إلى دينهم وشرعهم وملتهم، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني: أن يكون المعنى: إن اللّه اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما: أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني: أنه موافق ل قوله تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل} (الأنعام: ١٢٤) وذكر الحليمي في كتاب "المنهاج" أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي أما مدركة، وأما محركة. أما المدركة: فهي أما الحواس الظاهرة، وأما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها: القوة الباصرة، ولقد كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم مخصوصا بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول: قوله صلى اللّه عليه وسلم : "زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها" والثاني: قوله صلى اللّه عليه وسلم : "أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري" ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم صلى اللّه عليه وسلم وهو قوله تعالى: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت * السماوات والارض} (الأنعام: ٧٥) ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه اللّه: وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بصر النبي صلى اللّه عليه وسلم أقوى من بصرها وثانيها: القوة السامعة، وكان صلى اللّه عليه وسلم أقوى الناس في هذه القوة، ويدل عليه وجهان أحدهما: قوله صلى اللّه عليه وسلم : "أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد للّه تعالى" فسمع أطيط السماء والثاني: أنه سمع دويا وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن، قال الحليمي: ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا، فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك، ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل {قالت نملة يأيها * أيها *النمل ادخلوا مساكنكم} (النمل: ١٨) فاللّه تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضا في باب تقوية الفهم، وكان ذلك حاصلا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم حين تكلم مع الذئب ومع البعير ثالثها: تقوية قوة الشم كما في حق يعقوب عليه السلام، فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه، فلما فصلت العير قال يعقوب {إنى لاجد ريح يوسف} (يوسف: ٩٤) فأحس بها من مسيرة أيام ورابعها: تقوية قوة الذوق، كما في حق رسولنا صلى اللّه عليه وسلم حين قال: "إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم" و خامسها: تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل اللّه تعالى النار بردا وسلاما عليه، فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة، وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ، قال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} (الأعلى: ٦) ومنها قوة الذكاء قال علي عليه السلام: "علمني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب" فإذا كان حال الولي هكذا، فكيف حال النبي صلى اللّه عليه وسلم . وأما القوى المحركة: فمثل عروج النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المعراج، وعروج عيسى حيا إلى السماء، ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار، وقال اللّه تعالى: {قال الذى عنده علم من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} (النمل: ٤٠). وأما القوى الروحانية العقلية: فلا بد وأن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء. واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس، ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء، والفطنة، والحرية، والاستعلاء، والترفع عن الجسمانيات والشهوات، فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف، وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن، ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء. إذا عرفت هذا فقوله {إن اللّه اصطفى آدم ونوحا} معناه: إن اللّه تعالى اصطفى آدم أما من سكان العالم السفلي على قول من يقول: الملك أفضل من البشر، أو من سكان العالم العلوي على قول من يقول: البشر أشرف المخلوقات، ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم عليه السلام، هم شيث وأولاده، إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل وإسحاق، فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين: يعقوب وعيصو، فوضع النبوة في نسل يعقوب، ووضع الملك في نسل عيصو، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فلما ظهر محمد صلى اللّه عليه وسلم نقل نور النبوة ونور الملك إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة، ومن تأمل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة. المسألة الثالثة: من الناس من قال. المراد بآل إبراهيم المؤمنون، كما في قوله {النار يعرضون عليها} (غافر: ٤٦) والصحيح أن المراد بهم الأولاد، وهم المراد ب قوله تعالى: {إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى قال لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة: ١٢٤) وأما آل عمران فقد اختلفوا فيه، فمنهم من قال المراد عمران ولد موسى وهارون، وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فيكون المراد من آل عمران موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء، ومنهم من قال: بل المراد: عمران بن ماثان والد مريم، وكان هو من نسل سليمان بن داود بن إيشا، وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، قالوا. وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بهذا القول على صحته بأمور أحدها: أن المذكور عقيب قوله {إن اللّه اصطفى آدم} هو عمران بن ماثان جد عيسى عليه السلام من قبل الأم، فكان صرف الكلام إليه أولى وثانيها: أن المقصود من الكلام أن النصارى كانوا يحتجون على إلاهية عيس بالخوارق التي ظهرت على يديه، فاللّه تعالى يقول: إنما ظهرت على يده إكراما من اللّه تعالى إياه بها، وذلك لأنه تعالى اصطفاه على العالمين وخصه بالكرامات العظيمة، فكان حمل هذا الكلام على عمران بن ماثان أولى في هذا المقام من حمله على عمران والد موسى وهارون وثالثها: أن هذا اللفظ شديد المطابقة ل قوله تعالى: {وجعلناها وابنها ءاية للعالمين} (الأنبياء: ٩١) واعلم أن هذه الوجوه ليست دلائل قوية، بل هي أمور ظنية، وأصل الاحتمال قائم. |
﴿ ٣٣ ﴾