٣٥{إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتهآ أنثى واللّه أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هاذا قالت هو من عند اللّه إن اللّه يرزق من يشآء بغير حساب}. وفيه مسائل: المسألة الأولى: في موضع {إذ} من الإعراب أقوال الأول: قال أبو عبيدة: إنها زائدة لغوا، والمعنى: قالت امرأة عمران، ولا موضع لها من الإعراب، قال الزجاج: لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئا، لأنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب اللّه تعالى، ولا يجوز حذف حرف من كتاب اللّه تعالى من غير ضرورة والثاني: قال الأخفش والمبرد: التقدير اذكر {إذ قالت امرأت عمران} ومثله في كتاب اللّه تعالى كثير الثالث: قال الزجاج، التقدير: واصطفى آل عمران على العالمين إذ قالت امرأة عمران، وطعن ابن الأنباري فيه وقال: إن اللّه تعالى قرن اصطفاء آل عمران باصطفاء آدم ونوح، ولما كان اصطفاؤه تعالى آدم ونوحا قبل قول امرأة عمران استحال أن يقال: إن هذا الاصطفاء مقيد بذلك الوقت الذي قالت امرأة عمران هذا الكلام فيه ويمكن أن يجاب عنه بأن أثر اصطفاء كل واحد إنما ظهرر عند وجوده، وظهور طاعاته، فجاز أن يقال: إن اللّه اصطفى آدم عند وجوده، ونوحا عند وجوده، وآل عمران عندما قالت امرأة عمران هذا الكلام الرابع: قال بعضهم: هذا متعلق بما قبله، والتقدير: واللّه سميع عليم إذ قالت امرأة عمران هذا القول. فإن قيل: إن اللّه سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول، فما معنى هذا التقييد؟ قلنا: إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات. المسألة الثانية: أن زكريا بن أذن، وعمران بن ماثان، كانا في عصر واحد، وامرأة عمران حنة بنت فاقوذ، وقد تزوج زكريا بابنته إيشاع أخت مريم، وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة، ثم في كيفية هذا النذر روايات: الرواية الأولى: قال عكرمة. إنها كانت عاقرا لا تلد، وكانت تغبط النساء بالأولاد، ثم قالت: (اللّهم إن لك علي نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته). والرواية الثانية: قال محمد بن إسحاق: إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت، وكانت يوما في ظل شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا له فتحركت نفسها للولد، فدعت ربها أن يهب لها ولدا فحملت بمريم، وهلك عمران، فلما عرفت جعلته للّه محررا، أي خادما للمسجد، قال الحسن البصري: إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من اللّه ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من اللّه وإن لم يكن عن وحي، وكما ألهم اللّه أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي. المسألة الثالثة: المحرر الذي جعل حرا خالصا، يقال: حررت العبد إذا خلصته عن الرق، وحررت الكتاب إذا أصلحته، وخلصته فلم تبق فيه شيئا من وجوه الغلط، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه تعلق والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير فقيل مخلصا للعبادة عن الشعبي، وقيل: خادما للبيعة، وقيل: عتيقا من أمر الدنيا لطاعة اللّه، وقيل: خادما لمن يدرس الكتاب، ويعلم في البيع، والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفا على طاعة اللّه، قال الأصم: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي، فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا، وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع، ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة اللّه تعالى، وقيل: كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم، ثم يخير بين المقام والذهاب، فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار، ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس. المسألة الرابعة: هذا التحرير لم يكن جائزا إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض، والأذى، ثم إن حنة نذرت مطلقا أما لأنها بنت الأمر على التقدير، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر. المسألة الخامسة: في انتصاب قوله {محررا} وجهان الأول: أنه نصب على الحال من {ما} وتقديره: نذرت لك الذي في بطني محررا والثاني: وهو قول ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محررا. ثم قال اللّه تعالى حاكيا عنها: {فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} التقبل: أخذ الشيء على الرضا، قال الواحدي: وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء، وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا اللّه تعالى والإخلاص في عبادته، ثم قالت {إنك أنت السميع العليم} والمعنى: أنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي، العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي. واعلم أن هذا النوع من النذر كان في شرع بني إسرائيل وغير موجود في شرعنا، والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذه الأحكام. |
﴿ ٣٥ ﴾