٣٦قال تعالى: {فلما وضعتها} واعلم أن هذا الضمير أما أن يكون عائدا إلى الأنثى التي كانت في بطنها وكان عالما بأنها كانت أنثى أو يقال: إنها عادت إلى النفس والنسمة أو يقال: عادت إلى المنذورة. ثم قال تعالى: {قالت رب إنى وضعتها أنثى} واعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها، وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة اللّه هو الذكر دون الأنثى فقالت {رب إنى وضعتها أنثى} خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام للّه تعالى، تعالى اللّه عن أن يحتاج إلى إعلامها، بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار. ثم قال اللّه تعالى: {واللّه أعلم بما وضعت} قرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر {وضعت} برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها، والفائدة في هذا الكلام أنها لما قالت {إنى وضعتها أنثى} خافت أن يظن بها أنها تخبر اللّه تعالى، فأزالت الشبهة بقولها {واللّه أعلم بما وضعت} وثبت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للاعلام، والباقون بالجزم على أنه كلام اللّه، وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنه تعالى قال: واللّه أعلم بما وضعت تعظيما لولدها، وتجهيلا لها بقدر ذلك الولد، ومعناه: واللّه أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت وفي قراءة ابن عباس {واللّه أعلم بما وضعت} على خطاب اللّه لها، أي: أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب واللّه هو العالم بما فيه من العجائب والآيات. ثم قال تعالى حكاية عنها {وليس الذكر كالانثى} وفيه قولان الأول: أن مرادها تفضيل الولد الذكر على الأنثى، وسبب هذا التفضيل من وجوه أحدها: أن شرعهم أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث والثاني: أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة، ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان والثالث: الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة والرابع: أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى والخامس: أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى. والقول الثاني: أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر، كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة اللّه تعالى، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة للّه، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال اللّه عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه. ثم حكى تعالى عنها كلاما ثانيا وهو قولها {وإنى سميتها مريم} وفيه أبحاث: البحث الأول: أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم، فلذلك تولت الأم تسميتها، لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء. البحث الثاني: أن مريم في لغتهم: العابدة، فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من اللّه تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا، والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}. البحث الثالث: أن قوله {وإنى سميتها مريم} معناه: وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسما لها، وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة. ثم حكى اللّه تعالى عنها كلاما ثالثا وهو قولها {وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} وذلك لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلا خادما للمسجد تضرعت إلى اللّه تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم، وأن يجعلها من الصالحات القانتات، وتفسير الشيطان الرجيم قد تقدم في أول الكتاب. ولما حكى اللّه تعالى عن حنة هذه الكلمات قال: {فتقبلها ربها بقبول} وفيه مسألتان: |
﴿ ٣٦ ﴾