٥٢{فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى اللّه قال الحواريون نحن أنصار اللّه ءامنا باللّه واشهد بأنا مسلمون }. اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك ههنا قصة ولادته، وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء، شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات، وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى: {فلما أحس عيسى منهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان أحدهما: أن يجري اللفظ على ظاهره، وهو أنهم تكلموا بالكفر، فأحس ذلك بإذنه والثاني: أن نحمله على التأويل، وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر، وعزمهم على قتله، ولما كان ذلك العلم علما لا شبهة فيه، مثل العلم الحاصل من الحواس، لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس. المسألة الثانية: اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه الأول: قال السدي: أنه تعالى لما بعثه رسولا إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين اللّه فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم، وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة فكان مستضعفا، وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي صلى اللّه عليه وسلم في الغار، وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله، ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض، فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوما حزينا، فسأله عيسى عن السبب فقال: ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوما يطعمه ويسقيه هو وجنوده، وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي، فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك، قالت: يا بني ادع اللّه ليكفي ذلك، فقال: يا أماه إن فعلت ذلك كان شر، فقالت: قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام: إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني، فلما فعل ذلك دعا اللّه تعالى فتحول ما في القدور طبيخا، وما في الخوابي خمرا، فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر؟ فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال: إن من دعا اللّه حتى جعل الماء خمرا إذا دعا أن يحيي اللّه تعالى ولدي لا بد وأن يجاب، وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام، فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك، فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شرا، فقال: ما أبالي ما كان إذا رأيته، وإن أحييته تركتك على ما تفعل، فدعا اللّه عيسى، فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا، وصار أمر عيسى عليه السلام مشهورا في الخلق، وقصد اليهود قتله، وأظهروا الطعن فيه والكفر به. والقول الثاني: إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة، وأنه ينسخ دينهم، فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه، طالبين قتله، فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم، وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله. والقول الثالث: إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجع فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم {من أنصارى إلى اللّه} فما أجابه إلا الحواريون فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله. أما قوله تعالى: {قال من أنصارى إلى اللّه} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: في الآية أقوال الأول: أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك، وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثنى عشر فقال عيسى عليه السلام: الآن تصيد السمك، فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد، فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئا فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه، واستعانوا بأهل سفينة أخرى، وملؤا السفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام. والقول الثاني: أن قوله {من أنصارى إلى اللّه} إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلبا لقتله، ثم ههنا احتمالات الأول: أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثنى عشر من الحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟. فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم: أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى باذنه، فقال له عيسى: حسبك ثم أخذ اذن العبد فردها إلى موضعها، فصارت كما كانت، والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه. والاحتمال الثاني: أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى {يأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار اللّه كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارى} (الصف: ١٤). المسألة الثانية: قوله {إلى اللّه} فيه وجوه الأول: التقدير: من أنصاري حال ذهابي إلى اللّه أو حال التجائي إلى اللّه والثاني: التقدير: من أنصاري إلى أن أبين أمر اللّه تعالى، وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي، ويظهر أمر اللّه تعالى الثالث: قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (النساء: ٢) أي معها، وقال صلى اللّه عليه وسلم : "الذود إلى الذود إبل" أي مع الذود. قال الزجاج: كلمة {إلى} ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول: ذهب زيد مع عمرو لأن {إلى} تفيد الغاية و {مع} تفيد ضم الشيء إلى الشيء، بل المراد من قولنا أن {إلى} ههنا بمعنى {مع} هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة اللّه إياي وكذلك المراد من قوله {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (النساء: ٢) أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، وكذلك قوله عليه السلام: "الذود إلى الذود إبل" معناه: الذود مضموما إلى الذود إبل و الرابع: أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى اللّه ووسيلة إليه، وفي الحديث أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول إذا ضحى "اللّهم منك وإليك" أي تقربا إليك، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياته {إلى} أي انضم إلى، فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى اللّه تعالى الخامس: أن يكون {إلى} بمعنى اللام كأنه قال: من أنصاري للّه نظيره قوله تعالى: {قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل اللّه يهدى للحق} (يونس: ٣٥) والسادس: تقدير الآية: من أنصاري في سبيل اللّه. و (إلى) بمعنى (في) جائز، وهذا قول الحسن. أما قوله تعالى: {قال الحواريون نحن أنصار اللّه} ففيه مسائل: المسألة الأولى: ذكروا في لفظ {*الحواري} وجوها الأول: أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل، وخالصته، ومنه يقال للدقيق حواري، لأنه هو الخالص منه، وقال صلى اللّه عليه وسلم للزبير: "إنه ابن عمتي، وحواري من أمتي" والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم. القول الثاني: الحواري أصله من الحور، وهو شدة البياض، ومنه قيل للدقيق حواري، ومنه الأحور، والحور نقاء بياض العين، وحورت الثياب: بيضتها، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم؟ فقال سعيد بن جبير: لبياض ثيابهم، وقيل كانوا قصارين، يبيضون الثياب، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحا لهم، وإشارة إلى نقاء قلوبهم، كالثوب الأبيض، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب، طاهر الذيل، إذا كان بعيدا عن الأفعال الذميمة، وفلان دنس الثياب: إذا كان مقدما على ما لا ينبغي. القول الثالث: قال الضحاك: مر عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري، وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري، وقال مقاتل بن سليمان: الحواريون: هم القصارون، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلا على خواص الرجل وبطانته. المسألة الثانية: اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا؟.فالقول الأول: إنه عليه السلام مر بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم "تعالوا نصطاد الناس" قالوا: من أنت؟ قال: "أنا عيسى بن مريم، عبد اللّه ورسوله" فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به، فهم الحواريون. القول الثاني: قالوا: سلمته أمه إلى صباغ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته، فقال له: ههنا ثياب مختلفة، وقد علمت على كل واحد علامة معينة، فاصبغها بتلك الألوان، بحيث يتم المقصود عند رجوعي، ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جبا واحدا، وجعل الجميع فيه وقال: "كوني بإذن اللّه كما أريد" فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: قد أفسدت علي الثياب، قال: "قم فانظر" فكان يخرج ثوبا أحمر، وثوبا أخضر، وثوبا أصفر كما كان يريد، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها، فتعجب الحاضرون منه، وآمنوا به فهم الحواريون. القول الثالث: كانوا الحواريون إثنى عشر رجلا اتبعوا عيسى عليه السلام، وكانوا إذا قالوا: يا روح اللّه جعنا، فيضرب بيده إلى الأرض، فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا يا روح اللّه: عطشنا، فيضرب بيده إلى الأرض، فيخرج الماء فيشربون، فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا، وإذا شئنا سقيتنا، وقد آمنا بك فقال: "أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه" فصاروا يغسلون الثياب بالكراء، فسموا حواريين. القول الرابع: أنهم كانوا ملوكا قالوا وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما، وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلام على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال: تعرفونه، قالوا: نعم، فذهبوا بعيسى عليه السلام، قال: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون قال القفال: ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السمك، وبعضهم من القصارين، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام وأعوانه، والمخلصين في محبته، وطاعته، وخدمته. المسألة الثالثة: المراد من قوله {الحواريون نحن أنصار اللّه} أي نحن أنصار دين اللّه وأنصار أنبيائه، لأن نصرة اللّه تعالى في الحقيقة محال، فالمراد منه ما ذكرناه. أما قوله {باللّه فإذا} فهذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار اللّه، لأجل أنا آمنا باللّه، فإن الإيمان باللّه يوجب نصرة دين اللّه، والذب عن أوليائه، والمحاربة مع أعدائه. ثم قالوا: {واشهد بأنا مسلمون} وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم، إشهاد للّه تعالى أيضا، ثم فيه قولان الأول: المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك، والذب عنك، مستسلمون لأمر اللّه تعالى فيه الثاني: أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام، وأنه دين كل الأنبياء صلوات اللّه عليهم. واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى اللّه تعالى، وقالوا: |
﴿ ٥٢ ﴾