٥٧{فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والاخرة وما لهم من ناصرين}. اعلم أنه تعالى لما ذكر {إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} بين بعد ذلك مفصلا ما في ذلك الاختلاف، أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون، وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذابا شديدا في الدنيا والآخرة، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات، فهو أن يوفيهم أجورهم، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين أحدهما: القتل والسبي وما شاكله، حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به، فذلك داخل في عذاب الدنيا والثاني: ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب، وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا؟ قال بعضهم: إنه عقاب في حق الكافر، وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقابا بل يكون ابتلاء وامتحانا، وقال الحسن: إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقابا بل يكون أيضا ابتلاء وامتحانا، ويكون جاريا مجرى الحدود التي تقام على النائب، فإنها لا تكون عقابا بل امتحانا، والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقابا. فإن قيل: فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره، وهذا على خلاف قوله تعالى: {ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة} (النحل: ٦١) وكلمة {لو} تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا، وأيضا قال تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} (غافر: ١٧) وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم، لا في الدنيا، قلنا: الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام. المسألة الثانية: لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمرر كذلك، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتا. قلنا: بل التفاوت موجود في الدنيا، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم، فزال الإشكال. المسألة الثالثة: وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم. فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة. قلنا: المانع هو العهد، ولذلك إذا زال العهد حل قتله. ٥٧ {وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم واللّه لا يحب الظالمين}. فيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حفص عن عاصم {فيوفيهم} بالياء، يعني فيوفيهم اللّه، والباقون بالنون حملا على ما تقدم من قوله {فاحكم * فأعذبهم} وهو الأولى لأنه نسق الكلام. المسألة الثانية: ذكر الذين آمنوا، ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات، وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان، وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مرارا. المسألة الثالثة: احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله {فيوفيهم أجورهم} فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر، والكلام فيه أيضا قد تقدم واللّه أعلم. المسألة الرابعة: المعتزلة احتجوا بقوله {واللّه لا يحب الظالمين} على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا: لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محبا له، إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص، فقد يقال: أحب زيدا، ولا يقال: أريده، وأما إذا علقتا بالأفعال: فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة، فصار قوله {واللّه لا يحب الظالمين} بمنزلة قوله (لا يريد ظلم الظالمين) هكذا قرره القاضي، وعند أصحابنا أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه، وهذه المسألة قد ذكرناها مرارا وأطوارا. |
﴿ ٥٧ ﴾