٦١

{فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت اللّه على الكاذبين}.

اعلم أن اللّه تعالى بين في أول هذه السورة وجوها من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد، وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام، وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم، وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابنا للّه تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى عليه السلام أن يكون ابنا للّه، تعالى اللّه عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم عليه السلام من التراب لم يبعد أيضا انخلاق عيسى عليه السلام من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام، ومن أنصف وطلب الحق، علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى، فعند ذلك قال تعالى: {فمن حاجك} بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند، وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقال: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} إلى آخر الآية، ثم ههنا مسائل:

المسألة الأولى: اتفق أني حين كنت بخوارزم، أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي: ما الدليل على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام، نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن رددنا التواتر، أو قبلناه لكن

قلنا: إن المعجزة لا تدل على الصدق، فحينئذ بطلت نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام، وإن اعترفنا بصحة التواتر، واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق، ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعا بنبوة محمد عليه السلام ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول، فقال النصراني: أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبيا بل أقول إنه كان إلاها، فقلت له الكلام في النبوة لا بد وأن يكون مسبوقا بمعرفة الإلاه وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإلاه عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته، يجب أن لا يكون جسما ولا متحيزا ولا عرضا وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوما وقتل بعد أن كان حيا على قولكم وكان طفلا أولا، ثم صار مترعرعا، ثم صار شابا، وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ، وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديما والمحتاج لا يكون غنيا والممكن لا يكون واجبا والمتغير لا يكون دائما.

والوجه الثاني: في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حيا على الخشبة، وقد مزقوا ضلعه، وأنه كان يحتال في الهرب منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد، فإن كان إلاها أو كان الإلاه حالا فيه أو كان جزءا من الإلاه حاك فيه، فلم لم يدفعهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهما وباللّه أنني لأتعجب جدا! إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته، فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده.

والوجه الثالث: وهو أنه:

أما أن يقال بأن الإلاه هو هذا الشخص الجسماني المشاهد، أو يقال حل الإلاه بكليته فيه، أو حل بعض الإلاه وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة

أما الأول: فلأن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهود كان ذلك قولا بأن اليهود قتلوا إله العالم، فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إلاها ثم إن أشد الناس ذلا ودناءة اليهود، فالإلاه الذي تقتله اليهود إله في غاية العجزا

وأما الثاني: وهو أن الإلاه بكليته حل في هذا الجسم، فهو أيضا فاسد، لأن الإلاه لم يكن جسما ولا عرضا امتنع حلوله في الجسم، وإن كان جسما، فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإلاه، وإن كان عرضا كان محتاجا إلى المحل، وكان الإلاه محتاجا إلى غيره، وكل ذلك سخف،

وأما الثالث: وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإلاه، وجزء من أجزائه، فذلك أيضا محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبرا في الإلاهية، فعند انفصاله عن الإلاه، وجب أن لا يبقى الإلاه إلاها، وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلاهية، لم يكن جزأ من الإلاه، فثبت فساد هذه الأقسام، فكان قول النصارى باطلا.

الوجه الرابع: في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة للّه تعالى، ولو كان إلاها لاستحال ذلك، لأن الإلاه لا يعبد نفسه، فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور، دالة على فساد قولهم، ثم قلت للنصراني: وما الذي دلك على كونه إلاها؟ فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإلاه تعالى، فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع، وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، فأقول: لما جوزت حلول الإلاه في بدن عيسى عليه السلام، فكيف عرفت أن الإلاه ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد؟ فقال: الفرق ظاهر، وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول، لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك، فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا، فقلت له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإلاه في بدن عيسى: فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل، فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت: إن مذهبا يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات اللّه في بدن الكلب والذباب لفي غاية النحسة والركاكة.

الوجه الخامس: أن قلب العصا حية، أبعد في العقل من إعادة الميت حيا، لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان، فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلاها ولا ابنا للإلاه، فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلاهية كان ذلك أولى، وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام واللّه أعلم.

المسألة الثانية: روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم، فقال عليه السلام: "إن اللّه أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم" فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب: وكان ذا رأيهم، يا عبد المسيح ما ترى، فقال: واللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، واللّه ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج وعليه مرط من شعر أسود وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي رضي اللّه عنه خلفها، وهو يقول، إذا دعوت فأمنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، ثم قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات اللّه عليه: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما على المسلمين، فأبوا، فقال: فإني أناجزكم القتال، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفى حلة: ألفا في صفر، وألفا في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل اللّه نجران وأهله، حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا، وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن رضي اللّه عنه فأدخله، ثم جاء الحسين رضي اللّه عنه فأدخله ثم فاطمة، ثم علي رضي اللّه عنهما ثم قال: {إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (الأحزاب: ٣٣) واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.

المسألة الثالثة: {فمن حاجك فيه} أي في عيسى عليه السلام،

وقيل: الهاء تعود إلى الحق، في قوله {الحق من ربك} (هود: ١٧) {من بعد ما جاءك من العلم} (البقرة: ١٤٥) بأن عيسى عبد اللّه ورسوله عليه السلام وليس المراد ههنا بالعلم نفس العلم لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك، بل المراد بالعلم ما ذكره بالدلائل العقلية، والدلائل الواصلة إليه بالوحي والتنزيل، فقل تعالوا: أصله تعاليوا، لأنه تفاعلوا من العلو، فاستثقلت الضمة على الياء، فسكنت، ثم حذفت لاجتماع الساكنين، وأصله العلو والارتفاع، فمعنى تعالى ارتفع، إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء، وصار بمنزلة هلم.

المسألة الرابعة: هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعد أن يدعو أبناءه، فدعا الحسن والحسين، فوجب أن يكونا ابنيه، ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام {ومن ذريته * داوود * وسليمان} (الأنعام: ٨٤) إلى قوله {وزكريا ويحيى وعيسى} (الأنعام: ٨٥) ومعلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابنا واللّه أعلم.

المسألة الخامسة: كان في الري رجل يقال له: محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلم الاثنى عشرية، وكان يزعم أن عليا رضي اللّه عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه السلام، قال: والذي يدل عليه

قوله تعالى: {وأنفسنا وأنفسكم} وليس المراد بقوله {وأنفسنا} نفس محمد صلى اللّه عليه وسلم لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد، ولا يمكن أن يكون المراد منه، أن هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة، وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن محمدا عليه السلام كان نبيا وما كان علي كذلك، ولانعقاد الإجماع على أن محمدا عليه السلام كان أفضل من علي رضي اللّه عنه فيبقى فيما وراءه معمولا به، ثم الإجماع دل على أن محمدا عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثم قال: ويؤيد الاستدلال بهذه الآية، الحديث المقبول عند الموافق والمخالف، وهو قوله عليه السلام: "من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحا في طاعته، وإبراهيم في خلته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه" فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم، وذلك يدل على أن عليا رضي اللّه عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى اللّه عليه وسلم ،

وأما سائر الشيعة فقد كانوا قديما وحديثا يستدلون بهذه الآية على أن عليا رضي اللّه عنه مثل نفس محمد عليه السلام إلا فيما خصه الدليل، وكان نفس محمد أفضل من الصحابة رضوان اللّه عليهم، فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضا من سائر الصحابة، هذا تقدير كلام الشيعة،

والجواب: أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمدا عليه السلام أفضل من علي، فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان، على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، وأجمعوا على أن عليا رضي اللّه عنه ما كان نبيا، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام.

المسألة السادسة: قوله {ثم نبتهل} أي نتباهل، كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا، والابتهال فيه وجهان

أحدهما: أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء، وإن لم يكن باللعن، ولا يقال: ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد

والثاني: أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة اللّه، أي لعنته وأصله مأخوذ ممايرجع إلى معنى اللعن، لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله اللّه، أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها، بل هي مرسلة مخلاة، كالرجل الطريد المنفي، وتحقيق معنى الكلمة: أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله اللّه فقد خلاه اللّه ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنسانا، فقال: علي بهلة اللّه إن كان كذا، يقول: وكلني اللّه إلى نفسي، وفرضني إلى حولي وقوتي، أي من كلاءته وحفظه، كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها، فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها، ويقال أيضا: رجل باهل، إذا لم يكن معه عصا، وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه، والقول الأول أولى، لأنه يكون قوله {ثم نبتهل} أي ثم نجتهد في الدعاء، ونجعل اللعنة على الكاذب وعلى القول الثاني يصير التقدير: ثم نبتهل، أي ثم نلتعن {فنجعل لعنت اللّه على الكاذبين} وهي تكرار، بقي في الآية سؤالات أربع.

السؤال الأول: الأولاد إذا كانوا صغارا لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلوات اللّه عليه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه؟.

والجواب: إن عادة اللّه تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء، فيكون ذلك في حق البالغين عقابا، وفي حق الصبيان لا يكون عقابا، بل يكون جاريا مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جدا فربما جعل الإنسان نفسه فداء لهم وجنة لهم، وإذا كان كذلك فهو عليه السلام أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم، وأدل على وثوقه صلوات اللّه عليه وعلى آله بأن الحق معه.

السؤال الثاني: هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟.

الجواب: أنها دلت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين

أحدهما: وهو أنه عليه السلام خوفهم بنزول العذاب عليهم، ولو لم يكن واثقا بذلك، لكان ذلك منه سعيا في إظهار كذب نفسه لأن بتقدير: أن يرغبوا في مباهلته، ثم لا ينزل العذاب، فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان من أعقل الناس، فلا يليق به أن يعمل عملا يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقا بنزول العذاب عليهم

وثانيهما: إن القوم لما تركوا مباهلته، فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته، وإلا لما أحجموا عن مباهلته.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنهم كانوا شاكين، فتركوا مباهلته خوفا من أن يكون صادقا فينزل بهم ما ذكر من العذاب؟.

قلنا هذا مدفوع من وجهين

الأول: أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك

الثاني: أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا: إنه واللّه هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحا منهم بأن الامتناع عن المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند اللّه تعالى.

السؤال الثالث: أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟ حيث قالوا {اللّهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (الأنفال: ٣٢) ثم إنه لم ينزل العذاب بهم ألبتة، فكذا ههنا، وأيضا فبتقدير نزول العذاب، كان ذلك مناقضا لقوله {وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: ٣٣).

والجواب: الخاص مقدم على العام، فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك.

السؤال الرابع: قوله {إن هاذا لهو القصص الحق} هل هو متصل بما قبله أم لا؟.

والجواب: قال أبو مسلم: إنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله {الكاذبين} وتقدير الآية فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى هذا التقدير كان حق {ءان} أن تكون مفتوحة، إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله {لهو} كما في قوله {إن ربهم بهم يومئذ لخبير} (العاديات: ١١) وقال الباقون: الكلام تم عند قوله {على الكاذبين} وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها واللّه أعلم.

﴿ ٦١