٧٩

{ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنبوة ...}.

اعلم أنه تعالى لما بين أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلاهية، وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال: {ما كان لبشر} الآية، وههنا مسائل:

المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية وجوه

الأول: قال ابن عباس: لما قالت اليهود عزير ابن اللّه، وقالت النصارى: المسيح ابن اللّه نزلت هذه الآية

الثاني: قيل إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا، فقال عليه الصلاة والسلام "معاذ اللّه أن نعبد غير اللّه أو أن نأمر بغير عبادة اللّه فما بذلك بعثني؛ ولا بذلك أمرني" فنزلت هذه الآية

الثالث:قال رجل يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون اللّه، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله"

الرابع: أن اليهود لما ادعوا أن أحدا لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه، فاللّه تعالى قال لهم: إن كان الأمر كما قلتم، وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة للّه والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك، وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله {ثم يقول للناس كونوا عبادا * من دون اللّه} مثل قوله {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه} (التوبة: ٣١).

المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله {ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون اللّه} على وجوه

الأول: قال الأصم: معناه، أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه

قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الاقاويل * لاخذنا منه باليمين} (الحاقه: ٤٤) قال: {لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحيواة وضعف الممات} (الاسراء: ٧٤، ٧٥)

الثاني: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلاهية والربوبية منها أن اللّه تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة، كما قال اللّه تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل} (الأنعام: ١٢٤)

وقال: {المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين} (الدخان: ٣٢)

وقال اللّه تعالى: {اللّه يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس} (الحج: ٧٥)

والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى، ومنها أن إيتاء النبوة لا يكون إلا بعد كمال العلم وذلك لا يمنع من هذه الدعوى، وبالجملة فللإنسان قوتان: نظرية وعملية، وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوة، وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد،

الثالث: أن اللّه تعالى لا يشرف عبده بالنبوة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام

الرابع: أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن اللّه تعالى، واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقا، وذلك غير جائز، واعلم أنه ليس المراد من قوله {ما كان لبشر} ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق، وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن اللّه آتاه الكتاب والحكم والنبوة، وأيضا لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيبا للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلا فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيبا له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم: اتخذوني إلاها من دون اللّه فالمراد إذن ما قدمناه، ونظيره

قوله تعالى: {ما كان اللّه * أن يتخذ من ولد} (مريم: ٣٥) على سبيل النفي لذلك عن نفسه، لا على وجه التحريم والحظر، وكذا

قوله تعالى: {ما كان لنبى أن * يغل} (آل عمران: ١٦١) والمراد النفي لا النهي واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قوله {أن يؤتيه اللّه الكتاب والحكم والنبوة} إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولا ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه الإشارة بالحكم، فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم،

قال تعالى: {واتيناه الحكم صبيا} (مريم: ١٢) يعني العلم والفهم، ثم إذا حصل فهم الكتاب، فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوة فما أحسن هذا الترتيب.

ثم قال تعالى: {ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون اللّه}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: القراءة الظاهرة، ثم يقول بنصب اللام، وروي عن أبي عمرو برفعها،

أما النصب فعلى تقدير: لا تجتمع النبوة وهذا القول، والعامل فيه (أن) وهو معطوف عليه بمعنى ثم أن يقول

وأما الرفع فعلى الاستئناف.

المسألة الثانية: حكى الواحدي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال في

قوله تعالى: {كونوا عبادا لى} إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عبادا. ثم قال: {ولاكن كونوا ربانيين} وفيه مسألتان؛

المسألة الأولى: في هذه الآية إضمار، والتقدير: ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الاضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، ونظيره

قوله تعالى: {وأما الذين * اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} (آل عمران: ١٠٦) أي فيقال لهم ذلك.

المسألة الثانية: ذكروا في تفسير (الرباني) أقوالا

الأول: قال سيبويه: الرباني المنسوب إلى الرب، بمعنى كونه عالما به، ومواظبا على طاعته، كما يقال: رجل إلاهي إذا كان مقبلا على معرفة الإلاه وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة، كما قالوا: شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة، فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا: شعري وإلى الرقبة رقبي وإلى اللحية لحيي

والثاني: قال المبرد {الربانيون} أرباب العلم وأحدهم رباني، وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي: يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم، فالألف والنون للمبالغة كما قالوا: ربان وعطشان وشبعان وعريان، ثم ضمت إليه ياء النسبة كما قيل: لحياني ورقباني قال الواحدي: فعلى قول سيبويه الرباني: منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته، وعلى قول المبرد {*الرباني} مأخوذ من التربية

الثالث: قال ابن زيد: الرباني.هو الذي يرب الناس، فالربانيون هم ولاة الأمة والعلماء، وذكر هذا أيضا في

قوله تعالى: {يعملون لولا ينهاهم الربانيون والاحبار} (المائدة: ٦٣) أي الولاة والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التقدير: لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادا لي، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء باستعمالكم أمر اللّه تعالى ومواظبتكم على طاعته، قال القفال رحمه اللّه: ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانيا، لأنه يطاع كالرب تعالى، فنسب إليه

الرابع: قال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية، أو سريانية، وسواء كانت عربية أو عبرانية، فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم، واشتغل بتعليم طرق الخير.ثم قال تعالى: {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في قوله {بما كنتم تعلمون الكتاب} قراءتان إحداهما: {تعلمون} من العلم، وهي قراءة عبد اللّه بن كثير، وأبي عمرو، ونافع

والثانية: {تعلمون} من التعليم وهي قراءة الباقين من السبعة وكلاهما صواب، لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم ويعلمونه غيرهم، واحتج أبو عمرو على أن قراءته أرجح بوجهين

الأول: أنه قال: {تدرسون} ولم يقل {تدرسون} بالتشديد

الثاني: أن التشديد يقتضي مفعولين والمفعول هاهنا واحد،

وأما الذين قرؤا بالتشديد فزعموا أن المفعول الثاني محذوف تقديره: بما كنتم تعلمون الناس الكتاب، أو غيركم الكتاب وحذف، لأن المفعول به قد يحذف من الكلام كثيرا، ثم احتجوا على أن التشديد أولى بوجهين

الأول: أن التعليم يشتمل على العلم ولا ينعكس فكان التعليم أولى

الثاني: أن الربانيين لا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم للّه تعالى ألا ترى أنه تعالى أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم بذلك فقال: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل: ١٢٥) ويدل عليه قول مرة بن شراحيل: كان علقمة من الربانيين الذين يعلمون الناس القرآن.

المسألة الثانية: نقل ابن جني في "المحتسب"، عن أبي حيوة أنه قرأ {تدرسون} بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء، قال ابن جني: ينبغي أن يكون هذا منقولا من درس هو، أو درس غيره، وكذلك قرأ وأقرأ غيره، وأكثر العرب على درس ودرس، وعليه جاء المصدر على التدريس.

المسألة الثالثة: (ما) في القراءتين، هي التي بمعنى المصدر مع الفعل، والتقدير: كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب، ومثل هذا من كون (ما) مع الفعل بمعنى المصدر

قوله تعالى: {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هاذا} (الأعراف: ٥) وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانيا والسبب لا محالة مغاير للمسبب، فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا، أمرا مغايرا لكونه عالما، ومعلما، ومواظبا على الدراسة، وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه للّه، وتعليمه ودراسته للّه، وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة اللّه، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب اللّه، وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته وحاصل الحرف شيء واحد، وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق، فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه. وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات اللّه عليهم أن يأمر غيره بعبادته.

المسألة الرابعة: دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا، فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "نعوذ باللّه من علم لا ينفع وقلب لا يخشع". ثم قال تعالى:

﴿ ٧٩