٨٦{كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدو ا أن الرسول حق وجآءهم البينات واللّه لا يهدى القوم الظالمين ...}. اعلم أنه تعالى لما عظم أمر الإسلام والإيمان بقوله {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخاسرين} (آل عمران: ٨٥) أكد ذلك التعظيم بأن بين وعيد من ترك الإسلام، فقال: {كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في سبب النزول أقوال الأول: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية، وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله {إلا الذين تابوا} الثاني: نقل أيضا عن ابن عباس أنه قال: نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه، وكانوا يشهدون له بالنبوة، فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغيا وحسدا والثالث: نزلت في الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن اسألوا لي هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول صلى اللّه عليه وسلم وقبل الرسول صلى اللّه عليه وسلم توبته، قال القفال رحمه اللّه: للناس في هذه الآية قولان: منهم من قال إن قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا} وما بعده من قوله {كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم} إلى قوله {وأولئك هم الضالون} نزل جميع ذلك في قصة واحدة، ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} ثم على التقديرين ففيها أيضا قولان أحدهما: أنها في أهل الكتاب والثاني: أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه. المسألة الثانية: اختلف العقلاء في تفسير قوله {كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم} أما المعتزلة فقالوا: إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف، ووضع الدلائل وفعل الألطاف، إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذورا، ثم إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار، فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوها الأول: المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت: ٦٩) وقال تعالى: {ويزيد اللّه الذين اهتدوا هدى} (مريم: ٧٦) وقال تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى} (محمد: ١٧) وقال: {يهدى به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام} (المائدة: ١٦) فدلت هذه الآيات على أن المهتدي قد يزيده اللّه هدى الثاني: أن المراد أن اللّه تعالى لا يهديهم إلى الجنة قال تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم} (النساء: ١٦٨، ١٦٩) وقال: {يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الانهار} (يونس: ٩) والثالث: أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضا من اللّه تعالى لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمنا مهتديا، وإذا لم يخلقها كان كافرا ضالا، ولو كان الكفر من اللّه تعالى لم يصح أن يذمهم اللّه على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم، لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر فإنه تعالى قال: {كيف يهدى اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم} فضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية، وأما أهل السنة فقالوا: المراد من الهداية خلق المعرفة، قالوا: وقد جرت سنة اللّه في دار التكليف أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن اللّه تعالى يخلقه عقيب قصد العبد، فكأنه تعالى قال: كيف يخلق اللّه فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه واللّه أعلم. المسألة الثالثة: قوله {وأشهدوا} فيه قولان: الأول: أنه عطف والتقدير بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق، لأن عطف الفعل على الاسم لا يجوز فهو في الظاهر وإن اقتضى عطف الفعل على الاسم لكنه في المعنى عطف الفعل على الفعل الثاني: أن الواو للحال بإضمار (قد) والتقدير: كيف يهدي اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم حال ما شهدوا أن الرسول حق. المسألة الرابعة: تقدير الآية: كيف يهدي اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم، وبعد الشهادة بأن الرسول حق، وقد جاءتهم البينات، فعطف الشهادة بأن الرسول حق، على الإيمان، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فيلزم أن الشهادة بأن الرسول حق مغاير للإيمان وجوابه: إن مذهبنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والشهادة هو الإقرار باللسان، وهما متغايران فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أن الإيمان مغاير للإقرار باللسان وأنه معنى قائم بالقلب. المسألة الخامسة: اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث أحدها: بعد الإيمان وثانيها: بعد شهادة كون الرسول حقا وثالثها: بعد مجيء البينات، وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحا بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة، فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود، وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل. أما قوله تعالى: {واللّه لا يهدى القوم الظالمين} ففيه سؤالان: السؤال الأول: قال في أول الآية {كيف يهدى اللّه قوما} وقال في آخرها {واللّه لا يهدى القوم الظالمين} وهذا تكرار. والجواب: أن قوله {كيف يهدى اللّه} مختص بالمرتدين، ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد وفي الكافر الأصلي فقال: {واللّه لا يهدى القوم الظالمين}. السؤال الثاني: لم سمي الكافر ظالما؟. الجواب: قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣) والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد البلاء والعقاب بسبب ذلك الكفر، فكان ظالما لنفسه. ثم قال تعالى: |
﴿ ٨٦ ﴾