١٠٤

{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ...}.

اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين

أحدهما: أنه عابهم على الكفر، فقال: {قل ياأهل الكتاب لم تكفرون} (آل عمران: ٧٠) ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر، فقال: {قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل اللّه} (آل عمران: ٩٩) فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولا بالتقوى والإيمان، فقال: {اتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل اللّه جميعا} (آل عمران: ١٠٢، ١٠٣) ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل، وفي الآية مسألتان:

المسألة الأولى: في قوله {منكم} قولان

أحدهما: أن {من} ههنا ليست للتبعيض لدليلين

الأول: أن اللّه تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (آل عمران: ١١٠)

والثاني: هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

أما بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول: معنى هذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر،

وأما كلمة {من} فهي هنا للتبيين لا للتبعيض ك

قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الاوثان} (الحج: ٣٠) ويقال أيضا: لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم، كذا ههنا، ثم قالوا: إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين، ونظيره

قوله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا} (التوبة: ٤١)

وقوله {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} (التوبة: ٣٩) فالأمر عام، ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين.

والقول الثاني: أن {من} ههنا للتبعيض، والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين

أحدهما: أن فائدة كلمة {من} هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين

والثاني: أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان

الأول: أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء، ولا شك أنهم بعض الأمة، ونظير هذه الآية

 قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين} (التوبة: ١٢٢)

والثاني: أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم، فكان في الحقيقة هذا إيجابا على البعض لا على الكل، واللّه أعلم. وفيه قول رابع: وهو قول الضحاك: إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس، والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول صلى اللّه عليه وسلم وتعلم الدين.

المسألة الثانية: هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء، أولها: الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف، ثم النهي عن المنكر، ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة، فنقول:

أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات اللّه وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا ل

قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} (النحل: ١٢٥)

وقوله تعالى: {قل هاذه سبيلى * ادعوا *إلى اللّه على بصيرة أنا ومن اتبعنى} (يوسف: ١٠٨).إذا عرفت هذا فنقول: الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان

أحدهما: الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف

والثاني: الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الجنس أولا ثم أتبعه بنوعية مبالغة في البيان،

وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمذكورة في كتب الكلام.

ثم قال تعالى: {وأولائك هم المفلحون}

وقد سبق تفسيره

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: منهم من تمسك بهذه الآية في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال لأن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين، والفاسق ليس من المفلحين، فوجب أن يكون الآمر بالمعروف ليس بفاسق، وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير، ثم إنهم أكدوا هذا ب

قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (التوبة: ٤٤) قوله {لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: ٢، ٣) ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها؟ ومعلوم أن ذلك في غاية القبح، والعلماء قالوا: الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر، فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر، وعن السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا، وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد اللّه يقول: لا أقول ما لا أفعل، فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر.

المسألة الثانية: عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة اللّه في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه" وعن علي رضي اللّه عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال أيضا: من لم يعرف بقلبه معروفا ولم ينكر منكرا نكس وجعل أعلاه أسفله، وروى الحسن عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال: يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير، وعن الثوري: إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن.

المسألة الثالثة: قال اللّه سبحانه وتعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر} (الحجرات: ٩) قدم الإصلاح على القتال، وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقيا إلى الأغلظ فالأغلظ، وكذا

قوله تعالى: {واهجروهن فى المضاجع واضربوهن} (النساء: ٣٤) يدل على ما ذكرناه، ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب، وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب. ثم قال تعالى:

﴿ ١٠٤