١٥٤{ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طآئفة منكم وطآئفة قد أهمتهم أنفسهم ...}. في كيفية النظم وجهان: الأول: أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين، وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بازالة الخوف عن المؤمنين، بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين. الثاني: أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا، فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم، ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه. واعلم أن الذين كانوا مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد فريقان: أحدهما: الذين كانوا جازمين بأن محمدا عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند اللّه وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وكانوا قد سمعوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن اللّه تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال، فلا جرم كانوا آمنين، وبلغ ذلك الامن إلى حيث غشيهم النعاس، فان النوم لا يجيء مع الخوف، فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية، فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا} وقال في قصة بدر {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} (الأنفال: ١١) ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة، وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة، فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم، ثم انه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين، فقال في صفة المؤمنين: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الواحدي: "الأمنة" مصدر كالامن، ومثله من المصادر: العظمة والغلبة، وقال الجبائي: يقال: أمن فلان يأمن أمنا وأمانا. المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: قرىء (أمنة) بسكون الميم، لأنها المرة من الأمن. المسألة الثالثة: في قوله تعالى: {نعاسا} وجهان: أحدهما: أن يكون بدلا من أمنة، والثاني: إن يكون مفعولا، وعلى هذا التقدير ففي قوله: {ءامنة} وجوه: أحدها: أن تكون حالا منه مقدمة عليه، كقولك: رأيت راكبا رجلا، وثانيها: أن يكون مفعولا له بمعنى نعستم أمنة، وثالثها: أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة. ثم قال تعالى: {يغشى طائفة منكم} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قد ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة، غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه. ثم يسقط فيأخذه، وعن الزبير قال: كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم حين اشتد الخوف فأرسل اللّه علينا النوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير: والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا. وقال عبد الرحمن بن عوف: ألقى النوم علينا يوم أحد، وعن ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق باللّه والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن اللّه. واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد: أحدها: أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن اللّه منجز وعده، وثانيها: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال، والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة، وثالثها: أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى اللّه النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم، فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم، ورابعها: أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ اللّه وعصمته معهم، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد اللّه تعالى، ومن الناس من قال: ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الامن، وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض، فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها على هذه الفوائد والحكم. المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي {*تغشى} بالتاء ردا إلى الأمنة، والباقون بالياء ردا، إلى النعاس، وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد. واعلم أن الأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر، فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما شئت، كقوله تعالى: {الرحيم إن شجرة الزقوم * طعام الاثيم * كالمهل يغلى فى البطون} (الدخان: ٤٣ ـ ٤٥) وتغلي، إذا عرفت جوازهما فنقول: مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة، والنعاس بدل، ورد الكناية إلى الأصل أحسن، وأيضا الأمنة هي المقصود، وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه، فان الخائف لا يكاد ينعس، وأما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي، فان العرب يقولون غشينا النعاس، وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة، وأيضا فان النعاس مذكور بالغشيان في قوله: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} (الأنفال: ١١) وأيضا: النعاس يلي الفعل، وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى. ثم قال تعالى: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} وفيه مسألتان. المسألة الأولى: هؤلاء هم المنافقون عبداللّه بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما، كان همهم خلاص أنفسهم، يقال: همني الشيء أي كان من همي وقصدي، قال أبو مسلم: من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف، قد أهمته نفسه، فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم، وقيل المؤمنون، كان همهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وإخوانهم من المؤمنين، والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه: أن الانسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه، صار غافلا عما سواه، فلما كان أحب الأشياء إلى الانسان نفسه، فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها، فهذا هو المراد من قوله: {أهمتهم أنفسهم} وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد اللّه ووعد رسوله ما كان معتبرا عندهم، لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم، فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم. المسألة الثانية: "طائفة" رفع بالابتداء وخبره "يظنون" وقيل خبره "أهمتهم أنفسهم" ثم انه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات. الصفة الأولى: من صفاتهم قوله تعالى: {يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في هذا الظن احتمالان: أحدهما: وهو الأظهر: هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد، أما على قول أهل السنة والجماعة، فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه، فان النبوة خلعة من اللّه سبحانه يشرف عبده بها، وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى، بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الالهية، وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللّه وأحكامه، فلا يبعد أن يكون للّه تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم، بحيث يقهر الكافر المسلم، حكم خفية وألطاف مرعية، فان الدنيا دار الامتحان والابتلاء، ووجوه المصالح مستورة عن العقول، فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن، وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين. قال القفال: لو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر، وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب، بل الانسان إنما يعرف كونه محقا بما معه من الدلائل والبينات، فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق، ومن المحق للمبطل، وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق. الثاني: أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات، وينكرون النبوة والبعث، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم في أن اللّه يقويهم وينصرهم. المسألة الثانية: {غير} في حكم المصدر، ومعناه: يظنون باللّه غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به (وظن الجاهلية) بدل منه، والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق: أديان كثيرة، وأقبحها مقالات أهل الجاهلية، فذكر أولا أنهم يظنون باللّه غير الظن الحق، ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا، وهو ظن أهل الجاهلية، كما يقال: فلان دينه ليس بحق، دينه دين الملاحدة. المسألة الثالثة: في قوله: {الحق ظن الجاهلية} قولان: أحدهما: أنه كقولك: حاتم الجود، وعمر العدل، يريد الظن المختص بالملة الجاهلية، والثاني: المراد ظن أهل الجاهلية. الصفة الثانية: من الصفات التي ذكرها اللّه تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى: {يقولون هل لنا من الامر من شىء قل إن الامر كله للّه}. واعلم أن قوله) {هل لنا من الامر من شىء} حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها، وهو يحتمل وجوها: الأول: أن عبداللّه بن أبي لما شاوره النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم ان الصحابة ألحوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم في أن يخرج اليهم، فغضب عبداللّه بن أبي من ذلك، فقال عصاني وأطاع الولدان، ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبداللّه بن أبي قيل له: قتل بنو الخزرج، فقال: هل لنا من الأمر من شيء، يعني أن محمدا لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها، ونظيره ما حكاه اللّه عنهم أنهم قالوا: {لو أطاعونا ما قتلوا} (آل عمران: ١٦٨) والمعنى: هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الانكار. الوجه الثاني في التأويل: أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا: عليه الأمر، فقوله: {هل لنا من الامر من شىء} أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد، وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الانكار، وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان كاذبا في ادعاء النصرة والعصمة من اللّه تعالى لأمته، وهذا استفهام على سبيل الانكار. الثالث: أن يكون التقدير: أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء، والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار، ثم ان اللّه سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله: {قل إن الامر كله للّه} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو (كله) برفع اللام، والباقون بالنصب، أما وجه الرفع فهو أن قوله: (كله) مبتدأ وقوله: (للّه) خبره، ثم صارت هذه الجملة خبرا لان، وأما النصب فلان لفظة "كل" للتأكيد، فكانت كلفظة أجمع، ولو قيل: ان الأمر أجمع، لم يكن إلا النصب، فكذا إذا قال "كله". المسألة الثانية: الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا: انا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على اللّه اعتراض في شيء من أفعاله في الاماتة والاحياء، والفقر والاغناء والسراء والضراء، وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح، فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا اللّه تعالى، فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة، وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام، فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه. المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء اللّه وقدره، وذلك لأن المنافقين قالوا: ان محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا، لما وقع في هذه المحنة، فأجاب اللّه عنه بأن الأمر كله للّه، وهذا الجواب: إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء اللّه وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين، فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا. وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي، وذلك لأن الموجود، أما واجب لذاته أو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه الا عند الانتهاء الى الواجب لذاته، فثبت أن كل ما سوى اللّه تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه، وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث، أو ممكن دون ممكن، فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم، وذلك هو المراد بقوله: {قل إن الامر كله للّه} وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه اللّه للانصاف. ثم انه تعالى قال: {يخفون فى أنفسهم ما لا يبدون لك}. واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: هل لنا من الأمر من شيء، وهذا الكلام محتمل، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين، وكان غرضه منه إظهار الشفقة، وانه متى يكون الفرج؟ ومن أين تحصل النصرة؟ ولعله كان من المنافقين، وإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وفي الاسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلى اللّه عليه وسلم متحرزا عن مكرهم وكيدهم. النوع الثالث: من الأشياء التي حكى اللّه عن المنافقين، قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا. وفيه إشكال، وهو أن لقائل أن يقول: ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله: {هل لنا من الامر من شىء} ويمكن أن يجاب عنه من وجهين: الأول: أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم: {هل لنا من الامر من شىء} فأجاب عنه بقوله: {الامر كله للّه} واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا ههنا، فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله للّه، وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فان السني يقول: الأمر كله في الطاعة والمعصية والايمان والكفر بيد اللّه، فيقول المعتزلي: ليس الأمر كذلك، فان الانسان مختار مستقل بالفعل، ان شاء آمن، وإن شاء كفر، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله اللّه تعالى جوابا عن الشبهة الأولى. والوجه الثاني: أن يكون المراد من قوله: {هل لنا من الامر من شىء} هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء، ويكون المراد من قوله: {لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا * هاهنا} هو ما كان يقوله عبداللّه بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا ههنا. واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه: الوجه الأول من الجواب: قوله: {قل لو كنتم فى بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير، فالذين قدر اللّه عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات، لأن اللّه تعالى لما أخبر أنه يقتل، فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا؛ وقد بينا أيضا أنه ممكن فلا بد من انتهائه الى إيجاد اللّه تعالى، فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا، وكل ذلك محال، ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله: {الذين كتب عليهم القتل} وهذه الكلمة تفيد الوجوب، فان هذه الكلمة في قوله: {كتب عليكم الصيام} {كتب عليكم القصاص} (البقرة: ١٧٨) تفيد وجوب الفعل، وها هنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل، فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده اللّه بالتوفيق. ثم نقول للمفسرين: فيه قولان: الأول: لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب اللّه عليهم القتل الى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم اللّه أنه يوجد، والثاني: كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار الى مضاجعهم، ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم. الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة: قوله: {وليبتلى اللّه ما فى صدوركم} وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة، ولو كان الأمر اليهم لما خرجوا اليها، فقال تعالى: بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة: أن يتميز الموافق من المنافق، وفي المثل المشهور: لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين، ومعنى الابتلاء في حق اللّه تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين، ومعنى الابتلاء في حق اللّه تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة. فإن قيل: لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} (آل عمران: ١٥٢). قلنا: لما طال الكلام أعاد ذكره، وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين، والثاني سائر الأحوال. والوجه الثالث في الجواب: قوله: {وليمحص ما فى قلوبكم} وفيه وجهان: أحدهما: أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات، والثاني: أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيآت، وذكر في الابتلاء الصدور، وفي التمحيص القلوب، وفيه بحث ثم قال: {واللّه عليم بذات الصدور}. واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور، وهي الأسرار والضمائر، وهي ذات الصدور لأنها حالة فيها مصاحبة لها، وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته، وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور، أو غير ذلك، لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم أما لمحض الالهية، أو للاستصلاح. |
﴿ ١٥٤ ﴾