٣٦

{واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى ...}.

واعلم أنه تعالى لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة، أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع.

النوع الأول: قوله: واعبدوا اللّه قال ابن عباس: المعنى وحدوه، واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر اللّه تعالى بذلك، وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح، فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد، وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: {*}

قال ابن عباس: المعنى وحدوه، واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر اللّه تعالى بذلك، وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح، فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد، وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: {قدير ياأيها الناس اعبدوا ربكم}.

النوع الثاني: قوله: {ولا تشركوا به شيئا} وذلك لأنه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله: {واعبدوا اللّه} أمر بالاخلاص في العبادة بقوله: {ولا تشركوا به شيئا} لأن من عبد مع اللّه غيره كان مشركا ولا يكون مخلصا، ولهذا قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين} (البينة: ٥).

النوع الثالث: قوله: {وبالوالدين إحسانا} واتفقوا على أن ههنا محذوفا، والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا كقوله: {فضرب الرقاب} (محمد: ٤) أي فاضربوها، ويقال: أحسنت بفلان، وإلى فلان.

قال كثير: أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة لدنيا ولا مقلية إن تقلت

واعلم أنه تعالى قرن إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع:

أحدها: في هذه الآية،

وثانيها: قوله: {وقضى ربك * أن لا تعبدوا *إياه وبالوالدين إحسانا} (الإسراء: ٢٣)

وثالثها: قوله: {أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير} (لقمان: ١٤)

وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والاحسان اليهما.

ومما يدل على وجوب البر اليهما قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} (الإسراء: ٢٣) وقال: {ووصينا الإنسان * أجرا حسنا} وقال في الوالدين الكافرين: {وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا} (لقمان: ١٥) وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

{أكبر} وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه: أن رجلا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من اليمن استأذنه في الجهاد، فقال عليه السلام: "هل لك أحد باليمن فقال أبواي فقال: أبواك أذنا لك فقال لا فقال فارجع وأستاذنهما فان أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما".

واعلم أن الاحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما، وألا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر، وأن لا يشهر عليهما سلاحا، ولا يقتلهما، قال أبو بكر الرازي: إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله أن ترك قتله، فحينئذ يجوز له قتله؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك كان قد قتل نفسه بتمكين غيره منه، وذلك منهي عنه، روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا.

النوع الرابع: قوله تعالى: {اللّه ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى} وهو أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة بقوله: {والارحام}.

واعلم أن الوالدين من الأقارب أيضا، إلا أن قرابة الولاد لما كانت مخصوصة بكونها أقرب القرابات وكانت مخصوصة بخواص لا تحصل في غيرها، لا جرم ميزها اللّه تعالى في الذكر عن سائر الأنواع، فذكر في هذه الآية قرابة الولاد، ثم أتبعها بقرابة الرحم.

النوع الخامس: قوله: {واليتامى} واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز:

أحدهما: الصغر،

والثاني: عدم المنفق، ولا شك أن من هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة.

قال ابن عباس: يرفق بهم ويربيهم ويمسح رأسهم، وإن كان وصيا لهم فليبالغ في حفظ أموالهم.

النوع السادس: قوله: {والمساكين}

واعلم أنه وان كان عديم المال إلا أنه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير، فيجلب به نفعا أو يدفع به ضررا،

وأما اليتيم فلا قدرة له عليه، فلهذا المعنى قدم اللّه اليتيم في الذكر على المسكين، والاحسان إلى المسكين

أما بالاجمال اليه، أو بالرد الجميل. كما قال تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} (الضحى: ٩).

النوع السابع: قوله: {والجار ذى القربى} قيل: هو الذي قرب جواره، والجار الجنب هو الذي بعد جواره.

قال

عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا وان الجوار أربعون دارا" وكان الزهري يقول: أربعون يمنة، وأربعون يسرة، وأربعون أماما وأربعون خلفا.

وعن أبي هريرة قيل: يا رسول اللّه ان فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسنانها شيء يؤذي جيرانها، أي هي سليطة، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا خير فيها هي في النار" وروي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده لا يؤدي حق الجار إلا من رحم اللّه وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار ان افتقر أغنيته وان استقرض أقرضته وان أصابه خير هنأته وان أصابه شر عزيته وان مرض عدته وان مات شيعت جنازته" وقال آخرون: عني بالجار ذي القربى: القريب النسيب، وبالجار الجنب: الجار الأجنبي، وقرىء (والجار ذا القربى) نصبا على الاختصاص، كما قرىء (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (البقرة: ٢٣٨) تنبيها على عظم حقه، لأنه اجتمع فيه موجبان.

الجوار والقرابة.

النوع الثامن: قوله: {والجار الجنب} وقد ذكرنا تفسيره.

قال الواحدي: الجنب نعت على وزن فعل، وأصله من الجنابة ضد القرابة وهو البعيد.

يقال: رجل جنب إذا كان غريبا متباعدا عن أهله، ورجل أجنبي وهو البعيد منك في القرابة.

وقال تعالى: {واجنبنى وبنى} (إبراهيم: ٣٥) أي بعدني، والجانبان الناحيتان لبعد كل واحد منهما عن الآخر، ومنه الجنابة من الجماع لتباعده عن الطهارة وعن حضور المساجد للصلاة ما لم يغتسل، ومنه أيضا الجنبان لبعد كل واحد منهما عن الآخر.

وروى المفضل عن عاصم: {والجار الجنب} بفتح الجيم وسكون النون وهو يحتمل معنيين:

أحدهما: أنه يريد بالجنب الناحية، ويكون التقدير: والجار ذي الجنب فحذف المضاف، لأن المعنى مفهوم والآخر: أن يكون وصفا على سبيل المبالغة، كما يقال: فلان كرم وجود.

النوع التاسع: قوله: {والصاحب بالجنب} وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك

أما رفيقا في سفر

وأما جارا ملاصقا،

وأما شريكا في تعلم أو حرفة،

وأما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الاحسان.

قيل: الصاحب الجنب: المرأة فانها تكون معك وتضجع إلى جنبك.

النوع العاشر: قوله: {وابن السبيل} وهو المسافر الذي انقطع عن بلده،

 وقيل: الضيف.

النوع الحادي عشر: قوله: {وما ملكت أيمانكم}.

واعلم أن الاحسان إلى المماليك طاعة عظيمة، روى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "من ابتاع شيئا من الخدم فلم توافق شيمته شيمته فليبع وليشتر حتى توافق شيمته شيمته فان للناس شيما ولا تعذبوا عباد اللّه" وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان آخر كلامه: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" وروي أنه كان رجل بالمدينة يضرب عبده، فيقول العبد أعوذ باللّه ويستمعه الرسول عليه السلام، والسيد كان يزيده ضربا، فطلع الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فقال: أعوذ برسول اللّه فتركه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "إن اللّه كان أحق أن يجار عائذه" قال يا رسول اللّه فانه حر لوجه اللّه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "والذي نفس محمد بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار".

واعلم أن الاحسان اليهم من وجوه:

أحدها: أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به،

وثانيها: أن لا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة،

وثالثها: أن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون اليه.

وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الاماء البغاء، وهو الكسب بفروجهن وبضوعهن.

وقال بعضهم: كل حيوان فهو مملوك، والاحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة.

واعلم أن ذكر اليمين تأكيد وهو كما يقال: مشت رجلك، وأخذت يدك، قال عليه الصلاة والسلام: "على اليد ما أخذت" وقال تعالى: {مما عملت أيدينا أنعاما} (يس: ٧١) ولما ذكر تعالى هذه الأصناف قال: {إن اللّه لا يحب من كان مختالا فخورا} والمختال ذو الخيلاء والكبر.

قال ابن عباس: يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق أحد.

قال الزجاج: وإنما ذكر الاختيال ههنا، وذكرنا اشتقاق هذه اللفظة عند قوله: {والخيل المسومة} (آل عمران: ١٤) ومعنى الفخر التطاول، والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا.

قال ابن عباس: هو الذي يفخر على عباد اللّه بما أعطاه اللّه من أنواع نعمه، وإنما خص اللّه تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع، لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبرا فانه قلما يقوم برعاية الحقوق، ثم أضاف اليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة، بل لمحض أمر اللّه تعالى.

﴿ ٣٦