٣

قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا}.

إعلم أنه تعالى قال في أول السورة {أحلت لكم بهيمة} (المائدة: ١) ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم، فههنا ذكر اللّه تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم، وهي أحد عشر نوعا:

الأول: الميتة: وكانوا يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل اللّه.

وأعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جدا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة.

والثاني: الدم: قال صاحب "الكشاف" كانوا يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، فاللّه تعالى حرم ذلك عليهم.

والثالث: لحم الخنزير، قال أهل العلم: الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي، فلا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان لئل يتكيف بتلك الكيفية،

وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق، فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان.

الرابع: ما ىهل لغير اللّه به، وإلهلال رفع الصوت، ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به، ومنه استهل الصبي وهو صراخة إذا ولد، وكانوا يقولون عند الذبح: باسم اللآت والعزى فحرم اللّه تعالى ذلك.

والخامس: المنخنقة، يقال: خنقة فاختنق، والخنق والاختناق انعصار الحلق.

وأعلم أن المنخنقة على وجوه: منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها، ومنها ما يخنق بحبل الصائد، ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت، وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام.

وأعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه.

والسادس: الموقوذة، وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال: وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت، ويدخل في الموقوذة ما رمي بالندق فمات، وهي أيضا في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فءنها ماتت ولم يسل دمها.

السابع: المتردية، والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك.

قال تعالى: {للعسرى وما يغنى عنه ماله إذا تردى} (الليل: ١١) أي وقع في النار، ويقال: فلان تردى من السطح، فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت، وهذا أيضا من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم، ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم.

والثامن: النطيحة، وهي المنطوحة إلى أن ماتت وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما، وهذا أيضا داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم.

وأعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع، أعني: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل: حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل.

فإن قيل: لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة، وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة، كقولهم: كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل.

قلنا: إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف، تقول: رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة، فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة، والتاسع: قوله

{وما أكل السبع إلا ذكيتم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: السبع: اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها، مثل الأسد وما دونه، ويجوز التخفيف في سبع فيقال: سبع وسبعة، وفي رواية عن أبي عمرون: السبع بسكون الباء، وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع.

المسألة الثانية: قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي، فحرمه اللّه تعالى.

وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفذ ولا حكم له، وإنما الحكم للباقي.

المسألة الثالثة: أصل الذكاء في اللغة إتمام الشيء، ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه، ومنه الذكاء في السن،

وقيل: جري المذكيات غلاب، أي جري المسنات التي قد أسنت، وتأويل تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء في السن، ويقال ذكيت النار أي أتممت إشعالها.

إذا عرفت هذا الأصل فنقول: الاستثناء المذكور في قوله {إلا ما ذكيتم} فيه أقوال:

الأول: أنه استثناء من جميع ما تقدم من قوله {والمنخنقة} إلى قوله {وما أكل السبع} وهو قول عي وابن عباس والحسن وقتادة، فعلى هذا أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عينا تطرف أو ذنبا يتحرك إو رجلا تركض فاذبح فإنه حلال، فإنه لولا بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال، فلما وجدتها مع هذه الأحوال دل على أن الحياة بتمامها حاصلة فيه.

والقول الثاني: أن هذا الاستثناء مختص بقوله {وما أكل السبع}.

والقول الثالث: أنه استثناء منقطع كأنه قيل: لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال.

والقول الرابع: أنه استثناء من التحريم لا من المحرمات، يعني حرم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال.وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء منقطعا أيضا.

العاشر: من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وما ذبح على النصب}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: النصب يحتمل أن يكون جمعا وأن يكون واحدا،

فإن قلنا إنه جمع ففي واحده ثلاثة أوجه:

الأول: أن واحده نصاب، فقولنا: نصاب ونصب كقولنا: حما وحمر.

الثاني: أن واحده النصب، فقولنا نصب ونصب كقولنا: سقف وسقف ورهن ورهن، وهو قول ابن الأنباري.

والثالث: أن واحدة النصبة.

قال الليث: النصب جمع النصبة، وهي علامة تنصب لقوم،

أما إن قلنا: أن النصب واحد فجمعه أنصاب، قفولنا: نصب وأنصاب كقولنا طنب وأطناب.

قال الأزهري: وقد جعل الأعشى النصب واحدا فقال:ولا النصب المنصوب لا تنسكنه لعاقبة واللّه ربك فاعبدا

المسألة الثانية: من الناس من قال: النصب هي الأوثان، وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله {وما أهل لغير اللّه به} وذلك هو الذبح على اسم الأثان، ومن حق المعطوف أن يكون مغايرا للمعطوف عليه.

وقال ابن جريج: النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون عندها للأصنام، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها، فقال المسلمون: يا رسول اللّه كان أهل الجاهلية يعظنون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم ينكره، فأنزل اللّه تعالى: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها} (الحج: ٣٧).

واعلم أن {ما} في قوله {وما ذبح} في محل الرفع لأنه عطف على قوله {حرمت عليكم الميتة} إلى قوله {وما أكل السبع}.

واعلم أن قوله {وما ذبح على النصب} فيه وجهان،

أحدهما: وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب،

والثاني: وما ذبح للنصب، و (اللام) و (على) يتعاقبان، قال تعالى: {فسلام لك من أصحاب اليمين} (الواقعة: ٩١) أي فسلام عليك منهم، وقال {وإن أسأتم فلها} (الإسراء: ٧) أي فعليها.

النوع الحادي عشر: قوله تعالى: {وأن تستقسموا بالازلام} قال القفال رحمه اللّه: ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقا لما كانوا فعلوه في المطاعم، وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت، وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك، وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في الآية قولان:

الأول: كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وكانوا قد كتبوا على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، وتركوا بعضها خاليا عن الكتابة، فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح.

الثاني: قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة: الاستقسام هنا هو الميسر المنهى عنه، والأزلام قداح الميسر، والقول الأول اختيار الجمهور.

المسألة الثانية: الأزلام القداح واحدها زلم، ذكره الأخفش. وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي سويت.

ويقال: رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفا قليل العلائق، ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته، وما أحسن ما زلم سهمه، أي سواه، ويقال لقوائم البقر أزلام، شبهت بالقداح للطافتها.

ثم قال تعالى: {ذالكم فسق} وفيه وجهان:

الأول: أن يكون راجعا إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصرا عليه.

والثاني: أن يكون راجعا إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم، فمن خالف فيه رادا على اللّه تعالى كفر.

فإن قيل: على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقا؟ أليس أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يحب الفأل، وهذا أيضا من جملة الفأل فلم صار فسقا؟

قلنا: قال الواحدي: إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب، وذلك حرام لقوله تعالى: {وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا} (لقمان: ٣٤) وقال {قل لا يعلم من فى * السماوات والارض *الغيب إلا اللّه} (النمل: ٦٥) وروى أبو الدرداء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة".

ولقائل أن يقول: لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلبا لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم التعبير غيبا أو كفرا لأنه طلب للغيب ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفرا لأنه طلب للغيب، ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا، ومعلوم أن ذلك كله باطل، وأيضا فالآيات إنما وردت في العلم، والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علما وإنما يستفيد من ذلك ظنا ضعيفا، فلم يكن ذلك داخلا تحت هذه الآيات.

وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقا وكفرا، وهذا القول عندي أولى وأقرب.

قوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون}.

اعلم أنه تعالى لما عدد فيما مضى ما حرمه من بهيمة الأنعام وما أحله منها ختم الكلام فيها بقوله {ذالكم فسق} والغرض منه تحذير المكلفين عن مثل تلك الأعمال، ثم حرضهم على التمسك بما شرع لهم بأكمل ما يكون فقال {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم} أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان، فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم، وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم، فإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم، وأن تقبلوا على طاعة اللّه تعالى والعمل بشرائعه وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} فيه قولان:

الأول: أنه ليس المراد هو ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم، ونظيره قوله: كنت بالأمس شابا واليوم قد صرت شيخا، ولا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه.

والقول الثاني: أن المراد به يوم نزول هذه الآية، وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى اللّه عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء.

المسألة الثانية: قوله {يئس الذين كفروا من دينكم} فيه قولان: الأول: يئسوا من أن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها اللّه محرمة.

والثاني: يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم، وذلك لأنه تعالى كان قد وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان، وهو قوله تعالى: {ليظهره على الدين كله} (التوبة: ٣٣) (الفتح: ٢٨) (الصف: ٩) فحقق تلك النصرة وأزال الخوف بالكلية وجعل الكفار مغلوبين بعد أن كانوا غالبين، ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين، وهذا القول أولى.

المسألة الثالثة: قال قوم: الآية دالة على أن التقية جائزة عند الخوف، قالوا لأنه تعالى أمرهم بإظهار هذه الشرائع وإظهار العمل بها وعلل ذلك بزوال الخوف من جهة الكفار، وهذا يدل على أن قيام الخوف يجوز تركها.

ثم قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في الآية سؤال وهو أن قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} يقتضي أن الدين كان ناقصا قبل ذلك، وذلك يوجب أن الدين الذي كان صلى اللّه عليه وسلم مواظبا عليه أكثر عمره كان ناقصا، وأنه إنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدة قليلة.

واعلم أن المفسرين لأجل الاحتراز عن هذا الاشكال ذكروا وجوها:

الأول: أن المراد من قوله {أكملت لكم دينكم} هو إزالة الخوف عنهم وإظهار القدرة لهم على أعدائهم وهذا كما يقول الملك عندما يستولي على عدوه ويقهره قهرا كليا: اليوم كمل ملكنا، وهذا الجواب ضعيف لأن ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصا.

الثاني: أن المراد: إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعلم الحلال والحرام، وهذا أيضا ضعيف لأنه لو لم يكمل لهم قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع كان ذلك تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز.

الثالث: وهو الذي ذكره القفال وهو المختار: أن الدين ما كان ناقصا، البتة، بل كان أبدا كاملا، يعني كانت الشرائع النازلة من عند اللّه في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه، فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيد بعد العدم،

وأما في رخر زمان المبعث فأنزل اللّه سريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة، فالشرع أبدا كان كاملا، إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص، والثاني كمال إلى يوم القيامة فلأجل هذا المعنى قال: {اليوم أكملت لكم دينكم}.

المسألة الثانية: قال نفاة القياس: دلت الآية على أن القياس بالطل، وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملا، وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك النص كان عبثا، وإن كان على خلافه كان باطلا.

أجاب مثبتو القياس بأن المراد بإكمال الدين أنه تعالى بين حكم جميع الوقائع بعضها بالنص وبعضها بأن بين طريق معرفة الحكم فيها على سبيل القياس، فإنه تعالى لما جعل الوقائع قسمين أحدهما التي نص على أحكامها، والقسم الثاني أنواع يمكن استنباط الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول، ثم أنه تعالى لما أمر بالقياس وتعبد المكلفين به كان ذلك في الحقيقة بيانا لكل الأحكام، وإذا كان كذلك كان ذلك إكمالا للدين.

قال نفاة القياس: الطريق المقتضية لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص

أما أن تكون دلائل قاطعة أو غير قاطعة، فإن كان القسم الأول فلا نزاع في صحته، فإنا نسلم أن القياس المبني على المقدمات اليقينية حجة، إلا أن مثل هذا القياس يكون المصيب فيه واحدا، والمخالف يكون مستحقا للعقاب، وينقض قضاء القاضي فيه وأنتم لا تقولون بذلك، وءن كان الحق هو القسم الثاني كان ذلك تمكينا لكل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه من غير أن يعلم أنه هل هو دين اللّه أم لا، وهل هو الحكم الذي حكم به اللّه أم لا، ومعلوم أن مثل هذا لا يكون إكمالا للدين، بل يكون ذلك إلقاء للخلق في ورطة الظنون والجهالات، قال مثبتو القياس: إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان ذلك إكمالا للدين، ويكون كل مكلف قاطعا بأنه عامل بحكم اللّه فزال السؤال.

المسألة الثالثة: قال أصحابنا: هذه الآية دالة على بطلان قول الرافضة، وذلك لأنه تعالى بين أن الذين كفروا يئسوا من تبديل الدين، وأكد ذلك بقوله {فلا تخشوهم واخشون} فلو كانت إماة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه منصوصا عليها من قبل اللّه تعالى وقبل رسوله صلى اللّه عليه وسلم نصا واجب الطاعة لكان من أراد إخفاءه وتغييره آيسا من ذلك بمقتضى هذه الآية، فكان يلزم أن لا يقدر أحد من الصحابة على إنكار ذلك النص وعلى تغييره وإخفائه، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل لم يجر لهذا النص ذكر، ولا ظهر منه خبر ولا أثر، علمنا أن ادعاء هذا النص كذب، وأن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ما كان منصوصا عليه بالإمامة.

المسألة الرابعة: قال أصحاب الآثار: إنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحدا وثمانين يوما أو اثنين وثمانين يوما، ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل البتة، وكان ذلك جاريا مجرى أخبار النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قرب وفاته، وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزا، ومما يؤكد ذلك ما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على الصحابة فرحوا جدا وأظهروا السرور العظيم إلا أبا بكر رضي اللّه عنه فإنه بكى فسئل عنه فقال: هذه الآية على عدل على قرب وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال، فكان ذلك دليلا على كمال علم الصديق حيث وفق من هذه الآية على سر لم يقف عليه غيره.

المسألة الخامسة: قال أصحابنا: دلت الآية على أن الدين لا يحصل إلا بخلق اللّه تعالى وإيجاده، والدليل عليه أنه أضاف إكمال الدين إلى نفسه فقال {اليوم أكملت لكم دينكم} ولن يكون إكمال الدين منه إلا وأصله أيضا منه.

واعلم أنا سواء قلنا: الدين عبارة عن العمل، أو قلنا إنه عبارة عن المعرفة، أو قلنا إنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والاقرار والفعل فالاستدلال ظاهر.

وأما المعتزلة فإنهم يحملون ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار شرائعه، ولا شك أن الذي ذكروه عدول عن الحقيقة إلى المجاز.

ثم قال تعالى: {وأتممت عليكم نعمتى} ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام.

واعلم أن هذه الآية أيضا دالة على أن خالق الإيمان هو اللّه تعالى، وذلك لأنا نقول: الدين الذي هو الإسلام نعمة، وكل نعمة فمن اللّه، فيلزم أن يكون دين الإسلام من اللّه.

إنما قلنا: إن الإسلام نعمة لوجهين:

الأول: الكلمة المشهورة على لسان الأمة وهي قولهم: الحمد للّه على نعمة الإسلام.

والوجه الثاني: أنه تعالى قال في هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى} ذكر لفظ النعمة مبهمة، والظاهر أن المراد بهذه النعمة ما تقدم ذكره وهو الدين.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بإتمام النعمة جعلهم قاهرين لأعدائهم، أو المراد به جعل هذا الشرع بحيث لا يتطرق إليه نسخ.

قلنا: أما الأول فقد عرف بقوله {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} فحمل هذه الآية عليه أيضا يكون تكريرا.

وأما الثاني فلأن إبقاء هذا الدين لما كان إتماما للنعمة وجب أن يكون أصل هذا الدين نعمة لا محالة، فثبت أن دين الإسلام نعمة.

وإاذ ثبت هذا فنقول: كل نعمة فهي من اللّه تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن اللّه} وإذا ثبت هاتان المقدمتان لزم القطع بأن دين الإسلام إنما حصل بتخليق اللّه تعالى وتكوينه وإيجاده.

ثم قال تعالى: {ورضيت لكم الأسلام دينا} والمعنى أن هذا هو الدين المرضى عند اللّه تعالى ويؤكده قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}.

ثم قال تعالى: {فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن اللّه غفور رحيم}.

وهذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها اللّه تعالى، يعني أنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حالة الاضطرار، ومن قوله {ذالكم فسق} إلى هاهنا اعتراض وقع في البين، والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو الدين المرضي عند اللّه تعالى، ومعنى اضطر أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة والمخمصة المجاعة.

قال أهل اللغة: الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع، وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن.

يقال: رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة والجمع خمائص وخمصانات، وقوله {غير متجانف لإثم} أي غير متعمد، وأصله في اللغة من الجنف الذي هو الميل،

قال تعالى: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما} (البقرة: ١٨٢) أي ميلا، فقوله غير {متجانف} أي غير مائل وغير منحرف، ويجوز أن ينتصب {غير} بمحذوف مقدر على معنى فتناول غير متجانف، ويجوز أن ينصب بقوله {اضطر} ويكون المقدر متأخرا على معنى: فمن اضطر غير متجانف لاثم فتناول فإن اللّه غفور رحيم، ومعنى الإثم هاهنا في قول أهل العراق أن يأكل فوق الشبع تلذذا، وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصيا بسفره، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في تفسير سورة البقرة في قوله {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} (البقرة: ١٧٣) وقوله {فإن اللّه غفور رحيم} يعني يغفر لهم أكل المحرم عندما اضطر إلى أكله، ورحيم بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله.

﴿ ٣