٩٥

قوله تعالى: {أليم ياأيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: المراد بالصيد قولان.

الأول: أنه الذي توحش سواء كان مأكولا أو لم يكن، فعلى هذا المحرم إذا قتل سبعا لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجب به قيمة شاة، وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه، وقال زفر: يجب بالغا ما بلغ.

والقول الثاني: أن الصيد هو ما يؤكل لحمه، فعلى هذا لا يجب الضمان البتة في قتل السبع، وهو قول الشافعي رحمه اللّه وسلم أبو حنيفة رحمه اللّه أنه لا يجب الضمان في قتل الفواسق الخمس وفي قتل الذئب حجة الشافعي رحمه اللّه القرآن والخبر، أما القرآن فهو أن الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن، إنما قلنا إنه ليس بصيد لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} (المائدة: ٩٦) فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية، وحل صيد البر خارج وقت الاحرام، فثبت أن الصيد ما يحل أكله والسبع لا يحل أكله، فوجب أن لا يكون صيدا، وإذا ثبت أنه ليس بصيد وجب أن لا يكون مضمونا، لأن الأصل عدم الضمان، تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية، فبقي فيما ليس بصيد على وفق اوصل،

وأما الخبر فهو الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام: "خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهن في الحل والحرم الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور" وفي رواية أخرى: والسبح الضاري، والاستدلال به من وجوه:

أحدها: أن قوله: والسبع الضاري نص في المسألة،

وثانيها: أنه عليه السلام وصفها بكونها فواسق ثم حكى بحل قتلها، والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلالا بذلك الوصف، وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها، ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية، وصفة الايذاء في السباع أقوى فوجب جوا" قتلها،

وثالثها: أن الشارع خصها بإباحة القتل، وإنما خصها بهذا الحكم لاختصاصها بمزيد الايذاء، وصفة الايذاء في السباع أتم، فوجب القول بجواز قتلها.

وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة لما بيناه في الدليل الأول.

حجة أبي حنيفة رحمه اللّه: أن السبع صيد فيدخل تحت قوله {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وإنما قلنا إنه صيد لقول الشاعر:

ليث تربى ربية فاصطيدا ولقول علي عليه السلام:

( فصيد الملوك أرانب وثعالب وإذا ركبت فصيدي الأبطال )

والجواب: قد بينا بدلالة الآية أن ما يحرم أكله ليس بصيد، وذلك لا يعارضه شعر مجهول،

وأما شعر علي عليه السلام فغير وارد، لأن عندنا الثعلب حلال.

المسألة الثانية: حرم جمع حرام، وفيه ثلاثة أقوال:

الأول: قيل حرم أي محرمون بالحج،

وقيل: وقد دخلتم الحرم،

وقيل: هما مرادان بالآية، وهل يدخل فيه المحرم بالعمرة فيه خلاف.

اللمسألة الثالثة: قوله {لا تقتلوا} يفيد المنع من القتل ابتداء، والمنع منه تسببا، فليس له أن يتعرض إلى الصيد ما دام محرما لا بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم،

وأما الحلال فله أن يتصيد في الحل وليس له أن يتصيد في الحرم، وإذا قلنا {وأنتم حرم} يتناول الأمرين أعني من كان محرما ومن كان داخلا في الحرم كانت الآية دالة على كل هذه الأحكام.

ثم قال تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي فجزاء بالتنوين؛ ومثل بالرفع والمعنى فعليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد فمثل مرفوع لأنه صفة لقوله {فجزاء} قال ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل.

ألا ترى أنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل، في الحقيقة إنما عليه جزاء الملقتول لا جزاء مثلل المقتول الذي لم يقتله وقوله تعالى: {من النعم} يجوز أن يكون صفة للنكرة التي هي جزاء؛ والمعنى فجزاء من النعم مثل ما قتل،

وأما سائر القراء فهم قرؤا {فجزاء مثل} على إضافة الجزاء إلى المثل وقالوا: إنه وإن كان الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فإنهم يقولون: أنا أكرم مثلك يريدون أنا أكرمك ونظيره قوله {ليس كمثله شىء} (الشورى: ١١) والتقدير: ليس هو كشيء، وقال: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به فى الناس كمن مثله في الظلمات} (الأنعام: ١٢٢) والتقدير: كمن هو في الظلمات وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى فجزاء مثل ما قتل من النعم كقولك خاتم فضة أي خاتم من فضة.

المسألة الثانية: قال سعيد بن جبير: المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء وهو قول داود وقال جمهور الفقهاء: يلزمه الضمان سواء قتل عمدا أو خطأ حجة داود أن قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا} مذكور في معرض الشرط، وعند عدم الشرط يلزم عدم المشروط فوجب أن لا يجب الجزاء عند فقدان العمدية قال: والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال في آخر الآية {ومن عاد فينتقم اللّه منه} والانتقام إنما يكون في العمد دون الخطأ وقوله {ومن عاد} المراد منه ومن عاد إلى ما تقدم ذكره، وهذا يقتضي أن الذي تقدم ذكره من القتل الموجب للجزاء هو العمد لا الخطأ وحجة الجمهور قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} (المائدة: ٩٦) ولما كان ذلك حرامال بالاحرام صار فعله محظورا بالاحرام فلا يسقط حكمه بالخطأ والجهل كما في حلق الرأس وكما في ضمان مال المسلم فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يتبدل ذلك بكونه خطأ أو عمدا فكذا هاهنا وأيضا يحتجون بقوله عليه السلام في الضبع كبش إذا قتله المحرم، وقول الصحابة في الظبي شاة، وليس فيه ذكر العمد.

أجاب داود بأن نص القرآن خير من خبر الواحد وقول الصحابي والقياس.

المسألة الثالثة: ظاهر الآية يدل على أنه يجب أن يكون جزاء الصيد مثل المقتول، إلا أنهم اختلفوا في المثل، فقال الشافعي ومحمد بن الحسن: الصيد ضربان: منه ما له مثل، ومنه ما لا مثل له، فما له مثل يضمن بمثله من النعم، وما لا مثل له يضمن بالقيمة.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل الواجب هو القيمة.

وحجة الشافعي: القرآن، والخبر، والإجماع، والقياس،

أما القرآن فقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} والاستدلال به من وجوه أربعة: الأول: أن جماعة من القراء قرؤا {فجزاء} بالتنوين، ومعناه: فجزاء من النعم مماثل لما قتل

فمن قال إنه مثله في القيمة فقد خالف النص،

وثانيها: أن قوما آخرين قرؤا {فجزاء مثل ما قتل} بالإضافة، والتقدير: فجزاء ما قتل من النعم، أي فجزاء مثل ما قتل يجب أن يكون من النعم، فمن لم يوجبه فقد خالف النص، ثالثها: قراءة ابن مسعود {فجزاؤه * مثل ما قتل من النعم} وذلك صريح فيما قلناه:

ورابعها: أن قوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة} صريح في أن ذلك الجزاء الذي يحكم به ذوا عدل منهم، يجب أن يكون هديا بالغ الكعبة.

فإن قيل: إنه يشري بتلك القيمة هذا الهدى.

قلنا: النص صريح في أن ذلك الشيء الذي يحكم به ذوا عدل يجب أن يكون هديا وأنتم تقولون: الواجب هو القيمة، ثم إنه يكون بالخيار إن شاء اشترى بها هديا يهدي إلى الكعبة، وإن شاء لم يفعل، فكان ذلك على خلاف النص، وأما الخبر: فما روى جابر بن عبد ا أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الضبع، أصيد هو؟ فقال نعم، وفيه كبش إذا أخذه المحرم، وهذا نص صريح.

وأما الاجماع: فهو أن الشافعي رحمه اللّه قال: تظاهرت الروايات عن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر في بلدان مختلفة وأزمان شتى: أنهم حكموا في جزاء الصيد بالمثل من النعم، فحكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الظبي بشاة، وفي الأرنب بجفرة، وفي رواية بعناق، وفي الضب بسخلة، وفي اليربوع بجفرة وهذا يدل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبها بالصيد من النعم لا بالقيمة ولا حكموا بالقيمة لاختلف باختلاف الأسعار والظبي هو الغزال الكبير الذكر والغزال هو الأنثى واليربوع هو الفأرة الكبيرة تكون في الصحراء، والجفرة الأنثى من أولاد المعز إذا انفصلت عن أمها والذكر جفر والعنق الأنثى من أولاد المعز إذا قويت قبل تمام الحول.

وأما القياس فهو أن المقصود من الضمان جزاء الهالك ولا شك أن المماثلة كلما كانت أتم كان الجزاء أتم فكان الايجب أولى.

حجة أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى: لا نزاع أن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة فكان المراد بالمثل في قوله {فجزاء مثل ما قتل من النعم} هو القيمة في هذه الصورة، فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على المعنى الواحد.

والجواب: أن حقيقة المماثلة أمر معلوم والشارع أوجب رعاية المماثلة فوجب رعايتها بأقصى الامكان فإن أمكنت رعايتها في الصورة وجب ذلك وإن لم يكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة.

المسألة الرابعة: جماعة محرمون قتلوا صيدا.

قال الشافعي رحمه اللّه: لا يجب عليهم إلا جزاء وحدا، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري رحمهم اللّه: يجب على كل واحد منهم جزاء واحد.

حجة الشافعي رحمه اللّه: أن الآية دلت على وجوب المثل، ومثل الواحد واحد وأكد هذا بما روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال بمثل قولنا: حجة أبي حنيفة رحمه اللّه أن كل واحد منهم قاتل فوجب أن يجب على كل وحد منهم جزاء كامل، بيان الأول أن جماعة لو حلف كل واحد منهم أن لا يقتل صيدا فقتلوا صيدا واحدا لزم كل واحد منهم كفارة، وكذلك القصاص المتعلق بالقتل يجب على جماعة يقتلون واحدا، وإذا ثبت أن كل واحد منهم قاتل وجب أن يجب على كل واحد منهم جزاء كامل لقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} فقوله {ومن قتله منكم متعمدا} صيغة عموم فيتناول كل القاتلين.

أجاب الشافعي رحمه اللّه: بأن القتل شيء واحد فيمتنع حصوله بتمامه بأكثر من قاعل واحد فإذا اجتمعوا حصل بمجموع أفعالهم قتل واحد وإذا كان كذلك امتنع كون كل واحد منهم قاتلا في الحقيقة وإذا ثبت أن كل واحد منهم ليس بقاتل لم يدخل تحت هذه لآية

وأما قتل الجماعة بالواحد فذاك ثبت على سبيل التعبد وكذ القول في إيجاب الكفارات المتعددة.

المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه اللّه: المحرم إذا دل غيره على صيد، فقتله المدلول عليه لم يضمن الدال الجزاء، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: يضمن حجة الشفعي أو وجوب الجزاء معلق بالقتل في هذه الآية والدلالة ليست بقتل فوجب أن لا يجب الضمان ولأنه بدل المتلف فلا يجب بالدالة ككفارة القتل والدية، وكالدلالة على مال المسلم.

حجة أبي حنيفة رحمه اللّه أنه سئل عمر عن هذه المسألة فشاور عبد الرحمن بن عوف فأجمعا على أن عليه الجزاء وعن ابن عباس أنه أوجب الجزاء على الدال، أجاب الشافعي رحمه اللّه: بأن نص القرآن خير من أثر بعض الصحابة.

المسألة السادسة: قال الشافعي رحمه اللّه: إن جرح ظبيا فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة، وقال داود لا يضمن ألبتة سوى القتل، وقال المزني عليه شاة.

حجة داود أن الآية دالة على أن شرط وجوب الجزاء هو القتل، فإذا لم يوجد القتل: وجب أن لا يجب الجزاء ألبتة، وجوابه أن المعلق على القتل، وجوب مثل المقتول، وعندنا أن هذا لا يجب عند عدم القتل فسقط قوله.

المسألة السابعة: إذا رمى من الحل والصيد في الحل، فمر في السهم طائفة من الحرم، قال الشافعي رحمه اللّه: يحرم وعليه والجزاء، وقال أبو حنيفة: لا يحرم.

حجة الشافعي: أن سبب الذبح مركب من أجزاء، بعضها مباح وبعضها محرم، وهو المرور في الحرم، وما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال، لا سيما في الذبح الذي الأصل فيه الحرمة.

وحجة أبي حنيفة رضي اللّه عنه: أن قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} نهى له عن الاصطياد حال كونه في الحرم، فلما لم يوجد واحد من هذين الأمرين وجب أن لا تحصل الحرمة.

المسألة الثامنة: الحلال إذا اصطاد صيدا وأدخله الحرم لزمه الارسال وإن ذبحه حرم ولزمه الجزاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه اللّه، وقا الشافعي رحمه اللّه، وقال اشفعي رحمه اللّه يحل، وليس عليه ضمان.

حجة الشافعي: قوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم} (المائدة: ١) وحجة أبي حنيفة قوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} نهى عن قتل الصيد حال كونه محرما، وهذا يتناول الصيد الذي اصطاده في الحل، والذي اصطاده في الحرم.

المسألة التاسعة: إذا قتل المحرم صيدا وأدى جزاءه، ثم قتل صيدا آخر لزمة جزاء آخر، وقال داود: لا يجب حجة الجمهور: أن قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} ظاهره يقتضي أن علة وجوب الجزاء هو القتل، فوجب أن يتكرر الحكم عند تكرر العلة.

فإن قيل: إذا قال الرجل لنسائه، من دخل منكن الدار فهي طالق، فدخلت واحدة مرتين لم يقع إلا طلاق واحد.

قلنا: الفرق أن القتل علة لوجوب الجزاء، فيلزم تكرر الحكم عند تكرر العلة.

أما ههنا: دخول الدار شرط لوقوع الطلاق، فلم يلزم تكرر الحكم عند تكرر الشرط.

حجة داود: قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم اللّه منه} جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة.

المسألة العاشرة: قال الشافعي رحمه اللّه: إذا أصاب صيدا أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله، والصحيح أحب إلي، وعلى هذا الكبير أولى من الصغير، ويفدى الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى، والأولى أن لا بغير، لأن نص القرآن إيجاب المثل، والأنثى وإن كانت أفضل من الذكر من حيث إنها تلد، فالذكر أفضل من الأنثى لأن لحمه أيب وصورته أحسن.

ثم قال تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال ابن عباس: يريد يحكم في جزاء الصيد رجلان صالحان ذوا عدل منكم أي من أهل ملتكم ودينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشباه به من النعم فيحكمان به واحتج به من نصر قول أبي حنيفة رحمه اللّه في إيجاب القيمة، فقال: التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد،

وأما الخلقة والصورة، فظاهرة مشاهدة لا يحتاج فيها إلى الاجتهاد.

وجوابه: أن وجوه المشهابهة بين النعم وبين الصيد مختلفة وكثيرة، فلا بد من الاجتهاد في تمييز الأقوى من الأضعف، والذي يدل على صحة ما ذكرنا أنه قال ميمون بن مهران: جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي اللّه عنه، فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا، فسأل أبو بكر رضي اللّه عنه أبي بن كعب، فقال الأعرابي: أتيتك أسألك، وأنت تسأل غيرك، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: وما أنكرت من ذلك، قال اللّه تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} فشاورت صاحبي، فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به، وعن قبيضة بن جابر: أنه حين كان محرما ضرب ظبيا فمات، فسأل عمر بن الخطاب رضي للّه عنه، وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف، فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة.

قال: وأنا أرى ذلك، فقال: إذهب قاهد شاة.

قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي وقلت له إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره.

قال: ففاجأني عمر وعلاني بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم، قال اللّه تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} فأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف.

المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه اللّه: الذي له مثل ضربان فما حكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره، لأنه شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين، فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبها به يوجبانه وقال مالك: يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة، وفيما لم تحكم به حجة الشافعي رحمه اللّه الآية دلت على أنه يجب أن يحكم به ذوا عدل، فإذا حكم به إثنان من الصحابة، فقد دخل تحت الآية، ثم ذاك أولى لما ذكرنا أنهم شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل.

المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه اللّه: يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين إذا كان أخطأ فيه، فإن تعمد لا يجوز، لأنه يفسق به، وقال مالك: لا يجوز كما في تقويم المتلفات.

حجة الشافعي رحمه اللّه: أنه تعالى أوجب أن يحكم به ذوا عدل، وإذا صدر عنه القتل خطأ كان عدلا، فإذا حكم به هو وغيره فقد حكم به ذوا عدل، وأيضا روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبيا، فسأل عمر عنه، فقال عمر: احكمد فقال: أنت عدل يا أمير المؤمنين فاحكم، فقال عمر رضي اللّه عنه: إنما أمرتك أن تحكم وما أمرتك أن تزكيني، فقال: أرى فيه جديا جمع الماء والشجر، فقال: افعل ما ترى، وعلى هذا التقدير قال أصحابنا: يجوز أن يكونا قاتلين.

المسألة الرابعة: لو حكم عدلان بمثل، وحكم عدلان رخران بمثل آخر، فيه وجهان:

أحدهما:يتخير،

والثاني: يأخذ بالأغلظ.

المسألة الخامسة: قال بعض مثبتي القياس: دلت الآية على أن العمل بالقياس والاجتهاد جائز لأنه تعالى فوض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم وهذا ضعيف لأنه لا شك أن الشارع تعبدنا بالعمل بالظن في صور كثيرة.

منها: الاجتهاد في القبلة، ومنها: العمل بشهادة الشاهدين ومنها: العمل بتقويم المقومين في قيم المتلفات وأروش الجنايات، ومنها: العمل بتحكيم الحكام في تعيين مثل المصيد المقتول، كما في هذه الآية، ومنها: عمل العامي بالفتوى.

ومنها: العمل بالظن في مصالح الدنيا.

إلا أنا نقول: إن ادعيتم أن تشبيه صورة شرعية بصورة شرعية في الحكم الشرعي هو عين هذه المسائل التي عددناها فذلك باطل في بديهة العقل، وإن سلمتم المغايرة لم يلزم، من كون الظن حجة في تلك الصور، كونه حجة في مسألة القياس، إلا إذا قسنا هذه المسألة على تلك المسائل وذلك يقتضي إثبات القياس بالقياس وهو باطل.

وأيضا فالفرق ظاهر بين البابين، لأن في جميع الصور المذكورة الحكم إنما ثبت في حق شخص واحد في زمان واحد في واقعة واحدة.

وأما الحكم الثابت بالقياس فإنه شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والتنصيص على أحكام الأشخاص الجزئية متعذر.

وأما التنصيص على الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر.

وأما التنصيص عى الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر، فظهر الفرق واللّه أعلم.

ثم قال تعالى: {هديا بالغ الكعبة} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في الآية وجهان: الأول: أن المعنى يحكمان به هديا يساق إلى الكعبة فينحر هناك، وهذا يؤكد قول من أوجب المثل من طريق الخلقة لأنه تعالى لم يقل يحكمان به شيئا يشتري به هدي وإنما قال يحكمان به هديا وهذا صريح في أنهما يحكمان بالهدي لا غير.

الثاني: أن يكون المعنى يحكمان به شيئا يشتري به ما يكون هديا، وهذا بعيد عن ظاهر اللفظ، والحق هو الأول.

وقوله {هديا} نصب على الحال من الكناية في قوله {به} والتقدير يحكم بذلك المثل شاة أو بقرة أو بدنة فالضمير في قوله {به} عائد إلى المثل والهدي حال منه، وعند التفظن لهذين الاعتبارين فمن الذي يرتاب في أو الواجب هو المثل من طريق الخلقة واللّه أعلم.

المسألة الثانية: قوله {بالغ الكعبة} صفة لقوله {هديا} لأن إضافته غير حقيقية، تقديره بالغا الكعبة لكن التنوين قد حذف استخفافا ومثله {عارض ممطرنا} (الأحقاف: ٢٤).

المسألة الثالثة: سميت الكعبة كعبة لارتفاعها وتربعها، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة والكعبة إنما أريد بها كل الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في الكعبة ولا عندها ملازقا لها ونظير هذه الآية قوله {ثم محلها إلى البيت العتيق} (الحج: ٣٣).

المسألة الرابعة: معنى بلوغه الكعبة، أن يذبح بالحرم فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حيا لم يجز بل يجب عليه ذبحه في الحرم، وإذا ذبحه في الحرم.

قال الشافعي رحمه اللّه: يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضا.

وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: له أن يتصدق به حيث شاء، وسلم الشافعي أن له أن يصوم حيث شاء، لأنه لا منفعة فيه لمساكين الحرم.

حجة الشافعي: أن نفس الذبح إيلام، فلا يجوز أن يكون قربة، بل القربة هي إيصال اللحم إلى الفقراء، فقوله: {هديا بالغ الكعبة} يوجب إيصال تلك الهدية إلى أهل الحرم والكعبة.

وحجة أبي حنيفة رحمه اللّه: أنها لما وصلت إلى الكعبة فقد صارت هديا بالغ الكعبة، فوجب أن يخرج عن العهدة.

ثم قال تعالى: {أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذالك صياما} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر {أو كفارة طعام} على إضافة الكفارة إلى الطعام، والباقون {أو كفارة} بالرفع والتنوين طعام بالرفع من غير التنوين،

أما وجه القراءة

الأولى: فهي أنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء: الهدي، والصيام، والطعام، حسنت الإضافة، فكأنه قيل كفارة طعام لا كفارة هدي، ولا كفارة صيام، فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء،

وأما وجه قراءة من قرأ {أو كفارة} بالتنوين، فهو أنه عطف على قوله {فجزاء} و {طعام مساكين} عطف بيان، لأن الطعام هو الكفارة ولم تضف الكفارة إلى الطعام، لأن الكفارة ليست للطعام، وإنما الكفارة لقتل الصيد.

المسألة الثانية: قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم اللّه: كلمة {أو} في هذه الآية للتخيير، وقال أحمد وزفر: إنها للترتيب.

حجة الأولين أن كلمة (أو) في أصل اللغة للتخيير، والقول بأنها للترتيب ترك للظاهر.

حجة الباقين: أن كلمة (أو) قد تجيء لا لمعنى للتخيير، كما في قوله تعالى: {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} (المائدة: ٣٣) فإن المراد منه تخصيص كل واحد من هذه الأحكام بحالة معينة، فثبت أن هذا اللفظ يحتمل الترتيب، فنقول: والدليل دل على أن المراد هو الترتيب، لأن الواجب ههنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله {ليذوق وبال أمره * ومن عاد *فينتقم اللّه منه} والتخيير ينافي التغليظ.

والجواب: أن إخراج المثل ليس أقوى عقوبة من إخراج الطعام، فالتخيير لا يقدح في القدر الحاصل من العقوبة في إيجاب المثل.

المسألة الثالثة: إذا قتل صيدا له مثل قال الشافعي رحمه اللّه: هو مخير بين ثلاثة أشياء: إن شاء أخرج المثل، وإن شاء قوم المثل بدراهم، ويشتري بها طعاما ويتصدق به، وإن شاء صام،

وأما الصيد الذي لا مثل له، فهو مخير فيه بين شيئين، بين أن يقوم الصيد بالدراهم ويشتري بتلك الدراهم طعاما ويتصدق به، وبين أن يصوم، فعلى ما ذكرنا الصيد الذي له مثل إنما يشتري الطعام بقمية مثله.

وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما اللّه: إنما يشتري الطعام بقيمته: حجة الشافعي أن المثل من النعم هو الجزاء والطعام بناء عليه فيعدل به كما يعدل عن الصوم بالطعام، وأيضا تقويم مثل الصيد أدخل في الضبط من تقويم نفس الصيد، وحجة أبي حنيفة رحمه اللّه: أن مثل المتلف إذا وجب اعتبر بالمتلف لا بغيره ما أمكن، والطعام إنما وجب مثلا للمتلف فوجب أن يقدر به.

المسألة الرابعة: اختلفوا في موضع التقويم: فقال أكثر الفقهاء: إنما يقوم في المكان الذي قتل الصيد فيه.

وقال الشعبي: يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يكفر بها.

المسألة الخامسة: قال الفراء: العدل ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل المثل، تقول عندي عدل غلامك أو شاتك إذا كان عندك غلام يعدل غلاما أو شاة تعدل شاة،

أما إذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين فقلت عدل.

وقال أبو الهيثم: العدل المثل، والعدل القيمة، والعدل اسم حمل معدول بحمل آخر مسوى به، والعدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه.

وقال الزجاج وابن الأعرابي: العدل والعدل سواء وقوله {صياما} نصب على التمييز، كنا تقول عندي رطلان عسلا، وملء بيت قتا، والأصل فيه إدخال حرف من فيه، فإن لم يذكر نصبته.

تقول: رطلان من العسل وعدل ذلك من الصيام.

المسألة السادسة: مذهب الشافعي رضي اللّه عنه: أنه يصوم لكل مد يوما وهو قول عطاء ومذهب أبي حنيفة رحمه اللّه أنه يصوم لكل نصف صاع يوما، والأصل في هذه المسألة أنهما توافقا على أن الصوم مقدر بطعام يوم، إلا أن طعام اليوم عند الشافعي مقدر بالمد، وعند أبي حنيفة رحمه اللّه مقدر بنصف صاع على ما ذكرناه في كفارة اليمين.

المسألة السابعة: زعم جمهور الفقهاء أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد.

وقال محمد بن الحسن رحمه اللّه إلى الحكمين: حجة الجمهور أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الثلاثة على التخيير، فوجب أن يكون قاتل الصيد مخيرا بين أيها شاء، وحجة محمد رحمه اللّه أنه تعالى جعل الخياة إلى الحكمين فقال {يحكم به ذوا عدل منكم هديا} أي كذا وكذا.

وجوابنا: أن تأويل الآة {فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذالك صياما} وأما الاذي يحكم به ذوا عدل فهو تعيين المثل،

أما في القيمة أو في الخلقة.

ثم قال تعالى: {ليذوق وبال أمره} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: الوبال في اللغة: عبارة عما فيه من الثقل والمكروه.

يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة، وماء وبيل إذا لم يستمر، أو الطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا ينهضم، قال تعالى:

{فأخذناه أخذا وبيلا} (المزمل: ١٦) أي ثقيلا.

المسألة الثانية: إنما سمى اللّه تعالى ذلك وبالا لأنه خيره بين ثلاثة أشياء: اثنان منها توجب تنقيص المال، وهو ثقيل على الطبع، وهما الجزاء بالمثل والاطعام،

والثالث: يوجب إيلام البدن وهو الصوم، وذلك أيضا ثقيل على الطبع، والمعنى: أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام.

ثم قال تعالى: {عفا اللّه عما سلف ومن عاد فينتقم اللّه منه واللّه عزيز ذو انتقام}

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في الآية وجهان:

الأول: عفا اللّه عما مضى في الجاهلية وعما سلف قبل التحريم في الإسلام.

القول الثاني: وهو قول من لا يوجب الجزاء إلا في المرة الأولى،

أما في المرة الثانية فإنه لا يوجب الجزاء عليه ويقول إنه أعظم من أن يكفره التصدق بالجزاء، فعلى هذا المراد: عفا اللّه عمال سلف في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء، ومن عاد إليه مرة ثانية فلا كفارة لجرمه بل ينتقم اللّه منه.

وحجة هذا القول: أن الفاء في وقله {فينتقم اللّه منه} فاء الجزاء، والجزاء هو الكافي، فهذا يقتضي أن هذا الانتقام كاف في هذا الذنب، وكونه كافيا يمنع من وجوب شيء آخر، وذلك يقتضي أن لا يجب الجزاء عليه.

المسألة الثانية: قال سيبويه في قوله {ومن عاد فينتقم اللّه منه} وفي قوله {ومن كفر فأمتعه قليلا} (البقرة: ١٢٦) وفي قوله {فمن يؤمن بربه فلا يخاف} (الجن: ١٣) إن في هذه الآيات إضمارا مقدرا والتقدير: ومن عاد فهو ينتقم اللّه منه، ومن كفر فأنا أمتعه، ومن يؤمن بربه فهو لا يخاف، وبالجملة فلا بد من إضمار مبتدأ يصير ذلك الفعل خبرا عنه، والدليل عليه: أن الفعل يصير بنفسه جزاء، فلا حاجة إلى إدخال حرف الجزاء عليه فيصير إدخال حرف الفاء على الفعل لغوا

أما إذا أضمرنا المبتدأ احتجنا إلى إدخال حرف الفاء عليه ليرتبط بالشرط فلا تصير الفاء لغوا واللّه أعلم.

﴿ ٩٥