٨

{وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون ...}.

اعلم أن هذا النوع الثالث من شبه منكري النبوات فإنهم يقولون: لو بعث اللّه إلى الخلق رسولا لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة فإنهم إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر، وقدرتهم أشد، ومهابتهم أعظم، وامتيازهم عن الخلق أكمل، والشبهات والشكوك في نبوتهم ورسالتهم أقل.

والحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شيء كان أشد إفضاء إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى.

فلما كان وقوع الشبهات في نبوة الملائكة أقل، وجب لو بعث اللّه رسولا إلى الخلق أن يكون ذلك الرسول من الملائكة هذا هو المراد من قوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك}.

واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين:

أما الأول: فقوله {ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر} ومعنى القضاء الإتمام والإلزام. وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة.

ثم هاهنا وجوه:

الأول: أن إنزال الملك على البشر آية باهرة، فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء اللكفار فربما لم يؤمنوا كما قال: {ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة} إلى قوله {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه} (الأنعام: ١١١) وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال، فإن سنة اللّه جارية بأن عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال، فهاهنا ما أنزل اللّه تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب

والوجه الثاني: أنهم إذا شاهدوا الملك رهقت أرواحهم من هول ما يشهدون، وتقريره: أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر.

فإن كان الأول لم يبق الآدمي حيا، ألا ترى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رأى جبريل عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصا على صورة البشر، وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكا أو بشرا.

ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم، وأضياف لوط، وكالذين تسوروا المحراب، وكجبريل حيث تمثل لمريم بشرا سويا.

والوجه الثالث: أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الالجاء، وإزالة الاختيار، وذلك مخل بصحة التكليف.

الوجه الرابع: أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر، وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت، فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه.

وأما قوله {ثم لا ينظرون} فالفائدة في كلمة {ثم} التنبيه على أن عدم الانظار أشد من قضاء الأمر، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة.

﴿ ٨