١٤

ولما قرر هذه المعاني قال {قل أغير اللّه أتخذ وليا}.

واعلم انه فرق بين أن يقال {أغير اللّه أتخذ وليا} وبين أن يقال: أتخذ غير اللّه وليا.

لأن الانكار إنما حصل على اتخاذ غير اللّه وليا، لا على اتخاذ الولي، وقد عرفت أنهم يقدمون إلهم فإلهم الذي هم بشأنه أعني فكان قوله {قل أغير اللّه أتخذ وليا} أولى من العبارة الثانية، ونظيره قوله تعالى {أفغير اللّه تأمروني أعبد} [الزمر: ٦٤] وقوله تعالى {اللّه أذن لكم} [يونس: ٥٩].

ثم قال {فاطر السموات والأرض} وقرئ فاطر السموات بالجر صفة للّه وبالرفع على إضمار هو والنصب على المدح.

وقرأ الزهري فطر السموات وعن ابن عباي: ما عرفت فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال

أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها.

وقال ابن الأنباري: أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه، فقوله {فاطر السموات والأرض} يريد خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضم الأشياء إلى بعض، فلما كان الشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح، وفي حال أخرى شق إفساد. ففاطر السموات من الاصلاح لا غير.

وقوله {هل ترى من فطور} [الملك: ٣] و{إذا السماء انفطرت} [الانفطار: ١] من الإفساد، وأصلهما واحد.

ثم قال تعالى {وهو يطعم ولا يطعم} أي وهو الرزاق لغيره ولا يرزقه أحد.

فإن قيل: كيف فسرت الاطعام بالرزق، وقد قال تعالى {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} {الذاريات: ٥٧} والعطف يوجب المغايرة؟

قلنا: لا شك في حصول المغايرة بينهما، إلا أنه قد يحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر لشدة ما بينهما من المقاربة~.

والمقصود من الآية: أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. وقرئ {ولا يطعم} بفتح الياء، وروى ابن المأمون عن يعقوب {وهو يطعم ولا يطعم} على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، وعلى هذا التقدير: فالضمير عائد إلى المذكور في قوله {أغير اللّه} وقرأ الأشهب {وهو يطعم ولا يطعم} على بنائهما للفاعل، وفسر بأن معناه: وهو يطعم ولا يستطعم.

وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى استطعمت.

ويجوز أن يكون المعنى: وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح كقوله: وهو يعطي ويمنع، ويبسط ويقدر، ويغني ويفقر.

واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير اللّه تعالى وليا.

واحتج عليه بأنه فاطر السموات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم. ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليا.

أما بيان أنه فاطر السموات والأرض،

فلأنا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يقع موجودا إلا بإيجاد غيره، فنتج أن ما سوى اللّه فهو حاصل بإيجاده وتكوينه.

فثبت أنه سبحانه هو الفاطر لكل ما سواه من الموجودات

وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهره؛ لأن الاطعام عبارة عن إيصال المنافع، وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع.

ولما كان واجبا لذاته كان لا محالة غنيا ومتعاليا عن الانتفاع بشيء آخر.

فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السموات والأرض، وصحة أن يطعم ولا يطعم، وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غيره وليا، لأن ما سواه محتاج في ذاته وفي جميع صفاته وفي جميع ما تحت يده. والحق سبحانه هو الغني لذاته، الجواد لذاته.

وترك الغني الجواد، والذهاب إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل.

وإذا عرفت هذا فنقول: قد سبق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة: هو القريب. وقد ذكرنا وجوه الاشتقاقات فيه.

فقوله {قل أغير اللّه أتخذ وليا} يمنع من القرب من غير اللّه تعالى.

فهذا يقتضي تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير اللّه تعالى، وقطع العلائق عن كل ما سوى اللّه تعالى.

ثم قال تعالى {قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم} والسبب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سابق أمته في الإسلام لقوله {وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: ١٦٣] ولقول موسى {سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} [الأعراف: ١٤٣]

ثم قال: {ولا تكونن من المشركين} ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.

﴿ ١٤