١٢٧{لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون}. اعلم أنه تعالى لما بين عظيم نعمه في الصراط المستقيم وبين أنه تعالى معد مهيىء لمن يكون من المذكورين بين الفائدة الشريفة التي تحصل من التمسك بذلك الصراط المستقيم، فقال: {لهم دار السلام عند ربهم} وفي هذه الآية تشريفات. النوع الأول: قوله: {لهم دار السلام} وهذا يوجب الحصر، فمعناه: لهم دار السلام لا لغيرهم، وفي قوله: {دار السلام} قولان: القول الأول: أن السلام من أسماء اللّه تعالى، فدار السلام هي الدار المضافة إلى اللّه تعالى، كما قيل للكعبة ـ بيت اللّه تعالى ـ وللخليفة ـ عبد اللّه ـ . والقول الثاني: أن السلام صفة الدار، ثم فيه وجهان: الأول: المعنى دار السلامة، والعرب تلحق هذه الهاء في كثير من المصادر وتحذفها يقولون ضلال وضلالة، وسفاه وسفاهة، ولذاذ ولذاذة، ورضاع ورضاعة. الثاني: أن السلام جمع السلامة، وإنما سميت الجنة بهذا الاسم لأن أنواع السلامة حاصلة فيها بأسرها. إذا عرفت هذين القولين: فالقائلون بالقول الأول قالوا به لأنه أولى، لأن إضافة الدار إلى اللّه تعالى نهاية في تشريفها وتعظيمها وإكبار قدرها، فكان ذكر هذه الإضافة مبالغة في تعظيم الأمر والقائلون بالقول الثاني رجحوا قولهم من وجهين: الأول: أن وصف الدار بكونها دار السلامة أدخل في الترغيب من إضافة الدار إلى اللّه تعالى، والثاني: أن وصف اللّه تعالى بأنه السلام في الأصل مجاز، وإنما وصف بذلك لأنه تعالى ذو السلام، فإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته كان أولى. النوع الثاني: من الفوائد المذكورة في هذه الآية قوله: {عند ربهم} وفي تفسيره وجوه: الوجه الأول: المراد أنه معد عنده تعالى كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة، ونظيره قوله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم} وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها، وكونهم على ثقة من ذلك. الوجه الثاني: وهو الأقرب إلى التحقيق أن قوله: {عند ربهم} يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من اللّه تعالى، وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة، فوجب كونه بالشرف والعلو والرتبة، وذلك يدل على أن ذلك الشيء بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يعرف كنهه إلا اللّه تعالى، ونظيره قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} (السجدة: ١٧). الوجه الثالث: أنه قال في صفة الملائكة: {ومن عنده لا يستكبرون} وقال في صفة المؤمنين في الدنيا ـ أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي ـ وقال أيضا ـ أنا عند ظن عبدي بي ـ وقال في صفتهم يوم القيامة: {فى مقعد صدق عند مليك مقتدر} (القمر: ٥٥) وقال في دارهم: {لهم دار السلام عند ربهم} وقال في ثوابهم: {جزاؤهم عند ربهم} (البينة: ٨) وذلك يدل على أن حصول كمال صفة العبودية بواسطة صفة العندية. النوع الثالث: من التشريفات المذكورة في هذه الآية قوله: {وهو وليهم} والولي معناه القريب، فقوله: {عند ربهم} يدل على قربهم من اللّه تعالى، وقوله: {وهو وليهم} يدل على قرب اللّه منهم، ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة، وأيضا فقوله: {وهو وليهم} يفيد الحصر، أي لا ولي لهم إلا هو، وكيف وهذا التشريف إنما حصل على التوحيد المذكور في قوله: {فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} فهؤلاء الأقوام قد عرفوا من هذه الآية أن المدبر والمقدر ليس إلا هووأن النافع والضار ليس إلا هو، وأن المسعد والمشقي ليس إلا هو، وأنه لا مبدىء للكائنات والممكنات إلا هو، فلما عرفوا هذا انقطعوا عن كل ما سواه، فما كان رجوعهم إلا إليه، وما كان توكلهم إلا عليه، وما كان أنسهم إلا به، وما كان خضوعهم إلا له، فلما صاروا بالكلية، لا جرم قال تعالى: {وهو وليهم} وهذا إخبار بأنه تعالى متكفل بجميع مصالحهم في الدين والدنيا، ويدخل فيها الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة وإيصال الخيرات ودفع الآفات والبليات. ثم قال تعالى: {بما كانوا يعملون} وإنما ذكر ذلك لئلا ينقطع المرء عن العمل، فإن العمل لا بد منه، وتحقيق القول فيه: أن بين النفس والبدن تعلقا شديدا، فكما أن الهيآت النفسانية قد تنزل من النفس إلى البدن، مثل ما إذا تصور أمرا مغضبا ظهر الأثر عليه في البدن، فيسخن البدن ويحمى، فكذلك الهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس، فإذا واظب الإنسان على أعمال البر والخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس، وذلك يدل على أن السالك لا بد له من العمل، وأنه لا سبيل له إلى تركه البتة. |
﴿ ١٢٧ ﴾