٧

 {فلنقصن عليهم بعلم} والمراد أنه تعالى يكرر ويبين للقوم ما أعلنوه وأسروه من أعمالهم، وأن يقص الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال، ثم بين تعالى أنه إنما يصح منه أن يقص تلك الأحوال عليهم لأنه ما كان غائبا عن أحوالهم بل كان عالما بها.

وما خرج عن علمه شيء منها، وذلك يدل على أن الإلهية لا تكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيات، حتى يمكنه أن يميزالمطيع عن العاصي، والمحسن عن المسيء، فظهر أن كل من أنكر كونه تعالى عالما بالجزئيات، امتنع منه الاعتراف بكونه تعالى آمرا ناهيا مثيبا معاقبا، ولهذا السبب فإنه تعالى أينما ذكر أحوال البعث والقيامة بين كونه عالما بجميع المعلومات.

المسألة الثالثة: قوله تعالى: {فلنقصن عليهم بعلم} يدل على أنه تعالى عالم بالعلم، وأن قول من يقول: إنه لا علم للّه قول باطل.

فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: {فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين} وبين قوله: {فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان} (الرحمان: ٣٩) وقوله: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} (القصص: ٧٨).

قلنا فيه وجوه: أحدها: أن القوم لا يسألون عن الأعمال، لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتم عنها.

وثانيها: أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة، وقد يكون لأجل التوبيخ والاهانة، كقول القائل ألم أعطك وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يبنى * وإذ أخذ} (يس: ٦٠) قال الشاعر:

( ألستم خير من ركب المطايا)

إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (الصافات: ٢٧) ثم قال: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} (المؤمنون: ١٠١) فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضا، والدليل عليه قول: {فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون} (القلم: ٣٠)

وقوله: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} (القلم: ٣٠) معناه أنه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف، لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.

والوجه الثالث: في الجواب: أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة، فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال، وعن بعضها بعدم السؤال.

المسألة الرابعة: الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده، لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلا أو مرسلا إليهم، ويبطل قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار.

المسألة الخامسة: الآية تدل على كونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة، لأنه تعالى قال: {وما كنا غائبين} ولو كان تعالى على العرش لكان غائبا عنا.

فإن قالوا: نحمله على أنه تعالى ما كان غائبا عنهم بالعلم والإحاطة.

قلنا: هذا تأويل والأصل في الكلام حمله على الحقيقة.

فإن قالوا: فأنتم لما قلتم أنه تعالى غير مختص بشيء من الأحياز والجهات، فقد قلتم أيضا بكونه غائبا.

قلنا: هذا باطل لأن الغائب هو الذي يعقل أن يحضر بعد غيبة، وذلك مشروط بكونه مختصا بمكان وجهة، فأما الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة وكان ذلك محالا في حقه، امتنع وصفه بالغيبة والحضور، فظهر الفرق واللّه أعلم.

﴿ ٧