١٦{ قال فبما أغويتنى} المسألة الثانية: قول إبليس: {فبما * أغويتنى} يدل على أنه أضاف إغواءه إلى اللّه تعالى، وقوله في آية أخرى: {فبعزتك لاغوينهم أجمعين} (ص: ٨٢) يدل على أنه أضاف إغواء العباد إلى نفسه. فالأول: يدل على كونه على مذهب الجبر. والثاني: يدل على كونه على مذهب القدر، وهذا يدل على أنه كان متحيرا في هذه المسألة، أو يقال: أنه كان يعتقد أن الإغوار لا يحصل إلا بالمغوي فجعل نفسه مغويا لغيره من الغاوين، ثم زعم أن المغوي له هو اللّه تعالى قطعا للتسلسل، واختلف الناس في تفسير هذه الكلمة، أما أصحابنا فقالوا: الإغواء إيقاع الغي في القلب، والغي هو الاعتقاد الباطل وذلك يدل على أنه كان يعتقد أن الحق والباطل إنما يقع في القلب من اللّه تعالى. أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان: أحدهما: أن يفسروا الغي بما ذكرناه. والثاني: أن يذكروا في تفسيره وجها آخر. أما الوجه الأول: فلهم فيه أعذار. الأول: أن قالوا هذا قول إبليس فهب أن إبليس اعتقد أن خالق الغي والجهل والكفر هو اللّه تعالى، إلا أن قوله ليس بحجة. الثاني: قالوا: إن اللّه تعالى لما أمر بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر غيه وكفره فجاز أن يضيف ذلك الغي إلى اللّه تعالى بهذا المعنى، وقد يقول القائل: لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضر بك عنده. الثالث: {قال رب بمآ أغويتنى} {...لاقعدن لهم} والمعنى: إنك بما لعنتني بسبب آدم فإنا لأجل هذه العداوة ألقى الوساوس في قلوبهم. الرابع: {رب بمآ أغويتنى} أي خيبتني من جنتك عقوبة على عملي لأقعدن لهم. الوجه الثاني: في تفسير الإغواء ـ الاهلاك ـ ومنه قوله تعالى: {فسوق * يلقون غيا} (مريم: ٥٩) أي هلاكا وويلا، ومنه أيضا قولهم: غوى الفصيل يغوي غوى إذا أكثر من اللبن حتى يفسد جوفه، ويشارف الهلاك والعطب، وفسروا قوله: {إن كان اللّه يريد أن يغويكم} (هود: ٣٤) إن كان اللّه يريد أن يهلككم بعنادكم. الحق، فهذه جملة الوجوه المذكورة. واعلم أنا لا نبالغ في بيان أن المراد من الإغواء في هذه الآية الإضلال، لأن حاصله يرجع إلى قول إبليس وأنه ليس بحجة، إلا أنا نقيم البرهان اليقيني على أن المغوي لإبليس هو اللّه تعالى، وذلك لأن الغاوي لا بد له من مغو، كما أن المتحرك لا بد له من محرك، والساكن لا بد له من مسكن، والمهتدي لا بد له من هاد. فلما كان إبليس غاويا فلا بد له من مغوي، والمغوي له أما أن يكون نفسه أو مخلوقا آخر أو اللّه تعالى، والأول: باطل. لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية. والثاني: باطل وإلا لزم أما التسلسل وأما الدور. والثالث: هو المقصود. واللّه أعلم. المسألة الثالثة: الباء في قوله: {فبما أغويتنى} فيه وجوه: الأول: إنه باء القسم أي بإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم أي، بقدرتك علي ونفاذ سلطانك في لأقعدن لهم على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة، بأن أزين لهم الباطل، وما يكسبهم المآثم، ولما كانت {*الباء} باء القسم كانت {*اللام} جواب القسم {منكم وما} بتأويل المصدر و {أغويتنى} صلتها. والثاني: أن قوله: {فبما أغويتنى} أي فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم، والمراد إنك لما أغويتني فأنا أيضا أسعى في إغوائهم. الثالث: قال بعضهم: {ما} في قوله: {فيما * أغويتنى} للاستفهام. كأنه قيل: بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ وقال: {لاقعدن لهم} وفيه إشكال، وهو أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على "ما" الاستفهامية قليل. المسألة الرابعة: قوله: {لاقعدن لهم صراطك المستقيم} لا خلاف بين النحويين أن "على" محذوف والتقدير: لأقعدن لهم على صراطك المستقيم. قال الزجاج: مثاله قولك ضرب زيد الظهر والبطن والمعنى على الظهر والبطن. وإلقاء كلمة "على" جائز، لأن الصراط ظرف في المعنى: فاحتمل ما يحتمله لليوم والليلة، في قولك آتيك غدا وفي غد. إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {لاقعدن لهم صراطك المستقيم} فيه أبحاث. البحث الأول: المراد منه أنه يواظب على الإفساد مواطبة لا يفتر عنها، ولهذا المعنى ذكر القعود لأن من أراد أن يبالغ في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود ومواظبته على الإفساد هي مواظبته على الوسوسة حتى لا يفتر عنها. والبحث الثاني: إن هذه الآية تدل على أنه كان عالما بالدين الحق والمنهج الصحيح، لأنه قال: {لاقعدن لهم صراطك المستقيم} وصراط اللّه المستقيم هو دينه الحق. البحث الثالث: الآية تدل على أن إبليس كان عالما بأن الذي هو عليه من المذهب والاعتقاد هو محض الغواية والضلال، لأنه لو لم يكن كذلك لما قال: {رب بمآ أغويتنى} وأيضا كان عالما بالدين الحق، ولولا ذلك لما قال: {لاقعدن لهم صراطك المستقيم}. وإذا ثبت هذا فكيف يمكن: أن يرضى إبليس بذلك المذهب مع علمه بكونه ضلالا وغواية وبكونه مضادا للدين الحق ومنافيا للصراط المستقيم. فإن المرء إنما يعتقد الفاسد إذا غلب على ظنه كونه حقا، فأما مع العلم بأنه باطل وضلال وغواية يستحيل أن يختاره ويرضى به ويعتقده. واعلم أن من الناس من قال أن كفر إبليس كفر عناد لا كفر جهل لأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية، فقد علم أن ضده هو الحق، فكان إنكاره إنكارا بمحض اللسان، فكان ذلك كفر عناد، ومنهم من قال لا. بل كفره كفر جهل وقوله: {فبما أغويتنى} وقوله: {لاقعدن لهم * الصراط المستقيم} يريد به في زعم الخصم، وفي اعتقاده. واللّه أعلم. المسألة الخامسة: احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على اللّه رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه وتقريره أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله اللّه تعالى، ثم بين أنه إنما استمهله لإغواء الخلق وإضلالهم وإلقاء الوساوس في قلوبهم، وكان تعالى عالما بأن أكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسوسته كما قال تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين} (سبأ: ٢٠) فثبت بهذا أن إنظار إبليس، وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الكبير، فلو كان تعالى مراعيا لمصالح العباد لامتنع أن يمهله، وإن يمكنه من هذه المفاسد فحيث أنظره وأمهله علمنا أنه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلا، ومما يقوي ذلك أنه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق، وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال، ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك. قالت المعتزلة: اختلف شيوخنا في هذه المسألة. فقال الجبائي: إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه، ولا يضل بقوله أحد إلا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضا، والدليل عليه قوله تعالى: {ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم} (الصافات: ١٦٢ ـ ١٦٣) ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة. وقال أبو هاشم يجوز أن يضل به قوم، ويكون خلقه جاريا مجرى خلق زيادة الشهوة، فإن هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلا أن الامتناع منها يصير أشق، ولأجل تلك الزيادة من المشقة تحصل الزيادة في الثواب، فكذا ههنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق، ولكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء والإكراه. والجواب: أما قول أبي علي فضعيف، وذلك لأن الشيطان لا بد وأن يزين القبائح في قلب الكافر ويحسنها إليه، ويذكره ما في القبائح من أنواع اللذات والطيبات، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حصول هذا التذكير والتزيين لا يكون مساويا لحاله عند عدم هذا التذكير، وهذا التزيين والدليل عليه العرف، فإن الإنسان إذا حصل له جلساء يرغبونه في أمر من الأمور ويحسنونه في عينه ويسهلون طريق الوصول إليه ويواظبون على دعوته إليه، فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التذكير والتحسين والتزيين. والعلم به ضروري، وأما قول أبي هاشم فضعيف أيضا لأنه إذا صار حصول هذا التذكير والتزيين حاصلا للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعيا في إلقائه في المفسدة، وما ذكره من خلق الزيادة في الشهوة، فهو حجة أخرى لنا في أن اللّه تعالى لا يراعي المصلحة، فكيف يمكنه أن يحتج به؟ والذي يقرره غاية التقرير: أن لسبب حصول تلك الزيادة في الشهوة يقع في الكفر وعقاب الأبد ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أنه يزداد ثوابه من اللّه تعالى بسبب زيادة تلك المشقة وحصول هذه الزيادة من الثواب شيء لا حاجة إليه ألبتة، أما دفع العقاب المؤبد فإليه أعظم الحاجات، فلو كان إله العالم مراعيا لمصالح العباد لاستحال أن يهمل إلهم الأكمل الأعظم لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها ولا ضرورة، فثبت فساد هذه المذاهب وأنه لا يجب على اللّه تعالى شيء أصلا. واللّه أعلم بالصواب. |
﴿ ١٦ ﴾