٨٠

{استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ...}.

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: إن عند نزول الآية الأولى في المنافقين، قالوا: يا رسول اللّه استغفر لنا.

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأستغفر لكم، وأشتغل بالاستغفار لهم، فنزلت هذه الآية، فترك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الاستغفار.

وقال الحسن: كانوا يأتون رسول اللّه، فيعتذرون إليه ويقولون إن أردنا إلا الحسنى وما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، فنزلت هذه الآية.

وروى الأصم: أنه كان عبد اللّه بن أبي بن سلول إذا خطب الرسول.

قام وقال هذا رسول اللّه أكرمه اللّه وأعزه ونصره، فلما قام ذلك ذلك المقام بعد أحد قال له عمر: اجلس يا عدو اللّه، فقد ظهر كفرك وجبهه الناس من كل جهة، فخرج من المسجد، ولم يصل فلقيه رجل من قومه.

فقال له: ما صرفك؟ فحكى القصة.

فقال: ارجع إلى رسول اللّه يستغفر لك.

فقال: ما أبالي أستغفر لي أو لم يستغفر لي فنزل {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لووا * رؤوسهم} (المنافقون: ٥) وجاء المنافقون بعد أحد يعتذرون ويتعللون بالباطل أن يستغفر هم.

المسألة الثانية: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم} وروى الشعبي قال: دعا عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي بن سلول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام: "من أنت؟" فقال: أنا الحباب بن عبد اللّه قال: بل أنت عبد اللّه بن عبد اللّه، إن الحباب هو الشيطان، ثم قرأ هذه الآية.

قال القاضي: ظاهر قوله: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} كالدلالة على طلب القوم منه الاستغفار، وقد حكيت ما روي فيه من الأخبار، والأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس رضي اللّه عنهما أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار، فنزلت هذه الآية.

المسألة الثالثة: من الناس من قال إن التخصيص بالعدد المعين، يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه، وهو مذهب القائلين بدليل الخطاب.

قالوا: والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم} قال عليه السلام: "واللّه لأزيدن على السبعين" ولم ينصرف عنه حتى نزل قوله تعالى: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} (المنافقون: ٦) الآية فكف عنهم.

ولقائل أن يقول: هذا الاستدلال بالعكس أولى، لأنه تعالى لما بين للرسول عليه السلام أنه لا يغفر لهم ألبتة.

ثبت أن الحال فيما وراء العدد المذكور مساو للحال في العدد المذكور، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما وراءه بخلافه.

المسألة الرابعة: من الناس من قال: إن الرسول عليه السلام اشتغل بالاستغفار للقوم فمنعه اللّه منه، ومنهم من قال: إن المنافقين طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لهم فاللّه تعالى نهاه عنه والنهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي مقدما على ذلك الفعل، وإنما قلنا إنه عليه السلام ما اشتغل بالاستغفار لهم لوجوه:

الأول: أن المنافق كافر، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز.

ولهذا السبب أمر اللّه رسوله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام إلا في قوله لأبيه {لاستغفرن لك} (الممتحنة: ٤) وإذا كان هذا مشهورا في الشرع فكيف يجوز الإقدام عليه؟

الثاني: أن استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصرا على القبح والمعصية.

الثالث: أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب.

الرابع: أنه تعالى إذا كان لا يجيبه إليه بقي دعاء الرسول عليه السلام مردودا عند اللّه، وذلك يوجب نقصان منصبه.

الخامس: أن هذا الدعاء لو كان مقبولا من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة.

فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه اللّه منه، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع، بل هو كما يقول القائل لمن سأله الحاجة: لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك، ولا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها فكذا ههنا، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية: {ذالك بأنهم كفروا باللّه} فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وإن بلغ سبعين مرة، كفرهم وفسقهم، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين، فصار هذا التعليل شاهدا بأن المراد إزالة الطمع في أن ينفعهم استغفار الرسول عليه السلام مع إصرارهم على الكفر، ويؤكده أيضا قوله تعالى: {واللّه لا يهدى القوم الفاسقين} والمعنى أن فسقهم مانع من الهداية.

فثبت أن الحق ما ذكرناه.

المسألة الخامسة: قال المتأخرون من أهل التفسير، السبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جميع السبعة عشر مرات، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض والبحار والأقاليم والنجوم والأعضاء، هو هذا العدد.

وقال بعضهم: هذا العدد إنما خص بالذكر ههنا لأنه روى أن النبي عليه السلام كبر على حمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قيل: {إن تستغفر لهم سبعين مرة * عزيز حكيم * مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} (البقرة: ٢٦١)

وقال عليه السلام: "الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة" فلما ذكر اللّه تعالى هذا العدد في معرض التضعيف لرسوله صار أصلا فيه.

﴿ ٨٠