٩١

{ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ...}.

اعلم أنه تعالى لما بين الوعيد في حق من يوهم العذر، مع أنه لا عذر له، ذكر أصحاب الأعذار الحقيقية، وبين أن تكليف اللّه تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط،

وهم أقسام:

القسم الأول: الصحيح في بدنه، الضعيف مثل الشيوخ. ومن خلق في أصل الفطرة ضعيفا نحيفا، وهؤلاء هم المرادون بالضعفاء.

والدليل عليه: أنه عطف عليهم المرضى، والمعطوف مباين للمعطوف عليه، فما لم يحمل الضعفاء على الذين ذكرناهم، لم يتميزوا عن المرضى.

وأما المرضى: فيدخل فيهم أصحاب العمى، والعرج، والزمانة، وكل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة.

والقسم الثالث: الذين لا يجدون إلهبة والزاد والراحلة، وهم الذين لا يجدون ما ينفقون، لأن حضوره في الغزو إنما ينفع إذا قدر على الإنفاق على نفسه.

أما من مال نفسه، أو من مال إنسان آخر يعينه عليه، فإن لم تحصل هذه القدرة، صار كلا ووبالا على المجاهدين ويمنعهم من الاشتغال بالمقصود، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأقسام الثلاثة قال: لا حرج على هؤلاء، والمراد أنه يجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو، وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج، لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة.

أما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم، بشرط أن لايجعل نفسه كلا ووبالا عليهم، كان ذلك طاعة مقبولة.

ثم إنه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطا معينا وهو قوله: {إذا نصحوا للّه ورسوله} ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف، وعن إثارة الفتن، وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا،

أما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم،

وأما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم، فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد.

ثم قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} وقد اتفقوا على أنه دخل تحت قوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} هو أنه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد، واختلفوا في أنه هل يفيد العموم في كل الوجوه؟ فمنهم من زعم أن اللفظ مقصور على هذا المعنى، لأن هذه الآية نزلت فيهم، ومنهم من زعم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمحسن هو الآتي بالإحسان، ورأس أبواب الإحسان ورئيسها، هو قول: لا إله إلا اللّه، وكل من قال هذه الكلمة واعتقدها، كان من المسلمين.

وقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} يقتضي نفي جميع المسلمين، فهذا بعمومه يقتضي أن الأصل في حال كل مسلم براءة الذمة، وعدم توجه مطالبة الغير عليه في نفسه وماله، فيدل على أن الأصل في نفسه حرمة القتل، إلا لدليل منفصل، والأصل في ماله حرمة الأخذ، إلا لدليل منفصل، وأن لا يتوجه عليه شيء من التكاليف، إلا لدليل منفصل، فتصير هذه الآية بهذا الطريق أصلا معتبرا في الشريعة، في تقرير أن الأصل براءة الذمة، فإن ورد نص خاص يدل على وجوب حكم خاص، في واقعة خاصة، قضينا بذل النص الخاص تقديما للخاص على العام، وإلا فهذا النص كاف في تقرير البراءة الأصلية، ومن الناس من يحتج بهذا على نفي القياس.

قال: لأن هذا النص دل على أن الأصل هو براءة الذمة، وعدم الإلزام والتكليف، فالقياس

أما أن يدل على براءة الذمة أو على شغل الذمة،

والأول باطل لأن براءة الذمة لما ثبتت بمقتضى هذا النص، كان إثباتها بالقياس عبثا.

والثاني أيضا باطل، لأن على هذا التقدير يصير ذلك القياس مخصصا لعموم هذا النص وأنه لا يجوز، لما ثبت أن النص أقوى من القياس.

قالوا: وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة، معلومة، ملخصة، بعيدة عن الاضطراب والاختلافات التي لا نهاية لها، وذلك لأن السلطان إذا بعث واحدا من عماله إلى سياسة بلدة، فقال له: أيها الرجل تكليفي عليك، وعلى أهل تلك المملكة، كذا وكذا، وعد عليهم مائة نوع من التكاليف مثلا، ثم قال: وبعد هذه التكاليف ليس لأحد عليهم سبيل، كان هذا تنصيصا منه على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء تلك الأقسام المائة المذكورة، ولو أنه كلف ذلك السلطان بأن ينص على ما سوى تلك المائة بالنفي على سبيل التفصيل كان ذلك محالا، لأن باب النفي لا نهاية له، بل كفاه في النفي أن يقول: ليس لأحد على أحد سبيل إلا فيما ذكرت وفصلت، فكذا ههنا أنه تعالى لما قال: {ما على المحسنين من سبيل} وهذا يقتضي أن لا يتوجه على أحد سبيل، ثم إنه تعالى ذكر في القرآن ألف تكليف، أو أقل أو أكثر، كان ذلك تنصيصا على أن التكاليف محصورة في ذلك الألف المذكور،

وأما فيما وراءه فليس للّه على الخلق تكليف وأمر ونهي، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة سهلة المؤنة كثيرة المعونة، ويكون القرآن وافيا ببيان التكاليف والأحكام، ويكون قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: ٣) حقا، ويصير قوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل: ٤٤) حقا، ولا حاجة ألبتة إلى التمسك بالقياس في حكم من الأحكام أصلا، فهذا ما يقرره أصحاب الظواهر مثل داود الأصفهاني وأصحابه في تقرير هذا الباب.

واعلم أنه تعالى لما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء، بين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط أن يكونوا ناصحين للّه ورسوله، وبين كونهم محسنين، وأنه ليس لأحد عليهم سبيل، ذكر قسما رابعا من المعذورين،

﴿ ٩١