٧

{إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحيواة الدنيا ...}.

اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها، وفي شرح أحوال من يؤمن بها.

فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية.

واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة:

الصفة الأولى: قوله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في تفسير هذا الرجاء قولان:

القول الأول: وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي: معناه: لا يخافون البعث، والمعنى: أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها.

والدليل على تفسير الرجاء ههنا بالخوف قوله تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: ٤٥) وقوله: {وهم من الساعة مشفقون} (الأنبياء: ٤٩) وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى: {ما لكم لا ترجون للّه وقارا} (نوح: ١٣) قال الهذلي:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها والقول الثاني: تفسير الرجاء بالطمع، فقوله: {لا يرجون لقاءنا} أي لا يطمعون في ثوابنا، فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس، كما قال: {قد يئسوا من الاخرة كما يئس الكفار}.

واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد، لأن تفسير الضد بالضد غير جائز، ولا مانع ههنا من حمل الرجاء على ظاهره ألبتة، والدليل عليه أن لقاء اللّه

أما أن يكون المراد منه تجلي جلال اللّه تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه،

وأما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب اللّه تعالى وإلى رحمته.

فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات، فالعاقل كيف لا يرجوه، وكيف لا يتمناه؟ وإن كان الثاني فكذلك، لأن كل أحد يرجو من اللّه تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته، وإذا كان كذلك فكل من آمن باللّه فهو يرجو ثوابه، وكل من لم يؤمن باللّه ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء، فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان باللّه واليوم الآخر.

المسألة الثانية: اللقاء هو الوصول إلى الشيء، وهذا في حق اللّه تعالى محال، لكونه منزها عن الحد والنهاية، فوجب أن يجعل مجازا عن الرؤية، وهذا مجاز ظاهر.

فإنه يقال: لقيت فلانا إذا رأيته، وحمله على لقاء ثواب اللّه يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل.

واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة اللّه تعالى ويكمل إشراقها ويقوي لمعانها، وذلك هو الرؤية، وهي من أعظم السعادات.

فمن كان غافلا عن طلبها معرضا عنها مكتفيا بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين.

الصفة الثانية: من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى: {ورضوا بالحيواة الدنيا}.

واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية،

وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها، واستغراقه في طلبها.

والصفة الثالثة: قوله تعالى: {واطمأنوا بها} وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر اللّه نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى: {الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} (الحج: ٣٥) ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر اللّه تعالى كما قال تعالى: {وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} (الرعد: ٢٨) وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا، وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية: {واطمأنوا بها} فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر اللّه تعالى.

المسألة الثانية: مقتضى اللغة أن يقال: واطمأنوا إليها، إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض، فلهذا السبب قال: {واطمأنوا بها}.

والصفة الرابعة: قوله تعالى: {والذين هم عن ءاياتنا غافلون} والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء اللّه تعالى.

بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية، وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية.

واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال:

﴿ ٧