١٠{دعواهم فيها سبحانك اللّهم} وفيه مسائل: المسألة الأولى: في دعواهم وجوه: الأول: أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء، يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال: شكى يشكو شكاية وشكوى. قال بعض المفسرين: {دعواهم} أي دعاؤهم. وقال تعالى في أهل الجنة: {لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون} (يس: ٥٧) وقال في آية أخرى {يدعون فيها بكل فاكهة ءامنين} (الدخان: ٥٥) ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء. هو أنهم قالوا: اللّهم. وهذا نداء للّه سبحانه وتعالى، ومعنى قولهم: {سبحانك اللّهم} إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: "اللّهم إياك نعبد" الثاني: أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى: {وأعتزلكم وما تدعون من دون اللّه} (مريم: ٤٨) أي وما تعبدون. فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا اللّه ويحمدوه، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل على سبيل الابتهاج بذكر اللّه تعالى. الثالث: قال بعضهم: لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم. والمعنى: أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه اللّه تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصل ذلك أيضا من الدعاء، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. الرابع: قال مسلم: {دعواهم} أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم، وذلك هو قولهم: {سبحانك اللّهم} الخامس: قال القاضي: المراد من قوله: {دعواهم} أي طريقتهم في تمجيد اللّه تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم. والدليل على أن المراد ذلك أن قوله: {سبحانك اللّهم} ليس بدعاء ولا بدعوى، إلا أن المدعي للشيء يكون مواظبا على ذكره، لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر، لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها. السادس: قال القفال: قيل في قوله: {لهم ما * يدعون} (يس: ٥٧) أي ما يتمنونه، والعرب تقول: ادع ما شئت علي، أي تمن. وقال ابن جريج: أخبرت أن قوله: {دعواهم فيها سبحانك اللّهم} هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا {سبحانك اللّهم} فيأتيهم الملك بذلك المشتهى، فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه، على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللّهم، فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني، وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم، وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا اللّه تعالى، أي تمنيهم لما يتمنونه، ليس إلا في تسبيح اللّه تعالى وتقديسه وتنزيهه. السابع: قال القفال أيضا: ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه ويستنصرونه، كقولهم: يا آل فلان، فأخبر اللّه تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم اللّه تعالى، وسكونهم بتحميدهم اللّه. ولذتهم بتمجيدهم اللّه تعالى. المسألة الثانية: أن قوله: {سبحانك اللّهم} فيه وجهان: الوجه الأول: قول من يقول: أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج: إذا مر بهم طيرا اشتهوه؛ قالوا سبحانك اللّهم فيؤتون به، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: {الحمد للّه رب العالمين} وقال الكلبي: قوله: {سبحانك اللّهم} علم بين أهل الجنة والخدام فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون. واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جدا، وبيانه من وجوه: أحدها: أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح، وهذا في غاية الخساسة. وثانيها: أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة: {ولهم ما يشتهون} فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير، فلا حاجة بهم إلى الطلب، وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب، فقد سقط هذا الكلام. وثالثها: أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به، وهذا باطل. الوجه الثاني: في تأويل هذه الآية أن نقول: المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس اللّه سبحانه وتمجيده والثناء عليه، لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به، وكمال حالهم لا يحصل إلا منه، وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه. ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه: أحدها: قال القاضي: إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم، كما ذكر في أول هذه السورة من قوله: {إليه مرجعكم جميعا وعد اللّه حقا} (يونس: ٤) فإذا دخل أهل الجنة الجنة، ووجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن اللّه تعالى كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا: {سبحانك اللّهم} أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول. وثانيها: أن نقول: غاية سعادة السعداء، ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال. واعلم أن معرفة ذات اللّه تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه، بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية. أما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال، وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام، فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصورا عليها، كما قال سبحانه وتعالى: {تبارك اسم ربك ذى الجلال والإكرام} (الرحمان: ٧٨) وكان صلى اللّه عليه وسلم يقول: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات، لا جرم كان ذكر الجلال متقدما على ذكر الإكرام في اللفظ. وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين، لا جرم ذكر اللّه سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس، ولما كان لا نهاية لمعارج جلال اللّه ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه، فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية. وثالثها: أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر، ألا ترى أنهم قالوا: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} (البقرة: ٣٠) فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم، حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد، ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي، فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام، بعد انقراض العالم، ولما كان هذا الذكر مشتملا على هذا الشرف العالي، لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة، فإن المصلي إذا كبر قال: "سبحانك اللّهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك". المرتبة الثالثة: من مراتب سعادات أهل الجنة قوله تعالى: {وتحيتهم فيها سلام} قال المفسرون: تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام، وتحية الملائكة لهم بالسلام، كما قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم} (الرعد: ٢٣) وتحية اللّه تعالى لهم أيضا بالسلام كما قال تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} (يس: ٥٨) قال الواحدي: وعلى هذا التقدير يكون هذا من إضافة المصدر إلى المفعول وعندي فيه وجه آخر: وهو أن مواظبتهم على ذكر هذه الكلمة، مشعرة بأنهم كانوا في الدنيا في منزل الآفات وفي معرض المخافات، فإذا أخرجوا من الدنيا ووصلوا إلى كرامة اللّه تعالى، فقد صاروا سالمين من الآفات، آمنين من المخافات والنقصانات. وقد أخبر اللّه تعالى عنهم بأنهم يذكرون هذا المعنى في قوله: {وقالوا الحمد للّه الذى أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذى أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} (فاطر: ٣٤ ٣٥). المرتبة الرابعة: من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه وتعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل والشرب. فقالوا: إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئا قالوا: سبحانك اللّهم وبحمدك، وإذا أكلوا وفرغوا. قالوا: الحمد للّه رب العالمين، وهذا القائل ما ترقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب، وحقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم. وأما المحقون المحققون، فقد تركوا ذلك، ولهم فيه أقوال. روى الحسن البصري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم" وقال الزجاج: أعلم اللّه تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم اللّه تعالى وتنزيهه. ويختتمون بشكره والثناء عليه، وأقول: عندي في هذا الباب وجوه أخر: فأحدها: أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللّهم وبحمدك، وعاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء. فقالوا: {الحمد للّه رب العالمين} وإنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح اللّه تعالى وتمجيده من أعظم نعم اللّه تعالى عليهم. والاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة، فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة، وثانيها: أن لكل إنسان بحسب قوته معراجا، فتارة ينزل عن ذلك المعراج، وتارة يصعد إليه. ومعراج العارفين الصادقين، معرفة اللّه تعالى وتسبيح اللّه وتحميد اللّه، فإذا قالوا: {سبحانك اللّهم} فهم في عين المعراج، وإذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات. كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين وإليه الإشارة بقوله: {وتحيتهم فيها سلام} ثم أنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه، وعند الصعود يقول: {الحمد للّه رب العالمين} فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول والعروج. وثالثها: أن نقول: إن قولنا اللّه اسم لذات الحق سبحانه، فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال، وهي المشار إليها بقوله: {سبحانك} ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات، ترقيا يليق بالطاقة البشرية، وهي المشار إليها بقوله: {اللّهم} فإذا عرج عن ذلك المكان. واخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام، وهو المشار إليه بقوله: {الحمد للّه رب العالمين} فهذه كلمات خطرت بالبال ودارت في الخيال، فإن حقت فالتوفيق من اللّه تعالى، وإن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة اللّه تعالى. المسألة الثانية: قال الواحدي: {ءان} في قوله: {أن الحمد للّه} هي المخففة من الشديدة، فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله: أن هالك كل من يخفى وينتعل على معنى أنه هالك. وقال صاحب "النظم" {ءان} ههنا زائدة، والتقدير: وآخر دعواهم الحمد للّه رب العالمين، وهذا القول ليس بشيء، وقرأ بعضهم {ءان} الحمد للّه بالتشديد، ونصب الحمد. |
﴿ ١٠ ﴾