٩

{ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور}.

اعلم أنه تعالى لما ذكر أن عذاب أولئك الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بد وأن يحيق بهم، ذكر بعده ما يدل على كفرهم، وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب.

فقال: {ولئن أذقنا الإنسان}

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لفظ {الإنسان} في هذه الآية فيه قولان:

القول الأول: أن المراد منه مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه:

الأول: أنه تعالى استثنى منه قوله: {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات} والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر، وذلك يدل على ما قلناه.

الثاني: أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله تعالى: {والعصر * إن الإنسان * لفى * خسر * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (العصر: ١ ـ ٣) وموافقة أيضا لقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا} (المعارج: ١٩ ـ ٢١)

الثالث: أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز.

قال ابن جريج في تفسير هذه الآية يا ابن آدم إذا نزلت لك نعمة من اللّه فأنت كفور، فإذا نزعت منك فيؤس قنوط.

والقول الثاني: أن المراد منه الكافر، ويدل عليه وجوه:

الأول: ن الأصل في المفرد المحلى بالألف واللام أن يحمل على المعهود السابق لولا المانع، وههنا لا مانع فوجب حمله عليه والمعهود السابق هو الكافر المذكور في الآية المتقدمة.

الثاني: أن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر لأنه وصفه بكونه يؤسا، وذلك من صفات الكافر لقوله تعالى: {يبنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من} (يوسف: ٨٧) ووصفه أيضا بكونه كفورا، وهو تصريح بالكفر ووصفه أيضا بأنه عند وجدان الراحة يقول: ذهب السيئات عني، وذلك جراءة على اللّه تعالى، ووصفه أيضا بكونه فرحا و{اللّه لا يحب الفرحين} (القصص: ٧٦) ووصفه أيضا بكونه فخورا، وذلك ليس من صفات أهل الدين.

ثم قال الناظرون لهذا القول: وجب أن يحمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع حتى لا تلزمنا هذه المحذورات.

المسألة الثانية: لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم، فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان، وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران فالدنيا في نفسها قليلة، والحاصل منها للإنسان الواحد قليل، والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين، فهذه الإذاقة من قليل، ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها.

وأما النعماء فقال الواحدي: إنها إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء مضرة يظهر أثرها على صاحبها، لأنها خرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حمراء وعوراء، وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء، والمضرة والضراء.

المسألة الثالثة: اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية بل هي أبدا في التغير والزوال، والتحول والانتقال، إلا أن الضابط فيه أنه

أما أن يتحول من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات

وأما أن يكون بالعكس من ذلك، وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب، ومن المحرمات إلى الطيبات.

﴿ ٩