٥٦

{وكذالك مكنا ليوسف فى الارض يتبوأ منها ...}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك اللّه عن الملك أنه قال: قد فعلت، بل اللّه سبحانه قال: {وكذالك مكنا ليوسف فى الارض} فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره: قال الملك قد فعلت، إلا أن تمكين اللّه له في الأرض يدل على أن الملك الملك قد أجابه إلى ما سأل.

وأقول: ما قالوه حسن، إلا أن ههنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر

وأما المؤثر الحقيقي: فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكنا من القبول ومن الرد، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي، وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول، فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك، وذلك الترجح لا يكون إلا بمرجح يخلقه اللّه تعالى، إذا خلق اللّه تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة، فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق اللّه تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر، فلهذا السبب ترك اللّه تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو.

المسألة الثانية: روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت، فقال يوسف عليه السلام:

أما السرير فأشد به ملكك

وأما الخاتم فأدبر به أمرك،

وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وجلس على السرير ودانت له القوم، وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيرا مما طلبت، فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا واللّه ما رأينا ملكا أعظم شأنا من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيدا له فلما سمع ذلك قال إني أشهد اللّه أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب "الكشاف" واللّه أعلم.

المسألة الثالثة: قوله: {وكذالك} الكاف منصوبة بالتمكين، وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس، وقوله: {مكنا ليوسف فى الارض} أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله: {يتبوأ منها حيث يشاء} يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير: {نشاء} بالنون مضافا إلى اللّه تعالى والباقون بالياء مضافا إلى يوسف.

واعلم أن قوله: {يتبوأ منها حيث يشاء} يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد، ولا ينازعه منازع بل صار مستقلا بكل ما شاء وأراد ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال: {نصيب برحمتنا من نشاء}.

واعلم أنه تعالى ذكر أولا أن ذلك التمكين كان من اللّه لا من أحد سواه وهو قوله: {كذالك * مكنا ليوسف فى الارض} ثم أكد ذلك ثانيا بقوله: {نصيب برحمتنا من نشاء} وفيه فائدتان: الفائدة

 الأولى: أن هذا يدل على أن الكل من اللّه تعالى.

قال القاضي: تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها اللّه تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى.

وجوابه: أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل اللّه تعالى، لأن لفظ القرآن يدل على قولنا، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه. الفائدة

 الثانية: أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة. قال القاضي: هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح.

قلنا: الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه.

ثم قال تعالى: {ولا نضيع أجر المحسنين} وذلك لأن إضاعة الأجر

 أما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق اللّه تعالى، فكانت الإضاعة ممتنعة.

واعلم أن هذا شهادة من اللّه تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول

بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال: إنه كان من المحسنين، فههنا لزم

أما تكذيب اللّه في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق.

﴿ ٥٦