١١

{قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن اللّه يمن على من يشآء من عباده ...}

اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة، حكى عن الأنبياء عليهم السلام جوابهم عنها.

أما الشبهة الأولى: وهي قولهم: {إن أنتم إلا بشر مثلنا} فجوابه: أن الأنبياء سلموا أن الأمر كذلك، لكنهم بينوا أن التماثل في البشرية والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأن هذا المنصب منصب يمن اللّه به على من يشاء من عباده، فإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الشبهة.

واعلم أن هذا المقام فيه بحث شريف دقيق، وهو أن جماعة من حكماء الإسلام قالوا: إن الإنسان ما لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصا بخواص شريفة علوية قدسية، فإنه يمتنع عقلا حصول صفة النبوة له.

وأما الظاهريون من أهل السنة والجماعة، فقد زعموا أن حصول النبوة عطية من اللّه تعالى يهبها لكل من يشاء من عباده، ولا يتوقف حصولها على امتياز ذلك الإنسان عن سائر الناس بمزيد إشراق نفساني وقوة قدسية، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية، فإنه تعالى بين أن حصول النبوة ليس إلا بمحض المنة من اللّه تعالى والعطية منه، والكلام من هذا الباب غامض غائص دقيق، والأولون أجابوا عنه بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسدانية تواضعا منهم، واقتصروا على قولهم: {ولاكن اللّه يمن على من يشاء من عباده} بالنبوة، لأنه قد علم أنه تعالى لا يخصهم بتلك الكرامات إلا وهم موصوفون بالفضائل التي لأجلها استوجبوا ذلك التخصيص، كما قال تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام: ١٢٤).

وأما الشبهة الثانية: وهي قولهم: إطباق السلف على ذلك الدين يدل على كونه حقا، لأنه يبعد أن يظهر للرجل الواحد ما لم يظهر للخلق العظيم، فجوابه: عين الجواب المذكور عن الشبهة الأولى، لأن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب عطية من اللّه تعالى وفضل منه، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية وأن يحرم الجمع العظيم منها.

وأما الشبهة الثالثة: وهي قولهم: إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية.

فالجواب عنها: قوله تعالى: {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن اللّه} وشرح هذا الجواب أن المعجزة التي جئنا بها وتمسكنا بها حجة قاطعة وبينة قاهرة ودليل تام، فأما الأشياء التي طلبتموها فهي أمور زائدة والحكم فيها للّه تعالى فإن خلقها وأظهرها فله الفضل وإن لم يخلقها فله العدل ولا يحكم عليه بعد ظهور قدر الكفاية.

ثم إنه تعالى حكى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم قالوا بعد ذلك: {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بذلك الجواب فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف والوعيد، وعند هذا قالت الأنبياء عليهم السلام: لا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على اللّه واعتمادنا على فضل اللّه ولعل اللّه سبحانه كان قد أوحى إليهم أن أولئك الكفرة لا يقدرون على إيصال الشر والآفة إليهم وإن لم يكن حصل هذا الوحي فلا يبعد منهم أن لا يلتفتوا إلى سفاهتهم لما أن أرواحهم كانت مشرقة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء عالم الغيب والروح متى كانت موصوفة بهذه الصفات فقلما يبالي بالأحوال الجسمانية وقلما يقيم لها وزنا في حالتي السراء والضراء وطورى الشدة والرخاء، فلهذا السبب توكلوا على اللّه وعولوا على فضل اللّه وقطعوا أطماعهم عما سوى اللّه،

﴿ ١١