١٢أما قوله تعالى: {كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين} ففيه مسألتان: المسألة الأولى: السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون، وقيل: في قوله: {ما سلككم فى * سفر} (المدثر: ٤٢) أي أدخلكم في جهنم. وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد: سلكته وأسلكته بمعنى واحد. المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار، فقالوا: قوله {كذلك نسلكه} أي كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين، قالت المعتزلة: لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ، فلا يمكن أن يكون الضمير عائدا إليه لا يقال: إنه تعالى قال: {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} وقوله: {يستهزئون} يدل على الاستهزاء، فالضمير في قوله: {كذلك نسلكه} عائد إليه، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال، فثبت صحة قولنا المراد من قوله: {كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين} هو أنه كذلك نسلك الكفر والضلال والاستهزاء بأنبياء اللّه تعالى ورسله في قلوب المجرمين لأنا نقول: إن كان الضمير في قوله: {كذلك نسلكه} عائدا إلى الاستهزاء وجب أن يكون الضمير في قوله: {لا يؤمنون به} عائدا أيضا إلى الاستهزاء لأنهما ضميران تعاقبا وتلاصقا، فوجب عودهما إلى شيء واحد فوجب أن لا يكونوا مؤمنين بذلك الاستهزاء، وذلك يوجب التناقض، لأن الكافر لا بد وأن يكون مؤمنا بكفره، والذي لا يكون كذلك هو المسلم العالم ببطلان الكفر فلا يصدق به، وأيضا فلو كان تعالى هو الذي يسلك الكفر في قلب الكافر ويخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفار، ولكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمهم في الدنيا وأن يعاقبهم في الآخرة عليه، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على هذ الوجه فنقول: التأويل الصحيح أن الضمير في قوله تعالى: {كذلك نسلكه} عائد إلى الذكر الذي هو القرآن فإنه تعالى قال قبل هذه الآية: {إنا نحن نزلنا الذكر} وقال بعده: {كذلك نسلكه} أي هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين، والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه وبين أنهم لجهلهم وإصرارهم لا يؤمنون به مع هذه الأحوال عنادا وجهلا، فكان هذا موجبا للحوق الذم الشديد بهم، ويدل على صحة هذا التأويل وجهان: الأول: أن الضمير في قوله: {لا يؤمنون به} عائد إلى القرآن بالإجماع فوجب أن يكون الضمير في قوله: {كذلك نسلكه} عائدا إليه أيضا لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد. والثاني: أن قوله: {كذالك} معناه: مثل ما عملنا كذا وكذا نعمل هذا السلك فيكون هذا تشبيها لهذا السلك بعمل آخر ذكره اللّه تعالى قبل هذه الآية من أعمال نفسه، ولم يجر لعمل من أعمال اللّه ذكر في سابقة هذه الآية إلا قوله: {إنا نحن نزلنا الذكر} فوجب أن يكون هذا معطوفا عليه ومشبها به، ومتى كان الأمر كذلك كان الضمير في قوله: {نسلكه} عائدا إلى الذكر وهذا تمام تقرير كلام القوم. والجواب: لا يجوز أن يكون الضمير في قوله: {نسلكه} عائدا على الذكر، ويدل عليه وجوه: الوجه الأول: أن قوله: {كذلك نسلكه} مذكور بحرف النون، والمراد منه إظهار نهاية التعظيم والجلالة، ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلا يظهر له أثر قوي كامل بحيث صار المنازع والمدافع له مغلوبا مقهورا. فأما إذا فعل فعلا ولم يظهر له أثر ألبتة، صار المنازع والمدافع غالبا قاهرا، فإن ذكر اللفظ المشعر بنهاية العظمة والجلالة يكون مستقبحا في هذا المقام، والأمر ههنا كذلك لأنه تعالى سلك أسماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به، ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل اللّه تعالى كالهدر الضائع، وصار الكافر والشيطان كالغالب الدافع، وإذا كان كذلك كان ذكر النون المشعر بالعظمة والجلالة في قوله: {نسلكه} غير لائق بهذا المقام، فثبت بهذا التأويل الذي ذكروه فاسد. والوجه الثاني: أنه لو كان المراد ما ذكروه لوجب أن يقال: {كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين} ولا يؤمنون به، أي ومع هذا السعي العظيم في تحصيل إيمانهم لا يمؤمنون أما ما لم يذكر الواو فعلمنا أن قوله: {لا يؤمنون به} كالتفسير، والبيان لقوله: {نسلكه فى قلوب المجرمين} وهذا إنما يصح إذا كان المراد أنا نسلك الكفر والضلال في قلوبهم. والوجه الثالث: أن قوله: {إنا نحن نزلنا الذكر} (الحجر: ٩) بعيد، وقوله: {يستهزئون} قريب، وعود الضمير إلى أقرب المذكورات هو الواجب. أما قوله: لو كان الضمير في قوله: {نسلكه} عائدا إلى الاستهزاء لكان في قوله؛ {لا يؤمنون به} عائدا إليه، وحينئذ يلزم التناقض. قلنا: الجواب عنه من وجوه: الوجه الأول: أن مقضتى الدليل عود الضمير إلى أقرب المذكورات، ولا مانع من اعتبار هذا الدليل في الضمير الأول وحصل المانع من اعتباره في الضمير الثاني فلا جرم قلنا: الضمير الأول عائد إلى الاستهزاء، والضمير الثاني عائد إلى الذكر، وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة ليس بقليل في القرآن، أليس أن الجبائي والكعبي والقاضي قالوا في قوله تعالى: {هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما * فلما ءاتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما ءاتاهما فتعالى اللّه عما يشركون} (الأعراف: ١٨٩، ١٩٠) فقالوا هذه الضمائر من أول الآية إلى قوله: {جعلا له شركاء} عائدة إلى آدم وحواء، وأما في قوله: {جعلا له شركاء فيما ءاتاهما فتعالى اللّه عما يشركون} عائدة إلى غيرهما، فهذا ما اتفقوا عليه في تفاسيرهم، وإذا ثبت هذا ظهر أنه لا يلزم من تعاقب الضمائر عودها إلى شيء واحد بل الأمر فيه موقوف على الدليل فكذا ههنا واللّه أعلم. والوجه الثاني: في الجواب قال بعض الأدباء من أصحابنا قوله: {لا يؤمنون به} تفسير للكناية في قوله: {نسلكه} والتقدير: كذلك نسلك في قلوب المجرمين أن لا يؤمنوا به والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به. والوجه الثالث: وهو أنا بينا بالبراهين العقلية القاهرة أن حصول الإيمان والكفر يمتنع أن يكون بالعبد، وذلك لأن كل أحد إنما يريد الإيمان والصدق، والعلم والحق، وأن أحدا لا يقصد تحصيل الكفر والجهل والكذب فلما كان كل أحد لا يقصد إلا الإيمان والحق ثم إنه لايحصل ذلك، وإنما يحصل الكفر والباطل، علمنا أن حصول ذلك الكفر ليس منه. فإن قالوا: إنما حصل ذلك الكفر لأنه ظن أنه هو الإيمان: فنقول: فعلى هذا التقدير إنما رضي بتحصيل ذلك الجهل لأجل جهل آخر سابق عليه فينقل الكلام إلى ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لأجل جهل آخر لزم التسلسل وهو محال، وإلا وجب انتهاء كل الجهالات إلى جهل أول سابق حصل في قلبه لا بتحصيله بل بتخليق اللّه تعالى، وذلك هو الذي قلناه: أن المراد من قوله: {كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين} |
﴿ ١٢ ﴾