٥

ثم قال: {فإذا جآء وعد أولاهما} يعني أولى المرتين: {بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد} والمعنى: أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قوما أولى بأس شديد، ونجدة وشدة، والبأس القتال، ومنه قوله تعالى: {وحين البأس} (البقرة: ١٧٧) ومعنى بعثنا عليكم أرسلنا عليكم، وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم، واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم؟ قيل: إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، وذلك أول الفسادين فسلط اللّه عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض اللّه ملكا آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، فهو قوله: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم}.

والقول الثاني: إن المراد من قوله: {بعثنا عليكم عبادا لنا} أن اللّه تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله: {ثم رددنا لكم الكرة} هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة.

والقول الثالث: إن قوله: {بعثنا عليكم عبادا لنا} هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم.

واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم.

ثم قال تعالى: {فجاسوا خلال الديار} قال الليث: الجوس والجوسان التردد خلال الديار، والبيوت في الفساد، والخلال هو الانفراج بين الشيئين، والديار ديار بيت المقدس، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة: طلبوا من فيها.

وقال ابن قتيبة: عاثوا وأفسدوا.

وقال الزجاج: طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه.

قال الواحدي: الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه.

ثم قال تعالى: {وكان وعدا مفعولا} أي كان قضاء اللّه بذلك قضاء جزما حتما لا يقبل النقض والنسخ،

﴿ ٥