٦

ثم قال تعالى: {ثم رددنا لكم الكرة} أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم: {وجعلناكم أكثر نفيرا} النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه، والنفير والنافر واحد، كالقدير والقادر، وذكرنا معنى نفر عند قوله: {فلولا نفر من كل فرقة} (التوبة: ١٢٢)وقوله: {انفروا خفافا} (التوبة: ٤١).

المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه: الأول: أنه تعالى قال: {وقضينا إلى بنى إسراءيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم، والخبر الحتم، فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبرا جزما لا يقبل النسخ، لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه.

ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال: {وكان وعدا مفعولا}.

إذا ثبت هذا فنقول: عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذبا وانقلاب حكمه الجازم باطلا، وانقلاب علمه الحق جهلا، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالا، فكان إقدامهم عليه واجبا ضروريا لا يقبل النسخ والرفع، مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله، وذلك يدل على قولنا: إن اللّه قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله، فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية.

الوجه الثاني: في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى: {بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد} والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر، فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل، ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملا على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة.

ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله: {ثم بعثنا * عليكم} وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من اللّه تعالى.

أجاب الجبائي عنه من وجهين:

 الأول: المراد من {بعثنا عليكم} هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى اللّه تعالى من حيث الأمر.

والثاني: أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم.

وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع.

واعلم أن الجواب الأول ضعيف؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر اللّه تعالى.

والجواب الثاني أيضا ضعيف، لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب،

وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع، والأول فعل، والثاني ترك، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز، فثبت صحة ما ذكرناه واللّه أعلم.

﴿ ٦