٥

أما قوله تعالى: {الرحمان على العرش استوى}

ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء الرحمن مجرورا صفة لمن خلق والرفع أحسن لأنه

أما أن يكون رفعا على المدح والتقدير هو الرحمن

وأما أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق

فإن قيل الجملة التي هي على العرش استوى ما محلها إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح؟

 قلنا: إذا جررت فهو خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن يكون كذلك وأن يكون مع الرحمن خبرين للمبتدأ.

المسألة الثانية: المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه.

أحدها: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان، ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان بل كان غنيا عنه فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن يزعم زاعم أنه لم يزل مع اللّه عرش.

وثانيها: أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش فيكون في نفسه مؤلفا مركبا وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلف والمركب وذلك محال.

وثالثها: أن الجالس على العرش

أما أن يكون متمكنا من الإنتقال والحركة أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون محدثا لا محالة وإن كان الثاني كان كالمربوط بل كان كالزمن بل أسوأ منه فإن الزمن إذا شاء الحركة في رأسه وحدقته أمكنه ذلك وهو غير ممكن على معبودهم.

ورابعها: هو أن معبودهم

أما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل، وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصصه بذلك المكان فيكون محتاجا وهو على اللّه محال.

وخامسها: أن قوله: {ليس كمثله شىء} (الشورى: ١١) يتناول نفي المساواة من جميع الوجوه بدليل صحة الاستثناء فإنه يحسن أن يقال ليس كمثله شيء إلا في الجلوس وإلا في المقدار وإلا في اللون وصحة الاستثناء تقتضي دخول جميع هذه الأمور تحته، فلو كان جالسا لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ يبطل معنى الآية.

وسادسها: قوله تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} (الحاقة: ١٧) فإذا كانوا حاملين للعرش والعرش مكان معبودهم فيلزم أن تكون الملائكة حاملين لخالقهم ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هو الذي يحفظ المخلوق

أما المخلوق فلا يحفظ الخالق ولا يحمله.

وسابعها: أنه لو جاز أن يكون المستقر في المكان إلها فكيف يعلم أن الشمس والقمر ليس بإله لأن طريقنا إلى نفس إلهية الشمس والقمر أنهما موصوفان بالحركة والسكون وما كان كذلك كان محدثا ولم يكن إلها فإذا أبطلتم هذا الطريق انسد عليكم باب القدح في إلهية الشمس والقمر.

وثامنها: أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلينا هي تحت بالنسبة إلى ساكني ذلك الجانب الآخر من الأرض وبالعكس، فلو كان المعبود مختصا بجهة فتلك الجهة وإن كانت فوقا لبعض الناس لكنها تحت لبعض آخرين، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال المبعود تحت جميع الأشياء.

وتاسعها: أجمعت الأمة على أن قوله: {قل هو اللّه أحد} (الإخلاص: ١) من المحكمات لا من المتشابهات فلو كان مختصا بالمكان لكان الجانب الذي منه يلي ما على يمينه غير الجانب الذي منه يلي ما على يساره فيكون مركبا منقسما فلا يكون أحدا في الحقيقة فيبطل قوله: {قل هو اللّه أحد}.

وعاشرها: أن الخليل عليه السلام قال: {لا أحب الافلين} (الأنعام: ٧٦) ولو كان المعبود جسما لكان آفلا أبدا غائبا أبدا فكان يندرج تحت قوله: {لا أحب الافلين} فثبت بهذه الدلائل أن الإستقرار على اللّه تعالى محال وعند هذا للناس فيه قولان،

الأول: أنا لا نشتغل بالتأويل بل نقطع بأن اللّه تعالى منزه عن المكان والجهة ونترك تأويل الآية وروي الشيخ الغزالي عن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل أنه أول ثلاثة من الأخبار: قوله عليه السلام "الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض"، وقوله عليه السلام: "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" وقوله عليه السلام: "إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن" واعلم أن هذا القول ضعيف لوجهين:

الأول: أنه إن قطع بأن اللّه تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأن ليس مراد اللّه تعالى من الإستواء الجلوس وهذا هو التأويل.

وإن لم يقطع بتنزيه اللّه تعالى عن المكان والجهة بل بقي شاكا فيه فهو جاهل باللّه تعالى، اللّهم إلا أن يقول أنا قاطع بأنه ليس مراد اللّه تعالى ما يشعر به ظاهره بل مراده به شيء آخر ولكني لا أعين ذلك المراد خوفا من الخطأ فهذا يكون قريبا، وهو أيضا ضعيف لأنه تعالى لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والإستيلاء وقد تعذر حمله على الإستقرار فوجب حمله على الإستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وإنه غير جائز.

والثاني: وهو دلالة قاطعة على أنه لا بد من المصير إلى التأويل وهو أن الدلالة العقلية لما قامت على امتناع الاستقرار ودل ظاهر لفظ الاستواء على معنى الاستقرار، فإما أن نعمل بكل واحد من الدليلين،

وأما أن نتركهما معا،

وأما أن نرجح النقل على العقل،

وأما أن نرجح العقل ونؤول النقل.

والأول باطل وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزها عن المكان وحاصلا في المكان وهو محال.

والثاني: أيضا محال لأنه يلزم رفع النقيضين معا وهو باطل.

والثالث: باطل لأن العقل أصل النقل فإنه ما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل فالقدح في العقل يقتضي القدح في العقل والنقل معا، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل وهذا برهان قاطع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول قال بعض العلماء المراد من الإستواء الإستيلاء قال الشاعر:

( قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق )

فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه.

أحدها: أن الإستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك في حق اللّه تعالى محال.

وثانيها: أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه، وكان المستولى عليه موجودا قبل ذلك، وهذا في حق اللّه تعالى محال، لأن العرش إنما حدث بتخليقه وتكوينه.

وثالثها: الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة.

والجواب: أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، قال صاحب الكشاف لما كان الاستواء على العرش، وهو سرير الملك لا يحصل إلامع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على البلد يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد وبخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد، ومنه قوله تعالى: {وقالت اليهود يد اللّه مغلولة غلت أيديهم} (المائدة: ٦٤) أي هو بخيل {بل يداه مبسوطتان} (المائدة: ٦٤) أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحل بالتسمية من ضيق العطن.

وأقول: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم أيضا يقولون المراد من قوله: {فاخلع نعليك} (طه: ١٢) الاستغراق في خدمة اللّه تعالى من غير تصور فعل، وقوله: {قلنا يانار كونى بردا وسلاما على إبراهيم}

(ابراهيم: ٦٩) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام من يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة، وكذا القول في كل ما ورد في كتاب اللّه تعالى، بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئا لم يخض فيه، فهذا تمام الكلام في هذه الآية، ومن أراد الاستقصاء في الآيات والأخبار المتشابهات فعليه بكتاب تأسيس التقديس وباللّه التوفيق.

﴿ ٥