١٤المسألة الثالثة: قوله: {إننى أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدنى} يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع لأن التوحيد في علم الأصول والعبادة من علم الفروع وأيضا الفاء في قوله: {فاعبدنى} تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهيته وهذا هو تحقيق العلماء أن اللّه هو المستحق للعبادة. المسألة الرابعة: أنه سبحانه بعد أن أمره بالتوحيد، أولا ثم بالعبادة ثانيا، أمره بالصلاة ثالثا احتج أصحابنا بهذه الآية على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز من وجهين: الأول: أنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفية تلك العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكا عن البيان. الثاني: أنه قال: {إننى أنا اللّه} ولم يبين كيفية الصلاة قال: القاضي لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد اللّه تعالى بها شعيبا عليه السلام وغيره من الأنبياء فصار الخطاب متوجها إلى ذلك ويحتمل أنه تعالى بين له في الحال وأن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه إلا هذا القدر. والجواب: أما العذر الأول فإنه لا يتوجه في قوله تعالى: {فاعبدنى} وأيضا فحمل مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم لأن موسى عليه السلام ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب عليه السلام فلو حملنا قوله: {اتل ما} على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت الفائدة الزائدة، قوله: لعل اللّه تعالى بينه في ذلك الموضع وإن لم يحكه في القرآن قلنا لا نشك أن البيان أكثر فائدة من المجمل فلو كان مذكورا لكان أولى بالحكاية. المسألة الخامسة: في قوله: {لذكرى} وجوه: أحدها: لذكري يعني لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي. وثانيها: لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد. وثالثها: لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها. ورابعها: لأن أذكرك بالمدح والثناء واجعل لك لسان صدق. وخامسها: لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. وسادسها: لإخلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضا آخر. وسابعها: لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم كما قال تعالى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه} (النور: ٣٧) وثامنها: لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة لقوله تعالى: {فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا اللّه قياما وقعودا} (النساء: ١٠٣). وتاسعها: {أقم الصلواة} حين تذكرها أي أنك إذا نسيت صلاة فاقضها إذا ذكرتها. روى قتادة عن أنس رضي اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك" ثم قرأ: {إننى أنا اللّه} قال الخطابي يحتمل هذا الحديث وجهين. أحدهما: أنه لا يكفرها غير قضائها والآخر أنه لا يلزم في نسيانها غرامة ولا كفارة كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئا من نسكه فدية من إطعام أو دم. وإنما يصلي ما ترك فقط فإن قيل حق العبارة أن يقول أقم الصلاة لذكرها كما قال عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها" قلنا قوله: {لذكرى} معناه للذكر الحاصل بخلقي أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي. المسألة السادسة: لو فاتته صلوات يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي رحمه اللّه ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة نظر إن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ولو بدأ بصلاة الوقت جاز وإن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فات الوقت يجب أن يبدأ بصلاة الوقت حتى لا تفوت ولو تذكر الفائتة بعدما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها ولا يجب وقال أبو حنيفة رحمه اللّه يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم وليلة حتى قال: لو تذكر في خلال صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت فيقضي الفائتة ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيقا فلا تبطل حجة أبي حنيفة رحمه اللّه الآية والخبر والأثر والقياس، أما الآية فقوله تعالى: {أقم الصلواة * لذكرى} أي لتذكرها واللام بمعنى عند كقوله: {أقم الصلواة لدلوك الشمس} (الإسراء: ٧٨) أي عند دلوكها فمعنى الآية أقم الصلاة المتذكرة عند تذكرها وذلك يقتضي رعاية الترتيب وأما الخبر فقوله عليه السلام: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها" والفاء للتعقيب وأيضا روى جابر بن عبد اللّه قال: "جاء عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول اللّه ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس قال النبي صلى اللّه عليه وسلم وأنا واللّه ما صليتها بعد قال فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها وهذا الحديث مذكور في "الصحيحين" قالت الحنفية والاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فلما صلى الفوائت على الولاء وجب علينا ذلك. والثاني: إن فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة وهذا الفعل خرج بيانا لمجمل قوله تعالى: {وأن أقيموا} (النور: ٥٦) ولهذا قلنا إن الفوائت إذا كانت في حد القلة يجب مراعاة الترتيب فيها وإذا دخلت في حد الكثرة يسقط الترتيب وأما الأثر فما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه قال: "من فاتته صلاة فلم يذكرها إلا في صلاة الإمام فليمض في صلاته فإذا قضى صلاته مع الإمام يصلي ما فاته ثم ليعد التي صلاها مع الإمام" وقد يروى هذا مرفوعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأما القياس فهو أنهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك حجة الشافعي رحمه اللّه أنه روى في حديث أبي قتادة: "أنهم لما ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس أمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها" ولو كان وقت التذكر معينا للصلاة لما جاز ذلك فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع إذا ثبت هذا فنقول إيجاب قضاء الفوائت وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين فوجب أن يكون المكلف مخيرا في تقديم أيهما شاء ولأنه لو كان الترتيب في الفوائت شرطا لما سقط بالنسيان ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيم ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعد الزوال فإنه يعيدهما جميعا ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطا فيهما فههنا أيضا لو كان شرطا فيهما لما كان يسقط بالنسيان. |
﴿ ١٤ ﴾