٦

{والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء ...}.

إعلم أنه سبحانه لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات، ثم هذه الآية مشتملة على أبحاث:

البحث الأول: في سبب نزوله وذكروا فيه وجوها:

أحدها: قال ابن عباس رحمهم اللّه: "لما تزل قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} قال عاصم بن عدي الأنصاري إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدوا بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب وإن سكت سكت على غيظ.

اللّهم افتح.وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما ذاك؟ فقال أخبرني عويمر ابن عمي بأنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بهم جميعا وقال لعويمر اتق اللّه في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها فقال يا رسول اللّه أقسم باللّه أني رأيت شريكا على بطنها وأني ماقربتها منذ أربعة أشهر وأنها حبلى من غيري، فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اتقي اللّه ولا تخبري إلا بما صنعت فقالت يا رسول اللّه إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نودي الصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر قم وقل أشهد باللّه أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثانية قل أشهد باللّه أني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثالثة قل أشهد باللّه أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين، ثم قال في الرابعة قل أشهد باللّه أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين.

ثم قال في الخامس قل لعنة اللّه على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال. ثم قال اقعد، وقال لخولة قومي، فقامت وقالت أشهد باللّه ما أنا بزانية وإن زوجي عويمرا لمن الكاذبين، وقالت في الثانية أشهد باللّه ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة أشهد باللّه أني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الرابعة أشهد باللّه أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة غضب اللّه على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهما"

وثانيها: قال ابن عباس رضي اللّه عنهما في رواية الكلبي: "أن عاصما ذات يوم رجع إلى أهله فوجد شريك بن سحماء على بطن امرأته فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم " وتمام الحديث كما تقدم

وثالثها: ما روى عكرمة عن ابن عباس "لما نزل {والذين يرمون المحصنات} قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار لو وجدت رجلا على بطنها فإني إن جئت بأربعة من الشهداء يكون قد قضى حاجته وذهب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا معشر الأنصار

أما تسمعون ما يقول سيدكم؟ فقالوا يا رسول اللّه لا تلمه فإنه رجل غيور، فقال سعد يا رسول اللّه واللّه إني لأعرف أنها من اللّه وأنها حق، ولكني عجبت منه، فقال عليه السلام فإن اللّه يأبى إلا ذلك، قال فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عمر له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب اللّه عليهم، فقال يا رسول اللّه إني وجدت مع امرأتي رجلا رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما جاء به، فقال هلال واللّه يا رسول اللّه إني لأرى الكراهة في وجهك مما أخبرتك به واللّه يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : "

أما البيتة

وأما إقامة الحد عليك" فاجتمعت الأنصار فقالوا ابتلينا بما قال سعد، فبينا هم كذلك إذ نزل عليه الوحي وكان إذا نزل عليه الوحي اربد وجهه وعلا جسده حمرة فلما سرى عنه قال عليه السلام أبشر يا هلال فقد جعل اللّه لك فرجا، قال قد كنت أرجو ذلك من اللّه تعالى فقرأ عليهم هذه الآيات فقال عليه السلام ادعوها فدعيت فكذبت هلالا، فقال عليه السلام اللّه يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب وأمر بالملاعنة فشهد هلال أربع شهادات باللّه أنه لمن الصادقين فقال عليه السلام له عند الخامسة اتق اللّه يا هلال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال واللّه لا يعذبني اللّه عليها كما لم يجلدني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشهد الخامسة، ثم قال رسول اللّه أتشهدين فشهدت أربع شهادات باللّه أنه لمن الكاذبين فلما أخذت في الخامسة قال لها اتقي اللّه فإن الخامسة هي الموجبة، فتفكرت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت واللّه لا أفضح قومي وشهدت الخامسة أن غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهما، ثم قال: انظروها إن جاءت به أثيبج أصهب أحمش الساقين فهو لهلال، وإن جاءت به خدلج الساقين أورق جعدا فهو لصاحبه، فجاءت به أورق خدلج الساقين فقال عليه السلام لولا الإيمان لكان لي ولها شأن" قال عكرمة لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار ولا يدري من أبوها.

البحث الثاني: ما يتعلق بالقراءة قرىء ولم تكن بالتاء لأن الشهداء جماعة أو لأنهم في معنى الأنفس ووجه من قرأ أربع أن ينصب لأنه في حكم المصدر والعامل فيه المصدر الذي هو فشهادة أحدهم وهي مبتدأ محذوف الخبر فتقديره فواجب شهادة أحدهم أربع شهادات، وقرىء أن لعنة اللّه وأن غضب اللّه على تخفيف أن ورفع ما بعدها، وقرىء أن غضب اللّه على فعل الغضب، وقرىء بنصب الخامستين على معنى ويشهد الخامسة.

البحث الثالث: ما يتعلق بالأحكام، والنظر فيه يتعلق بأطراف: الطرف

الأول: في موجب اللعان وفيه مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة والتعزير إن لم تكن محصنة، كما في رمي الأجنبية لا يختلف موجبهما غير أنهما يختلفان في المخلص ففي قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف أو ببينة تقوم على زناها، وفي قذف الزوجة يسقط عنه الحد بأحد هذين الأمرين أو باللعان، وإنما اعتبر الشرع اللعان في هذه الصورة دون الأجنبيات لوجهين:

الأول: أنه لا معرة عليه في زنا الأجنبية والأولى له ستره،

أما إذا زنى بزوجته فيلحقه العار والنسب الفاسد، فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمعتذر، فلا جرم خص الشرع هذه الصورة باللعان

الثاني: أن الغالب في المتعارف من أحوال الرجل مع امرأته أنه لا يقصدها بالقذف إلا عن حقيقة، فإذا رماها فنفس الرمي يشهد بكونه صادقا إلا أن شهادة الحال ليست بكاملة فضم إليها ما يقويها من الإيمان كشهادة المرأة لما ضعفت قويت بزيادة العدد والشاهد الواحد يتقوى باليمين على قول كثير من الفقهاء.

المسألة الثانية: قال أبو بكر الرازي كان حد قاذف الأجنبيات والزوجات والجلد، والدليل عليه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء "ائتني بأربعة يشهدون لك وإلا فحد في ظهرك" فثبت بهذا أن حد قاذف الزوجات كان كحد قاذف الأجنبيات إلا أنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان،

وروى نحو ذلك في الرجل الذي قال أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فإن تكلم جلدتموه، وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ. فدلت هذه الأخبار على أن حد قاذف الزوجة كان الجلد وأن اللّه نسخه باللعان.

المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه اللّه إذا قذف الزوج زوجته فالواجب هو الحد ولكن المخلص منه باللعان، كما أن الواجب بقذف الأجنبية الحد والمخلص منه بالشهود، فإذا نكل الزوج عن اللعان يلزمه الحد للقذف، فإذا لاعن ونكلت عن اللعان يلزمها حد الزنا، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه إذا نكل الزوج عن اللعان حبس حتى يلاعن، وكذا المرأة إذا نكلت حبست حتى لا تلاعن حجة الشافعي وجوه:

أحدها: أن اللّه تعالى قال في أول السورة: {والذين يرمون المحصنات} (النور: ٤) يعني غير الزوجات {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} (النور: ٤)

ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم} الآية فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد

﴿ ٦