١٠{ومن الناس من يقول ءامنا باللّه فإذآ أوذى فى اللّه جعل فتنة الناس ...}. نقول أقسام المكلفين ثلاثة مؤمن ظاهر بحسن اعتقاده، وكافر مجاهر بكفره وعناده، ومذبذب بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده، واللّه تعالى لما بين القسمين بقوله تعالى: {فليعلمن اللّه الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت: ٣) وبين أحوالهما بقوله: {أم حسب الذين يعملون السيئات} (العنكبوت: ٤) إلى قوله: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات} (العنبكوت: ٧) بين القسم الثالث وقال: {ومن الناس من يقول ءامنا باللّه} وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال: {ومن الناس من يقول ءامنا} ولم يقل آمنت مع أنه وحد الأفعال التي بعده كقوله تعالى: {فإذا أوذى فى اللّه} وقوله: {جعل فتنة الناس} وذلك لأن المنافق كان يشبه نفسه بالمؤمن، ويقول إيماني كإيمانك فقال: {من} يعني أنا والمؤمن حقا آمنا، إشعارا بأن إيمانه كإيمانه، وهذا كما أن الجبان الضعيف إذا خرج مع الأبطال في القتال، وهزموا خصومهم يقول الجبان خرجنا وقاتلناهم وهزمناهم، فيصح من السامع لكلامه أن يقول وماذا كنت أنت فيهم حتى تقول خرجنا وقاتلنا؟ وهذا الرد يدل على أنه يفهم من كلامه أن خروجه وقتاله كخروجهم وقتالهم، لأنه لا يصح الإنكار عليه في دعوى نفس الخروج والقتال، وكذا قول القائل أنا والملك ألفينا فلانا واستقبلناه ينكر، لأن المفهوم منه المساواة فهم لما أرادوا إظهار كون إيمانهم كإيمان المحقين كان الواحد يقول: {من} أي أنا والمحق. المسألة الثانية: قوله: {فإذا أوذى فى اللّه} هو في معنى قوله: {وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى} (آل عمران: ١٩٥) غير أن المراد بتلك الآية الصابرون على أذية الكافرين والمراد ههنا الذين لم يصبروا عليها فقال هناك: {وأوذوا فى سبيلى} (آل عمران: ١٩٥) وقال ههنا: {أوذى فى اللّه} ولم يقل في سبيل اللّه واللطيفة فيه أن اللّه أراد بيان شرف المؤمن الصابر وخسة المنافق الكافر فقال هناك أوذي المؤمن في سبيل اللّه ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك اللّه بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم إن بلغ الإيذاء إلى حد الإكراه، ويكون قلبه مطمئنا بالإيمان فلا يترك اللّه، ومع هذا لم يفعله بل ترك اللّه بالكلية، والمؤمن أوذي ولم يترك سبيل اللّه بل أظهر كلمتي الشهادة وصبر على الطاعة والعبادة. المسألة الثالثة: قوله: {جعل فتنة الناس كعذاب اللّه} قال الزمخشري: جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب اللّه صارف عن الكفر، وقيل جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب اللّه، وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب اللّه الأليم الدائم حتى ترددوا في الأمر، وقالوا إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد عليه الصلاة والسلام، واختاروا الاحتراز عن التأذي العاجل ولا يكون التردد إلا عند التساوي ومن أين إلى أين تعذيب الناس لا يكون شديدا، ولا يكون مديدا لأن العذاب إن كان شديدا كعذاب النار وغيره يموت الإنسان في الحال فلا يدوم التعذيب وإن كان مديدا كالحبس والحصر لا يكون شديدا وعذاب اللّه شديد وزمانه مديد، وأيضا عذاب الناس له دافع وعذاب اللّه ماله من دافع، وأيضا عذاب الناس عليه ثواب عظيم، وعذاب اللّه بعده عذاب أليم، والمشقة إذا كانت مستعقبة للراحة العظيمة تطيب ولا تعد عذابا كما تقطع السلعة المؤذية ولا تعد عذابا. المسألة الرابعة: قال: {فتنة الناس} ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء وامتحان من اللّه وفتنته تسليط بعض الناس على من أظهر كلمة الإيمان ليؤذيه فتبين منزلته كما جعل التكاليف ابتلاء وامتحانا وهذا إشارة إلى أن الصبر على البلية الصادرة ابتلاء وامتحانا من الإنسان كالصبر على العبادات. المسألة الخامسة: لو قال قائل هذا يقتضي منع المؤمن من إظهار كلمة الكفر بالإكراه، لأن من أظهر كلمة الكفر بالإكراه احترازا عن التعذيب العاجل يكون قد جعل فتنة الناس كعذاب اللّه، فنقول ليس كذلك، لأن من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يجعل فتنة الناس كعذاب اللّه، لأن عذاب اللّه يوجب ترك ما يعذب عليه ظاهرا وباطنا، وهذا المؤمن المكره لم يجعل فتنة الناس كعذاب اللّه، بحيث يترك ما يعذب عليه ظاهرا وباطنا، بل في باطنه الإيمان، ثم قال تعالى: {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} (العنكبوت: ١٠) يعني دأب المنافق أنه إن رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر وأظهر المعية وادعى التبعية، وفيه فوائد نذكرها في مسائل: المسألة الأولى: قال: {ولئن جاء نصر من ربك} ولم يقل من اللّه، مع أن ما تقدم كان كله بذكر اللّه كقوله: {أوذى فى اللّه} وقوله: {كعذاب اللّه} وذلك لأن الرب اسم مدلوله الخاص به الشفقة والرحمة، واللّه اسم مدلوله الهيبة والعظمة، فعند النصر ذكر اللفظ الدال على الرحمة والعاطفة، وعند العذاب ذكر اللفظ الدال على العظمة. المسألة الثانية: لم يقل ولئن جاءكم أو جاءك بل قال: {ولئن جاء نصر من ربك} والنصر لو جاءهم ما كانوا يقولون: {إنا كنا معكم} وهذا يقتضي أن يكونوا قائلين: إنا معكم إذا جاء نصر سواء جاءهم أو جاء المؤمنين، فنقول هذا الكلام يقتضي أن يكونوا قائلين إنا معكم إذا جاء النصر، لكن النصر لا يجىء إلا للمؤمن، كما قال تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} (الروم: ٤٧) ولأن غلبة الكافر على المسلم ليس بنصر، لأن النصر ما يكون عاقبته سليمة بدليل أن أحد الجيشين إن انهزم في الحال ثم كر المنهزم كرة أخرى وهزموا الغالبين، لا يطلق اسم المنصور إلا على من كان له العاقبة، فكذلك المسلم وإن كسر في الحال فالعاقبة للمتقين، فالنصر لهم في الحقيقة. المسألة الثالثة: في ليقولن قراءتان إحداهما: الفتح حملا على قوله: {من يقول ءامنا} يعني من يقول آمنا إذا أوذي يترك ذلك القول، وإذا جاء النصر يقول إنا كنا معكم وثانيتهما: الضم على الجمع إسنادا للقول إلى الجميع الذين دل عليهم المفهوم فإن المنافقين كانوا جماعة، ثم بين اللّه تعالى أنهم أرادوا التلبيس ولا يصح ذلك لهم لأن التلبيس إنما يكون عندما يخالف القول القلب، فالسامع يبني الأمر على قوله ولا يدري ما في قلبه فيلتبس الأمر عليه وأما اللّه تعالى فهو عليم بذات الصدور، وهو أعلم بما في صدر الإنسان من الإنسان فلا يلتبس عليه الأمر، وهذا إشارة إلى أن الاعتبار بما في القلب، فالمنافق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر كافر، والمؤمن المكره الذي يظهر الكفر ويضمر الإيمان مؤمن واللّه أعلم بما في صدور العالمين، ولما بين أنه أعلم بما في قلوب العالمين، بين أنه يعلم المؤمن المحق وإن لم يتكلم والمنافق وإن تكلم فقال: |
﴿ ١٠ ﴾